أسباب النزول [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

فتقدم معنا الكلام على جملة من مسائل أسباب النزول, وفي هذا المجلس بإذن الله تعالى نتكلم على ما يتعلق بأسانيد أسباب النزول, وكذلك مظانها من جهة الصحة والضعف, والمصنفات الممكنة في ذلك, وكذلك طرائق العلماء في التعامل مع هذه الأسانيد. وهذا من الأمور المهمة, وهي خلاصة ما نتكلم عليه من أسباب النزول.

وينبغي لطالب العلم أنه ما دخل علماً من العلوم إلا ويعتني بصحته ونقاوته من الدخيل فيه, وذلك أنه لا يخلو علم من العلوم أياً كان، سواء كان من العلوم العقلية أو العلوم النقلية إلا ويوجد دخيل فيها, فعناية طالب العلم بذلك من أعظم المهمات وأجلها.

وذلك أن عدم العناية بذلك يؤثر على عمله بذلك المعلوم, فإذا كان ضعيفاً كان عمله ضعيفاً, وإذا كان ذلك المروي أو ذلك المعلوم خطأ كان العمل خطأ, وإذا كان ممزوجاً بخطأ وضعف كانت نسبة الخطأ في العمل بقدر نسبته في الضعف. وهذا أمر معلوم.

أولاً: العلماء عليهم رحمة الله كما تقدم يتعاملون مع المروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبواب التفسير على أنه في حكم المرفوع, وقد تقدم هذا أنه على قولين عند العلماء, منهم من قال: إنه على الإطلاق سواء كان في أسباب النزول أو كان في غيرها.

وهذا جاء الإشارة إليه في كلام بعض العلماء كما تقدم الكلام عليه عند الحاكم كما في كتابه المستدرك, وكذلك في علوم الحديث وغيرها.

ومنهم من قال: إن لها حكم الوقف وليس لها حكم الرفع, ويستثنون من ذلك ما كان من أسباب النزول, قال: وما كان من أسباب النزول فقد حكي الإجماع على هذا.

وقد نص بعض العلماء أن ما كان من أسباب النزول فإنه على الإجماع له حكم الرفع.

وإذا قلنا بذلك, والمتقرر في طرائق الأئمة النقاد أن الحكم على الأحاديث يتباين, فالمرفوع يشدد فيه ما لا يشدد في الموقوف, وما كان من أبواب الأحكام فإنه يشدد فيه ما لا يشدد في غيره, وهذا من الأمور التي ينبغي أن يعتني بها طالب العلم, أي: أنه يميز بين مراتب المتون التي يحكم عليها.

وقد أشار غير واحد من العلماء في أثناء كلامهم على التفريق بين الموقوف والمرفوع, ونحن في أبواب التفسير وفي أبواب أسباب النزول يندرج الخلاف في هذه تحت خلاف آخر, وهو: هل هذا في حكم المرفوع أم لا؟

فيتبع ذلك خلاف, وهو الخلاف الذي يقع فيه في التعامل مع تلك المرويات التي هي في أسباب النزول أو في أبواب التفسير على وجه العموم. وطرائق العلماء في التعامل معها, وهذا ما سنتكلم عليه بإذن الله تعالى.

أولاً: من أشار إلى أن المرويات في أسباب النزول قد تقدم تعليلهم في ذلك, والوجه الذي قالوه: إن لها حكم الرفع, وأما من قال: إن جميع مرويات التفسير لها حكم الرفع, وهذا مروي عن بعضهم كما تقدم الكلام عليه.

وتعليلهم في ذلك: أنه لا يجوز لأحد أن يخوض في كلام الله جل وعلا إلا ببينة ودليل, فإذا كان كذلك فهو مستندهم للرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجب حينئذ في هذا أن يرجع إلى التعامل مع المرويات الموقوفة في أبواب التفسير في تعاملنا مع المرويات المرفوعة. وإذا كان كذلك فإننا نشدد فيها من هذا الوجه.

وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أنزل الله جل وعلا عليه كتابه فإن التأويل إلى الله, كما تقدم الإشارة إليه: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19] , أي: أنه ليس عليك ولا على غيرك, وإنما هو من حق الله جل وعلا, فليس لأحد أن يخوض في كلام الله سبحانه وتعالى بظن أو بغلبة ظن إلا بالرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على تأويل فله حكم الرفع, وذلك أن المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من القول والفعل والتقرير.

فكان اللسان العربي نزل عليه القرآن فأدركوا ذلك المعنى, فيكون حينئذ خطاب القرآن إلى الصحابة كخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم من جهة إدراك المعنى, فهم يدركونه على حد سواء, بل إن كلام الله جل وعلا أفصح وأدق وأشمل من سائر كلام البشر, وهذه مزية لكلام الله سبحانه وتعالى ليست لغيره من سائر أنواع الكلام.

ولكن من جهة الأصل ينبغي قبل الولوج في الخوض في أحكام العلماء على أسانيد أسباب التنزيل أن ينبه على مسألة: أن العلماء من جهة الأصل والتقعيد يخففون في النظر في أسانيد التفسير على وجه العموم. وإذا كان كذلك فهل يندرج في هذا أسباب النزول باعتبار أنها من وجوه التفسير أم لا؟

وهذا ما ينبغي أن ندقق فيه، وأن نفرق بين أمرين:

الأمر الأول: أن نفرق بين المرويات التي تسمى النسخ, أي: أسانيد مدونة ومكتوبة ولم تكن مما ينقل في الحفظ, وما كان كذلك فإنه لا ينظر إليه بالنظر في أبواب الأحكام, وخاصة في أسباب النزول التي تدل على سبب معين لآية دلت على الأحكام, فإننا نتعامل معها بتعامل يختلف عن غيرها.

وذلك أن النسخة التي تروى وفيها سبب نزول هي نسخة لا ينظر فيها إلى الضبط, وذلك أن الضبط على نوعين: ضبط صدر, وضبط كتاب, وضبط الصدر هو الذي يعتني به الإنسان، بضبط المروي من تلقاء نفسه وما ملكه من ملكة الضبط والحفظ والإتقان من غير أن يقيد من ذلك شيئاً في ورق أو رق أو جلد أو غير ذلك, فإنه لا يدون هذا باعتبار أنه يعتمد على محفوظه.

وأما من يدون في النسخ فإنه لا ينظر إلى الضبط وإنما ينظر إلى العدالة, وعدالة الإنسان هي ما كان مسلماً وما كان مأموناً من الفسق, وكذلك يؤمن من الكذب, أما الضبط فإنه لا ينظر إليه في هذا الباب.

لهذا ينبغي لطالب العلم أن يهتم بمعرفة النسخ المروية في ذلك, ومن نظر في الكتب المصنفة في هذا الباب ممن يتكلم على علل مرويات التفسير وأسباب النزول على سبيل التخصيص يجد أنه لا يفرق بين النسخ, ولا يفرق أيضاً بين أسانيد التفسير وغيرها, وهذا من الخطأ والخلل.

وذلك أن الشخص حينما يأتيك بمكتوب ورسالة من شخص حملها إليه, وهذا الرجل ثقة في دينه لكنه لا يحفظ, وكانت هذه الورقة فيها كلام كثير أو منظومة شعرية في ثلاث صفحات أو أربع صفحات أو ملحمة أو مدونة ونحو ذلك, ثم أتاك وسلمك إياها, هل تنظر إلى حفظه هل هو يحفظ الكلام أو لا يضبط الكلام؟

نقول: لا تنظر إلى ذلك, وإنما تنظر إلى عدالته وشدة احترازه, يعني: أنه هل إذا أتى إليك رمى الكتاب في موضع ثم تركه, وربما أتى شخص وأخذ الكتاب ووضع مكانه كتاباً آخر وهو غافل عنه, أو هو رجل حريص يقدر معنى الأمانة, فإذا كان هو من أهل العدالة في ذلك فلا ينظر إلى ضبط صدره.

وما يدون في كتب الرجال هو من الضبط الذي يسمى ضبط الصدر لا ضبط الكتاب, وهذا ينبغي أن يلتفت إليه، أنه في أبواب الجرح والتعديل للرواة، العلماء يتكلمون على ضبط الصدر ولا يتكلمون على ضبط الكتاب.

وإذا وجدت راوياً في أبواب التفسير قد تكلم عليه العلماء بضعف أو توثيق فإنهم يريدون بذلك في الأغلب ضبط الصدر لا ضبط الكتاب, وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن يعتني بها طالب العلم.

وإذا قلنا بهذا: فما هو المرد والفيصل في التمييز بين ضبط الصدر وضبط الكتاب؟

نقول: يجب على طالب العلم أن يرجع في ذلك إلى مظانها من كلام العلماء في أبواب العلل وغيرها.

العلماء لهم كلام مفرق في أبواب العلل, وكذلك أيضاً في كتب التفسير وطرائقهم في التعامل مع تلك المرويات المنثورة وليس لها قاعدة في ذلك.

ثمة مصنفات في أبواب العلل نشير إليها مراراً, منها كتاب العلل لـــــابن المديني, كذلك العلل لـــــ ابن أبي حاتم والتاريخ الكبير للبخاري , وكذلك العلل للدارقطني , والضعفاء للعقيلي , والكتب التي اعتنت بالمفاريد، كالأفراد والغرائب للدارقطني، وكذلك مسند البزار , ومعاجم الطبراني . وكذلك الكتب التي اعتنت ببيان المعلول من الأحكام ولو اشتمل على شيء من معاني القرآن ككتاب سنن الدارقطني وغيره.

ينبغي أن يرجع فيها إلى مظانها، فإن من كان له نسخة في ذلك فأمره يسير, بمعنى أن الراوي في أبواب ضبط الكتاب المشقة في ذلك أنك تنظر إليه, فإذا وجدته ضعيفاً فإنك تعمل ذلك في كل مروي من مروياته, وهذا يخضع إلى جملة من الضوابط لا توجد في ضبط الكتاب.

ضبط الكتاب أنك إذا وجدت أن فلاناً يروي نسخة فإنك تحتاج إلى الوقوف على حكم العلماء على هذه النسخة فقط, وتكون هذه النسخة حينئذ فيها مئات أو آلاف الروايات, فحينئذ هذا ييسر عليك شيئاً كثيراً.

فينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة النسخ عن غيرها, وألا يستعجل بالحكم على نسخة بحكم العلماء على راو من رواتها فيقع في الوهم والغلط.

وكذلك أيضاً ينبغي أن يعتني طالب العلم بالأسانيد المروية عن تلك النسخ, فالنسخ قد تكون متداولة, لكن يروي تلك النسخة راو لم يسمعها من صاحب تلك النسخة, فيقع حينئذ خلط بين ضبط الصدر الذي هو نقل هذه النسخة, وبين ضبط الكتاب الذي تقدم عن تلك المرحلة, فينبغي أن يميز هذا عن هذا.

العلماء عليهم رحمة الله من جهة الأصل يتساهلون في مرويات التفسير, ولهذا يقول عبد الرحمن بن مهدي : إذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب تساهلنا, وإذا روينا في الحلال والحرام تشددنا في الرواة, والمراد من هذا أن العلماء لا يلتفتون إلى التشديد في أبواب التفسير على الإطلاق, هذه هي القاعدة الأصلية.

وأما ما كان من أبواب النزول فإن ذلك من جهة التعامل يمكن أن يجزأ ويفصل على أحوال:

‏ التشديد في أسباب النزول الواردة في آيات الأحكام

الحالة الأولى: ما كان من أسباب النزول في آيات الأحكام, فإن ذلك يتعامل معه بتشديد إذا كان فرداً في بابه ولم يعضده عاضد, والمعنى: أنه لم يرد وارد في هذه الدلالة وهذا المعنى من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقلال.

فإذا جاء حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق الآية ولم يكن ذلك من أسباب النزول، فإن هذا يعضد ذاك, وحينئذ يتساهل في قبول الخبر, ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل الإحاطة في أبواب الآي.

وتقدم معنا مراراً أن من حذق طالب العلم وكذلك حسن درايته أن يجمع بين المسائل الواردة في بابها, سواء من الآيات أو من الأحاديث أو من الموقوفات, فيجمع ما كان في الباب حتى يدرك ما اختص به راو وما ووفق عليه, وهذا أمر ينبغي أن يكون على تمييز عند طالب العلم.

لهذا الآيات التي جاءت في أسباب النزول المتعلقة بآيات الأحكام ولم يرد في الباب غيرها فإنه يشدد فيها ما لا يشدد في غيرها, وذلك لتضمنها جملة من الأحكام التي يقع فيها الخلط, فنجد على سبيل المثال ما يأتي في أسباب النزول مثل بعض الأحكام المتعلقة بالنساء, فيقول قائل: إن هذا نزل على أمهات المؤمنين فقط فلا يشمل غيرهن, فننظر حينئذ ونشدد في ذلك باعتبار أن هذا من أسباب النزول المتعلقة بالأحكام, فيشدد في هذا ما لا يشدد في غيره.

والعلة في التشديد في هذا أن ما كان من تفسير القرآن ببيان ألفاظه من كلام الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كذلك أيضاً في المرفوع لا يشدد فيه؛ لأن العمدة في تأويل القرآن هو إلى لغة العرب, ولغة العرب يمكن أن تستقل في الفهم، ولولم يرجع في ذلك الإنسان إلى إسناد.

والعمدة أيضاً في قبول الروايات متوسطة الضعف أن يرجع الإنسان في ذلك إلى استقامتها من جهة المعنى, واستقامة المرويات في ألفاظ التفسير من جهة المعنى مردها إلى لغة العرب, ولغة العرب النظر فيها سهل بخلاف الأحكام التي مردها إلى الغيب, ولا يمكن أن تجد ما يوافق ذلك في كلام العرب باعتبار أن مرد ذلك الوحي, على هذا ينبغي أن توجد رواية أخرى في حديث آخر مردها الوحي المجرد, وهذا فيه إعواز فإنه لا يتحصل في كل باب.

على هذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين ما كان من تفسير القرآن ببيان المعاني والمترادفات، وبين ما كان من بيان أسباب النزول مما كان في أبواب الأحكام وغيرها.

التشديد في أسباب النزول الخاصة دون غيرها

الحالة الثانية في تفصيل التعامل مع المرويات في أسباب النزول: ما كان من أسباب النزول الخاصة التي دل على خصوصيتها ظاهر النص من كلام الله جل وعلا أو ظاهر النص الذي جاء في سبب النزول, فإن ذلك يشدد فيه ما لا يشدد في غيره؛ لأن هذا قد جاء على عكس القاعدة التي نزل عليها القرآن, ونزول القرآن إنما كان لعموم البشر, والرسالة عامة للناس: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[الأعراف:158] , فإذا جاءت آية مخصصة وجاء سبب النزول ببيان تخصيصها, أو جاءت آية عامة وجاء سبب النزول بتخصيصها فإنه حينئذ يشدد في ذلك؛ لأنه يلغي حكماً عاماً, وإثبات الحكم كإلغائه في أبواب الاحتياط, وأنه يشدد في ذلك ما لا يشدد في غيره.

فينبغي لطالب العلم في آيات التخصيص أن يتشدد في مرويات أسباب النزول، ويحترز في ذلك احترازاً شديداً.

التفريق بين الموقوف والمرفوع من المرويات

الحالة الثالثة: في التعامل مع مرويات أسباب النزول: أن يفرق بين ما كان موقوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام صراحة, فما كان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة فإنه يشدد فيه وإن دخل الموقوف على قولنا في حكمه باعتبار الفارق اليسير في ذلك وهو القطع, وفيه حسم لمادة الخلاف فيمن قال: إنه ليس له حكم الرفع, ويوجد ممن قال بهذا من المتأخرين، قالوا: باعتبار أن له حكم الرفع أمر من الأمور المظنونة التي ينبغي ألا يصار إليها إلا ببينة.

وعلى هذا نقول: إن ما جاء في أسباب النزول من المرفوع فإنه يشدد فيه ما لا يشدد في الموقوف.

ومن العلل في ذلك أيضاً أن يقال: إن المرفوع الذي يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام يتضمن فيه التشديد من الاحتراز بأن نسبة الملفوظ من القول إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان حقاً كبيرة من كبائر الذنوب. وأما نسبة الأقوال لغير الناس من الأقوال الحقة فإن الأمر في ذلك يسير, ولا يقال بجوازه, بل يقال: إنه دون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلو نسبت حكمة قالها رجل من عقلاء الناس وهو لم يقلها ولكنها حق يتفاخر كل الناس بنسبة هذا القول إليه, فنقول: إن ذلك خطأ, وينبغي ألا يتعمده مؤمن, وأن ينزه نفسه عن ذلك, ولكن يختلف عن نسبة الأقوال ولو كانت حقة موافقة للأدلة التي جاءت رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشدد في المرفوع ما لا يشدد في الموقوف؛ لأنه جاء في الخبر كما في مقدمة صحيح الإمام مسلم , وجاء في سنن أبي داود، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ).

يعني: إذا كان يظن ولا يقطع بذلك، فكيف بمن نسب شيئاً وهو يقطع بذلك بوجود كذاب أو وجود إسناد فيه إعضال ونحو ذلك، فإنه ينبغي أن يحترز في نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأشد من أن ينسبه إلى غيره.

التعامل مع أسباب النزول الواردة في غير آي الأحكام

الحالة الرابعة: ما جاء من المرويات في أسباب النزول في غير آي الأحكام, وذلك مما لا يتضمن حكماً كأسباب نزول القصص على النبي عليه الصلاة والسلام في حكاية الأخبار التي كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، كأحوال المغازي ونحو ذلك، ما لم يتضمن حكماً من أحكام الغنيمة والفيء والأنفال، وكذلك أيضاً العلاقة مع المؤمن والكافر ونحو ذلك, فإن هذا من مسائل الأحكام بل هو أولى من مسائل الأحكام الفقهية، فإنه يشدد فيها حينئذ.

وأما ما لا يتضمن ذلك ببيان سبب نزول قصة يوسف على النبي عليه الصلاة والسلام أو قصة موسى أو قصة نوح ونحو ذلك وهذا يتعلق فيه التصبير والتثبيت, وهذا يتحقق ولو لم يرد سبب نزول ذلك.

التعامل مع أسباب النزول في فضائل الأعمال

الحالة الخامسة في ذلك: ما كان من أسباب النزول في أبواب فضائل الأعمال, فما كان من أبواب فضائل الأعمال والثواب والعقاب فإنه يتساهل في ذلك, ولكنه من جهة التعامل أكثر تشدداً من معاني القرآن وتفسير الألفاظ, وذلك أن التشدد في أبواب النزول كما تقدم سببه أن له حكم الرفع ولو كان موقوفاً, بخلاف الألفاظ التي تروى عن الصحابة ببيانها, فقد جاء عن بعض العلماء أن لها حكم الرفع, ولكن كثير من العلماء لا يقطع بذلك كقطعه في أسباب النزول, فإذا كان كذلك فإنه ينبغي لنا أن نحترز في هذا الباب ما لا نحترز في غيره, ونفرق بين درجات التشدد في هذا الأمر, وإذا احترزنا في هذه الأبواب وقسمناها على هذا النحو نستطيع حينئذ أن نقول: إن طالب العلم ينبغي له في أمثال هذا أن يفرق في القرائن المحتفة في هذه الأبواب, من التماس الشواهد، وكذلك التماس الشاهد الأعلى على الأدنى من القرآن للسنة, وكذلك الأدنى للأعلى من السنة للقرآن, وكذلك الموقوف للمرفوع, والمقطوع بالنسبة للموقوف, فإن هذا يعضد هذا.

كذلك أيضاً بالنسبة للتفريق في أبواب أسباب النزول، فإنه ينظر في ذلك بين أسباب النزول التي تروى عند المدنيين والمكيين, وبين أسباب النزول التي تروى عند غيرهم, وذلك أن أسباب النزول التي تروى عندهم من غير نكير، فإن هذا أهون من غيره مما يروى عن الآفاقيين.

الحالة الأولى: ما كان من أسباب النزول في آيات الأحكام, فإن ذلك يتعامل معه بتشديد إذا كان فرداً في بابه ولم يعضده عاضد, والمعنى: أنه لم يرد وارد في هذه الدلالة وهذا المعنى من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقلال.

فإذا جاء حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق الآية ولم يكن ذلك من أسباب النزول، فإن هذا يعضد ذاك, وحينئذ يتساهل في قبول الخبر, ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل الإحاطة في أبواب الآي.

وتقدم معنا مراراً أن من حذق طالب العلم وكذلك حسن درايته أن يجمع بين المسائل الواردة في بابها, سواء من الآيات أو من الأحاديث أو من الموقوفات, فيجمع ما كان في الباب حتى يدرك ما اختص به راو وما ووفق عليه, وهذا أمر ينبغي أن يكون على تمييز عند طالب العلم.

لهذا الآيات التي جاءت في أسباب النزول المتعلقة بآيات الأحكام ولم يرد في الباب غيرها فإنه يشدد فيها ما لا يشدد في غيرها, وذلك لتضمنها جملة من الأحكام التي يقع فيها الخلط, فنجد على سبيل المثال ما يأتي في أسباب النزول مثل بعض الأحكام المتعلقة بالنساء, فيقول قائل: إن هذا نزل على أمهات المؤمنين فقط فلا يشمل غيرهن, فننظر حينئذ ونشدد في ذلك باعتبار أن هذا من أسباب النزول المتعلقة بالأحكام, فيشدد في هذا ما لا يشدد في غيره.

والعلة في التشديد في هذا أن ما كان من تفسير القرآن ببيان ألفاظه من كلام الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كذلك أيضاً في المرفوع لا يشدد فيه؛ لأن العمدة في تأويل القرآن هو إلى لغة العرب, ولغة العرب يمكن أن تستقل في الفهم، ولولم يرجع في ذلك الإنسان إلى إسناد.

والعمدة أيضاً في قبول الروايات متوسطة الضعف أن يرجع الإنسان في ذلك إلى استقامتها من جهة المعنى, واستقامة المرويات في ألفاظ التفسير من جهة المعنى مردها إلى لغة العرب, ولغة العرب النظر فيها سهل بخلاف الأحكام التي مردها إلى الغيب, ولا يمكن أن تجد ما يوافق ذلك في كلام العرب باعتبار أن مرد ذلك الوحي, على هذا ينبغي أن توجد رواية أخرى في حديث آخر مردها الوحي المجرد, وهذا فيه إعواز فإنه لا يتحصل في كل باب.

على هذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين ما كان من تفسير القرآن ببيان المعاني والمترادفات، وبين ما كان من بيان أسباب النزول مما كان في أبواب الأحكام وغيرها.

الحالة الثانية في تفصيل التعامل مع المرويات في أسباب النزول: ما كان من أسباب النزول الخاصة التي دل على خصوصيتها ظاهر النص من كلام الله جل وعلا أو ظاهر النص الذي جاء في سبب النزول, فإن ذلك يشدد فيه ما لا يشدد في غيره؛ لأن هذا قد جاء على عكس القاعدة التي نزل عليها القرآن, ونزول القرآن إنما كان لعموم البشر, والرسالة عامة للناس: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[الأعراف:158] , فإذا جاءت آية مخصصة وجاء سبب النزول ببيان تخصيصها, أو جاءت آية عامة وجاء سبب النزول بتخصيصها فإنه حينئذ يشدد في ذلك؛ لأنه يلغي حكماً عاماً, وإثبات الحكم كإلغائه في أبواب الاحتياط, وأنه يشدد في ذلك ما لا يشدد في غيره.

فينبغي لطالب العلم في آيات التخصيص أن يتشدد في مرويات أسباب النزول، ويحترز في ذلك احترازاً شديداً.

الحالة الثالثة: في التعامل مع مرويات أسباب النزول: أن يفرق بين ما كان موقوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام صراحة, فما كان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة فإنه يشدد فيه وإن دخل الموقوف على قولنا في حكمه باعتبار الفارق اليسير في ذلك وهو القطع, وفيه حسم لمادة الخلاف فيمن قال: إنه ليس له حكم الرفع, ويوجد ممن قال بهذا من المتأخرين، قالوا: باعتبار أن له حكم الرفع أمر من الأمور المظنونة التي ينبغي ألا يصار إليها إلا ببينة.

وعلى هذا نقول: إن ما جاء في أسباب النزول من المرفوع فإنه يشدد فيه ما لا يشدد في الموقوف.

ومن العلل في ذلك أيضاً أن يقال: إن المرفوع الذي يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام يتضمن فيه التشديد من الاحتراز بأن نسبة الملفوظ من القول إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان حقاً كبيرة من كبائر الذنوب. وأما نسبة الأقوال لغير الناس من الأقوال الحقة فإن الأمر في ذلك يسير, ولا يقال بجوازه, بل يقال: إنه دون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلو نسبت حكمة قالها رجل من عقلاء الناس وهو لم يقلها ولكنها حق يتفاخر كل الناس بنسبة هذا القول إليه, فنقول: إن ذلك خطأ, وينبغي ألا يتعمده مؤمن, وأن ينزه نفسه عن ذلك, ولكن يختلف عن نسبة الأقوال ولو كانت حقة موافقة للأدلة التي جاءت رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشدد في المرفوع ما لا يشدد في الموقوف؛ لأنه جاء في الخبر كما في مقدمة صحيح الإمام مسلم , وجاء في سنن أبي داود، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ).

يعني: إذا كان يظن ولا يقطع بذلك، فكيف بمن نسب شيئاً وهو يقطع بذلك بوجود كذاب أو وجود إسناد فيه إعضال ونحو ذلك، فإنه ينبغي أن يحترز في نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأشد من أن ينسبه إلى غيره.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسباب النزول [1] 2197 استماع
أسباب النزول [4] 1376 استماع
أسباب النزول [2] 941 استماع