شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 37-أ


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما اليوم فعندنا حديث هو أصل من أصول الأحاديث في الوضوء، وهو حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

عن حمران : ( أن عثمان رضي الله عنه دعا بوضوء ).

حمران بضم الحاء هو حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد سباه خالد بن الوليد في بعض مغازيه, ثم أعتقه عثمان رضي الله عنه.

( أن عثمان دعا بوضوء ) الواو هاهنا مفتوحة كما سبق مراراً، والمقصود بالوضوء هاهنا هو الماء الذي يتوضأ به.

( فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ) المضمضة هي: إدخال الماء إلى الفم وتحريكه ثم مجه، وهي معروفة.

(واستنشق): الاستنشاق أيضاً معروف وهو: أن يجذب الإنسان الماء إلى داخل الأنف عن طريق النفس .

(واستنثر): الاستنثار هو: إخراج الماء من الأنف، وهذا التعريف للاستنثار هو الذي عليه جماهير العلماء من أهل اللغة والمحدثين وغيرهم، أن المقصود بالاستنثار: هو إخراج الماء ونثره من الأنف.

( ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمني إلى المرفق ثلاث مرات ) والمرفق: هو العظم الناتئ في أعلى الذراع .

( ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ) والكعبان: هما العظمان الناتئان عند ملتقى القدم بالساق، وفي كل رِجْلٍ كعبان، ( ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ).

(نحو) معناها: مثل وضوئي هذا، ولا وجه لتكلف أن لنحو معنىً آخر غير معنى مثل، يعني: أن نحو قريباً، إنما المقصود مثل وضوئي هذا كما صح في رواية أخرى في الصحيح أنه قال: ( توضأ مثل وضوئي هذا ). والحديث له زيادة تركها المصنف وهي لا تتعلق بأحكام الوضوء، وإنما هي زيادة نافعة على كل حال.

حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي عثمان : ( من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ).

وقوله: ( لا يحدث فيهما نفسه ) تحديث النفس يقصد به الوساوس والخواطر التي تهجم على النفس، والمعنى أنه لا يقر هذه الوساوس ولا يسترسل مع هذه الخواطر التي ترد عليه بل يدفعها.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) المعنى والمقصود بذلك أي: من الصغائر، أما الكبائر فإنها لا تمحى إلا بالتوبة؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من عبد مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا غفر له ما تقدم من ذنبه ما لم تغش كبيرة ) وفي رواية مسلم : ( ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله ) وقوله: (ما لم يؤت كبيرة) يعني: ما لم يعط أو يقع في كبيرة، كما في قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [الأحزاب:14].

فوائد الحديث

والحديث حديث عثمان

رضي الله عنه هو أصل في الوضوء وأحكامه، وفيه فوائد كبيرة ونافعة جداً نبدأ بها ثم أمر على إحدى المسائل الخلافية فيه. فمن الفوائد الظاهرة منه: مشروعية غسل الكفين في بداية الوضوء، وأن ذلك سنة، حيث إنه ذكر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كفيه ثلاث مرات )، وهذا سنة باتفاق أهل العلم كما ذكر النووي

، ولم يخالف في ذلك إلا الزيدية، ويجب أن يُعلم أن غسل الكفين هاهنا في بداية الوضوء ليس المقصود به غسلهما بعد الاستيقاظ من النوم وقبل إدخالها في الإناء؛ لأن هذه مسألة أخرى ورد فيها أحاديث كثيرة، وذكر جمع من أهل العلم أنها واجبة، أن هذا الغسل واجب، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله في ما يستقبل إن مد الله في العمر. إنما المقصود غسل الكفين في بداية الوضوء لغير المستيقظ، وإن كان بعض الفقهاء لا يفرقون بينهما، فقد رأيت في بعض كتب الفقهاء ككتاب الإشراف للقاضي عبد الوهاب المالكي

وبداية المجتهد لـابن رشد

وغيرهما: أنهم أدخلوا البحثين هذين في مبحث واحد، بحث غسل الكفين في بداية الوضوء، مع بحث غسل الكفين بعد الاستيقاظ من نوم الليل لمن أراد إدخالهما في الإناء، والكلام الآن هو عن غسل الكفين لمن أراد الوضوء، ولم يكن مستيقظاً من نوم ليل، فهذا الغسل سنة باتفاقهم، ولم يخالف في ذلك إلا الزيدية، وهذا خلاف لا يعبأ به؛ لأن أهل البدع لا يعتد بخلافهم. ثم قوله: (ثم غسل وجهه) هذا دليل على مشروعية غسل الوجه في الوضوء، وهو واجب فرض باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ))[المائدة:6]. قوله قبل ذلك: (ثم تمضمض واستنشق واستنثر) هذا دليل على مشروعية المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وسأتطرق له بعد قليل إن شاء الله، سأتطرق لهذه المسألة بالتفصيل. ثم فيه دليل على وجوب غسل اليدين قوله: (غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك) وغسل اليدين فرض باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: (( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ))[المائدة:6]. وفيه دليل على مشروعية مسح الرأس؛ لقوله: (ثم مسح برأسه) وهو أيضاً فرض باتفاقهم، لقوله تعالى: ((وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ))[المائدة:6]. وفيه دليل على أن المشروع في الرأس المسح وليس الغسل؛ لقوله (ومسح برأسه). وفيه دليل على غسل الرجلين إلى الكعبين في الوضوء، وهو أيضاً فرض باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: (( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ))[المائدة:6]. وسيأتي أيضاً مزيد من الكلام حول هذه المسألة. وفيه دليل على مشروعية الترتيب في الوضوء؛ لأنه رتب هذه الأفعال بقوله: (ثم) (تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه، ثم غسل يديه، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه)، فدل على مشروعية الترتيب في أفعال الوضوء، وهذه المسألة إن شاء الله أيضاً ستأتي فيما بعد. وفيه دليل أيضاً على مشروعية الموالاة بين أفعال الوضوء؛ لأن الظاهر من فعله صلى الله عليه وسلم أنه لم يفصل بين هذه الأعمال بفاصل. وفيه دليل على فضيلة الوضوء. وفيه دليل على أنه يشرع للإنسان أن يصلي عقب كل وضوء ركعتين، وهذا من أين يؤخذ؟ يعني: من أي موضع من حديث الباب؟ يؤخذ من الزيادة وهي قوله: (ثم صلى ركعتين). وفيه دليل على مشروعية الخشوع واستحضار القلب في الصلاة؛ وذلك لقوله: ( لا يحدث فيهما نفسه ) وأنه رتب الجزاء العظيم وهو غفران الذنوب على ألا يحدث الإنسان نفسه، وحديث عثمان

الذي أشرت إليه في مسلم

أنه قال: ( ثم يحسن وضوءها وخشوعها وركوعها ). وفيه دليل على سعة رحمة الله تبارك وتعالى، وأنه يغفر الذنوب جميعاً، وأنه هو الغفور الرحيم.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4765 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4400 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4215 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4096 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4023 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3973 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3919 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3899 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع