الأحاديث المعلة في باب الصيام [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنكمل في هذا الدرس ما يتعلق بالأحاديث المعلة في الصيام.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون ).

هذا الحديث رواه الإمام أحمد و الترمذي في كتابه السنن من حديث عبد الله بن جعفر ، عن عثمان بن محمد الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي وقال بعد إخراجه: حسن غريب، واستغراب الترمذي رحمه الله لهذا الحديث ولتفرد عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ، و عثمان الأخنسي وهو ابن المغيرة قد تكلم فيه بعض العلماء، وذلك من جهة ذاته فإنه ليس بذلك الحافظ، وإن كان في ذاته صدوقاً، ومن جهة أخرى فيما يتفرد به عن سعيد المقبري خاصة، وقد تكلم عليه في ذلك علي بن المديني رحمه الله، وقال النسائي : إنه ليس بالقوي، يعني: في ذاته، وهذا الحديث أخذ على عثمان التفرد بروايته، وإن كان مستقيماً من جهة المعنى، ومن العلماء من يميل إلى تحسينه وإلى العمل به، وهو ظاهر عمل عامة المتأخرين، وذلك له وجه، وقد جاء هذا الحديث من طرق متعددة، فقد رواه الإمام أحمد و أبو داود في كتابه السنن من حديث أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون ).

وهذا الحديث معلول بأن محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة كما قال ذلك غير واحد من الحفاظ، كـأبي زرعة ، و الدارقطني ، و الأثرم ، وغيرهم، وقد جاء من وجهٍ آخر عند ابن ماجه في كتابه السنن من حديث أيوب عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيما يظهر لي -والله أعلم- أنه وهم وغلط، فما جاء في سنن ابن ماجه من قوله أيوب عن محمد بن سيرين وهم، والصواب في ذلك أنه عن محمد بن المنكدر لا عن محمد بن سيرين ، و محمد بن المنكدر لم يسمع هذا الحديث من أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى كما تقدمت الإشارة إليه، وهو معلول بهذا، وقد جاء هذا الحديث من وجهٍ آخر عند الدارقطني كما في كتابه السنن من حديث محمد بن عمر الواقدي ، عن ثابت وداود وآخر، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في روايته في هذه الطرق قد تفرد به محمد بن عمر الواقدي في روايته من هذا الوجه، وقد أعله في ذلك جماعة كـابن عبد الهادي ، وأعله قبله أبو الفرج ابن الجوزي ، وغيرهم من الأئمة، و محمد بن عمر الواقدي وإن كان إماماً في المغازي إلا أنه في أبواب الرواية في غير المغازي منكر الحديث، وقد اتهمه غير واحد من الأئمة بالكذب، ويظهر في ذلك أنه قد روى هذا الحديث عن الإمام مالك رحمه الله، و ابن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طريق يذكره بعضهم وهو من وضع محمد بن عمر الواقدي لهذا الحديث عن الإمام مالك ، فإن هذا الحديث لا يعرف في حديث الإمام مالك ولم يروه المعروفون من أصحابه.

الحديث الثاني: حديث حفصة يرويه عبد الله بن عمر عن حفصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له )، وجاء في رواية: ( من لم يجمع النية أو الصيام من الليل فلا صيام له ).

هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود وغيره، من حديث عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عن حفصة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد برفعه هكذا عبد الله بن أبي بكر ، و عبد الله بن أبي بكر وإن كان من الثقات إلا أنه خولف في هذا الحديث، فالثقات من الرواة يخالفونه ويجعلونه موقوفاً، تارة على عبد الله بن عمر وتارة على حفصة ، فإنه قد رواه عبيد الله بن عمر العمري ، ورواه معمر بن راشد ، و عبد الرحمن المدني ، كلهم يروونه عن ابن شهاب الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر موقوفاً عليه، وصوب الوقف الحفاظ، فعامة الحفاظ من المتقدمين على تصويب الوقف وعدم صحة الرفع، صوبه البخاري رحمه الله كما في كتابه التاريخ فقال: الموقوف أصح، وكذلك الترمذي كما في كتابه السنن، فقال: لا نعرفه مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، يعني: من حديث عبد الله بن أبي بكر ، وكذلك أبو حاتم و النسائي و الدارقطني وغيرهم، وبعض الأئمة يميل إلى تصحيحه مرفوعاً، وهذا ظاهر كلام الدارقطني رحمه الله، فإنه حينما أخرج هذا الحديث قال: رفعه عبد الله بن أبي بكر ، وهو من الثقات الرفعاء، إشارة إلى قبول روايته عنده في أبواب الرفع، ومن الأئمة من يميل إلى أن الحديث موقوف على حفصة وليس على عبد الله بن عمر ، والذي يظهر لي والله أعلم أن الحديث موقوف على عبد الله بن عمر وعلى حفصة أيضاً، والدليل أن هذا الحديث رواه الإمام مالك ، ورواه عبيد الله بن عمر العمري وهو من أوثق أصحاب نافع ، عن نافع عن عبد الله بن عمر من قوله، وجاء أيضاً عن حفصة و عائشة موقوفاً، فقد رواه الإمام مالك في كتابه الموطأ عن ابن شهاب عن حفصة و عائشة أنهما قالتا.. فهذا الأثر موقوفاً عليهما، إذاً: فهو مروي عن حفصة ومروي عن عبد الله بن عمر موقوفاً، إلا أنه عن عبد الله بن عمر موقوفاً أصح، وذلك لقوة إسناده، بخلاف ما جاء عن حفصة في الوجه الذي أخرجه الإمام مالك ففيه انقطاع، فإن ابن شهاب الزهري لم يسمعه من حفصة عليها رضوان الله، لهذا نقول: إن هذا الحديث لا يثبت مرفوعاً، وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمر و حفصة عليهما رضوان الله تعالى.

الحديث الثالث: حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور ).

هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث عبد الله بن لهيعة عن سالم بن غيلان ، عن سليمان ، عن عدي ، عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث معلول بعلل:

من جهة المتن: فإن المتن أصله جاء في الصحيح من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر )، ولم يذكر السحور، وتعجيل السحور جاء في حديث أبي ذر من حديث ابن لهيعة عن سالم بن غيلان ، عن سليمان ، عن عدي ، عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنكب البخاري رحمه الله هذه الزيادة.

وهذا الحديث أيضاً معلول بعلل إسنادية:

الأولى: أنه جاء من حديث عبد الله بن لهيعة ، وهو ضعيف الحديث، وقد تفرد بهذا الحديث عن سالم بن غيلان ، وأحاديث عبد الله بن لهيعة بمجموعها ضعيفة إلا أنها تتباين، فما رواه عنه القدماء من أصحابه كالعبادلة والمتقدمين منهم كـقتيبة وغيره، فإن هذا أوثق حديثاً، وأوثق حديث مما يرويه المتقدمون من أصحابه ما كان في أبواب القضاء فإنه من القضاة، وما رواه الراوي وهو من أهل الاختصاص والعمل فيه فإنه يضبطه أكثر من غيره، لهذا نقول: إن ما كان على هذه الصفة مما رواه قدماء أصحابه وخاصة في القضاء فإنه يقبل عند المتابعة ويعتبر به.

المرتبة الثانية: ما يرويه المتأخرون من أصحابه، وذلك بعد اختلاطه، فإنه قد احترقت كتبه وزاد سوء حفظه، لهذا نقول: إن ما كان بعد ذلك فإنه أشد ضعفاً، ولا يقبل حتى في المتابعات والشواهد، إلا أن ما يرويه في أبواب القضاء أحسن حالاً مما لم يروه في هذا الباب، وهذا الحديث تفرد بروايته عبد الله بن لهيعة عن سالم بن غيلان ، عن سليمان ، عن عدي ، عن أبي ذر .

الثانية: أن في إسناده مجهولان، وهو سليمان و عدي ، الذي يرويه عن أبي ذر ، وهما من المجاهيل، وقد تفردا بهذا الحديث عن أبي ذر عليه رضوان الله، والصواب في هذا الحديث ( أنه لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر)، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير السحور عند الطبراني في كتابه المسند من حديث حبابة بنت عجلان عن أمها عن صفية عن أم حكيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجلوا الفطر وأخروا السحور )، وهذا الحديث أيضاً مسلسل بالمجاهيل، وإسناده منكر، وأما بالنسبة لتأخير السحور فجاء في المسند من حديث أنس بن مالك عن زيد بن ثابت عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( كنا نتسحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف إلى الصلاة، فقيل له: كم بين السحور والصلاة؟ قال: قدر خمسين آية)، والخمسون آية يتلوها الإنسان إذا كان حدراً بنحو سبع دقائق إلى عشر دقائق، وهذا هو الفيصل في الغالب بين وجبة السحور وصلاة الفجر، لهذا نقول: إن تأخير السحور في ذاته ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أما ربطه بالخيرية وتعجيل الفطر بالخيرية فهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ذلك تنكب البخاري رحمه الله تعالى و مسلم له في إخراجهم لحديث: ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ).

ويظهر -والله أعلم- أن تأخير السحور آكد من جهة الفضل من تعجيل الفطر، والذي يظهر أيضاً أن السحور في ذاته أفضل وأكثر بركة من الفطر؛ لأن المتسحر يستقبل صياماً، والمفطر يستقبل ليلاً وطعاماً، فهو مخير، بخلاف الإنسان الذي يقبل على إمساك فإنه يقبل على صيام ويحتاج إلى نشاط، فالبركة الحاصلة في الصيام من السحور أظهر من الفطر، وهذا محتمل، وإنما جاء النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الفطر والتعجيل فيه لأن الناس يجتمعون على الفطر بخلاف اجتماعهم على السحور، فالسحور غالباً ما يطعمونه فرادى، بخلاف اجتماع الناس على الفطر فإنه يكون على الجماعة، وما كان على أمر الجماعة فإنه يتأكد أكثر من غيره، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال: ( تسحروا فإن في السحور بركة )، والمراد بالبركة هي ما يستقبل به الإنسان عمله في النهار، فإن عمل النهار في رمضان آكد من عمل الليل، حتى الصلاة والنوافل آكد من عمل الليل، وهذا ما يغفل عنه كثيرٌ من الناس، وذلك أن نهار رمضان أفضل من ليله؛ لأن رمضان ما فضل إلا لأجل الصيام، والصيام محله النهار لا الليل.

الحديث الرابع: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أذن المؤذن وفي يد أحدكم إناء فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه ).

هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود من حديث حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر منكر، قال أبو حاتم : ليس بصحيح، يعني: مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلة في ذلك -مع ظاهر استقامة إسناده- أن هذا الحديث تفرد به حماد بن سلمة مع كونه ثقة، إلا أنه ثقة في روايته عن ثابت فهو من أوثق الناس في روايته عن ثابت ، ويهم ويغلط في روايته عن غيره، كروايته عن محمد بن عمرو بن علقمة كما في هذا الحديث، إذاً: فـحماد بن سلمة تفرد بروايته هذا، ولهذا قال أبو حاتم رحمه الله: ليس بصحيح.

القرينة الأخرى على وهم حماد بن سلمة أيضاً: أنه وهم في هذا الإسناد، فرواه على عدة أوجه:

الوجه الأول: هو روايته في هذا الحديث عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة .

الوجه الثاني: أنه رواه عنه روح كما عند الإمام أحمد عن حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتارة يجعله عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وتارة يجعله عن عمار عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثالث: أن حماد بن سلمة رواه عن حميد عن أبي رافع أو عن غيره عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الرابع: أن حماد بن سلمة رواه عن يونس عن الحسن مرسلاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه وجوه اضطرب فيها حماد ، فدل على أنه لم يضبط هذا الخبر على وجهه.

الحديث الخامس: حديث أبي الزبير قال: ( سألت جابر بن عبد الله عن الشرب والمؤذن يؤذن عند الفجر فقال: كنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب ) ، يعني: عند الأذان.

هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث عبد الله بن لهيعة عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله به، وقد تفرد به عبد الله بن لهيعة في روايته عن أبي الزبير عن جابر ، و عبد الله بن لهيعة ضعيف الحديث.

الحديث السادس: حديث بلال عليه رضوان الله تعالى: ( أنه ذهب يؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر فوجده يأكل، فقال: مهلاً يا بلال ) .

هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من طريقين:

الطريق الأولى: رواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن المغفل ، عن بلال .

الطريق الثانية: رواه من حديث جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الطريق الأولى وهي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن المغفل عن بلال معلولة بعلل:

الأولى: أن هذا الحديث يرويه أبو إسحاق ، و أبو إسحاق لم يصرح بالسماع، وهو موصوف بالتدليس.

الثانية: أن عبد الله بن المغفل لم يثبت له سماع صريح من بلال بن رباح عليه رضوان الله تعالى.

وأما الطريق الثانية، وهي التي يرويها جعفر بن برقان عن شداد عن بلال عليه رضوان الله تعالى فإن شداداً لا يعرف، ولا يثبت له سماع.

والعلة الثانية من الطريق: لم يثبت له سماع من بلال عليه رضوان الله تعالى، وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث حديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في معنى هذا الحديث من حديث عبد الله بن عمر ، وجاء من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله ولا يثبت، ويفتي به بعض السلف كما جاء عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة قال: إن أبي يفتي بهذا، يعني: بالأكل عند سماع الأذان، ولهذا نقول: إن الأكل والشرب عند سماع الأذان قول لبعض السلف، والأولى في ذلك الاحتياط.

الحديث السابع: حديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ).

هذا الحديث حديث ضعيف، يرويه ابن أبي ليلى عن عطاء ، عن زيد بن خالد الجهني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من فطر صائماً ).

وهذا الحديث معلول بعلل:

أول هذه العلل: أن عطاء لم يسمعه من زيد بن خالد الجهني كما قال ذلك علي بن المديني ، وصححه جماعة من الأئمة من المتأخرين وغيرهم، ولم ينبهوا على هذا الانقطاع، كذلك فإن هذا الحديث -حديث زيد بن خالد الجهني - هو في البخاري ، ولكنه بلفظ: ( من جهز غازياً فقد غزى )، وليس: من فطر صائماً، ولكن قد يشكل عليه أن هذا الحديث قد جاء في مصنف ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من فطر صائماً كان له مثل أجره، ومن جهز غازياً فقد غزى )، فذكر الحديث بلفظين، ولكن نقول: إن هذا أيضاً من وجوه العلل، فـالبخاري حينما أورد حديث زيد بن خالد : ( من جهز غازياً )، وترك هذه اللفظة والزيادة مع الحاجة إليها وأهميتها وجلالة قدرها كان هذا من أمارة إنكاره لها، وذلك أن حاجة الناس إلى مثل هذا الفضل أكثر من حاجتهم إلى تجهيز غاز، وذلك من وجوه: منها: أن تفطير الصائم يتيسر لكل أحدٍ من الناس غالباً بخلاف تجهيز الغازي، فتجهيز الغازي فيه من الكلفة والمشقة، وكذلك أيضاً قلة الغزاة بخلاف الصائمين، فالحاجة إلى مثل هذا أكثر وأظهر، ولهذا إيرادها حتى يتزود الناس بالعمل الصالح أظهر، ومع ذلك تنكبها البخاري رحمه الله، لهذا نقول: إن الحديث من جهة متنه مرفوعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نكارة، وكذلك من جهة إسناده معلول، وقد جاء من وجوه أخر كما جاء عند عبد الرزاق من حديث ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة موقوفاً عليه، وهذا أقرب إلى الصواب أنه موقوف على أبي هريرة ، ولا يصح مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تضعيفه لا يعني إهدار الفضل، ففضل الله عز وجل في ذلك واسع، وأما نسبة ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام ففيه ضعف.

الحديث الثامن: حديث سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ).

هذا الحديث أخرجه ابن خزيمة ، و البيهقي من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معلول بعدة علل:

الأولى: أن هذا الحديث تفرد به علي بن زيد بن جدعان ، و علي بن زيد بن جدعان في ذاته مضعف، وفي حفظه لين.

الثانية: ويزيد ذلك إعلالاً أنه تفرد بهذا الحديث عن سعيد بن المسيب ، و سعيد بن المسيب من الثقات الحفاظ الرفعاء من أهل المدينة، وليس من أهل الآفاق، وأصحابه كثر، وغير أصحابه يردون إلى المدينة أخذاً عنه، فتفرد مثل حال علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مما يستنكر عند النقاد، خاصة بمثل هذا المعنى، لهذا نقول: إن هذا الحديث منكر.

الثالثة: أن سعيد بن المسيب لم يسمعه من سلمان الفارسي ، وإن كان سعيد بن المسيب من أهل التحري إلا أن الأحاديث إذا اجتمعت فيها قرائن النكارة تعل بأدنى من ذلك، ولهذا فإن علي بن زيد في تفرده عن سعيد بن المسيب هذا فيه نكارة، ولو كان الحديث عند سعيد بن المسيب موجوداً عن سلمان الفارسي لنقله غيره، ويكفي في أصحاب سعيد بن المسيب ابن شهاب الزهري ، فهو من الرواة عنه المكثرين فأين مثل هذا الحديث، ومثل هذا الحديث يحتاج الناس إليه في استقبال رمضان، ففيه من الفضل، وفيه من حث الناس على التواصل، وإطعام الطعام ونحو ذلك مما هو أظهر من غيره.

ومن وجوه إعلال المتن أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في إطعام الطعام في غير رمضان وهو دون ذلك من الفضل أحاديث كثيرة بأقوى من التفضيل في رمضان، ومع هذا جاء هذا الحديث بمثل هذا الإسناد، وحري أن يكون الإطعام في رمضان أقوى إسناداً من الإطعام في غيره، لاجتماع الإطعام العام مع الإطعام على العبادة، والذي يتحقق فيه الإعانة على ركن من أركان الإسلام، لهذا نقول: إن هذا من وجوه الإعلال في هذا الحديث.

الحديث التاسع: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند فطره: اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ).

هذا الحديث رواه الطبراني في كتابه الدعاء من حديث عبد الملك بن عنترة ، عن أبيه عن جده، عن عبد الله بن عباس ، و عبد الملك بن عنترة لا يحتج به ولا بأبيه، ولا بجده، وقد تفردوا بهذا الحديث عن عبد الله بن عباس وحديثهم في ذلك مطروح، ولا يحتج به.

الحديث العاشر: حديث أنس بن مالك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند فطره: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ).

هذا الحديث رواه الطبراني ورواه ابن السني في كتابه عمل اليوم والليلة من حديث داود بن الزبرقان عن شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث معلول بعلل:

أولها: أن فيه داود هذا وهو منكر الحديث.

ثانيها: أن هذا الحديث من حديث شعبة عن قتادة ، و شعبة له أصحاب كثر يروونه عنه، ولا يحتمل تفرد مثل داود عن مثل شعبة بن الحجاج ، بل عمن دونه، لهذا نقول: إن هذا الحديث منكر.

كذلك إن معنى هذا الحديث مما يحتاج إليه؛ لأنه مما يتكرر في كل صوم، سواءً كان صوم فرض أو صوم نافلة، والقاعدة لدينا في أبواب العلل: أن العمل كلما تكرر احتيج إلى اشتهاره وقوة إسناده، اشتهاره من جهة قوة الإسناد، وكذلك اشتهاره واستفاضة العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصوم، وربما صام في السفر، وحوله أصحابه، وفي المدينة حوله أصحابه وأزواجه، وكانوا ينقلون عنه عليه الصلاة والسلام أقواله وأفعاله حتى أنواع طعامه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك ما ذكروا دعاءه عند فطره، وهذا من وجوه النكارة.