خطب ومحاضرات
الأحاديث المعلة في باب الصيام [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم بإذن الله عز وجل في عدة مجالس على الأحاديث المعلة في الصيام، وعلى الأخص فيما يتعلق بأحكام رمضان، مما عليه في الغالب مدار الخلاف في المذاهب الفقهية الأربعة، أو ما يستدل به بعض المذاهب على بعض المسائل لديهم وإن لم يخالفهم غيرهم من أئمة المذاهب، أو لم يذكروا هذه المسائل، فنشير إلى الأحاديث الواردة في هذا الباب مما تكلم عليه العلماء عليهم رحمة الله، أو من إذا نظر فيه الناقد وجد أن الحديث لا يثبت، أو لا يستقر على وجه من وجوه الاحتجاج، وربما يكون الحديث في بابه معلولاً، ولكنه ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأً، أو ينسب إلى أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمن دونهم، فنتكلم فيما عليه المدار.
وأما ما كان موضع حجة من الأحاديث، والعمل عليه قد استقر، فإننا لا نتكلم في ذلك؛ لأن الأصل في ذلك الاعتماد على العمل لا على هذا الحديث، وربما نورد شيئاً من ذلك من غير التزام، والكلام في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنسوبة إليه في الصيام وفيها ضعف، وتكلم عليها العلماء كثيرة جداً، ولكن ما يدور في بابنا هنا هو ما يتعلق بالأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها خلاف من جهة العمل بها عند العلماء، فيكون عليها المدار في بعض أحكام الصيام؛ كقضاء الصيام على المجامع، وكفارته، وما يتعلق بالقبلة للصائم، وغير ذلك من الأحاديث التي نتكلم عليها بإذن الله عز وجل في موضعها.
أول ما نتكلم عليه وهو الحديث الأول: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما ينسبه بعض المصنفين أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.
هذا الحديث ينسب في كثير من المصنفات التي تصنف في فضائل رمضان إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن العمل عليه، وهذا لا أعلمه منسوباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه عليهم رضوان الله، فقد رواه أبو القاسم الأصبهاني من حديث أحمد بن عصام عن معلى بن الفضل أنه قال: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم، وهذا عن معلى بن الفضل إسناده صحيح، ولكن معلى بن الفضل هو من الشيوخ ولم يدرك أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقال: إنه أراد بذلك الصحابة، ولعله أراد من دونهم، فإن ذلك قد جاء معناه عن بعض السلف من التابعين كما سيأتي الإشارة إليه.
فقد جاء من حديث عبادة بن الصامت عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا حضر رمضان: اللهم سلمني رمضان، وسلمه لي، وتسلمه مني )، وهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً كما رواه الطبراني في كتابه الدعاء، والشاسي في كتابه المسند، كلهم من حديث أبي جعفر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن صالح بن كيسان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث لا يصح، وذلك لأنه معلول بجملة من العلل:
أولاً: أن صالح بن كيسان لم يسمع من عبادة بن الصامت وبينه وبينه مفاوز، فإنه إنما ولد بعد وفاة عبادة بن الصامت عليه رضوان الله تعالى.
ثانياً: أنه قد رواه أبو جعفر الزبيري عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو لين الحديث، أعني أبا جعفر ، وقد تكلم فيه غير واحد من الحفاظ.
وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه قد جاء عن غير واحد من السلف، فجاء عن مكحول ، وعن يحيى بن أبي كثير كما رواه أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث الوليد بن مسلم عن أبي عمرو الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يقول إذا حضر رمضان: اللهم سلمني رمضان، وسلمه لي، وتسلمه مني، وجاء عن مكحول ، وجاء من حديث النعمان بن المنذر عن مكحول أنه قال ذلك بنحوه، وأما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يثبت من ذلك شيء، لا عنه ولا عن أصحابه.
وأما تعلقهم برمضان فإن ذلك معلول، ومن وجوه الإعلال: أن مثل هذا اللفظ وهو أن عملهم على هذا، وإذا قلنا إن هذا العلم متوجه إلى الصحابة فإنه ينبغي أن يرد مثل هذا الحديث عنهم بأسانيد متينة، خاصة أن ظاهره العمل، يعني أنهم عملوا بهذا الحديث بمجموعهم، فينبغي أن يرد بما هو أمثل من هذا.
الحديث الثاني: ( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان )، وهذا يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في مطلع رجب، وإلا لما قال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان )، وهذا الحديث حديث ضعيف؛ وذلك أنه قد رواه الإمام عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والطبراني في معجمه الكبير، وابن السني في عمل اليوم والليلة، و البيهقي في الشعب، وغيرهم من حديث زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يقول إذا دخل رجب: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان )، وهذا الحديث معلول بعدة علل:
الأولى: تفرد زائدة بهذا الحديث، وقد أنكره عليه غير واحد من الحفاظ، كـالبخاري ، والنسائي ، وغيرهم من الأئمة، وكذلك فإنه قد تكلم في روايته وأنه يتفرد بأحاديث مناكير عن زياد النميري ابن حبان رحمه الله كما في كتابه المجروحين، فإنه قال: يتفرد زائدة بأحاديث عن زياد النميري مرفوعة لا يحتج بها، والأحاديث التي يرويها زائدة عن زياد النميري هي جلها مرفوع، وهي شبيهة بالموضوع، ولهذا نقول: إن هذا الحديث حديث مطروح.
الثانية: أن هذا الحديث يتضمن فضلاً لرجب، وفضائل الأشهر من المسائل المهمة لأيام متعددة، فإن فضائل الأيام بعينها ولو كان يوماً واحداً ينبغي أن يرد بأقوى الأسانيد، فكيف بشهرٍ تام، فكيف بشهر يسبق الذي يسبق رمضان، فإنه ينبغي أن يرد بما هو أقوى من هذا، ونستطيع أن نعل هذا الحديث حتى لو قلنا: إن الإسناد من جهة وروده مستقيماً بأن نقول: إن ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من فضائل أيامٍ بعينها قد جاء بأقوى الأسانيد، كما جاء في حديث فضل يوم عاشوراء، وفضل يوم عرفة، وفضل صيام يومي الإثنين والخميس، والأيام البيض، وهي أيام معدودة ومع ذلك جاءت بما هو أقوى من فضائل شهر رجب بتمامه، وهذا لا يتناسب من جهة انتظام الشريعة وقوتها، لهذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر، وقد أنكره غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله، والنسائي ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل لرجب، وإنما ما ثبت عنه أنه كان يصوم رجب، وهذا قد رواه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث سعيد بن جبير أنه سأل عبد الله بن عباس عن رجب فقال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم )، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من صيام رجب -فيما يظهر- لأنه يسبق رمضان، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من صيام شعبان وذلك تهيئة لرمضان وتوطئة له، كما جاء في حديث عائشة وهو في الصحيح، وكذلك فإن صيام النبي عليه الصلاة والسلام لرجب لكونه يسبق شعبان، والأزمنة القريبة من الأزمنة الفاضلة تشاركها بشيء من الفضل، وهذا يدرك من مجموع النصوص، ولهذا نجد أن الشارع قد فضل كثيراً من الأعمال لتعلقها بعمل جليل القدر، كمسألة الجهاد في سبيل الله، فإن الله فضل المرابط، وكذلك من جهز غازياً وغير ذلك، وهذا كذلك، وكما يقال: إن فضل المسجد الحرام قد جاء فيه الأدلة، وما حوله يليه من جهة الفضل، وكذلك في فضائل الشام، فالله عز وجل بارك في المسجد الأقصى وما حولها، لهذا نقول: إن فضائل البلدان وفضائل الأعمال وفضائل الأشهر تأتي رتبتها في الفضل بحسب تقاربها، إلا أنه لا يتعبد لله عز وجل بعبادة مخصوصة في مثل هذه الأزمنة والأمكنة إلا بدليل مخصوص، فالصيام ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه قد جاء عن بعض السلف أنه كان يكره صيام رجب كله، فقد ثبت هذا عن عبد الله بن عمر كما رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث عبد الله مولى أسماء أن أسماء بعثته إلى عبد الله بن عمر تسأله أنه كان يحرم المياثر، وصيام رجب كله، فقال: إن صيام رجب كله صيام الدهر، فيرى أن صيام شهرٍ تام هو صيام الدهر الذي نهى عنه الشارع، لهذا نقول: إن صيام الشهر التام هو من صيام الدهر المنهي عنه، إلا ما دل عليه الدليل، ونستنبط من ذلك مسألة أن صيام شعبان كله أيضاً لا يجوز إلا بدليل؛ لأنه مبني على نهي قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهي عن صيام الدهر، ولهذا قد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه كان يضرب أكف الصائمين في رجب حتى يضع أيديهم في الجفان ليأكلوا، وذلك أن رجب من الشهور التي تعظمها الجاهلية، كما جاء عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث خرش عن عبد الله عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه كان يضرب الأكف حتى توضع في الجفان، وينهاهم عن صيام رجب وقال: إنه شهر تعظمه الجاهلية، وكذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله أنه كان يكره تهيئ الناس لرجب، وذلك لتعظيم أهل الجاهلية له، لهذا نقول: إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في فضل رجب إلا ما جاء عنه في حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم رجب حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم )، وهذا قد رواه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح.
الحديث الثالث: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ).
وهذا الحديث أنكره غير واحد من الأئمة، فأنكره ورده ولم يحدث به عبد الرحمن بن مهدي ، والإمام أحمد ، و يحيى بن معين ، و أبو زرعة ، و الأثرم ، وجماعة من النقاد، وحملوا ذلك أنه من مفاريد العلاء بن عبد الرحمن ، و العلاء بن عبد الرحمن هو في ذاته ثقة، وقد وثقه الإمام أحمد كما في رواية ابنه عبد الله ، وكذلك في رواية أبي داود عنه، وهذا التوثيق من الإمام أحمد للعلاء بن عبد الرحمن هو لمجموع حديثه لا لأعيانها، ولهذا قد أعل الإمام أحمد رحمه الله حديثه هذا واستنكره عليه، وقد بين أبو داود أنه من مفاريده كما نقل ذلك عنه ابن حجر رحمه الله، ولما رواه في السنن، وكذلك أعله الترمذي رحمه الله كما في كتابه السنن أنه من مفاريد العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ، قال الإمام أحمد رحمه الله: هو حديث منكر، ولم يرو العلاء بن عبد الرحمن حديثاً أنكر من هذا، وهذا أيضاً جاء عن عبد الرحمن بن مهدي وغيره، لهذا نقول: إن هذا الحديث هو حديث منكر من جهة الإسناد، وإنما أنكره الأئمة من جهة الإسناد ومن جهة المتن؛ لأنه من جهة الإسناد لا يحمل هذا المعنى؛ لأنه من الأمور العظام والمسائل الجليلة، ولا يمكن لشجرة كبيرة جداً أن يحملها غصن يسير نابت في الأرض بل لا بد أن ينكسر، فلا يحمل، ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر؛ لأن الذي يعضده إسناد هش.
ومن وجوه الإنكار: أن هذا الحديث فيه نهي عن صيام خمسة عشر يوماً متتالية، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام عن أيام بما هو أقوى من هذا وهو يوم واحد ويومين، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو آكد من هذا كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقدموا صيام رمضان بصيام يومٍ أو يومين إلا صوماً كان يصوم أحدكم )، وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وقوله: ( لا تقدموا صيام رمضان بيوم أو يومين )، جاء بما هو أمثل من هذا، وهو في اليوم واليومين، لهذا نقول: إن ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من النهي عن هذا لا يحمل بل ينبغي أن يرد بما هو أقوى من ذلك، ولو لم يخالف هذا الحديث المجموع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يأتي هذا الحديث بأقوى من الأسانيد التي نهت عن صيام يوم الشك، والتي نهت عن صيام يوم العيد، وأيام التشريق؛ لأنها أيام متعددة وهذا فيه النهي عن نصف الشهر، لهذا نقول: إن هذا الحديث منكر ولا يحمله مثل هذا الإسناد، وبعض الأئمة يقوي هذا الحديث، فذهب إليه بعض الأئمة من المغاربة، كـابن حزم الأندلسي وتبعه على ذلك جماعة، وكذلك قواه ابن عبد البر وغيره، واختلفوا في أبواب العمل به فمنهم من قيد ذلك في اليوم السادس عشر قال لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا )، فالمعنى فلا تصوموا السادس عشر، ولم يرد بذلك ما هو أبعد من هذا، وهذا قول غريب لا أعلم من قال به على هذا المعنى، ومنهم من حمل النهي على الإطلاق.
ومن وجوه الإنكار:
أن هذا الحديث مخالف لما هو أقوى منه، وهو حديث أبي هريرة: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تقدم صيام رمضان بصيام يومٍ أو يومين )، أعله بذلك الإمام أحمد رحمه الله، و النسائي ، وابن عدي في كتابه الكامل، فالإمام أحمد رحمه الله يقول: هذا الحديث يخالف الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد في هذا الأحاديث التي جاءت بتقييد يوم أو يومين، فكيف ينهى عن تقدم رمضان بيوم أو يومين والخمسة عشر كلها منهي عنها، وهذا يتضمن مخالفة صريحة بدلالة المفهوم بجواز صيام الأيام السابقة لرمضان، إلا ما كان من صيام يومٍ أو يومين، وهذا يظهر في طريقة النسائي فإنه في سننه الكبرى أورد هذا الحديث حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ثم أورد ما يخالفه، وترجم عليه في الباب وهو حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا تقدموا صيام رمضان بصيام يومٍ أو يومين )، كذلك أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من استحباب صيام أيام، وأطلق الفضل فيها، كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم وإفطار يوم، وصيام الإثنين والخميس، وغير ذلك مما حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما يفهم من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: إنه يكون علي القضاء من رمضان، فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعبان هنا جاء على العموم مما يدل على اشتراكه في التخيير في الصيام.
لهذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر، ذكر بعض الحفاظ للعلاء بن عبد الرحمن متابعاً، وذلك ما أخرجه الطبراني في كتابه المعجم من حديث عبيد الله بن عبد الله بن المنكدر قال: حدثني أبي عن جدي عن عبد الرحمن الحرقي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد إسناد منكر أيضاً، والوهم فيه من المنكدر وهذا الإسناد مسلسل بالمجاهيل، فـعبيد الله و عبد الله ممن لا يعرفون، و المنكدر لا يحتج بحديثه، ويهم ويغلط، وقد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، فلا يكون متابعاً للعلاء بن عبد الرحمن في روايته في هذا، وعامة الأئمة النقاد يحملون العلاء بن عبد الرحمن ذلك ولا يلتفتون لهذه المتابعة، مع سعة حفظهم وإدراكهم ونظرهم في أمثال هذه الأحاديث، ويعارض ذلك حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من صيام شعبان، والإكثار لا يكون إلا من الشطر وزيادة، فهذا هو الإكثار، والنهي عما كان في النصف يتضمن نفي الكثرة، كذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة قال: ( إلا صوماً كان يصوم أحدكم فليصم )، يعني: في صيام يوم الشك يجوز للإنسان أن يصوم اليوم الذي يشك فيه إذا كان معتاداً لصيامه، كالذي يصوم يوم الخميس فوافق يوم الشك أو يوم الإثنين والخميس، فيجوز له أن يصوم ذلك، ومسألة صيام يوم الشك والتفريق بينه وبين صيام يوم الغيم، الخلاف في ذلك عند الفقهاء من المالكية والشافعية، والحنفية، مع الإمام أحمد رحمه الله تعالى في ذلك، فإن الإمام أحمد رحمه الله يرى استحباب صيام يوم الغيم، ويستدل لذلك بما جاء عن عبد الله بن عمر ، و عمر بن الخطاب ، و عائشة ، و معاوية ، و أبي هريرة ، و أبي موسى ، وغيرهم، فإنهم كانوا يصومون يوم الغيم، ويقولون: هذا ليس بالتقدم وإنما هو بالتحري، وجاء عنه رواية أنه يوجب ذلك، نقلها عنه بعضهم كابنه والمروزي وغيرهم.
وخلاصة ذلك أن نقول: إن هذا الحديث هو حديث منكر لا يثبت من جهة الإسناد، وهو من جهة المتن مخالف للأحاديث الأخر، ومن وجوه الإنكار التي ينبغي أن يلتفت إليها أن أبواب النهي كلما اتسعت -واتساعها يقع: على الزمان، وعلى المكان، وعلى الأفراد- وجب أن يقوى الإسناد، فالنهي الذي يقع على الأمة يختلف عن النهي الذي يقع على فرد، والنهي الذي يقع على يوم يختلف عن الذي يقع في يومين أو ثلاثة، فكلما اتسع لا بد من أخذ قوة لإسناد، وكذلك في المكان، فحينما يحرم الله عز وجل بقعة بعينها أعظم من تحريمه موضعاً معين، أو من شجرة معينة، أو نحو ذلك، ولهذا نقول: إن النهي كلما اتسع وجب أن يقوى إسناده، وهذا النهي متسع، وهو النهي عن صيام نصف شهر، وهذا ينبغي أن يأتي له نظير، والنظائر في ذلك معاكسة له، لهذا نقول: إنه ينبغي أن تأتي الأحاديث الواردة في النهي عن صيام ما بعد النصف من شعبان أقوى من الأحاديث التي جاءت في النهي عن صيام يوم أو يومين أو ثلاثة، أو نحو ذلك، وهذا في حال أنه لم يخالف فكيف وقد خولف في معاني الأحاديث فلا شك أن هذا الحديث مطروح، وعامة النقاد على إنكاره، وهذا لا يرد حديث العلاء بن عبد الرحمن، فإن العلاء بن عبد الرحمن من الرواة الثقات، وقد وثقه كما تقدم الإمام أحمد رحمه الله، وتعديل العلاء بن عبد الرحمن إنما كان من مجموع مرويه، والذي ينكر عنه من الأحاديث إذا كان قليلاً يدل على ضبطه وقوته، ولهذا لا يعلم حديث يستنكر على العلاء بن عبد الرحمن إلا هذا الحديث.
الحديث الرابع: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبشير أصحابه بدخول الشهر وحضوره، وقربه، والتهنئة بذلك، وهذا جاء فيه جملة من الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام ولا يثبت منها شيء، منها حديث سلمان الفارسي عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل شهر رمضان قام في الناس فقال: أظلكم شهر عظيم شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من تقرب إلى الله فيه في فريضة كان كمن تقرب إليه بسبعين فريضة، ومن تقرب إلى الله فيه بنافلة كان كمن تقرب إليه بفريضة ).
وهذا الحديث حديث ضعيف، أخرجه ابن خزيمة ، والبيهقي من حديث علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث معلول بعدة علل:
الأولى: أنه قد تفرد به علي بن زيد بن جدعان ، و علي بن زيد بن جدعان يهم ويغلط، وفي حديثه لين، وقد ضعفه غير واحد، وتفرد بروايته عن سعيد بن المسيب ، و سعيد بن المسيب مثله أحاديثه تشتهر، وله أصحاب كبار يأخذون حديثه، وذلك كـابن شهاب الزهري وغيره، فإن الأحاديث في مثل هذا لا يتفرد بها عنه مثل علي بن زيد بن جدعان.
الثانية: أن سعيد بن المسيب لم يسمعه من سلمان الفارسي ، ثم إن مثل هذا الحديث يقوله النبي عليه الصلاة والسلام في جمع، والناس تتشوف إلى مثل كلامه عليه الصلاة والسلام، وذلك في حضور رمضان وقربه، مع فضله وجلالة قدره، فمثل ذلك حري بأن ينقل، ولم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث قد أنكره غير واحد من الحفاظ، قال فيه أبو حاتم كما في العلل: منكر، وأعله ابن خزيمة كما في كتابه الصحيح، فإنه ترجم عليه وقال: إن صح الخبر، وابن خزيمة إذا أورد هذا الاستثناء في الترجمة فإنه يريد بذلك إعلالاً للحديث، وقد ذكر الاستثناء في هذا الحديث حديث سلمان الفارسي، وكذلك أعله العقيلي كما في كتابه الضعفاء، بل قال: إنه لا يصح في هذا الباب شيء، يعني: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالتهنئة بدخول رمضان أمثل أحاديث الباب هو هذا، وهو مطروح، وقد أشار إلى أنه أصل في الباب ابن رجب رحمه الله في كتابه اللطائف، وهذا الحديث حديث منكر.
الحديث الخامس: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله، وذلك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضر رمضان قال: حضركم شهر رمضان، تفتح فيه أبواب الجنة ).
وهذا الحديث يرويه الإمام أحمد رحمه الله، و أبو داود و النسائي ، من حديث أيوب بن أبي تميمة السختياني عن أبي قلابة عن أبي هريرة ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكره.
وهو معلول بعدة علل:
الأولى: أن أبا قلابة لم يسمع الحديث من أبي هريرة عليه رضوان الله، وحديثه عنه مرسل.
الثانية: أن هذا الحديث لم يضبط ولم يرو على وجهه، فقد جاء هذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( في رمضان تفتح أبواب السماء، وتغلق أبواب جهنم، وتصفد الشياطين )، ولم يذكر في ذلك: إذا حضر، أو: إذا دخل رمضان، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبيل دخوله للناس كالمهنئ لهم، وهذا ما يذكره البعض في أبواب التهنئة، ولا معنى لإيراده في هذا الباب فإنه لا يتضمن تهنئة، وما جاء فيه في قوله: إذا حضر، فإنه لا يعني ذلك أن من أبواب التهنئة وإنما هو بيان فضائل الأعمال عند قربها أو الولوج إليها، حتى يتزود الناس بالعبادة، ويتزود الناس بالطاعة، ونحو ذلك.
الثالثة: أنه مما يظهر من السياق في حديث أيوب عن أبي قلابة عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قاله في مجمع، ومثل هذا ينقل.
الحديث السادس: ما رواه عمران بن داور القطان عن قتادة عن أنس بن مالك بمعنى حديث أبي هريرة أنه إذا حضر رمضان قال: حضركم شهر رمضان.
وهذا أيضاً معلول، فإن عمران بن داور القطان قد تفرد بروايته في هذا عن قتادة ، و قتادة له أصحاب كبار يأخذون حديثه، وأيضاً فإنه يرويه عنه محمد بن بلال ، وقد تفرد بروايته وهو يهم ويغلط في حديثه، وعده بعض العلماء من مفاريده.
وعلى هذا فنقول: إنه لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في التهنئة بدخول رمضان شيء.
إلا أن الأصل في ذلك استحباب التهنئة في الفضائل، وكذلك في الخيرات التي تحصل للإنسان، فإذا وفق الإنسان إلى شيء من عمل الطاعة، أو يسره الله عز وجل لشيء من أسباب الخير أن يهنأ بهذا العمل، كأن يكون الإنسان تهيأ له العمل الصالح من الحج، أو تهيأ له الجهاد، أو تهيأ له النفقة في سبيل الله، وغير ذلك، فيقال له: هنيئاً لك هذا العمل، فهذا من أعمال البر التي يهنأ عليها الإنسان، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين في قصة كعب بن مالك وأصحابه حينما كانوا من المخلفين، فهجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما نزل الإذن بمخالطتهم وحديثهم وتصديقهم في قولهم وعذرهم في كلام الله عز وجل أتي كعب بن مالك مبشراً بهذا، فخر ساجداً لله، لهذا الإنسان في قبول الطاعات وفي إتمام مواسم الخيرات يهنأ بتمام صيام رمضان، ويهنأ بإدراكه، كما يهنأ في الأعياد ومناسبات الخير فإن هذا من الأمور الحسنة بظاهر النص ومجموعه، وبما يعتاده الناس، فإن مثل هذه التهاني من الأمور الحسنة التي يهنأ بها الناس بألفاظ متنوعة، ولا لفظ في ذلك محدود أو معلوم، لهذا يقال: إن الأصل في ذلك أن يفعل الإنسان ما هو سائغ في كلام الناس من غير التزام لفظ معين بعينه، بل خصه الشارع ببعض الأعمال حتى لا يدخل الإنسان في دائرة الابتداع.
الحديث السابع: ما جاء عن عبد الله بن عباس: ( أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه رأى الهلال فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بالناس: إن رمضان غداً أو يصوم غداً ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهم من حديث سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وهذا الحديث يرويه عن سماك سفيان الثوري، واختلف عليه فيه، يرويه الفضل بن موسى أو أبو عاصم جاء بالشك عن سفيان الثوري ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، ورواه أصحاب سفيان الثوري وجعلوه مرسلاً، فرواه شعبة بن الحجاج ، و وكيع بن الجراح ، و عبد الرزاق ، و أبو داود ، و إسرائيل ، و عبد الله بن المبارك ، كلهم عن سفيان الثوري ، عن سماك ، عن عكرمة مرسلاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصواب، وكذلك رواه حماد ، عن سماك ، عن عكرمة مرسلاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد بوصله عن سفيان الفضل ، وقد خالف في ذلك الثقات من أصحاب سفيان ، ومن رواه عن سماك .
حال رواية سماك عن عكرمة
وحديث سماك عن عكرمة فيه اضطراب، وهو على ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: هو ما يرويه قدماء أصحاب سماك عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، قدماء أصحاب سماك كـسفيان و شعبة و أبي الأحوص وأضرابهم، عن سماك ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، وهؤلاء أصح الرواة عن سماك ، وحديثهم عنه في الغالب صحيح، وإذا خالفوا غيرهم فالقول قولهم في الأغلب.
المرتبة الثانية: ما يرويه المتأخرون من أصحاب سماك عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، فهذا في الغالب أنه مضطرب، والإمام أحمد رحمه الله يتحاشى مثل هذه الروايات.
المرتبة الثالثة: ما يرويه سماك عن عكرمة عن غير عبد الله بن عباس ، وذلك كأن يروي عن عائشة عليها رضوان الله في قولها: ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعندكم طعام؟ قلت: لا، قال: فإذاً: إني صائم )، هذا الحديث إسناده صحيح ثابت، وقد صححه الدارقطني وغيره.
قاعدة وقوع الاضطراب في رواية سماك عن عكرمة
لهذا نقول: إن رواية سماك عن عكرمة إنما يقع فيها الاضطراب بقيدين:
القيد الأول: برواية المتأخرين من أصحاب سماك .
القيد الثاني: برواية سماك عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وهذا هو غالب حديث سماك عن عكرمة أنه يكون عن عبد الله بن عباس لا عن غيره، وقليل ما يرويه عن غيره، ولهذا نقول: إن هذا الحديث مرسل، صوب إرساله جماعة، كـأبي حاتم ، و الدارقطني ، و أحمد ، وغيرهم.
وحديث سماك عن عكرمة فيه اضطراب، وهو على ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: هو ما يرويه قدماء أصحاب سماك عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، قدماء أصحاب سماك كـسفيان و شعبة و أبي الأحوص وأضرابهم، عن سماك ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، وهؤلاء أصح الرواة عن سماك ، وحديثهم عنه في الغالب صحيح، وإذا خالفوا غيرهم فالقول قولهم في الأغلب.
المرتبة الثانية: ما يرويه المتأخرون من أصحاب سماك عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، فهذا في الغالب أنه مضطرب، والإمام أحمد رحمه الله يتحاشى مثل هذه الروايات.
المرتبة الثالثة: ما يرويه سماك عن عكرمة عن غير عبد الله بن عباس ، وذلك كأن يروي عن عائشة عليها رضوان الله في قولها: ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعندكم طعام؟ قلت: لا، قال: فإذاً: إني صائم )، هذا الحديث إسناده صحيح ثابت، وقد صححه الدارقطني وغيره.
لهذا نقول: إن رواية سماك عن عكرمة إنما يقع فيها الاضطراب بقيدين:
القيد الأول: برواية المتأخرين من أصحاب سماك .
القيد الثاني: برواية سماك عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وهذا هو غالب حديث سماك عن عكرمة أنه يكون عن عبد الله بن عباس لا عن غيره، وقليل ما يرويه عن غيره، ولهذا نقول: إن هذا الحديث مرسل، صوب إرساله جماعة، كـأبي حاتم ، و الدارقطني ، و أحمد ، وغيرهم.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأحاديث المعلة في باب الصيام [2] | 1439 استماع |
الأحاديث المعلة في باب الصيام [4] | 1129 استماع |
الأحاديث المعلة في باب الصيام [3] | 1104 استماع |