أسباب النزول [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

فمن المشكلات في أبواب أسباب النزول ما يتعلق بالتضاد والتعارض الذي يظهر لبعض طلاب العلم في سبب نزول الآي, وذلك أن الآية قد تكون مما نزلت في أكثر من موضع, أو يذكر في سبب نزولها موضعان متضادان, وهذا من الأمور المشكلة, ولكن يقال: إنه ينبغي لطالب العلم من جهة الأصل أن يكون محرراً ناقداً في أبواب الحديث, فإذا صح الحديث فإنه ينظر في الموضعين مما نزل في أسباب نزول الحديث، وإذا كان أحد هذين الموضعين ضعيفاً فإنه ينصرف عن الضعيف إلى الصحيح.

ولكن ينبغي أن يعلم أن الآية قد يذكر في سبب نزولها سبب محدد, ويذكر سبب عام على التقسيم الذي تقدم معنا, فثمة سبب محدد أنها نزلت في فلان بن فلان، أو نزلت في واقعة كذا, وثمة سبب يذكر على سبيل العموم أنها نزلت فيمن حاله كذا, وهذا يكثر في كلام العلماء من المفسرين، أنهم يطلقون الأحوال ويطلقون الأحكام, وأن المقصود من كلام الله جل وعلا كذا, ولكن بصيغة سبب النزول.

فيظن طالب العلم أن هذا نوع من التضاد, وليس كذلك, ولهذا ينبغي أن تؤخذ معرفة الخلاف على أحوال:

الحالة الأولى: من جهة الصحة والضعف, فينظر في صحة الموضعين, فإن صح أحدهما وضعف الآخر فهذا من الأمور السهلة, وإن صح الجميع فيحمله على الحالة الثانية.

الحالة الثانية: أن ينظر إلى الصيغ التي جاءت في أسباب النزول, فإذا كانت الصيغة عامة, كأن يقول الراوي: إن الآية نزلت فيمن حاله كذا وكذا, فهذا ليس من أسباب النزول المحددة, وإنما من أسباب النزول العامة كما تقدم الإشارة إليه, أما الصيغة: إنها نزلت يوم كذا وكذا لما فعل فلان كذا وكذا، فإنها صيغة مقيدة, وهي أخص المعاني، حينئذ يدفع الإشكال الوراد في أسباب النزول.

الأمر الثالث: أن يفرق بين ما ورد من أسباب النزول مما هو من قول صحابي أدرك النازلة، وبين من روى نازلة لم يشهدها, أو كان دون مرتبة الصحابة، فروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلة وهو لم يدرك النبوة أصلاً, فيكون هذا مرتبة دون مرتبة الصحابي الذي أدرك النازلة وهذا مما يحل الإشكال.

ومن الأمور المهمة في أبواب أسباب النزول: أن يعرف طالب العلم المواضع التي يجد فيها أسباب النزول, وهذا في الأغلب يوجد في الكتب المصنفة على الأسانيد التي هي من مظان أسباب النزول.

والكتب المصنفة على الأسانيد كثيرة, أقواها وأعلاها هو كتاب تفسير ابن جرير الطبري , وكذلك تفسير ابن أبي حاتم وتفسير عبد بن حميد وتفسير ابن المنذر , وكذلك تفسير البغوي , ويدخل في هذا جملة من التفاسير المسندة، ولكن أعلاها هذه الأسانيد, وأصح هذه التفاسير هو تفسير ابن أبي حاتم , وذلك أنه قد اشترط في كتابه أنه لا يورد إلا الحديث الصحيح, مع المخالفة في بعض المواضع، إلا أنه من جهة المجموع أنقى.

وأما تفسير ابن جرير الطبري فمن جهة الأصل وإن كان أكثر وأوفر أحاديث وآثاراً ومرويات في أبواب التفسير, وأوسع أيضاً في أبواب التفسير من جهة الرأي, ففيه تفسير رأي لــــــابن جرير الطبري , ويكون ذلك على ضوء الأثر إلا أنه شبه معدوم في تفسير ابن أبي حاتم، فإنه يعتمد في تفسير ذلك على الأسانيد المروية عن الصحابة والتابعين وأتباعهم.

وعلى هذا نقول: إن أنقى التفاسير تفسير ابن أبي حاتم من جهة الصحة، ويليه بعد ذلك تفسير ابن جرير الطبري , وقد يقال: إنهما يشتركان -أي: تفسير ابن جرير وتفسير ابن أبي حاتم- باعتبار أن تفسير ابن جرير هو تفسير موسع. وإذا نظرنا إلى النسبة والتناسب بين التفسيرين قد قاربا من جهة الصحة باعتبار عظم حجم تفسير ابن جرير الطبري.

وكما أنه ينبغي لطالب العلم عند نظره في تأويل آية أن أول ما ينظر في التأويل أن ينظر في سبب النزول, ثم بعد ذلك ينظر في معنى تلك الآية، وكذلك ما يندرج تحتها من خلاف العلماء, ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا يحرصون على معرفة سبب النزول, وقد كان عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى من أكثر الصحابة عناية بذلك وتدقيقاً.

ومن الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها في أبواب سبب النزول: أن ثمة أحاديث ووقائع في زمن النبوة, وزمن الصحابة يرد في سياقها آيات, جاءت استدلالاً على حال أو بياناً لحكم شرعي اقترن بفعل، فإن هذا من الأمور التي ترشد طالب العلم إلى التدقيق في معرفة أسباب النزول على سبيل التحديد.

وهذه لا يدرجها أهل العلم في أبواب التفسير ولا في أبواب أسباب النزول ولكنها منثورة, ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة الآي من كتب السنة, وهذا قد جمع فيه رسالة مصنفة في هذا الأمر, ولكنها مقيدة في كتب معينة وهي الكتب الستة, ولكن لم يتوسع فيما عدا ذلك, وهي المناسبات التي جاءت وذكرت فيها آية, سواء ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن ذلك مما نص عليه أنه من أسباب النزول، كأن تكون ذكرت على سبيل الاستدلال على حكم معين ونحو ذلك.

ولكن هذا مما يرشد طالب العلم إلى معرفة سبب النزول, وهذا لا يمكن حصره وضبطه، وهذا يرجع إلى معرفة طالب العلم بكتب السنة ومواضع الاستدلال, والمظان التي يستطيع فيها طالب العلم أن يتوسع في الاستنباط, وهذا مما لا حد له ولا حصر.

ومن الأمور المهمة لطالب العلم في معرفة أسباب النزول: أن يعرف الكتب المصنفة في ذلك، وأن يعرف قدرها, وقد تقدم الكلام معنا على أن التصنيفات في ذلك قد دخلها من الضعيف والواهي والمنكر ما دخلها, وأن هذا الباب قد دخل فيه من الضعيف والواهي والمنكر ما دخله؛ للعلة التي وردت في أبواب فضائل القرآن, فإنه قد أدخل في أبواب نزول الآي ما أدخل, حتى جعل لكل آية سبب نزول.

وهذا لا شك أنه نوع من أنواع المجازفة، وكذلك البعد عن الأصول العامة، فإن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى مع شهودهم التنزيل وإدراكهم لمعاني التأويل, وأنهم يوقنون أن آي القرآن ما نزل إلا لبيان الأحوال, وأنه ما من شيء من معاني القرآن إلا ونزل لحكمة وسبب، وهذه الحكمة والسبب بعضهم يجعلها سبباً للنزول ويدقق فيها, ويختلق لها ربما نازلة وحالاً, ولهذا امتلأت الكتب في أبواب أسباب النزول بالضعيف والمنكر والواهي، مما ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل الاحتراز في ذلك.

والكتب المصنفة في أبواب أسباب النزول يمكن أن تذكر على نوعين:

النوع الأول: مصنفات ذكرت أسباب النزول على سبيل الإجمال, فيذكرون أسباب النزول مما جاء في كلام الله جل وعلا، فيذكرون الآية وأنها نزلت في كذا وكذا, ولا يعتنون بأبواب الصحة والضعف.

وقد يقال: إن من أقدم من صنف في هذا الباب الإمام الواحدي عليه رحمة الله في كتابه: أسباب النزول, وللحافظ ابن حجر كتاب في ذلك قد توسع فيه, وسماه: العجاب في أسباب نزول الكتاب, وثمة مصنف متأخر اسمه الاستيعاب في أسباب نزول الكتاب, وهو أشمل الكتب المصنفة في هذا, ولكن لا يخلو كتاب من هذه الكتب من خلل وتقصير.

ومن الأمور المهمة في الإشارة إلى هذه المصنفات أن يذكر أن هذه المصنفات إنما هي مصنفات جامعة, يعني: أنها جمعت من دواوين السنة الأحاديث الواردة في أسباب النزول, ومنها: ما يسند المصنف الإسناد إلى نفسه ولكن فيه نزول كالإمام الواحدي عليه رحمة الله، وله جملة من الكتب في أبواب التفسير وأبواب أسباب النزول, وأسانيده ومفاريده في هذا الباب لا يكاد يصح منها شيء.

وفائدتها لطالب العلم -أعني كتب الواحدي- أنه يرشد الطالب إلى الحديث فيلتمسه في مظانه الأعلى من ذلك, فإذا أرشده إلى ورود حديث فإنه لا يعتمد على أسانيد الواحدي , فإنه لا يتفرد بحديث عن الكتب الستة فيكون صحيحاً, أعني: في الأحاديث المرفوعة.

ولهذا طالب العلم إذا وجد حديثاً من الأحاديث وقد ذكره الواحدي فيرجع فيه إلى مظانه, فينظر في أسانيده هناك فيكون كالكشاف وكالدليل الذي يرشد طالب العلم إلى ذلك الموضع.

النوع الثاني من المصنفات في أبواب أسباب النزول: هي ما اعتنت بنوع من الأنواع التي تضمنت أسباب النزول, كبيان البلدان المبهمة, أو الوقائع والأسفار, أو الرواة.

فهناك من المصنفين من يعتني ببيان أحوال الأشخاص الذين نزل فيهم القرآن, فإذا قيل: إنها نزلت آية في كعب بن عجرة , فينظر في كعب بن عجرة، ثم يترجم له ويذكر نسبه في ذلك, فهو لم يعتن من جهة الأصل بأسباب النزول التي نتكلم عليها, وإنما اعتنى بتراجم من نزلت فيه آي القرآن, وقد صنف مقاتل بن سليمان كتاباً في ذلك, وسمي بتفسير مقاتل بن سليمان , وقد توفي في منتصف القرن الثاني, وقد اعتنى بهذا النوع.

كذلك أيضاً كتاب السيرة لــــــمحمد بن إسحاق قد اعتنى بشيء من هذا, بذكر الأشخاص الذين نزل فيهم القرآن, فيذكر تراجمهم وأنسابهم, ويذكر أيضاً ربما بعض البلدان والوقائع, ولكنه لا يعرج على ذات الآية التي نزل فيها القرآن وصحة أسانيدها, إنما يعتني بالوقائع والتاريخ والسيرة.

وينبغي لطالب العلم في أبواب أسباب النزول ألا يعتمد على الكتب المصنفة, فثمة مصنفات قد اعتنت بأسباب النزول كما تقدم الإشارة إلى شيء منها, وثمة مصنفات مندثرة أيضاً قد اعتنت بأسباب النزول، كما في أسباب النزول لــــــعلي بن المديني ولغيره مما اندثر في هذا الباب.

لكن ينبغي لطالب العلم ألا يعتمد على كتاب معين, وأن يرجع إلى الأصول, وأن يتتبع المواضع التي ذكرت في هذا الباب, فما من أحد إلا ووقع منه تقصير.

ما هي الطريقة المثلى التي يقف فيها طالب العلم على سبب نزول الآية؟

الطريقة المثلى في ذلك أن يجعل الكتب المصنفة في هذا هي كالكشاف والدليل الموصل إليه أولاً, ثم بعد ذلك يتوسع في النظر في كتب التفسير, فيبتدئ من جهة الأصل بفهم سبب النزول الخاص الذي نزل على الفرد, ثم يرجع إلى الطريقة الأولى التي تقدم الكلام عليها، أنه ينتهي بمعرفة سبب النزول العام.

وسبب النزول العام مما تقدم الكلام عليه وهو أن يعرف طالب العلم سبب نزول هذه الآية في أي بلد وعلى أي حال, وفي أي عام, هذا من أسباب النزول العامة, فيبتدئ من الفرد، ثم إن لم يجد الفرد يتوسع في ذلك قدر وسعه وإمكانه, وإن وقف على معرفة الفرد فالفرد قد يكون ممن خالط رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر عمره، فمثلاً:

هل نزلت عليه في مكة وهو شاهد أو نزلت عليه بالمدينة؟

وهل نزلت عليه في حال سفر أو حضر؟

لا بد أن يتوسع في هذا الأمر؟ وهذا ما لا ينضبط في كتب أسباب النزول, ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتوسع في ذلك, وأن ينظر في الكتب المصنفة في هذا، والكتب غير المصنفة في هذا.

والذي يخدم طالب العلم أن ينظر في سائر المصنفات التي تعتني بعلوم القرآن, كذلك المصنفات التي اعتنت بالتتبع بمعرفة أسباب النزول.

وقد يقال: إن أدق وأشمل كتب المتأخرين عناية بأسباب النزول وزيادة عن الكتب المصنفة في ذلك هو كتاب التحرير والتنوير لــــــابن عاشور، فإنه قد اعتنى بأسباب النزول, واعتنى أيضاً بالزيادة على المصنفات والتماس الأحاديث التي ورد في سياقاتها آيات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه يوردها ويستنبط منها سبباً للنزول, وهو من المدققين والمحررين في هذا, إلا أنه يؤخذ عليه عدم عنايته في أبواب العلل وأبواب التصحيح والتضعيف, وظهر في ذلك عدم عنايته بالصحيح والضعيف، فيقدم تارة الضعيف على الصحيح, وتارة يقول ويعمل بالحديث الضعيف في هذا الأمر. وهذا ما ينبغي على طالب العلم أن يكون من أهل الحياطة فيه.

ومن الأمور المهمة أيضاً في إدراك ومعرفة المواضع في أسباب النزول: أن يكون طالب العلم من أهل المعرفة بالسيرة والتاريخ وأبواب المغازي, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل عليه القرآن على أبواب متنوعة, ما يتعلق في أبواب العقائد, وما يتعلق في أبواب الأحكام, وما يتعلق في أبواب المعاملات.

أبواب الأحكام متنوعة, ومن هذه الأحكام: أبواب الجهاد, فالجهاد جهاد النبي صلى الله عليه وسلم, آي الجهاد نزلت في زمن معين, فإذا عرف الإنسان ذلك الزمن الذي نزلت فيه أو تلك الغزوة التي نزلت فيه؛ استطاع أن يصل إلى سبب النزول المقصود من ذلك.

فثمة آيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما نزل عليه في بدر, ومنها ما نزل عليه في أحد, ومنها ما نزل عليه في حنين, ومنها ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل أن يذهب إلى جهاده.

فتكون هذه من المعاني العامة التي توصل طالب العلم إلى المقصود من سبب النزول, ولا يذكرها العلماء في أسباب النزول, وإنما يجدها طالب العلم في كتب السير والمغازي ونحو ذلك.

وكذلك أيضاً ينبغي لطالب العلم أن يكون ممن يعلم المقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصته حتى يدرك سبب النزول, وذلك أن سبب النزول له خصيصة من جهة المعرفة والإدراك تختلف عن إدراك المعنى.

والنبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه القرآن فيتلوه على الناس كافة, أما سبب النزول فهو خاص بمن شهد ذلك, أما المعنى العام فإن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الحكم والتشريع مأمور بأن يبلغ الآية للناس, لا أن يبلغ سبب نزولها, ولهذا سبب النزول لا يكون عاماً لسائر الناس, وإنما يختص به من كان قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم في أبواب القرآن, والمقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخالطته في قيامه وقعوده وفي أسفاره وحله.

ومن أظهر هؤلاء: الخلفاء الراشدين الأربعة, فإنهم أكثر الناس مخالطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الأخص أبي بكر و عمر , وكذلك أزواجه, فإنه إذا جاء سبب نزول وكان فيه أحد هؤلاء فإنهم أعلم الناس بذلك وأدق, ويكون قولهم أرجح من غيره.

أما بالنسبة للتأويل فإنه لا محل للرجحان بمعرفة أسباب النزول في أبواب التأويل، باعتبار أن التأويل هو باب آخر ينبغي للإنسان ألا يخلط بين هذين، فمعرفة الأسباب منفكة ومنفصلة عن قدرة الإنسان على الاستنباط ومعرفة المعاني.

كذلك أيضاً الأربعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( خذوا القرآن عن أربعة ).

وكذلك جاء في المسند والسنن على اختلاف في أحد هؤلاء الأربعة: ( خذوا القرآن عن أربعة: عن أبي بن كعب , و عبد الله بن مسعود و زيد و أبي موسى ).

وهؤلاء هم من أهل القرآن, فإذا جاء أسباب النزول عن المقربين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهؤلاء الأربعة فإنهم من أدق الناس وأضبطهم لأسباب النزول الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا في الأعم الأغلب.

والمراد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا حال إلى هؤلاء الأربعة فإنهم عرفوا المعنى الذي لأجل الوصول إليه نعرف سبب النزول, فإذا كان كذلك فإنهم قد أدركوا سبب النزول, وأدركوا حينئذ المعنى الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبليغ ما جاء عن ربه.

كذلك من الأمور المهمة لطالب العلم في أبواب معرفة أسباب النزول: أن ينظر في القضايا التي قد اقترنت بالآية في حكم الصحابة ولو بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذا نوع من الأنواع التي توجه طالب العلم إلى معرفة سبب نزول الآي، ولو لم ينص عليه، مع اختلاف الزمن واختلاف الحال.

فإذا كان الصحابة يستدلون بآية من آي القرآن على حكم من أحكام الفقه، فينبغي لطالب العلم أن ينظر في هذه الآية وسياقها, فإنها إن لم تعطه المعنى التام في سبب النزول فإنها تعطيه شطره, أو بعضه أو أكثره.

وذلك أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على سبيل الخصوص إذا قالوا: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا, أو نزلت في فلان بن فلان, وفتياهم في هذه الآية على قضية معينة أعطاك نوعاً من الفهم, وأن الأولى وهي قولهم: نزلت الآية في كذا وكذا هو الذي قصده العلماء في حكم المرفوع, وأن ما أفتوا به في زمنهم واستدلوا بهذه الآية أن ذلك الموضع هو دون ذلك مرتبة.

وله من وجه آخر حكم الرفع باعتبار أنهم قصدوا ذلك في أبواب التأويل؛ لأنهم عرفوا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كحكم المرفوع إليه عليه الصلاة والسلام.

ولهذا طالب العلم لا يمكن أن تتحقق له معرفة أسباب النزول إلا بمعرفة الكتب المصنفة بهذا الأمر على نوعيها, وكذلك معرفة السير والمغازي ومعرفة السياقات التي ترد فيها الآية في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد ترد آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسبب نزولها قد سبق عليه ذلك الأمر. فيكون لها سبب نزول غير الواقعة التي نزلت فيها.

فسورة الفيل وما تضمنت من معان هو قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن ما الظرف الذي نزلت فيه, وما هو الأمر؟ هو للتدليل على قضية معينة, ومخاطبة المشركين لمعنى معين, فهذا المعنى الذي في الآية لا يلزم ترابطه بالحادثة الزمنية, ولهذا كان القرآن أكثره من القصص التي لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحوال الأمم السابقة.

والمعنى الأخير الذي أشرنا إليه وهو أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمرويات الصحابة في فتياهم التي يستدلون بها في أبواب المعاني, فيستدلون بشيء من كلام الله سبحانه وتعالى، فهذا يعطيك شطراً من معرفة أسباب النزول, وهذا مما لم يجمع، ولم يحوه كتاب ولم يصنف فيه أحد فيما أعلم, بل لم يشر إلى هذا المعنى أحد ممن صنف أو تكلم في هذا الباب.

ومما ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل السبر في معرفة مواضع الآي في كلام الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, ولهذا يقال: إن من أفضل المباحث في أسباب النزول: أن تجمع الآيات التي تكلم عليها الصحابة في الفتيا أو استدل بها الصحابة على معنى من المعاني.

وهذا قد يوجد في المصنفات ولها مظانها, ومن هذه المصنفات في ذلك كتب التفسير، سواء كان ذلك كتب الآثار وغيرها, أو كتب السير والمغازي، فإن فيها ما يوردونه من استدلال في هذا, كذلك كتب الزهد والرقائق والورع, وكتب فضائل الأعمال. وضبط ذلك لا يمكن أن يحصر, فثمة مصنفات في هذا الباب لا يمكن أن يحدها الإنسان, ومن أشهر ذلك الكتب المصنفة في أحكام القرآن.

والكتب المصنفة في أحكام القرآن هي ما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, أو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل تلك الآية شيء من الأخبار, أو أنزلت هذه الآية وأسقطت على حكم أو في حال فتيا سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد من الصحابة, ولكنها ليست شاملة لذلك المعنى المراد.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني ابتداءً بهذه المصنفات مما تقدم الكلام عليه في كتب التفسير، وكذلك كتب السير والمغازي.

كذلك ما يتعلق بكتب أحكام القرآن, وأحكام القرآن مصنفة في هذا, وثمة كتاب أحكام القرآن للشافعي , وأحكام القرآن لــــــأبي يعلى , وأحكام القرآن للجصاص, وأحكام القرآن لــــــأبي بكر ابن العربي , وغيرها من الكتب المصنفة في هذا, فإنها مما يفيد طالب العلم في معرفة وجهة الآية في الحال التي نزلت فيها.

كذلك أيضاً مما يفيد طالب العلم في ذلك مما لا تذكر فيه الآية, وهو مرتبة دون ذلك: ما يورده المفسرون في آية من الآيات, ويوردون في معنى تلك الآية حكماً من الأحكام, فإذا ذكر العلماء آية من الآيات, ثم أوردوا كلاماً فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأحد من الصحابة، فإن هذا السياق ربما كان قد اختصر منه ذلك الموضع الذي يشير إلى أن هذا الكلام جاء في سياق هذه الآية, ولكن يذكرونه في كتب الأحكام وكتب التفسير من غير إشارة إلى هذا. وهذا ما يتضمنه كتب الأحكام، وما تتضمنه كتب التفسير, وهذا أيضاً مما لا حد له ولا حصر.