تفسير آيات الأحكام [63]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي غرة شهر جمادى الآخرة من عام خمس وثلاثين بعد الأربعمائة والألف نستأنف المجالس حول تفسير آيات الأحكام، وتوقفنا عند قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، تقدم معنا في أوائل هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى قد بين ما أحل للرجال من النساء، وما أوجب الله جل وعلا لهم، وما أوجب لهن عليهم، وما أوجب سبحانه وتعالى لهم عليهن، وذلك من الحقوق المادية والمعنوية.

وتقدم شيء من ذلك أيضاً في سورة البقرة، وتكلمنا على أحكام المعاشرة بالمعروف، وأحكام الإمساك والتسريح، وتكلمنا على العدد وأنواعها، وعلى النفقة الواجبة على الزوج، وتكلمنا على شيء من أحكام المواريث مما يتعلق بمواريث الأولاد والأمهات والآباء والأزواج من بعضهم.

وتكلمنا على شيء من ميراث الإخوة وخاصة ميراث الإخوة لأم، ويأتي معنا في آية الكلالة في آخر سورة النساء الكلام على بقية أحكام ميراث الإخوة وخاصة الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، وكذلك ما يتعلق بميراث الجد والجدة مع الإخوة، وكلام العلماء عليهم رحمة الله تعالى في ذلك.

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أمور الأحكام وحدود الله جل وعلا المتعلقة بين الزوجين، وما يتعلق بالمهر وتمليك الله عز وجل للزوجة، وحق الزوجة فيه وحظها الأوفر في ذلك، وأنه لا يجوز لأحد أن يأخذ منه شيئاً إلا بطيب نفس منها.

ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أحكام المحرمات من النساء على الرجال، وقد أشرنا في مجالس سابقة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر في هذه السورة من أحكام النساء ما لم يذكره في غيرها، ولهذا غلب عليها هذا الاسم، وهو اسم سورة النساء.

وكذلك جاء في هذه الآية من تخصيص اليتامى بالأحكام ما ليس في غيرها، ولما كانت أحكام النساء في هذه السورة أوفر وأكثر وأظهر من غيرها, واختصت هذه السورة ببعض المسائل اختصاصاً أكثر من غيرها من المسائل سميت بسورة النساء.

سبب تصدير المحرمات بما نكح الآباء

صدر الله سبحانه وتعالى المحرمات على الرجال بما نكح الآباء في قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، إنما ذكر الله جل وعلا أول هذه المحرمات وهي زوجات الآباء أنهن يحرمن على الأبناء، وتقديم الله جل وعلا زوجات الآباء في التحريم على غيرهن ليس تحريماً وتغليظاً لزوجة الأب على غيرها من المحرمات، وإنما تحريم الأم وتحريم البنت أعظم من تحريم زوجة الأب، ولكن أهل الجاهلية كانوا يترخصون ويستبيحون نكاح أزواج الآباء بعد وفاتهم، وهذا أمر معروف عند الجاهليين حتى من أشرافهم.

ومن ذلك: زواج صفوان بن أمية بن خلف فإنه تزوج امرأة أبيه وهي أم هانئ بنت أبي طالب وهي أخت علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى, فكانت زوجة لأبيه، فلما توفي عنها تزوجها ابنه صفوان، وهذا أمر معروف، وكانوا يعظمون النكاح فيما حرمه الله عز وجل من غيرهن، من نكاح الأمهات والبنات والأخوات والخالات، والعمات.

وقد جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أنه قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرمه الله من النساء إلا اثنتين هما: زوجات الآباء، والجمع بين الأختين، فكانوا يستبيحون ذلك في الجاهلية، هذا في الأعم الأغلب، وإن وجد من يستحل غير ذلك، فإن العرب وثنية وهذا في أصلها، وإن كان في أفرادهم من ينتحل نحلة المجوسية، فيقول بنكاح المحارم ولكنهم قلة، ولهذا وجد في أفرادهم من يطأ ابنته استحلالاً لأنه على ملة المجوس، والمجوس يستحلون نكاح المحارم، على خلاف عندهم في مقدار ما يحرم، منهم من يحرم الأم، ومنهم من يحلها، عافانا الله وإياكم من ذلك!

وهنا في قوله جل وعلا: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22]، إنما قدم الله جل وعلا تحريم زوجات الآباء على غيرهن؛ لأن ذلك أشهر في أمر الإباحة عند الجاهليين، فقدمه الله جل وعلا على غيره.

التقديم في الذكر ما كثر فيه التفريط وإن لم يكن الأهم

وهذا يؤخذ منه معنى من المعاني: أنه ينبغي للمصلح والعالم والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقدم من جهة الاهتمام ما ظهر التفريط فيه وإن كان غيره أولى بالاهتمام به، وذلك أن الله سبحانه وتعالى صدر هذا الأمر وهو نكاح زوجات الآباء على غيرهن من المحرمات، مع أن غيرهن أولى منهن من جهة التحريم، فإن نكاح الأم أعظم وأغلظ من نكاح زوجة الأب، وهذا لا خلاف فيه.

بل إن وطء البنت والأخت والعمة والخالة أغلظ في الشريعة من نكاح زوجة الأب باعتبار أن الله سبحانه وتعالى إنما حرم على الرجل هؤلاء المحرمات لأجل النسب، وأمر النسب دائم لا ينفك، وأما بالنسبة لنكاح زوجة الأب أنها لم تحرم إلا لهذه العلة وهي وطء الأب لها، وأما قبل ذلك فلم تكن محرمة.

وأما بالنسبة للأم والأخت والبنت والخالة والعمة ونحو ذلك، فالحرمة في ذلك أبدية، وما كان محرماً تحريماً أبدياً أغلظ من غيره مما حرم لعلة عارضة أو طرأ عليه إباحة قبل التحريم أو طرأ عليه تحريم عارض، فكان مباحاً قبل ذلك ومباحاً بعد ذلك فإنه أغلظ في التحريم.

وهذا كحال نكاح الأختين جميعاً، فإن الله عز وجل حرم على الرجل أن يجمع بين الأختين، وأحل له أن يأخذهن فرادى، أن يتزوج واحدة قبل ذلك, ولو قدر أنه طلقها ثم أراد أن يتزوج أختها بعد ذلك فلا حرج عليه؛ لأن الله جل وعلا إنما حرم الجمع.

فالمسألة في نكاح أزواج الآباء محل اتفاق عند العلماء على أن التحريم في ذلك أبدي، على خلاف في مسألة الجمع بين الأختين، وإنما حرم الله سبحانه وتعالى نكاح أزواج الآباء تعظيماً للآباء ومنزلتهم، وذلك أنهم يكرهون أن يطأ الابن ما وطأه الأب، وكذلك أيضاً فإن حدود الله جل وعلا وما يفرضه من شرائع الأصل فيها الامتثال، ظهرت العلة في ذلك أو لم تظهر.

تحريم نكاح حلائل الأبناء

وكما أنه يحرم على الابن أن يتزوج زوجة أبيه فيحرم كذلك على الأب أن يتزوج زوجة ابنه ولو طلقها بعد ذلك، ولهذا قال الله جل وعلا: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، فحرم الله سبحانه وتعالى على الآباء أن يتزوجوا حلائل الأبناء، وحرم الله على الأبناء أن يتزوجوا حلائل الآباء.

المقارنة بين حرمة نكاح زوجة الأب وبين نكاح زوجة الابن

وأيهما أغلظ زوجة الأب على الابن، أم زوجة الابن على الأب؟

ظاهره أن الله سبحانه وتعالى غلظ زوجة الأب على الابن ولهذا قدمها، بل وصفها بوصف لم يذكره في وصف حلائل الأبناء؛ فقال جل وعلا: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، وهذا دليل على التشديد والتغليظ.

نكاح ما نكح الآباء والجمع بين الأختين في الجاهلية

ثم أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، هنا النهي يختلف عن لفظ التحريم كما سيأتي في قول الله جل وعلا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23]، فالله جل وعلا حرم المحرمات من النساء وهن سبع عشرة امرأة.

ذكر الله سبحانه وتعالى بقية المحرمات بلفظ التحريم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، وأما بالنسبة لزوجة الأب فالله حرمها بقوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، في هذا إشارة إلى أن هذا الأمر كان موجوداً سائراً عندهم قبل تحريمه.

وأما نكاح الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات فلم يكن سائراً عندهم، وإنما بيَّن الله جل وعلا ثبوت هذا التحريم، وقرينة ذلك أن الله جل وعلا قال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، يعني: لوجود شيء سالف في ذلك كما قيد الله سبحانه وتعالى ذلك في مسألة الجمع بين الأختين إلا ما قد سلف، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.

وهذا يؤيد ما جاء عن عبد الله بن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرمه الله إلا نكاح زوجات الآباء، والجمع بين الأختين؛ لأن الله قال في كل واحد منهما: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فقال في نكاح زوجات الآباء قال: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، وقال في الجمع بين الأختين: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، يعني: أنهم كانوا يطئونهن ويستحلونهن قبل ذلك.

تفاوت دليل الفطرة عند الخلق

وفي هذا إشارة إلى أن دليل الفطرة الذي غرسه الله عز وجل في نفوس الناس يتجزأ فربما يزول من البعض، وربما يبقى كله، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل دليل الفطرة قوياً في مسألة الأمهات، والبنات، والأخوات، وكذلك الخالات، والعمات، وبنات الأخ، وبنات الأخت بالنسبة لعمهن وخالهن أن يطأهن، فبين الله سبحانه وتعالى ذلك التحريم.

ولما كان أهل الجاهلية يحرمون هذا الأمر في جاهليتهم دل على أن في فطرتهم شيئاً من الاستقامة وأنه لم يدخل التحريف في أبواب النكاح مدخلاً تاماً كما دخل في أبواب العبادة، وإنما دخل في أبواب النكاح في بعض الأنواع كنكاح زوجات الآباء، والجمع بين الأختين.

عدم العذر فيما دلت عليه الفطرة

وبهذا نعلم أن الأصل فيما دليله وازع الطبع عدم العذر به لقيام الأمر فيه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قيد (ما قد سلف) في الحالتين: في حال نكاح زوجات الآباء، والجمع بين الأختين.

وأما البقية مع وجودها في الجاهلية ولكنها نادرة كنكاح البنات فهو موجود عند بعض الجاهليين، وقد ذكره بعض أهل السير ممن كان على ملة المجوسية ونحو ذلك.

ومع ذلك لم يقل الله جل وعلا: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، لأنه لا يمكن أن يكون مباحاً ما سلف وما خلف، لأنه محرم بالطبع، ومن استحل شيئاً من ذلك فهذا دليل على انحراف فطرته وعدم عذره بهذا الانحراف.

وبهذا نعلم أن الأصل فيما دليله الفطرة أنه لا يعذر المخالف فيه، فليس لأحد أن يتزوج أمه، أو أخته، أو بنته، أو نحو ذلك ويقول: إني لا أعلم بالتحريم؛ لأن دليل في ذلك قائم.

وتقدم معنا أن دليل الطبع أقوى في النفوس من دليل الشرع؛ لأن الله هو الذي طبع كما أنه هو الذي شرع، فطبع النفوس على النفرة من بعض المحرمات التي أكد الله جل وعلا تحريمها في كتابه العظيم، وإذا اجتمع تحريم الطبع مع الشرع كان ذلك آكد، والكلام على هذين البابين يحتاج إلى تفصيل في دلالة الطبع ودلالة الشرع، وتحريم الطبع وتحريم الشرع، ووازع الطبع ووازع الشرع.

الفائدة من التعبير بالنكاح دون الوطء في قوله: (ولا تنكحوا ما نكح ...)

وقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، ذكر الله جل وعلا هنا النكاح وما ذكر الوطء، والنكاح في لغة العرب هو الضم والجمع، فهل المراد بذلك النكاح بمعنى العقد، أم المراد بذلك مطلق الوطء سواء كان وطأ بعقد أو بغير عقد؟ يعني: وطأ الإنسان سفاحاً أو نكاحاً، كان ذلك بصورة مشروعة أو بصورة ممنوعة.

فالخطاب ورد هنا بالنكاح، فقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:23]، النكاح الأصل فيه أنه ما كان بعقد، وهل يطلق على الوطء من غير عقد نكاح، أم لا يطلق؟

نقول: في عرف الشرع واصطلاحه لا يطلق على الزنا نكاح، وإنما النكاح يطلق على العقد، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الخطاب هنا في قوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:23]، هل المراد بذلك ما نكحه الآباء بصورة مشروعة أو ممنوعة فيدخل في ذلك العموم, أم المراد بذلك ما كان على سبيل التشريع وهو العقد؟

وقوله: وَلا تَنكِحُوا [النساء:23]، شامل للأمرين بلا خلاف، فالإنسان لا يجوز له أن يطأ امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد، وهذا لا خلاف فيه.

المراد بالنكاح في قوله: (إلا ما نكح آباؤكم)

وإنما الخلاف في قوله جل وعلا: إلا ما نكح آباؤكم، فنكاح الآباء السالف هل هو ما كان بعقد مشروع أو ما وطئه الآباء من النساء ولو كان بحرام فيحرم على الأبناء أن يتزوج ما وطئه أبوه عن حرام سواء كان في جاهلية أو كان في إسلام؟

اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الخلاف في النكاح الثاني في ذلك على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أن المراد بالنكاح هنا لامعنى الشرعي وهو العقد، فما عقد عليه الأب سواء دخل بها أو لم يدخل بها حرم على الابن أن يطأها.

وأما إذا وطئ الرجل امرأة بسفاح سواء كان بجاهلية أو بإسلام فهل يقع الخطاب في قوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، نقول: بالنسبة للوطء من غير عقد هذا لا خلاف فيه لأنه زنا، وأما بالنسبة لوطئها بعقد, فذهب بعض العلماء إلى جواز ذلك، وهذا قول جمهور العلماء أن المراد بنكاحه هنا هو النكاح المشروع والذي يكون بعقد.

وذهب بعض العلماء وهو قول أبي حنيفة وهو قول الإمام مالك رحمه الله رواية عنه إلى أن المراد بذلك جميع أنواع الوطء سواء كان مشروعاً أو ممنوعاً، نكاحاً أو سفاحاً، فإنه يحرم على الابن أن يتزوج امرأة وطئها أبوه بأي نوع من أنواع الوطء.

والأظهر والله أعلم أن المراد بالنكاح هنا هو معنى الشرع وهو العقد؛ لأنه يلزم من ذلك، يلزم من القول بأن المراد بالوطء هو المباشرة سواء كان بعقد أو بغير عقد يلزم من ذلك أن الرجل إذا عقد على امرأة من غير أن يدخل بها فطلقها قبل دخوله وخلوته بها أنه يجوز لابنه أن يطأها ويتزوجها بعد أبيه، وهذا مخالف لإجماع العلماء، ومخالف أيضاً لظاهر الدليل.

فالحمل على معنى الوطء وهو المباشرة فيما يقام عليه الحد إذا كان حراماً يخرج من ذلك العقد في غير المدخول بها وهذا يخالف ظاهر الدليل.

والقاعدة عندنا أنه إذا تعارض معنى الشرع ومعنى اللغة, فإنه يقدم معنى الشرع على معنى اللغة، وإن كان في اللغة أن المراد بذلك النكاح هو الضم والجمع فيدخل فيه بعقد أو بغير عقد، ولكن في استعمال الكتاب والسنة فإن النكاح لا يطلق إلا على ما كان بعقد، وهذا يؤخذ من جملة من القرائن:

القرينة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى ذكر النكاح في كتابه في مواضع عديدة وأراد به العقد.

القرينة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك حينما ذكر المحرمات قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23]، فالتحريم هنا ليس للزنا وإنما هو تحريم للعقد عليهن، لأن هذا ليس موضع بيان فواحش، وإنما هو موضع بيان عقود.

فكل ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سياق هذه الآيات ذكره الله جل وعلا في بيان العقد عليهن، وإلا فالأصل أنهم يعظمون الأمهات ويعظمون البنات، ويعظمون الأخوات ويعظمون الخالات، ويعظمون كذلك العمات، وغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى سوى ما استثناء عبد الله بن عباس مما حكاه عن أهل الجاهلية كما تقدم.

والقرينة الثالثة في هذا: أن الله سبحانه وتعالى قال في المحرمات من النساء: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، ولا تكون حليلة الابن يجوز أن يطأها إلا بعقد، يعني: أنها أحلت له، فإذا لم يكن ثمة عقد لم تسم حليلة, بدليل على أن الذي أحلها للابن هو العقد بها, فالمراد من ذلك هو النكاح الذي يكون بعقد.

ثم إن تحريم زوجات الأبناء مقابل لتحريم زوجات الآباء، فإن الله حرم على الأبناء زوجات الآباء، كما حرم على الآباء زوجات الأبناء، فذكر في الأبناء في قوله: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، كذلك حرم الله جل وعلا أيضاً زوجات الآباء فقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:23].

ولا يختلف العلماء عليهم رحمة الله في أن ما وطئه الأب بنكاح أو وطئه بملك يمين أنه يحرم على الابن أن يطأها بعده، فإذا اشترى الابن أمة عند أبيه قد وطئها بملك يمين، فإنه يحرم عليه أن يطأها، ويصح حينئذ ملك اليمين له.

صحة ملك اليمين من غير وطء

وقد يقول قائل: هل يصح ملك اليمين من غير وطء؟ نقول: نعم، يصح ملك اليمين من غير وطء وهذا له صور، من هذه الصور: المزوجة، ومن الصور: المبعضة، ومنها: المشركة فقد تكون أمة لكنها مشركة، فلا يجوز أن توطأ المشركة، بل لا يجوز إذا كانت حرة فكيف إذا كانت أمة؟ فالأمة التي توطئ هي الأمة الكتابية أو الأمة المسلمة، وإذا وطئ الأب امرأة بعقد أو بملك يمين فإنه يحرم على الأبناء أن يطئوهن، والحرمة في ذلك أبدية.

وسواء كان النكاح صحيحاً بيناً، أو كان نكاح شبهة، لا خلاف عند السلف في ذلك، وإنما اختلفوا في وطء التحريم وذلك كالزنا، فيمن واقع زانياً، أو عقد على امرأة وهو يعلم تحريمها عليه، فإن الحكم في ذلك واحد.

تحريم نكاح زوجة الأب وإن علا

وقوله جل وعلا: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:23]، لا يختلف العلماء على أن الحكم للآباء وإن علوا، سواء نكح الأب أو نكح الجد فإنه يحرم على الابن والحفيد في ذلك، والعلة في هذا أيضاً باقية، وهي كذلك أيضاً بالنسبة للأبناء وإن نزلوا في قول الله جل وعلا: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23].

وفي قوله سبحانه وتعالى: مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:23]، في قوله: من النساء، إشارة وإن كثرن وإن تعددن، فإذا نكح الأب امرأة أو امرأتين أو ثلاثاً أو أربعاً، أو أخذ وطلق وأكثر فإنه يحرم على الأبناء أن يتزوجوا ما نكح آباؤهم من النساء.

العفو عن المخالفة إذا لم يكن دليلها واضحاً

في قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، إشارة إلى قول عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وفي هذا أيضاً عفو عما مضى من المخالفة، وجبر أيضاً لما وقع فيه الناس مما لم يقطعوا بتحريمه، فإن نكاح زوجات الآباء مما لا تدل الفطرة دلالة تامة على تحريمه بخلاف نكاح الأمهات، والبنات، والأخوات، فإن الفطرة في ذلك تدل عليه دلالة تامة.

ويقصر كلما تباعدن كنكاح العمات ونكاح الخالات فيضعف في ذلك دليل الفطرة، وكلما قربن فإن دلالة الفطرة في ذلك تقوى.

وتقدم معنا الإشارة أنه إذا قوي دليل الفطرة ضعف دليل الشرعة، ومعنى هذا: أن الشريعة تكتفي بدلالة الفطرة على التحريم، لأن الله هو الذي طبع الناس، وهو الذي فطرهم، كما في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] .

الموصوف بقوله: (إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً)

وقوله سبحانه وتعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22] . هنا هل الاستثناء في قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، وصف المقت والفاحشة وسوء السبيل لوطء زوجات الآباء مما سلف، أو مما خلف مما علم بعد التحريم؟

ظاهر السياق أن الوصف في ذلك شامل لوطء زوجات الآباء بعد العلم بالتحريم؛ لأن هذا ما يناسب السياق؛ لأن السياق في سياق العفو عما مضى، فلا يوصف ما عفي عنه بالفحش وسوء السبيل والمقت، وقد عفا الله سبحانه وتعالى عنه، وإنما المراد بذلك أن من فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، وبعض المفسرين قال: إنها شاملة للسابق واللاحق، ومنهم من قال: إن الوصف شامل للاحق وهو الأظهر.

حكم العقد على زوجة الأب

وفي هذا الباب مسألة مهمة جداً وهي تتعلق بمسائل الإيمان ومسائل التكفير أيضاً، وهي من المسائل الشائكة في كلام العلماء من المتقدمين أيضاً ومن المتأخرين.

هنا لما ذكر الله جل وعلا النهي عن النكاح في قوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، ذكرنا أن النكاح هنا المراد به العقد، يعني: لا تعقدوا على زوجات آبائكم.

ثم وصف الله ذلك العقد بقوله: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، وما وصفه بالكفر، هل العقود المحرمة تدل على استباحتها حينئذ يكفر فاعلها أم لا؟ فإذا تعاقد اثنان على أمر محرم كأن يتعاقد ولي المرأة التي هي زوجة الأب والابن على تزويج زوجة الأب لابنه ويعلمان بالتحريم، فهل هذا استحلال أم لا؟

جاء عند الإمام أحمد رحمه الله في المسند وعند النسائي و ابن ماجه وغيرهم من حديث البراء بن عازب أنه قال: ( رأيت عمي الحارثة بن عمرو وقد عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أن يقتل رجلاً بنى بامرأة أبيه )، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقتل رجل بنى لا زنى، بنى يعني: أنه عقد عليها، قال: بنى بامرأة أبيه، والبناء بامرأة الأب عقد، فهل يلزم منه استحلال أم لا؟

جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه ليس استحلالاً وإنما هو زناً.

لعلنا نكمل هذه المسألة, وهي مسألة مهمة تحتاج إلى تفصيل في التعاقد على أمر محرم، هل يقتضي التحريم الاستحلال المعقود عليه, وحينئذ يلزم تكفير المتعاقدين أم لا, أم هذا فعل مجرد؟ وخلاف العلماء في ذلك.

لعلنا نتكلم عليه بتفصيل وتدليل، وكلام الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في المجلس السابق، ولا أريد الاختصار في هذه المسألة؛ لأنها مسألة مهمة جداً، وينبني عليها مسائل التكفير لأعيان وأشخاص، وربما أنظمة ونحو ذلك، فهي تحتاج إلى تفصيل وبيان، نكملها بإذن الله تعالى في الدرس القادم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.