نقبل منهم. . .
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
للأستاذ ثروت أباظة
تلقينا (الرسالة) ونحن في مجلس كأنما أعد لها، فتناولها قارئ منا وأخذ يتلو علينا مقالاتها متنقلاً بين علم وفن وأدب حتى بلغ الصفحة الأخيرة، فطوينا الرسالة - لازالت منشورة - ثم أخذنا نجيل الحديث بيننا نخفف به ثقل الوقت ونقصر طوله. وكان في شعر المجلة أبيات من شاعر إلى أبنه يبثه الأبوة الرحيمة، ويعقد به الرجاء المأمول، فقال أديب جالس: - عجيب أمر هذه الأبوة! كانت في صدر الزمان قداسة يشرف الابن أن يتطلع إليها ويستمع إلى ممثلها كأنه إله لا يصدر في أفعاله وأقواله إلا عن الصواب المحض.
وكان الأب من ناحيته يرث القسوة عن أبيه وأجداده، فيبديها لأولاده، ولو ترك لعاطفته لما بدا منه غير الرحمة.
وهكذا قام الصراع في قلب الوالد بين قسوة دخيلة ورحمة أصيلة، وظلت العاطفتان تصطرعان منذ عهد الرومان أيام كان الوالد يملك الحياة والموت على أهله حتى اليوم، إذ نرى الوالد يتوجه إلى أبنه بهذا الحب الصافي وبذلك الرجاء الواسع الذي يعلقه عليه.
وهكذا تغلبت الرحمة الموهوبة على القسوة المكسوبة، وانطلقت النفوس لا يقيدها عرف، فأبان الوالد عن خلجاته، وكشف للابن عن نبضاته، فانسجم البيت على حب ظاهر لا قسوة فيه ولا عنف.
قلت: جميل أن يظهر الوالد عواطفه، وجميل أن يأخذ ولده باللين.
ولكن إذا شب الولد عن الطوق ووالده لا يزال يأخذه بالرحمة، لا يهديه إذا ضل، ولا يعاقبه إذا زل، وأمه لا تنفك تعامله بالحنان؛ فهل يمكن أن يكون هذا الابن تكأة لوالديه عند الكبر، أو مفخرة لهما يوم الفخر؟.
أثبتت الأيام، وما تزال تثبت، أن هذا لا يكون وأن هذا الابن ذا المعلقة الذهبية يتمرد على أبيه إذا قدم له الطعام في ملعقة من فضة.
فهو يستوطئ الدعة ولا يعرف من حياته غير مائدة شهية، وفراش وثير، وغيد ملاح، وكؤوس دهاق.
فالأبوة على هذا اللين قسوة.
إنما تتمثل الرحمة في عصا الوالد التي تقود الابن إلى السبيل الأقوم. - لقد تحدثت فأسهبت، ولكنك أطلقت قولك كمن يلقي محاضرة لا يعرف موضوعها، فأنا حين أقول إن النفوس أرسلت على طبيعتها لم أقصد بذلك أن يضع الوالد ولده على كرسي ثم يسمعه عبارات المديح والحب.
إن الحبيب لا يطيق هذا من حبيبه، فكيف والأمر بين أبن وأب؟ إن الابن لا يقبل هذا الثناء فهو يعرف عن حب أبيه إياه ما لا يحتاج معه إلى هذا التبيان؛ بل لعل القول يغض من قيمة هذه العاطفة في نظر الابن.
إنما أقصد إلى الرحمة الصادقة.
أما ما كان في غابر العصور من قسوة فهو يخالف الطبيعة ويرهق الوالد والابن جميعاً. - نسيت يا صديقي أننا نتكلم عن قصيدة من شاعر إلى أبنه. أنساني طول المناقشة سبب النقاش فأرتج على حين جبهني مناقشي به، وكان بالمجلس شيخ وقور أخذ يستمع إلى الحوار في إنصات ولذة دون أن يتكلم، ولكنه لما سمع الإجابة الأخيرة ورأى حيرتي شارك الحديث: - أمنكما والد؟ قلت - إنما نحن أبناء. قال - إن كليكما قد أصاب في قوله.
وكأني بكما وأنتما تتناقشان تمثلان الصراع الذي كان قائماً في صدر الوالد قبل أن تتغلب الرحمة، ولكن الأب الحق وسط بين قوليكما؛ فالرحمة الدائمة والقسوة الدائمة كلتا الخلتين فيها مضيعة لقوام الابن.
فالوالد محتاج إلى كثير من الحزم يعرف به كيف يضع الأمور في أوضاعها الصحيحة، فلا يجعل الشدة في موضع اللين، ولا الرحمة في مواطن القسوة، ولكن نسى كلاكما إنه إنما يتحدث عن الشاعر، وهو وحده الذي يستثنيه المجتمع من كل هذه القيود.
فإننا لا نحتمل شاباً يحدثنا عن مغامراته الغرامية، ولكن إذا كان شاعراً وصاغ لك مغامرته في قصيدة فإنك لا شك تطرب لها وتعجب بها.
وإذا كنت محباً فإنك واجد في قصيدة الشاعر متنفساً عما يجيش بصدرك وتشفق من إخراجه نثراً حرصاً على كرامتك إذا كنت أخا كرامة، وكذلك الوالد الشاعر يقول قصيدته معبرة عن مشاعره نحو أبنه فيقرؤها القارئ ويعجب بها لأنها تعبير صادق عن شعور صادق، ويقرؤها الوالد غير الشاعر فيرتاح لها ويجد بين أبياتها المتنفس الذي أعياه البحث عنه ليفرج فيه عن أحاسيس طال عليها الكظم. وهكذا الشعراء في كل أمة وفي كل عصر يحملون من قومهم ما لا يطيقه القوم، ويذيعون ما لا يذيعه غيرهم فتجري على أسنة أقلامهم إرسال العواطف.
فهلا سمحتم بأن يقولوا ما دام في قولهم راحة لغير الشعراء! قال صاحبي وقد بدت عليه علائم الاقتناع: - إذن فالثناء لا نقبله من والد لابنه ما دام الوالد غير شاعر؛ أما الوالدون والمحبون الشاعرون فنقبل منهم. قال الشيخ: - هو ما قلت، نقبل منهم. ثروت أباظة