الأحاديث المعلة في الطهارة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فليس بخاف أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الأمة على بينة وعلى صراط مستقيم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تبدل تبديلاً، لأن الله جل وعلا قد جعل وحيه على رسوله عليه الصلاة والسلام خاتماً لسائر ما سلف من الكتب؛ وذلك لكي تبقى ويبقى الناس على شريعة وبينة واضحة إلى قيام الساعة, وقد خص الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام بجملة من الخصائص:

منها: أنه عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الناس كافة، ولهذا قال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28].

ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قد جعله الله جل وعلا خاتماً للأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا ناسب أن يكون خاتمة الأشياء وخاتمة الأعمال والأقوال هي أفضلها، ولهذا فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث سهل قال: ( إنما الأعمال بالخواتيم )، يعني: ... كما أنها في ذوات الأشخاص فهي كذلك في الأقوال والأعمال وفي الأزمنة, وأن الإنسان يختم الله جل وعلا له على خير، فيبعث على ذلك الخير وإن كان قد أسرف قبل ذلك، وهذا هو سبب تأخير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الله جل وعلا قد جعله سيد الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.

ولما كان ذلك كذلك عُلم أن العناية بحفظ كلام الله وحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل المهمة التي يتسابق ويتنافس فيها الناس؛ لتحقيق الأجر وحفظ الدين، ومعلوم أن حفظ دين الله جل وعلا قد تكفل الله سبحانه وتعالى به، ولكن الله جل وعلا يهيئ لذلك الأسباب، والأسباب إن لم تكن بفلان فهي بفلان، وإن لم تكن في البلد الفلاني ففي البلد الفلاني، ولهذا يتنقل الدين من جهة حفظه من بلد إلى بلد، وكذلك من شخص إلى شخص، وإلا فهو محفوظ باق إلى قيام الساعة، ولهذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحق ظاهر إلى قيام الساعة مع طائفة؛ كما جاء في الصحيح من حديث معاوية أن رسول الله صلى الله عليه قال: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق, لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة )، فالحق قد قام بطائفة, وهذه الطائفة لم تعين، ولم يعين بلدها، ولم يعين جنسها وعرقها ولغتها، ولكن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولئك الناس من تلك الطائفة من الذكور والإناث، فلهذا لما كانت هذه الخصيصة هي من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي امتازت بها عن غيرها، ناسب أن تكون تلك الخصيصة هي من فضائل الأعمال وآكدها، ولهذا كان من اللائق والمهم أن يبين أن خصائص أمة محمد عليه الصلاة والسلام من سلكها وانتظم في عقدها فقد تحقق فيه أعظم الأعمال، ووقع في أجر عظيم قد خصه الله جل وعلا به.

العناية بالسنة رواية ودراية

ومن المهمات في ذلك أن يعلم أن من أصول طلب العلم أن يعتني طالب العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً وفهماً, دراية ورواية، وأن يكون طالب العلم من أهل البصيرة والنظر بمعرفة مراتب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الصحة، فهي على مراتب، وكذلك أيضاً في أبواب الضعف فإنها على مراتب متباينة، وبين ذلك مراتب دقيقة يعرفها أهل الحذق والدراية في ذلك.

فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل البصر والبصيرة والنظر في أبواب العلل، ومعرفة قواعد الحديث ومصطلحه، وأن يأخذ ذلك على عالم متمرس بذلك، حتى يسلم له الطريق، وتصح وتخلص له النتيجة من كل شائبة تدله أو تصرفه عن طريق الحق إلى طريق الخطأ والوهم والغلط، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد.

معرفة الكتب المؤلفة في السنة

وينبغي أن يعلم أن المصنفات في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دواوين كثيرة جداً؛ منها ما مجموعها قد اتفق الأئمة على صحته، وتلقت الأمة تلك المصنفات بالقبول كالصحيحين وأشباهها، ومنها ما فيها الصحيح والضعيف ويكثر فيها الصحيح كالسنن الأربع ومسند الإمام أحمد ، ومنها ما يكثر فيها الضعيف، ومنها ما يختلط فيها هذا وهذا، ويكون ذلك على التساوي، وهذا يختلف من مصنف إلى مصنف، ومنها ما يعتني بالمرفوع، ومنها ما يعتني بالموقوف, وكلٌ له درجة من جهة الاحتجاج والقوة, فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون على بصيرة في معرفة الكتب.

وما سنتكلم فيه بإذن الله عز وجل في المجالس القادمة هو في باب من أبواب قواعد الحديث، وهي الأحاديث المعلة في أبواب الأحكام، وقد أنهينا جملة من الكتب في هذا الباب, ونأتي بإذن الله عز وجل في مجالس متنوعة على أحاديث الأحكام كلها ونبين المعلول مما يدور عليه الخلاف عند الأئمة الأربعة، سواء كان ذلك الدليل ظاهراً عند الأئمة بذواتهم، أو عند من أخذ بمذهبهم من أصحابهم, وسواء كانوا ممن تلقى عنهم الفقه مباشرة من أصحابهم أو كان من المحققين ومحرري المذاهب الأربعة.

معرفة أدلة أصحاب المذاهب الفقهية

لهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون بصيراً بأدلة المذاهب الأربعة من جهة صحتها وضعفها، ومع ضعفها أن يكون على بينة بمعرفة مواضع الضعف، وإلا من عرف الصحيح أنه صحيح ولم يعرف وجه الصحة، وكذلك من عرف الضعيف ولم يعرف وجه الضعف لم يكن من أهل الاختصاص والدقة في هذا الباب، ولم يكن أهلاً للمناظرة والمحاججة، والترجيح بين المسائل المختلفة في أبواب قواعد الحديث ومصطلحه، والأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح بعضها على بعض.

معرفة درجات الحديث من حيث الصحة والضعف

فالأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن.

والحسن على مراتب دقيقة من علوها، وكذلك دنوها, منها ما يقرب إلى الصحيح، ومنها ما يدنو إلى الضعيف، ومنها ما هو ضعيف يحتج به، ومنها ضعيف لا يحتج به، ومنها ما هو ضعيف لا تصح روايته إلا على سبيل بيانه, وذلك مما كان من أبواب المتروك، والمكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما ظهر فيه الوضع ولو صح إسناده، فيجب في ذلك بيانه وألا يعتمد على صحة الإسناد، فإن الإسناد قد يصح في خبر من الأخبار ولكن المتن يظهر فيه الضعف، وعلى هذا فينظر إلى الأصول العامة الواردة في كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن صحت الموافقة في ذلك الخبر فإنه يحمل ذلك الخبر إن كان قد رواه من الرواة من هو متوسط أو فيه ضعف يسير، أو فيه ضعف شديد يقال: إنه يجوز في ذلك الرواية بصيغة التمريض, من غير الاحتجاج به على سبيل الاستقلال، وإنما يقدم بذلك الأصل الظاهر من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معرفة قواعد الاحتجاج بالحديث الضعيف

والقواعد في أبواب الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة مما ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها؛ وهو أن يعلم أن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن يحتج بالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الضعيفة في أبواب الأحكام، وهذا محل اتفاق عند العلماء ولا خلاف عند العلماء في ذلك إلا في مسائل يسيرة, قد روي ذلك عن بعض العلماء كما جاء عن الإمام أحمد عليه رحمه الله، كما نقله عنه بعض الأئمة من الحنابلة كـابن مفلح عليه رحمة الله حيث قال: إن الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف يسير الضعف في أبواب الاحتياط، وذلك ما كان من أمور كراهة ... مما لا يستلزم من ذلك عمل. والعمل الذي دل عليه الحديث الضعيف ذلك يقين بصحة العمل الذي جاء به الخبر، وكذلك العمل بهذا الحديث لا يقتضي تعبداً بذاته، وإنما يقتضي احتياطاً لدين الإنسان. فينبغي للإنسان أن يعرف مراتب الاحتياج في ذلك، ومواضع إجماع العلماء.

وأما ما كان من غير أبواب الأحكام؛ كأبواب السير والمغازي والتفسير والفتن والملاحم والتاريخ، وكذلك ما يتعلق بفضائل الأشخاص والبلدان وغيرها، فإن هذا مما يجوز للإنسان أن يروي فيه الحديث الضعيف ولا حرج في ذلك، وبعض العلماء يقيد جوازه بأن يكون الضعف في ذلك يسيراً, وأن يرويه بصيغه التمريض، وهذا له وجه.

ومن العلماء من قال: إن الحديث الضعيف لا يروى، ولا يجوز حكايته على الإطلاق, سواء كان في أبواب الفضائل أو في أبواب الأحكام, وهذا فيه نظر.

ومن نظر إلى طرائق الأئمة الأوائل وأئمة النقد والرواية؛ كـشعبة بن الحجاج و عبد الرحمن بن مهدي و يحيى بن سعيد والإمام أحمد ، و علي بن المديني و يحيى بن معين وغيرهم يجد أنهم يحتجون بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال إذا كان الضعف في ذلك يسيراً، فإذا كان الضعف يسيراً جاز للمحدث أن يحتج بذلك الحديث في الأبواب المتقدمة؛ وهي أبواب التفسير والفتن والملاحم والتاريخ وأشراط الساعة، وكذلك ما يتعلق بأبواب الفضائل؛ كفضائل الأعمال، وفضائل الأشخاص, وفضائل البلدان, وغير ذلك مما يدخل في أبواب الفضائل، فإن الأمر في ذلك يسير.

وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على عدم جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف, ولا أعلم من خالف في ذلك إلا ما جاء عن بعض الفقهاء من المتأخرين الذين قالوا: بجواز الاحتجاج بالحديث الضعيف على الإطلاق في أبواب الأحكام, وهذا فيه نظر، بل هو قول باطل لا يعول عليه، ولم يقل بذلك أحد من أهل التحقيق والدراية والنظر والديانة من سائر المذاهب الأربعة، وإنما جاء عن بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم، وهذا قول لا يعول عليه كما تقدم، بل إن بعض العلماء قال: إنه لا يجوز الاحتجاج بالحديث الضعيف مطلقاً حتى في أبواب الفضائل، وهو قول مردود أيضاً؛ لأنه قد استقر عمل الأوائل على ذلك، وأن العمل بالحديث الضعيف في تلك الأبواب أمر يسير.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المواضع التي يحتج بها، والمواضع التي لا يحتج بها؛ حتى يميز بين المسائل فلا يضطرب، ولهذا قد يجد بعض طلاب العلم عند العلماء الاحتجاج ببعض الأحاديث في باب وفي بعض الأبواب يردها، فيختلف عنده ذلك النظر، وربما اتهم بعض العلماء بالاضطراب وذلك تتباين الموضع والمأخذ.

أما ما كان من الأصول العظيمة فينبغي أن يشدد فيه وألا يقبل الحديث ولو كان ظاهر إسناده الصحة، فإن العلماء يشددون في ذلك فيما كان من أصول الديانة، وما كان أيضاً من الأمور العظيمة من المسائل الكليات وقواعد الدين، وكذلك أيضاً ما كان من أعلام المسائل ومشهورها, فإنه لا بد من أسانيد قوية في ذلك، وأن يرويها الأصحاب الكبار من أهل الرواية لكل راوي، فإذا روى راو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يروي ذلك الأصل العظيم أحد أصحابه الكبار، ويرويه عنه أحد أصحابه الكبار الأعلام، وألا ينفرد بذلك من كان دونه, وهذا فيما يتعلق بالأصول العامة، وثمة أبواب يسيرة تخرج عن ذلك يأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في موضعها من هذه المجالس.

فوائد معرفة أحاديث الأحكام المعلة

وإنما قصرنا الكلام على الأحاديث المعلة لأنه ينبغي لطالب العلم مع عنايته بالأحاديث الصحيحة من جهة العمل والتعبد والاحتجاج أن يعتني بالحديث الضعيف؛ وذلك لفوائد عديدة:

أولها: أن يكون على بصيرة بهذه الأحاديث فلا يحدث بها إلا مع بيان علتها، وألا يحتج بها ظاناً صحتها في موضع المناظرة, فيرد عليه أن تلك الأحاديث ضعيفة.

الثانية: أن يعرف الراجح من المرجوح من أقوال العلماء.

الثالث: ألا يغتر بالمرويات في بعض الأبواب فيظن أنها صحيحة يعضد بعضها بعضاً؛ لأنه إذا جهل مراتب تلك الأحاديث فإنه ربما يغتر بعدد المروي في ذلك الباب أن هذا الحديث يعضد الآخر، وكلها في الحقيقة واهية ومطروحة، فمع عناية طالب العلم بالحديث الضعيف ينبغي أن يعرف درجة ضعفه والراوي الذي أعل بسببه، أو تلك العلة التي هي فيه ومرتبتها؛ حتى يسلم من الخطأ والزلل في ذلك.

الرابعة: ما يتعلق بجانب التعبد, وهو الذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تقدم أن من أعظم الأعمال وأجلها أن يعتني بذلك طالب العلم.

ولا يمكن أن يوصف طالب العلم بالتحقيق والدراية والعناية في أبواب الفقه ومسائل الدين على سبيل العموم إلا وقد عرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة، وميز بعضها عن بعض مع بيان ومعرفة وجوه التمييز وأسبابها، وأما من ميز بينها من غير معرفة أسباب التمييز ووجوهه فإنه يقع في الوهم والغلط في لازم ذلك الجهل.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة الأحاديث المعلولة في كل باب من أبواب الدين: في مسائل العقائد، ومسائل الحلال والحرم، ومسائل الفضائل، وفي أبواب السير والمغازي والتاريخ، وكذلك في أبواب التفسير، فما من باب من تلك الأبواب إلا وفيه من الأحاديث المطروحة التي لا يحتج بها، ومنها ما تتباين مع أبواب أخرى لكنها في ذلك الباب مما يقبله العلماء على سبيل التخصيص ولا ينتقل في غيره، وهذا ليس محل بحثه فإن الكلام في هذه المسائل مما يطول جداً، ويرجع فيه إلى مظانه بالكلام على مواضع هذه المسائل في كتب المصطلح وكذلك أيضاً قواعده.

أهم ما ينبغي علمه في الأحاديث المعلة

وينبغي لطالب العلم قبل أن نلج في بيان الأحاديث المعلة في الطهارة أن يعلم أن النظر في الأحاديث المعلولة من الأمور السهلة اليسيرة، أن يجد الإنسان وأن يقف على علة حديث في باب من أبواب الأحكام فهذا من الأمور اليسيرة، ولكن أن يدفع تلك العلة بدافع آخر من الأمور التي لا تحقق إلا عند أهل النقد، فالعلة وإن ظهرت فإن الذي يدفعها القرينة, فإذا قويت القرينة أتت على تلك العلة.

ومن المهمات في ذلك أن يعلم أن من أصول طلب العلم أن يعتني طالب العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً وفهماً, دراية ورواية، وأن يكون طالب العلم من أهل البصيرة والنظر بمعرفة مراتب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الصحة، فهي على مراتب، وكذلك أيضاً في أبواب الضعف فإنها على مراتب متباينة، وبين ذلك مراتب دقيقة يعرفها أهل الحذق والدراية في ذلك.

فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل البصر والبصيرة والنظر في أبواب العلل، ومعرفة قواعد الحديث ومصطلحه، وأن يأخذ ذلك على عالم متمرس بذلك، حتى يسلم له الطريق، وتصح وتخلص له النتيجة من كل شائبة تدله أو تصرفه عن طريق الحق إلى طريق الخطأ والوهم والغلط، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد.

وينبغي أن يعلم أن المصنفات في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دواوين كثيرة جداً؛ منها ما مجموعها قد اتفق الأئمة على صحته، وتلقت الأمة تلك المصنفات بالقبول كالصحيحين وأشباهها، ومنها ما فيها الصحيح والضعيف ويكثر فيها الصحيح كالسنن الأربع ومسند الإمام أحمد ، ومنها ما يكثر فيها الضعيف، ومنها ما يختلط فيها هذا وهذا، ويكون ذلك على التساوي، وهذا يختلف من مصنف إلى مصنف، ومنها ما يعتني بالمرفوع، ومنها ما يعتني بالموقوف, وكلٌ له درجة من جهة الاحتجاج والقوة, فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون على بصيرة في معرفة الكتب.

وما سنتكلم فيه بإذن الله عز وجل في المجالس القادمة هو في باب من أبواب قواعد الحديث، وهي الأحاديث المعلة في أبواب الأحكام، وقد أنهينا جملة من الكتب في هذا الباب, ونأتي بإذن الله عز وجل في مجالس متنوعة على أحاديث الأحكام كلها ونبين المعلول مما يدور عليه الخلاف عند الأئمة الأربعة، سواء كان ذلك الدليل ظاهراً عند الأئمة بذواتهم، أو عند من أخذ بمذهبهم من أصحابهم, وسواء كانوا ممن تلقى عنهم الفقه مباشرة من أصحابهم أو كان من المحققين ومحرري المذاهب الأربعة.

لهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون بصيراً بأدلة المذاهب الأربعة من جهة صحتها وضعفها، ومع ضعفها أن يكون على بينة بمعرفة مواضع الضعف، وإلا من عرف الصحيح أنه صحيح ولم يعرف وجه الصحة، وكذلك من عرف الضعيف ولم يعرف وجه الضعف لم يكن من أهل الاختصاص والدقة في هذا الباب، ولم يكن أهلاً للمناظرة والمحاججة، والترجيح بين المسائل المختلفة في أبواب قواعد الحديث ومصطلحه، والأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح بعضها على بعض.

فالأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن.

والحسن على مراتب دقيقة من علوها، وكذلك دنوها, منها ما يقرب إلى الصحيح، ومنها ما يدنو إلى الضعيف، ومنها ما هو ضعيف يحتج به، ومنها ضعيف لا يحتج به، ومنها ما هو ضعيف لا تصح روايته إلا على سبيل بيانه, وذلك مما كان من أبواب المتروك، والمكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما ظهر فيه الوضع ولو صح إسناده، فيجب في ذلك بيانه وألا يعتمد على صحة الإسناد، فإن الإسناد قد يصح في خبر من الأخبار ولكن المتن يظهر فيه الضعف، وعلى هذا فينظر إلى الأصول العامة الواردة في كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن صحت الموافقة في ذلك الخبر فإنه يحمل ذلك الخبر إن كان قد رواه من الرواة من هو متوسط أو فيه ضعف يسير، أو فيه ضعف شديد يقال: إنه يجوز في ذلك الرواية بصيغة التمريض, من غير الاحتجاج به على سبيل الاستقلال، وإنما يقدم بذلك الأصل الظاهر من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والقواعد في أبواب الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة مما ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها؛ وهو أن يعلم أن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن يحتج بالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الضعيفة في أبواب الأحكام، وهذا محل اتفاق عند العلماء ولا خلاف عند العلماء في ذلك إلا في مسائل يسيرة, قد روي ذلك عن بعض العلماء كما جاء عن الإمام أحمد عليه رحمه الله، كما نقله عنه بعض الأئمة من الحنابلة كـابن مفلح عليه رحمة الله حيث قال: إن الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف يسير الضعف في أبواب الاحتياط، وذلك ما كان من أمور كراهة ... مما لا يستلزم من ذلك عمل. والعمل الذي دل عليه الحديث الضعيف ذلك يقين بصحة العمل الذي جاء به الخبر، وكذلك العمل بهذا الحديث لا يقتضي تعبداً بذاته، وإنما يقتضي احتياطاً لدين الإنسان. فينبغي للإنسان أن يعرف مراتب الاحتياج في ذلك، ومواضع إجماع العلماء.

وأما ما كان من غير أبواب الأحكام؛ كأبواب السير والمغازي والتفسير والفتن والملاحم والتاريخ، وكذلك ما يتعلق بفضائل الأشخاص والبلدان وغيرها، فإن هذا مما يجوز للإنسان أن يروي فيه الحديث الضعيف ولا حرج في ذلك، وبعض العلماء يقيد جوازه بأن يكون الضعف في ذلك يسيراً, وأن يرويه بصيغه التمريض، وهذا له وجه.

ومن العلماء من قال: إن الحديث الضعيف لا يروى، ولا يجوز حكايته على الإطلاق, سواء كان في أبواب الفضائل أو في أبواب الأحكام, وهذا فيه نظر.

ومن نظر إلى طرائق الأئمة الأوائل وأئمة النقد والرواية؛ كـشعبة بن الحجاج و عبد الرحمن بن مهدي و يحيى بن سعيد والإمام أحمد ، و علي بن المديني و يحيى بن معين وغيرهم يجد أنهم يحتجون بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال إذا كان الضعف في ذلك يسيراً، فإذا كان الضعف يسيراً جاز للمحدث أن يحتج بذلك الحديث في الأبواب المتقدمة؛ وهي أبواب التفسير والفتن والملاحم والتاريخ وأشراط الساعة، وكذلك ما يتعلق بأبواب الفضائل؛ كفضائل الأعمال، وفضائل الأشخاص, وفضائل البلدان, وغير ذلك مما يدخل في أبواب الفضائل، فإن الأمر في ذلك يسير.

وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على عدم جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف, ولا أعلم من خالف في ذلك إلا ما جاء عن بعض الفقهاء من المتأخرين الذين قالوا: بجواز الاحتجاج بالحديث الضعيف على الإطلاق في أبواب الأحكام, وهذا فيه نظر، بل هو قول باطل لا يعول عليه، ولم يقل بذلك أحد من أهل التحقيق والدراية والنظر والديانة من سائر المذاهب الأربعة، وإنما جاء عن بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم، وهذا قول لا يعول عليه كما تقدم، بل إن بعض العلماء قال: إنه لا يجوز الاحتجاج بالحديث الضعيف مطلقاً حتى في أبواب الفضائل، وهو قول مردود أيضاً؛ لأنه قد استقر عمل الأوائل على ذلك، وأن العمل بالحديث الضعيف في تلك الأبواب أمر يسير.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المواضع التي يحتج بها، والمواضع التي لا يحتج بها؛ حتى يميز بين المسائل فلا يضطرب، ولهذا قد يجد بعض طلاب العلم عند العلماء الاحتجاج ببعض الأحاديث في باب وفي بعض الأبواب يردها، فيختلف عنده ذلك النظر، وربما اتهم بعض العلماء بالاضطراب وذلك تتباين الموضع والمأخذ.

أما ما كان من الأصول العظيمة فينبغي أن يشدد فيه وألا يقبل الحديث ولو كان ظاهر إسناده الصحة، فإن العلماء يشددون في ذلك فيما كان من أصول الديانة، وما كان أيضاً من الأمور العظيمة من المسائل الكليات وقواعد الدين، وكذلك أيضاً ما كان من أعلام المسائل ومشهورها, فإنه لا بد من أسانيد قوية في ذلك، وأن يرويها الأصحاب الكبار من أهل الرواية لكل راوي، فإذا روى راو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يروي ذلك الأصل العظيم أحد أصحابه الكبار، ويرويه عنه أحد أصحابه الكبار الأعلام، وألا ينفرد بذلك من كان دونه, وهذا فيما يتعلق بالأصول العامة، وثمة أبواب يسيرة تخرج عن ذلك يأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في موضعها من هذه المجالس.