خطب ومحاضرات
الأسئلة الأخيرة
الحلقة مفرغة
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
أيها الأخ الكريم: هذه كلمة وليست محاضرة، وسوف أقوم بالحديث فيها قدر المستطاع، وعنوانها الأسئلة الأخيرة، فما المقصود بالأسئلة الأخيرة؟ وما هي؟ وهل حقاً هي الأخيرة أم أنه سوف تتلوها أسئلة؟
المقصود بالأسئلة الأخيرة -أخي الكريم- هي الأسئلة التي سوف تكون في قبرك، بل ولو كان العنوان: الأسئلة الأولى لكان أدق؛ لأنها أول الأسئلة، وأول الحساب، وأول النقاش، فاسمعني وأرع إلي انتباهك، سوف أورد عليك حديثاً واحداً يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن حال كل إنسان، فاجراً أو صالحاً، مؤمناً كان أو كافراً، سوف أورد عليك هذا الحديث فاسمعه وانتبه له، واعلم أخي الكريم أن هذا الحديث لا بد أنك سوف تمر فيه، وهذه الحال إما الحال الأولى أو الثانية إنك ملاقيها يوماً من الأيام، فاسمع وتفكر وتخيل أنك الذي يتحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً القبلة وجلسنا حوله) انظر للأدب، الموقف فظيع، والأمر جلل، وبين يديهم قبرٌ يحفر، وجنازة ينتظرونها، وبعد أيام أو سنوات كل واحد من الجلوس سوف يقدم على هذه الحال.
واسمع وأنا أتلو عليك هذا الحديث، فإنه ليس بالقول الهزل، وليس قصة نتسلى بها، وليست -أخي الكريم- أساطير الأولين أحدثها عليك، لا. أخي الكريم: إنها حقيقة سوف تقدم عليها الليلة أو غداً، ولعلك في الأيام القادمة المقبلة، فاسمع وأرع انتباهك، وتخيل نفسك يا عبد الله وأنت تمر في هاتين الحالتين.
بشارات المؤمن في قبره
يا عبد الله: تخيل منظره، تخيل رائحته، تخيل منظر هذا الكفن، بل منظر من يحمله: (وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر) أي يجلسون أمامه إلى أن يذهب آخرهم على مد البصر يا عبد الله: هذه بشارة ولعل من حوله يبكون وهو فرح، ولعل زوجته عنده تنوح وهو مستبشر، ولعل أمه تبكي وهو يطرب فرحاً بلقاء الله جل وعلا، ورؤية الملائكة البيض بشارة في الدنيا قبل دخول القبر: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه) وأنت لا تراه، أنت لا تحس به، هو موجود عنده في الغرفة، ولعله يقبض روحه وبعد قليل يأتي إلى أحد الجالسين، ولعله بعد أيام ينتظر أحد الذين يبكون، هو جالسٌ عند رأسه وأنت لا تدري ويقول: (أيتها النفس الطيبة المطمئنة) اطمأنت بم؟
اطمأنت -يا عبد الله- بالقرآن: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد:28] اطمأنت ببر الوالدين، اطمأنت بصلاة الفجر، وبالسجود والركوع، اطمأنت بذكر الله جل وعلا: (يا أيتها النفس الطيبة المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) الله أكبر! يبشر بالمغفرة، يبشر بالرضوان: (فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء) تخيل قطرة تخرج من فيّ السقاء، لو ينزل الماء فتبقى قطرة تنزل، هل تحس بالصعوبة؟ هل تحس بشقاء؟ هل تحس بألم؟ تخرج كما تسيل القطرة، بنعومة وسهولة! (حتى إذا خرجت روحه صلَّى عليه كل ملكٍ بين السماء والأرض) يصلون عليها ويدعون لها، ويستغفرون لها.
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبرٍ إلا عليه ملك راكع أو ساجد) بين السماء والأرض كل الملائكة يستغفرون لك، ويصلون عليك.
عبد الله: ليست القضية أن يصلي عليه عشرون أو ثلاثون من الناس خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً لا. كل الملائكة في السماء والأرض يصلون عليه، اسمع: (صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء) حتى ملائكة السماء يصلون عليه، فيأخذها ملك الموت: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط) الله أكبر! وضع في كفن الجنة، وفي حنوط من الجنة، فيصلي عليه ملائكة الأرض والسماء، واسمع الآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقرأ بعض الآيات، منها هذه الآية، قال الله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61].
لعل أهله يبكون، ولعلهم ينوحون، ولعلهم يحزنون، وهو في طربٍ وفي شغفٍ، وفي حب للقاء الله جل وعلا.
اسمع يا عبد الله: وضع في كفن من أكفان الجنة، وحنط من حنوط الجنة (ويخرج منها -أي من جسده- كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا) لحظات فقط، أهله لعلهم لا زالوا يغسلونه، بل لا زالوا يحاولون إخراجه من المستشفى، أو إخراج الجثة من الحادث، أو إزالة الحريق عنها، أو لربما لم يجده أحد بعد، ولم يعثر على جثته أحد، أما روحه وصلت إلى السماء الدنيا، لعله تقطع جسده في معركة من المعارك، بل لربما تقطع الجسد إرباً إرباً، وهو في الجهاد في سبيل الله، أما الروح طيبة طاهرة وصلت إلى السماء الدنيا: (فيقولون: لمن هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن اسمٍ كان ينادى به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له) الله أكبر! السماء الدنيا تفتح له، سماء عظيمة تفتح له، كرامة له (فيشيعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها) جنازة تمر في السماء، تعرف من يمر بالجنازة ومن يشيعها؟ أفضل ملائكة في السماء، وأقرب الملائكة إلى الله، يمشون خلف هذه الجنازة، من سماء إلى سماء، تستقبله ملائكة أخرى، أفضل الملائكة في كل سماء تستقبل هذه الروح لتصعد بها إلى السماء التي تليها: (حتى يؤتى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز جل: اكتبوا عبدي في عليين).. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:19-21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض) .
تخيل الروح من السماء السابعة تنزل إلى الأرض، لربما لا زالوا لم يدفنوه، ولربما دفنوه ولا زالوا لم يكملوا دفنه، بل لربما يسلم بعضهم على بعض ويعزي بعضهم بعضاً، فيقال: فلاناً توفي، رحمه الله، لقد كان صالحاً، كانت لا تفوته صلاة الفجر رحمه الله، لم يسمح لابنه بفسادٍ ولا لبنته بمنكر رحمه الله، ما أدخل التلفاز قط في حياته إلى البيت، رحم الله فلان توفي لقد مات في الجهاد في سبيل الله، لقد مات وقد صلى الفجر في جماعة الله، أكبر!
حال المؤمن مع منكرٍ ونكير
(فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ -أول سؤال، وأول اختبار، من ربك؟- فيقول: ربي الله) بكل ثبات ويقين، وبكل شجاعة يقول: ربي الله، لا يتلعثم فيها، ولا يتردد بها، ولا ينساها؛ لأنه ملأ قلبه بحب الله جل وعلا، كان يقوم لله، وينام لله، ويذكر الله جل وعلا صباح مساء، الله عز وجل أحب إليه من كل شيء، من نفسه وماله وولده والناس جميعاً، يحب الله عز جل حباً عظيماً: (من ربك؟ ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) نعم. كان يتبعه في سنته حذو القذة بالقذة، يسأل كيف صلى فيصلي مثله، كيف حج ليحج مثله، يسأل كيف صام فيصوم مثله، يسأل كيف كان يدعو، كيف كان يلبس، كيف كان يأكل، يحب اتباعه في كل شيء، فيتبعه عليه الصلاة والسلام في كل مستحب وواجب ويحبه، فإذا به يقول: (هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت) العلم هو الذي دله على هذا، علم الكتاب والسنة، علم الشرع يا عبد الله، ما كان يسمع أحاديث الناس ، ما كان في دينه يصلي لفلان وفلان، كان أول ما يبحث وأول ما يسأل عن آية من كتاب الله، أو عن حديث من أحاديث رسول الله، لهذا قال: (قرأت كتاب الله تعالى، فآمنت به وصدقت).
ثم يعاد الاختبار مرة ثانية: (فيقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فذلك حين يقول عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] -اسمع الإجابة- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -الآن النتيجة- فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره) ولعل أهله يبكون، ولعلهم يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أعينهم تدمع، ومنهم من يقول: مسكين فارق الدنيا، أنتم المساكين! لقد فرش له من الجنة، لقد ألبس من الجنة، ولما يغادر أهله المقبرة، ولما يكملوا بعضهم تعزية بعض، وقد ألبس من الجنة وفرش له من الجنة. اسمع تتمة البشارة: (قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيمٌ مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد).
هذه يومك يا من تصلي الفجر! هذا يومك يا من تعتكف في المساجد! هذا يومك يا من غضضت البصر وكففت عن الحرام! كان الناس يخوضون في الربا وكنت تصبر وتتحمل وتكتفي بالحلال، كان الناس يفعلون المنكرات وأنت تصبر عن الحرام (هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له: وأنت بشرك الله بالخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح) أنا قراءة القرآن، أنا الدعوة إلى الله، أنا قيام الليل، أنا بر الوالدين، أنا الحج، أنا العمرة: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً) نعم، قد يعصي الصالح ربه، وقد يقع في الذنب: (كل بني آدم خطاء) لكنه بطيء، لكنه يندم ولا يصر، أما في الطاعات فإنه سريع، يقوم نشطاً للصلاة، يقوم مسرعاً للنفقة، أول إنسان يأتي إلى المسجد، إذا أخبر عن مجال الدعوة إلى الله كان في المقدمة، إذا أخبر بالجهاد كان الأول، إن دعي للتصدق كان الأول، إن أمر بالصلاة يقف نشيطاً سريعاً في الطاعة، أما في المعصية يندم، ويتأخر ويقدم قدماً ويؤخر أخرى، فإن وقع في الذنب رجع وأناب واستغفر: (ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، وبابٌ إلى النار يرى منزله في النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة) يرى القصور والأنهار، يرى الجنان، ومكانه فيها يا عبد الله! وقبل يوم أو قبل ساعات كان في الدنيا معذباً، كان في الدنيا متعباً، ينصب في طاعة الله، بعد ساعات رأى منزله في الجنة.
يا عبد الله: لعلك في بعض الأحيان إن مات أحد الصالحين قلت: مسكين كان ينوي أن يفعل كذا وكذا لكنه سبقته المنية، بل لعلنا نحن المساكين، لعله رأى منزله في الجنة وأنت لا تدري: (فيقول: فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن) فينام نومة لا يستيقظ إلا على قيام الساعة، نومة خفيفة، نومة لا يحس فيها إلا بالنعيم والراحة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ على الآخرة) يعني على فراش الموت، لعل ابنته عنده تبكي، وولده يبكي، ولعله في حادث سيارة، ولعله في فراش المرض، أو لعله ساجد أو راكع، أو لعله يقرأ القرآن أو يستمع إليه، انقطع من الدنيا وبدأ يقبل على الآخرة. (نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه) مؤمن، صالح، تقي، قارئ للقرآن، داعية إلى الله، مجاهد، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، طالبٌ للعلم، بارٌ بوالديه، واصلٌ لأرحامه، اسمع: (نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة) قماش من الجنة، كفن من الجنة.
يا عبد الله: تخيل منظره، تخيل رائحته، تخيل منظر هذا الكفن، بل منظر من يحمله: (وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر) أي يجلسون أمامه إلى أن يذهب آخرهم على مد البصر يا عبد الله: هذه بشارة ولعل من حوله يبكون وهو فرح، ولعل زوجته عنده تنوح وهو مستبشر، ولعل أمه تبكي وهو يطرب فرحاً بلقاء الله جل وعلا، ورؤية الملائكة البيض بشارة في الدنيا قبل دخول القبر: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه) وأنت لا تراه، أنت لا تحس به، هو موجود عنده في الغرفة، ولعله يقبض روحه وبعد قليل يأتي إلى أحد الجالسين، ولعله بعد أيام ينتظر أحد الذين يبكون، هو جالسٌ عند رأسه وأنت لا تدري ويقول: (أيتها النفس الطيبة المطمئنة) اطمأنت بم؟
اطمأنت -يا عبد الله- بالقرآن: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد:28] اطمأنت ببر الوالدين، اطمأنت بصلاة الفجر، وبالسجود والركوع، اطمأنت بذكر الله جل وعلا: (يا أيتها النفس الطيبة المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) الله أكبر! يبشر بالمغفرة، يبشر بالرضوان: (فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء) تخيل قطرة تخرج من فيّ السقاء، لو ينزل الماء فتبقى قطرة تنزل، هل تحس بالصعوبة؟ هل تحس بشقاء؟ هل تحس بألم؟ تخرج كما تسيل القطرة، بنعومة وسهولة! (حتى إذا خرجت روحه صلَّى عليه كل ملكٍ بين السماء والأرض) يصلون عليها ويدعون لها، ويستغفرون لها.
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبرٍ إلا عليه ملك راكع أو ساجد) بين السماء والأرض كل الملائكة يستغفرون لك، ويصلون عليك.
عبد الله: ليست القضية أن يصلي عليه عشرون أو ثلاثون من الناس خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً لا. كل الملائكة في السماء والأرض يصلون عليه، اسمع: (صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء) حتى ملائكة السماء يصلون عليه، فيأخذها ملك الموت: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط) الله أكبر! وضع في كفن الجنة، وفي حنوط من الجنة، فيصلي عليه ملائكة الأرض والسماء، واسمع الآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقرأ بعض الآيات، منها هذه الآية، قال الله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61].
لعل أهله يبكون، ولعلهم ينوحون، ولعلهم يحزنون، وهو في طربٍ وفي شغفٍ، وفي حب للقاء الله جل وعلا.
اسمع يا عبد الله: وضع في كفن من أكفان الجنة، وحنط من حنوط الجنة (ويخرج منها -أي من جسده- كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا) لحظات فقط، أهله لعلهم لا زالوا يغسلونه، بل لا زالوا يحاولون إخراجه من المستشفى، أو إخراج الجثة من الحادث، أو إزالة الحريق عنها، أو لربما لم يجده أحد بعد، ولم يعثر على جثته أحد، أما روحه وصلت إلى السماء الدنيا، لعله تقطع جسده في معركة من المعارك، بل لربما تقطع الجسد إرباً إرباً، وهو في الجهاد في سبيل الله، أما الروح طيبة طاهرة وصلت إلى السماء الدنيا: (فيقولون: لمن هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن اسمٍ كان ينادى به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له) الله أكبر! السماء الدنيا تفتح له، سماء عظيمة تفتح له، كرامة له (فيشيعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها) جنازة تمر في السماء، تعرف من يمر بالجنازة ومن يشيعها؟ أفضل ملائكة في السماء، وأقرب الملائكة إلى الله، يمشون خلف هذه الجنازة، من سماء إلى سماء، تستقبله ملائكة أخرى، أفضل الملائكة في كل سماء تستقبل هذه الروح لتصعد بها إلى السماء التي تليها: (حتى يؤتى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز جل: اكتبوا عبدي في عليين).. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:19-21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض) .
تخيل الروح من السماء السابعة تنزل إلى الأرض، لربما لا زالوا لم يدفنوه، ولربما دفنوه ولا زالوا لم يكملوا دفنه، بل لربما يسلم بعضهم على بعض ويعزي بعضهم بعضاً، فيقال: فلاناً توفي، رحمه الله، لقد كان صالحاً، كانت لا تفوته صلاة الفجر رحمه الله، لم يسمح لابنه بفسادٍ ولا لبنته بمنكر رحمه الله، ما أدخل التلفاز قط في حياته إلى البيت، رحم الله فلان توفي لقد مات في الجهاد في سبيل الله، لقد مات وقد صلى الفجر في جماعة الله، أكبر!
(ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم: منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان -وبدأت الأسئلة، إنه الاختبار، إنها الفتنة العظيمة -شديدا الانتهار- ليس أي ملكين، إنهما ملكان شديدا الانتهار، إذا نهرك يا عبد الله تنسى اسمك من اسم غيرك- شديدا الانتهار فينتهرانه) يغلظان له في الكلام، نعم صالح لكنه اختبار، نعم مصلٍ لكنه اختبار، قارئ للقرآن، قائم لليل، يصوم النهار؛ لكنه اختبار وفتنة؛ ليتبين الصادق من الكاذب، يتبين قوي الإيمان من هش الإيمان.
(فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ -أول سؤال، وأول اختبار، من ربك؟- فيقول: ربي الله) بكل ثبات ويقين، وبكل شجاعة يقول: ربي الله، لا يتلعثم فيها، ولا يتردد بها، ولا ينساها؛ لأنه ملأ قلبه بحب الله جل وعلا، كان يقوم لله، وينام لله، ويذكر الله جل وعلا صباح مساء، الله عز وجل أحب إليه من كل شيء، من نفسه وماله وولده والناس جميعاً، يحب الله عز جل حباً عظيماً: (من ربك؟ ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) نعم. كان يتبعه في سنته حذو القذة بالقذة، يسأل كيف صلى فيصلي مثله، كيف حج ليحج مثله، يسأل كيف صام فيصوم مثله، يسأل كيف كان يدعو، كيف كان يلبس، كيف كان يأكل، يحب اتباعه في كل شيء، فيتبعه عليه الصلاة والسلام في كل مستحب وواجب ويحبه، فإذا به يقول: (هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت) العلم هو الذي دله على هذا، علم الكتاب والسنة، علم الشرع يا عبد الله، ما كان يسمع أحاديث الناس ، ما كان في دينه يصلي لفلان وفلان، كان أول ما يبحث وأول ما يسأل عن آية من كتاب الله، أو عن حديث من أحاديث رسول الله، لهذا قال: (قرأت كتاب الله تعالى، فآمنت به وصدقت).
ثم يعاد الاختبار مرة ثانية: (فيقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فذلك حين يقول عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] -اسمع الإجابة- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -الآن النتيجة- فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره) ولعل أهله يبكون، ولعلهم يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أعينهم تدمع، ومنهم من يقول: مسكين فارق الدنيا، أنتم المساكين! لقد فرش له من الجنة، لقد ألبس من الجنة، ولما يغادر أهله المقبرة، ولما يكملوا بعضهم تعزية بعض، وقد ألبس من الجنة وفرش له من الجنة. اسمع تتمة البشارة: (قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيمٌ مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد).
هذه يومك يا من تصلي الفجر! هذا يومك يا من تعتكف في المساجد! هذا يومك يا من غضضت البصر وكففت عن الحرام! كان الناس يخوضون في الربا وكنت تصبر وتتحمل وتكتفي بالحلال، كان الناس يفعلون المنكرات وأنت تصبر عن الحرام (هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له: وأنت بشرك الله بالخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح) أنا قراءة القرآن، أنا الدعوة إلى الله، أنا قيام الليل، أنا بر الوالدين، أنا الحج، أنا العمرة: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً) نعم، قد يعصي الصالح ربه، وقد يقع في الذنب: (كل بني آدم خطاء) لكنه بطيء، لكنه يندم ولا يصر، أما في الطاعات فإنه سريع، يقوم نشطاً للصلاة، يقوم مسرعاً للنفقة، أول إنسان يأتي إلى المسجد، إذا أخبر عن مجال الدعوة إلى الله كان في المقدمة، إذا أخبر بالجهاد كان الأول، إن دعي للتصدق كان الأول، إن أمر بالصلاة يقف نشيطاً سريعاً في الطاعة، أما في المعصية يندم، ويتأخر ويقدم قدماً ويؤخر أخرى، فإن وقع في الذنب رجع وأناب واستغفر: (ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، وبابٌ إلى النار يرى منزله في النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة) يرى القصور والأنهار، يرى الجنان، ومكانه فيها يا عبد الله! وقبل يوم أو قبل ساعات كان في الدنيا معذباً، كان في الدنيا متعباً، ينصب في طاعة الله، بعد ساعات رأى منزله في الجنة.
يا عبد الله: لعلك في بعض الأحيان إن مات أحد الصالحين قلت: مسكين كان ينوي أن يفعل كذا وكذا لكنه سبقته المنية، بل لعلنا نحن المساكين، لعله رأى منزله في الجنة وأنت لا تدري: (فيقول: فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن) فينام نومة لا يستيقظ إلا على قيام الساعة، نومة خفيفة، نومة لا يحس فيها إلا بالنعيم والراحة.
استمع المزيد من الشيخ نبيل العوضي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رسالة إلى كل من ابتلي بمس أو سحر أو عين | 2683 استماع |
فرصة للتوبة | 2630 استماع |
فصة برصيصا | 2597 استماع |
التوحيد | 2594 استماع |
قصة الفاروق الحلقة السادسة | 2528 استماع |
العبادة في رمضان | 2486 استماع |
الوقت وأهميته | 2467 استماع |
دعاة الفساد | 2460 استماع |
لنخرج العباد من عبادة العباد | 2456 استماع |
لقاء مع الشيخ المغامسي | 2437 استماع |