الشرك قديماً وحديثاً


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين, أما بعد:

فإن مما كان ينبغي أن نتحدث عنه نماذج من حياة السلف الصالح ممن غلب عليهم جانب الرجاء أو عرفوا به؛ لنعرف الفرق بين الرجاء الإيماني الشرعي، وبين مجرد الغرور والأماني وترك الطاعة, لكن كما هو معلوم أن هذا الكتاب -شرح الطحاوية- مجموع من عدة كتب ونقول، وإضافات للمؤلف -رحمه الله تعالى- فنقصه شيء من الترتيب, وشيء من تجميع الموضوعات أو الجزئيات المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، فالرجاء مثلاً: تكلم عنه المصنف هنا, ثم أدخل فيه الأَسْبَابَ التي تسقط العقوبة ولها علاقة بالرجاء, ثم بعد ذلك أتبعه فقرة أخرى, وهي قوله: ''والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام'' فعاد فذكر الخوف والرجاء والمحبة أيضاً, وذكر كلاماً للهروي؛ فلذلك يحسن أن نؤخر بقية الكلام في الرجاء إلى حيث أخره المصنف رحمه الله في الفقرة القادمة إن شاء الله.

وها هنا موضوع عظيم جداً، وهو وإن جاء به المصنف رحمه الله تعالى ضمن الكلام عن الرجاء, فإنه باب عظيم، بل إنه أعظم أبواب العقيدة كلها، وهو يستحق الحديث عنه لذاته دون أن يكون تابعاً لأي موضوع آخر, بل كل موضوع في العقيدة فهو تابع له، وهو معرفة الشرك وخطره وضرره، وبالمقابل معرفة التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد.

أهمية التوحيد

التوحيد هو أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى, وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه, نجد أن أعظم وأول ما يدعو قومه إليه هو قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] فنوح وهود وصالح وشعيب دعوا إلى هذا، وكذلك دعا إليه موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه، وكذلك دعا إليه عيسى عليه السلام إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فجاهد الناس جهاداً عظيماً على هذه الكلمة -كلمة التوحيد- وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ اتخاذ الأنداد من دون الله أو مع الله عز وجل، والمصنف هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله, ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل.

خطورة الشرك

أما الذين لا أمل لهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:16] فهم المشركون؛ لأن أعمالهم لا تقبل أبداً، كما قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39] وقال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقال تعالى: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] فلا تقبل أعمالهم؛ لأن الشرك هو أقبح القبائح وأعظم الذنوب وأكبر الجرائم والكبائر, وهو الذي يحبط الأعمال كلها, ولا يقبل معه أيّ عمل من الأعمال كائناً ما كان، وإن كان صلاةً أو صياماً أو صدقةً أو دعوةً أو جهاداً أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر, مهما بلغ جهد من يجتهد, ومهما كانت عبادته, ومهما توسل إلى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع القربات وهو مشرك, فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه صرفاً ولا عدلاً.

والمصنف رحمه الله تعالى يقول هنا: ''وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فالمشرك لا ترجى له المغفرة لأن الله نفى عنه المغفرة'' لا ترجى له، ولا يرجوها لنفسه، ولا يرجوها أحد له مهما كانت قرابته أو صلته، فهذا عبد الله بن عبد المطلب أقرب قريب لأعظم رسول وحبيب, فهو أبو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومع ذلك لم تنفعه تلك القرابة, ولن يشفع له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم قال: {أبي وأبوك في النار} وكذلك عَمُّه أبو طالب.

وإنما شفاعته له أن يخفف عنه العذاب, وليس أن يخرج من النار، كما قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] فهذا الشرك بابه عظيم, وشأنه جلل, وهو خطير, ولا بد من معرفته والحذر منه, والتنبه له: كبيره وصغيره، دقيقه وجليله.

ومن أوفى ما كتب في هذا الموضوع الكتاب الذي أشرنا إليه سابقاً, وهو الجواب الكافي لـابن القيم رحمه الله، الذي له عنوان آخر هو: الداء والدواء، والكتاب في الأصل هو جواب لسؤال عن كبيرة من الذنوب التي تأتي من قبل الشهوة وأسبابها، لأن الذنوب إما أن تأتي من قبل الشهوة أو من قبل الشبهة، والذنوب الشهوانية مرجعها إلى مرض القلب، وأعظم مرض يصيب القلب من جهة الشهوة مرض العشق.

فناسب أن يستطرد رحمه الله في الكلام على الذنوب وخطرها وضررها، فتوسع في ذلك إلى أن أتى على الذنوب التي لا يرجى معها خير أبداً وهو الشرك، لأنه إذا كانت الفواحش التي دون الشرك مثل الخمر والزنا والعقوق والنميمة وظلم الناس توعد الله عليها بما توعد، فما بالكم بالذنب الأعظم الذي ترجع إليه هذه الذنوب جميعاً؟! والذي لا ينفع معه عمل صالح كما تقدم؟!

التوحيد والحكمة من خلق الإنسان

يقول ابن القيم في الجواب الكافي: ''إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض ليُعْرَفَ ويُعْبَدَ ويُوَحَّد, ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له'' هذه قاعدة عظيمة، هذا الذي من أجله خلق الله تبارك وتعالى الثقلين, وأنزل كتبه, وأرسل رسله، والذي كثير من المسلمين قد يتكلم في كل شيء إلا هنا قال: ''ويكون الدين كله له, والطاعة كلها له, والدعوة له وإليه كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ [الحجر:85] وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] ''.

فالمقصود أن يَعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه، وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات, ولا يريدون أن يُعَرِّفوا الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العالمين, ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله؛ فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة, وهي تعريف بالله كما بينا فيما مضى، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي؛ وهي أيضاً تعريف بالله وبصفاته، قال: ''وكما قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ ، فعلل مرة أخرى لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]'' فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، وإنما شرعت هذه الشرائع, وفرضت هذه الفرائض؛ ليُعْرَفَ الله تبارك وتعالى, ويعبد وحده لا شريك له، قال: ''فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر كما قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54]'' أي القصد والغرض والحكمة من خلق العباد ومن الأمر -من أمرهم ونهيهم- لأن الله تعالى لم يتركهم سدى، ومعنى سدى: لا يُؤمر ولا يُنهى، بل إنما خلقهم ليأمرهم وينهاهم، فيقول إن القصد من ذلك: أن يُعرف بأسمائه وصفاته، ويُعبد وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].

فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله, وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقِوامه، وإن الشرك هو أعظم الظلم كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم هو الشرك، كما أن أعظم أنواع الأمر بالمعروف الأمر بالتوحيد، لما قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فأعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90] فأعظم العدل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ثم بعد ذلك العدل فيما ولي الإنسان عليه حتى في بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} ولهذا كان {المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين}؛ لأنهم يعدلون في أهليهم وما ولّوا.

قال: ''فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر'' أي ما كان منافياً لما خلق الله تعالى من أجله الناس، وأمرهم به فهو أكبر الكبائر.

قال: ''وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له'' يعني تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك، وكل معصية ترتكب فإنها تمس العقيدة بقدر ذلك الذنب وتلك المعصية؛ ولهذا فإن أعظم الذنوب التي تأتي الإنسان من جهة الشبهة والبدعة أعظم من التي تكون من جهة الشهوة؛ لأنها أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة؛ على أن البدع درجات, كما أن الذنوب الشهوانية العملية أيضاً درجات, وقد نبهنا على هذا فيما مضى.

يقول: ''فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله, تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحَرَّمَه عليهم، وتَفَاوُت مراتب الطاعات والمعاصي''.

عواقب الشرك

فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحَرَّمَ اللهُ الجنة على كل مشرك، وأباحَ دَمَه ومالَه لأهل التوحيد، فالذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين.

وهذا مما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مُكرِم لهم, ولا قيمة لهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كائناً ما كان، وأما هذه المنظمات الدولية التي ترفع عقيرتها بالمناداة بحقوق الإنسان زاعمة أنه لارق في هذا القرن, ولم يعلموا لجهلهم أن أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله على عباده بأن يُعبد وحده ولا يُشرك معه أحد, لأنه هو الذي من أجله خُلق الإنسان, ومن أجله قامت السماوات والأرض وبه قامت.. أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أنه يجوز للإنسان أن يغير دينه كما يشاء, ولايحق لأحدٍ منعه؛ فهذا الميثاق إضاعة لأكبر وأعظم حق, وهو حق الله تبارك وتعالى.

نعم أعطى الإسلام الحرية للإنسان ابتداءً في الدخول في هذا الدين لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] لكن بعد ذلك ليس له الرجوع عنه، وإن ارتد قُتل.

فهذا الدين دين الحرية الحقة, الذي يحرر الإنسان من الشهوات, ومن عبادة الشيطان, ومن عبادة الأنداد والبشر والأحبار والرهبان والكهان والأباطرة وغير ذلك؛ ممن ادعى الربوبية أو الألوهية مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهؤلاء لما تركوا القيام بعبودية الله, استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله وهم المؤمنون، ولذلك إذا ترك المؤمنون التوحيد, سُلِّط الكافرون عليهم عقوبةً لهم, ولأنهم عرفوا الحق وتركوه, وتنكبوا طريقه.

يقول: ''وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً، أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها رجاء، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه'' أعظم وأسوأ صفتين في الإنسان واحدة منها تكفي وإذا اجتمعتا فلا شر أكبر منهما، كما قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] غاية الجهل أن يجعل مع الله نداً، وغاية الظلم أن يسقط حق الله ويعطيه لغير الله -أي الشرك- فإذا اجتمع الظلم والجهل, فكل شر في الدنيا خَطَرَ على بَالِكَ فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله لأنه ما قدّر الله حق قدره ولهذا عَبَدَ معه غيره, وهو ظالم لنفسه أشد الظلم، لأنه يصرف حق الله الخالص ويعطيه لغيره من عبد مخلوق مثله فيكون كما قال فرعون وقومه: وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47] والمقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين لا المعبودين من دون الله فهم أسماء سماها العابدون، ولم لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً؛ فلو قال قوم فرعون لفرعون حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] لو قالوا: لا، أنت بشر مثلنا ما فعل شيئاً، فما بالك بالحجارة وغيرها، فالسبب العابدون، ولذا لا ينفعهم يوم القيامة أن يقولوا: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا [الأحزاب:67] لأنه لولا هذا الجاهل ما تفرعن المتفرعن.

التوحيد هو أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى, وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه, نجد أن أعظم وأول ما يدعو قومه إليه هو قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] فنوح وهود وصالح وشعيب دعوا إلى هذا، وكذلك دعا إليه موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه، وكذلك دعا إليه عيسى عليه السلام إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فجاهد الناس جهاداً عظيماً على هذه الكلمة -كلمة التوحيد- وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ اتخاذ الأنداد من دون الله أو مع الله عز وجل، والمصنف هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله, ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل.