أشراط الساعة رواية ودراية [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقد تقدم الكلام معنا عن جملة من أشراط الساعة وعلاماتها، ونكمل في هذا المجلس.

ومن أشراط الساعة: مشابهة سنن وطرائق الأمم السالفة من بني إسرائيل؛ فقد روى البخاري وغيره من حديث عطاء عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر أو وذراعاً بذراع. قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال عليه الصلاة والسلام: فمن )، والمراد من هذا أن الأمة تقتدي بجملة من أفعالها وأقوالها على طرائق وسنن أهل الكتاب.

ضعف أمة الإسلام وقوة أهل الكتاب

وفي هذا المعنى إشارة إلى ضعف هذه الأمة، وقوة أهل الكتاب، بعدما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة من الأخبار، وقد تقدم الإشارة إليها، من قوة هذه الأمة ومن بأسها على أهل الكتاب، كما هو ظاهر من كثرة الفتوح، وضعف المشركين والكفرة على وجه العموم، كما كان في ابتداء الأمر من امتلاك المسلمين للقوة، وقد يتخلل ذلك ضعف في الأمة وهوان وركون إلى الدنيا، والطمع في الدنيا وملاذها، حتى يتبعوا مع ذلك طرائق أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

ولهذا أخبر رسول صلى الله عليه وسلم أن الاتباع إنما يكون لأهل الكتاب خاصة، وهذا قد تقدم معنا فيما سبق الإشارة إلى ضعف أهل الكتاب في بداية الأمر، ولكن يتخلل هذا جملة من مظاهر القوة في أهل الكتاب على أهل الإسلام؛ وقد جاء متضمناً في خبر رواه الإمام أحمد وغيره من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم حينئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل )، وهذا من أشراط الساعة وعلاماتها أن تتداعى الأمم قبلنا، والغالب في نصوص الشرع وألفاظه إذا وردت جملة (الأمم السابقة) أنها تنصرف إلى بني إسرائيل من اليهود والنصارى، وإذا ورد إطلاق (الأمم السابقة) في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير قرينة صارفة فإنه يراد به اليهود والنصارى، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى.

تداعي الأمم على أمة الإسلام

وتداعي الأمم يراد به تسلط اليهود والنصارى على هذه الأمة، سواء في عقيدتها، أو في سلوكها، أو في أمنها واقتصادها، وهذا مشاهد في كثير من الأعصار المتأخرة، فظهر تداعي الأمم على هذه الأمة باستباحة دماء كثير من المسلمين، وسفك الدماء والسيطرة على كثير من الأموال والممتلكات، وبث الفرقة في بلاد المسلمين، والتشكيك في كثير من عقائد المسلمين، وهذا من الأشراط التي ظهرت.

وقد تقدم معنا الإشارة إلى أن أشراط الساعة الصغرى أكثرها قد ظهرت، وقد نص على هذا المحققون من أهل العلم كـالبيهقي عليه رحمة الله، فإنه أشار في كتابه الدلائل والشعب على ذلك فقال: (وأكثرها ظهر) يعني: أشراط الساعة، وهي من جهة الأصل لم تظهر بتمامها، ويأتي الإشارة، وتقدم الإشارة معنا أيضاً إلى جملة من أشراط الساعة التي لم تظهر وهي في عداد الصغرى، ويأتي الإشارة إلى بعضها.

وفي هذا المعنى إشارة إلى ضعف هذه الأمة، وقوة أهل الكتاب، بعدما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة من الأخبار، وقد تقدم الإشارة إليها، من قوة هذه الأمة ومن بأسها على أهل الكتاب، كما هو ظاهر من كثرة الفتوح، وضعف المشركين والكفرة على وجه العموم، كما كان في ابتداء الأمر من امتلاك المسلمين للقوة، وقد يتخلل ذلك ضعف في الأمة وهوان وركون إلى الدنيا، والطمع في الدنيا وملاذها، حتى يتبعوا مع ذلك طرائق أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

ولهذا أخبر رسول صلى الله عليه وسلم أن الاتباع إنما يكون لأهل الكتاب خاصة، وهذا قد تقدم معنا فيما سبق الإشارة إلى ضعف أهل الكتاب في بداية الأمر، ولكن يتخلل هذا جملة من مظاهر القوة في أهل الكتاب على أهل الإسلام؛ وقد جاء متضمناً في خبر رواه الإمام أحمد وغيره من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم حينئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل )، وهذا من أشراط الساعة وعلاماتها أن تتداعى الأمم قبلنا، والغالب في نصوص الشرع وألفاظه إذا وردت جملة (الأمم السابقة) أنها تنصرف إلى بني إسرائيل من اليهود والنصارى، وإذا ورد إطلاق (الأمم السابقة) في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير قرينة صارفة فإنه يراد به اليهود والنصارى، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى.

وتداعي الأمم يراد به تسلط اليهود والنصارى على هذه الأمة، سواء في عقيدتها، أو في سلوكها، أو في أمنها واقتصادها، وهذا مشاهد في كثير من الأعصار المتأخرة، فظهر تداعي الأمم على هذه الأمة باستباحة دماء كثير من المسلمين، وسفك الدماء والسيطرة على كثير من الأموال والممتلكات، وبث الفرقة في بلاد المسلمين، والتشكيك في كثير من عقائد المسلمين، وهذا من الأشراط التي ظهرت.

وقد تقدم معنا الإشارة إلى أن أشراط الساعة الصغرى أكثرها قد ظهرت، وقد نص على هذا المحققون من أهل العلم كـالبيهقي عليه رحمة الله، فإنه أشار في كتابه الدلائل والشعب على ذلك فقال: (وأكثرها ظهر) يعني: أشراط الساعة، وهي من جهة الأصل لم تظهر بتمامها، ويأتي الإشارة، وتقدم الإشارة معنا أيضاً إلى جملة من أشراط الساعة التي لم تظهر وهي في عداد الصغرى، ويأتي الإشارة إلى بعضها.

ومن أشراط الساعة: ظهور ما يسمى بركوب المياثر وهي السرج، وقد جاء عند الحاكم في مستدركه، ورواه الإمام أحمد من حديث عبد الله القتباني ، عن أبيه ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليركبن رجال من أمتي المياثر )، وجاء في رواية: ( سرجهم كأشباه الرحال، يقفون عند أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، رءوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات).

وفي هذا الخبر جملة من المسائل منها ما يتعلق بهذا الباب، ومنها ما هو متعلق بمسائل عامة.

وما يتعلق في هذا الباب من أشراط الساعة ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( يركبون على المياثر كأشباه الرحال )، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( مياثر كأشباه الرحال ) إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير إلا الدواب التي رأيتموها؛ ولهذا شبهها بالرحال، والراحلة هي الدابة من الإبل التي يوضع عليها السروج والهودج، فتكون شبيهة بها، ولكن عليها مياثر.

والمياثر هي ما يجلس عليه من القطن، وما يجلس عليه من الحرير، ويجمع على نحو ميثرة، إشارة إلى التنعم، وقد يشار إلى هذا المعنى إلى أن المراد بذلك هي الدواب التي تركب في وقتنا هذا، وما تسمى بالسيارات، وما قبل ذلك وتسمى بالعربات، وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.

وقد تضمن هذا الحديث جملة من المسائل، منها: الإشارة إلى وقوف أهل المياثر عند أبواب المساجد ونزول الرجال منها، ونساؤهم فيما يظهر في هذا الخبر بتمام هذا السياق، ولكنهن ( كاسيات عاريات، رءوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات )، وهذا يتضمن أن من المسلمين مع ضعف تمسكه بمجموع الشريعة إلا أنه يأتي إلى المساجد قاصداً الصلاة، وبعض النساء ربما طبقن جملة من شيء من الشرائع مع تركهن لجملة من الأحكام الشرعية من ذلك الستر والحجاب، والتمسك بجملة من الأحكام الشرعية لا يعني وجود الفسق في المسلمين وكذلك المسلمات.

وبه يعلم أن كثيراً من المسلمين سواء كانوا من الرجال أو من النساء يتلبسون بجملة من أعمال الخير، وجملة من أعمال الشر، وهذا يظهر في زماننا كثيراً، وقد أشار إلى هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة من الأخبار في قوله: ( تعرف وتنكر )، وهذا الحديث شاهده في صحيح الإمام مسلم كما تقدم الكلام عليه ( صنفان من أمتي لم أرهما )، وذكرنا الكلام عليه في هذا الباب، وكذلك جملة من المسائل التي وردت به.

ومن أشراط الساعة: صدق رؤيا المؤمن، وهذا قد جاء عند الإمام مسلم عليه رحمة الله من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( في آخر الزمان لم تكد رؤيا المسلم أن تكذب ).

والمراد من هذا أن المؤمن وإن كان ناقصاً من جهة الأصل في الإيمان، وإن كان قد يتلبس بشيء من الفسوق إلا أنه من جهة الكفر والفسق في أهل عصره امتاز بقلة الكذب، وقد جاء عن رسولنا صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي وغيره ( القابض على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمر )، وقد جاء عند الترمذي والإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( وودت لو أني رأيت إخواني. قالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين يأتون من بعدي، للعامل منهم أجر خمسين. قالوا: منا أو منهم؟ قال: بل منكم ).

وفيه فضل المؤمن وإن كان مقصراً في آخر الزمان على من كان سلف في ذات الأعمال التي هي في مجموع الإيمان، وإلا قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح قوله: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وفيه إشارة إلى أن أعمالهم قد اقترن بها عمل القلب وقوة الإيمان وصدق النية مما قد يقل في المتأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من صدق الرؤيا فيه إشارة إلى تعلق الناس بهذه الرؤيا، والرؤى يلتزمها كثير من الإشكالات التي تكون بين قطعية الأخذ بها، ومن هذه الإشكالات صدق الرؤيا، ومن هذه الإشكالات صدق أو إصابة المعبر، وهذا أمره من الغيب في الأغلب؛ ولهذا لا يجوز التعلق بالرؤى والعمل بها، وإنما يستأنس بها؛ ولهذا من عمل عملاً، أو أمسك عن شيء، وجزم بذلك اعتماداً على رؤيا، وخالف في إمساكه أو فعله ظاهر النص يقال أنه قد أحدث؛ لأن النص قطعي، والرؤيا هي من الوحي ظني، وإلا هي من أجزاء النبوة.

وأما صدق الرؤيا وكذبها فجاء تفسيره عند الإمام أحمد ، وعند الطبراني ، و ابن مندة في كتابه الروح والنفس من حديث ابن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه (أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ذهب إلى علي بن أبي طالب فقال: ثلاث ليس عندي منهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً، فهل عندك عنه منهن علماً؟ قال: وما هن؟ قال: إني أرى الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً، وأرى الرجلان يكره الرجل ولم يره منه شراً، وأرى الرجل يحدث الحديث إذ نسيه إذ ذكره، والرؤيا تكون صادقة وتكون كاذبة، فقال علي بن أبي طالب عليه رضوان الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما الرجل يكذب ولم ير منه خيراً، وأما الرجل إذ ينسى وإذ يذكر عند حديثه، فإن للقلوب سحابة كالسحابة التي تكون على القمر، إذ علت عليه سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء، وكذلك الإنسان يتحدث إذا أتت سحابة على قلبه نسي، وإن زالت تذكر، وأما الرؤيا تكون صادقة وتكون كاذبة فذلك الإنسان ينام فيصعد بروحه فإن بلغت السماء قبل أن تجتالها الشياطين صدقت، وإن لم تبلغ السماء حتى اجتالتها الشياطين كذبت ).

وهذا الخبر قد رواه الأزهر الأودي في روايته عن محمد بن عجلان ، عن سالم ، عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن عمر ، وروي من غير هذا الوجه عن سالم عن عبد الله بن عمر، وروي بغير هذا اللفظ بأكثر منه، فرواه ابن مندة في كتابه الروح والنفس، ورواه الإمام أحمد عليه رحمة الله في كتابه المسند.

وفي هذا إشارة إلى أن الرؤى تأتي في باب الظنيات ولا يقطع بها، وإنما تكون هي من أبواب الاستئناس، يستأنس بها الإنسان في أموره ما لم يكون هناك نص شرعي؛ ولهذا يذكر عن بعض السلف أنه جاءه رجل فقال له: إني رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، فقال لي: إن رمضان غداً، فقال له: إن الذي رأيته في المنام أخبرنا في اليقظة، فقال: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته )، فالعبرة بالوحي الناطق والاعتماد عليه، وترك ما عداه من أقاويل الرجال وأحكامهم، وكذلك الرؤيا، وهذا لا يعني تنقيصاً من مقام الرؤيا، فهي جزء من النبوة كما جاء في ذلك الخبر، وتقدم أيضاً الإشارة إليه.

ومن أشراط الساعة: الاعتماد على دواوين مكتوبة وقواميس مصنفة، وترك الكتاب والسنة، وعدم الاعتماد عليها، وقد جاء هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن وضاح من حديث عبد الله بن عمرو قال: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر القول، ويدفن العمل، ألا إن من أشراط الساعة أن تتلى المثناة فلا يوجد من يغيرها, فقيل له: وما المثناة؟ قال: ما استكتب من كتاب غير القرآن).

وتقدم معنا في غير ما موضع أن كتاب الله إذا أطلق فالمراد به القرآن والسنة، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن خالد و أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل الأعرابي الذي كان عنده عسيفاً، فزنى بامرأته، قال: اقض بيننا بكتاب الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ).

فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد احتكم بشيء من الأحكام وهو منصوص عليه في القرآن وهو الجلد، ونص على الرجم وهو في كلام الله، كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب ، وكذلك قد رواه الإمام أحمد بإسناد لا بأس به من حديث عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب : ( والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ). وأما التغريب فإنه لم ينص عليه في كلام الله إلا على سبيل الإجمال وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[المائدة:92].

وأما ظاهر حديث عبد الله بن عمرو قال: ( ما استكتب من كتاب غير القرآن)، فالمراد من هذا أن الناس يعتمدون على الدواوين الفقهية، ولا يعتمدون على الوحي، وهذا ظهر وتفشى في الأعصار المتأخرة، واعتمدت أقوال الشيوخ، بل اعتمدت أقوال الأصاغر، ولم يتل في كثير من مجالس العلم القرآن ولا السنة، واعتمد على فتوى فلان وفلان، وهذا لا شك أنه من أشراط الساعة، حتى إن الإنسان إذا أراد أن يبلغ أو يدلل، تجد هذا يرجع إلى الكتب وهذا يرجع إلى الدواوين، ولم يرجع إلى كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من الفتنة التي ولدت الفرقة في صفوف المسلمين، فكتبوا الآراء والاجتهادات، وظهرت الأقوال الشاذة في الدين.

والأولى في ذلك أن يرجع في أمور الدين للكتاب والسنة على السواء، فإنه الوحي الناطق الطاهر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويعتمد في فهم ذلك على فهم السلف الصالح من الخيار الذين وصفوا بالخيرية كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عمران بن حصين : ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).

وهذه الخيرية التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام هي تفسير لقوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، فالفقه في الدين لما وجد في هذه القرون الثلاثة استحقت الوصف بالخيرية على سائر القرون، فقال: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).

والمراد من هذا أن الأمة إذا وجد فيها العلم ووجد فيها الحق من الكتاب والسنة، ووجد فيها من ينصح لله حقاً، كانت أهلاً لأن توصف بالخيرية، ولذلك روى ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم).

فإذا وجد في الأمة من يعتمد على الكتاب والسنة واعتقد على مذهب السلف من الأئمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم فليعلم أن الأمة مرحومة، وإذا وجد في الأمة من يعتمد على الآراء الفقهية وآراء الرجال، ويقدمها على الكتاب والسنة، فليعلم أن ذلك من الأخذ عن الأصاغر، وهم أهل البدع، كما جاء في حديث عبد الله بن المبارك ، وقد تقدم الإشارة إليه من حديث أبي أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أشراط الساعة أن يؤخذ العلم عن الأصاغر ). وقد سئل عبد الله بن المبارك : من هم الأصاغر؟ فقال: هم أهل البدع. وجاء عنه في موضع أنه سئل: ومن الأصاغر؟ قال: هم الذين يقولون برأيهم، وأما صغير يروي عن كبير فليس بصغير.

وفي هذا أن قيمة الكتاب والسنة ووجودها عملاً في الأمة هو مناط الرحمة والخير في هذه الأمة، فإذا اعتمد على دواوين العلم المصنفة بما يسمى بأبواب الفقه، أو ما يسمى بأبواب الآراء وعلوم الآلة، ونحي مع ذلك الشريعة فإن هذا هو الضلال بعينه، وأما إذا اتخذت دواوين العلم طريقاً وسبيلاً إلى التبصر في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت أقوال الرجال مع اقترانها بالدليل فإن هذا من الطرائق المسلوكة عند أهل العلم من الصدر الأول إلى يومنا هذا.

ومن علامات الساعة وأشراطها: ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من ظهور أقوام في آخر الزمان ( يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويؤتمنون ويخونون، ويظهر فيهم السمن )، وقد جاء هذا في الصحيح من حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخرج أقوم يشهدون ولا يستشهدون )، أي: يدلون بالشهادة من غير طلب، ويظهر من هذا السياق أنهم ما بادروا بالشهادة إلا لأجل مطمع؛ وقد أشار في بعض المواضع مما يتضمن شحاً؛ وذلك أن الإنسان إذا نذر ولم يوف بنذره، إشارة إلى كونه من جهة كفارة الأيمان، وإذا شهد من غير استشهاد إشارة إلى أنه أدى بالشهادة لأجل مطمع من الدنيا، إما رغبة أو رهبة ممن شهد له.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث رميح عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً )، فقوله: (الأمانة مغنماً) أي: أن ثقة الإنسان وعهده وصدقه يجعل من الأمور التي يتكسب بها الإنسان في يومه وليلته، وهذا مشاهد، فكثر في الأزمان المتأخرة من يشهد ويزكي الرجال لأجل منافع ومصالح وحظوظ النفس، وظهر كذلك من جعل صدقه رغبة في المدح، وهذا لا يخرج عن المغنم؛ لأن المغنم عام سواء من المغانم المعنوية أو المغانم المادية، وهو متضمن أيضاً لقصد كثير من الأعمال لغير الله جل وعلا، وهذا هو الرياء؛ ولهذا جاء في الحديث المروي عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: ( وأن يطلب العلم لغير الدين )، يعني: لغير الله جل وعلا، فإذا انتشر هذا وظهر في الناس فإن هذا من أشراط الساعة وعلاماتها.

ومما ذكره هنا قال: ( ويظهر فيهم السمن )، وفيه إشارة إلى رغد العيش، ورغد العيش إذا ظهر في الأمة ولم تنشغل الأمة بمهماتها العظيمة ظهر في الأمة السمن، وقوله: (ظهر) إشارة إلى أن هذا الأمر أصبح ظاهرة بعدما كان على الأفراد، فإذا كان ظاهرة فإن هذا من أشراط الساعة وعلاماتها.

وإذا وجد كذلك في الأمة من إذا نذر لا يفي بنذره، وفيه إشارة إلى كثرة الأحداث، وأن يجعل الإنسان الله عز وجل عرضاً ليمينه ولا يفي بتلك اليمين، ولا يكفر، وهذا فيه إشارة إلى ضعف إيمان الإنسان وعدم خوفه من الله سبحانه، وهذا إشارة إلى اضمحلال العلم ونقصانه في الناس، وإذا انتقص العلم ظهر معه الجهل كما تقدمت الإشارة إليه.

ومن أشراط الساعة وعلاماتها: كثرة الزلازل، وكثرة الزلازل قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جملة من الأخبار، منها ما رواه أبو هريرة كما في الصحيحين وغيرهما قال: ( لا تقوم الساعة حتى يكثر القتل، وتظهر الزلازل )، والمراد بالزلازل يحمل على الزلازل المعروفة، وما يفسره به بعض من تكلم في أشراط الساعة على أن المراد بالزلازل هي الفتن على وجه العموم، فيقال: إنه ليس المراد بذلك من وجوه متعددة: منها: أن تخصيص الفتنة قد جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من أشراط الساعة في جملة من المواضع، منها ما دل عليه الدليل على وجه العموم والإجمال، ومنها ما كان على سبيل التفصيل بأدلة خاصة، كما تقدم الإشارة إليه عند فتنة الرجل في أهله وماله وولده، وكذلك في الفتن التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام أنها كالقطر في بيوت أهل المدينة، وتقدم الإشارة إليه.

إذاً المراد بالزلازل هي الزلازل المعروفة التي تتضمن ارتجاج الأرض وتصدعها وانشقاقها.

ومن أشراط الساعة وعلاماتها: ظهور الصواعق، والمراد بالصواعق هي سقوط الشهب على الأرض وما في حكمها مما يوصف به، وقد جاء عند الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في آخر الزمان تكثر الصواعق حتى يأتي الرجل أهله فيقولون: من صعق الغداة؟ فيقولون: صعق فلان وفلان )، وهذا الحديث قد روي من طريق محمد بن مصعب ، وقد قال فيه الإمام أحمد : وفي حديثه عن الأوزاعي مقارب الحديث، وقد وثقه غير واحد كـابن معين ، وقال النسائي : ليس به بأس، وهذا الحديث يشهد له كثير من الوقائع المعاصرة، وقد تقدم الإشارة إلى أن الأصل في الأخبار وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بتصحيح شيء من النوازل المتأخرة، ولكن هي من القرائن التي يستأنس فيها، وليست من طرائق الأئمة النقاد.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
أشراط الساعة رواية ودراية [2] 2064 استماع
أشراط الساعة رواية ودراية [6] 2024 استماع
أشراط الساعة رواية ودراية [1] 1834 استماع
أشراط الساعة رواية ودراية [5] 1432 استماع
أشراط الساعة رواية ودراية [3] 981 استماع