أصول في تفسير السلف [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

نقد المعنى

وأما ما يتعلق بقضية المعنى في تفسير السلف، فالنظر فيه يعتبر نظراً في فقه تفسير السلف، وكيف فسر السلف القرآن، وما هي الطرائق التي سلكوها في تفسير القرآن.

فأول ما يمكن أن ينظر إليه في هذا الموضوع هو طرائق السلف في التعبير عن التفسير، نذكر بعض هذه الطرائق كأمثلة لعبارات السلف في التفسير:

طريقة السلف في التعبير عن المعنى

أول طريقة وهي الطريقة المشهورة هو التعبير عن تفسير اللفظ بما يقاربه.

ونحن ارتبطنا بالألفاظ؛ لأن الأغلب مرتبط بالألفاظ، ومن تفسير الألفاظ ينتقل إلى تفسير الجمل وتفسير الآيات؛ فيلاحظ أنه في تفسير السلف أنه يفسر الألفاظ بما يقاربها، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى: أَنْ تُبْسَلَ [الأنعام:70]، بعضهم فسرها: بأن تحبس، وبعضهم فسرها: بأن ترتهن والمعنيان متقاربان، ومثل هذا كثير عند السلف وهو التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة كثيرة فقد يكون أحياناً تقارب في المعنى من جهة الألفاظ، وقد يكون أحياناً من جهة الأوصاف، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:18] فبعضهم قال: إذا كان في الليلة الثلاثة عشرة، وبعضهم قال: إذا صار بدراً، وبعضهم قال: إذا اكتمل، وبعضهم قال: إذا اجتمع، فالتعبير عن (اتسق) بهذه المعاني الأربعة هو تعبير عنه بألفاظ متقاربة في الوصف؛ لأنه لا يكون بدراً إلا في هذه الليلة فالتعبير عن (اتسق) بهذه العبارات التي ظاهرها اختلاف، هي في الحقيقة ليست اختلافاً وإنما هي من بيان معنى اللفظ بما يقاربه من المعاني أو الأوصاف، فهذا أحد طرائق التعبير عند السلف، ولا يتميزون به وحدهم، لكن هذه أحد الأشياء التي سلكوها.

قد يقول قائل: ألا يمكن أن يقال: إن هذا من باب الترادف؟ فنقول: مسألة الترادف نشير إليها إشارة سريعة فنقول: الترادف في اللغة العلماء فيه على قولين:

منهم من يرى الترادف، ومنهم من لا يرى الترادف، والذين لا يرون الترادف يرون الفروق اللغوية، وهذا المسلك أدق من جهة النقل ومن جهة العقل أيضاً، فإنه لا يتصور أن يسمى الشيء باسمين من مادتين مختلفين ويكون له نفس معاني الاسم الأول.

لكن الذين قالوا بالترادف فيما يبدو والله أعلم لا يخالف من قال بالفروق؛ لأن من قال بالترادف نظر إلى المعنى الجامع بين الألفاظ، ومن قال بالفروق نظر إلى دقائق الفروق، فمن قال بالترادف نظر إلى المعنى الجامع بين هذه الكلمتين، فمثلاً لما نقول: حجر وحصى، فالحجر والحصى يطلق على مادة واحدة، لكن تسميته حجراً غير تسميته حصى، من جهة الاشتقاق.

فمن نظر إلى الاسم الذي يسمى به بهذه الاسماء جعله مترادفاً؛ فالحصى يطلق على الحجر، ومن نظر إلى اشتقاق الألفاظ ذهب إلى الفروق، ويبدو والله أعلم أن بعض علماء اللغة الذين ذهبوا إلى الترادف ذهبوا إلى هذا المعنى، الذي يسمى عند بعض المناطقة بالأسماء المتكافئة، وهي التي أشار إليها شيخ الإسلام لما تكلم عن معاني أسماء الله سبحانه وتعالى، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها تدل على ذات واحدة، ولكن كل اسم فيه معنى غير معنى الاسم الآخر.

المقصد من هذا إنه يرد عند السلف هذه التعبيرات التي يقول بعض من يأتي بعدهم إن هذه على سبيل الترادف.

النوع الثاني من طرائق التعبير عند السلف التعبير عن اللفظ بلازمه، وكل هذا يدل على أن السلف يتجهون إلى بيان المعنى حسب الحاجة الحاضرة، وهو من فقه تفسير السلف؛ لأنه قد يسأل سائل: لماذا يتجه المفسر منهم إلى بيان لازم المعنى أو لازم اللفظ ولا يبين المدلول الأول للفظ أو المعنى.

والجواب: لأن اللازم قد يخفى بخلاف المعنى الظاهر الأول، أو قد تكون حاجة السائل لمعرفة اللازم أكثر من الحديث إلى معرفة المعنى الأول.

فالمقصد أنه قد يكون هناك سبب وقد تختلف الأسباب في كل مثال، وأخذنا مثالاً سابقاً عن ابن جريج .

في قوله تعالى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] حيث عبر عن الاستحياء هنا بأنه الاسترقاق، وهذا من لازم المعنى وليس تفسيراً للفظ، لأن ابن جريج لو ذهب إلى تفسير اللفظ لاعترض عليه؛ لأنه لا يوجد كما قال ابن جرير الطبري : لا في لغة عربية ولا عجمية، تفسير الاستحياء بمعنى الاسترقاق.

وكذلك تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119] أي: يجازيهم، فهذا أيضاً من التفسير باللازم.

والخلاصة أن التفسير باللازم كان من الطرائق التي اعتمدها السلف.

وهنا يجب أن نلحظ ملحظاً مهماً وهو أن التفسير باللازم لا يعني عدم الأخذ بظاهر المعنى ونعرف ذلك حينما ينفي المعنى الظاهر فإذا ورد عنده النفي فنعرف أنه يريد أن هذا المعنى اللازم هو المراد؛ ولهذا أخطأ بعض المتأخرين من المفسرين حين ظنوا أن تفسير السلف للنص باللازم هو تفسير للمعنى على أصله، وظن آخرون أن تفسير السلف باللازم في بعض ما يتعلق بالأسماء والصفات أو ما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد أنه من باب التأويل؛ فهؤلاء أخطأوا في فهم طريقة السلف، وأولئك أيضاً أخطأوا في فهم طريقة السلف؛ فيجب أن ننتبه إلى هذا المسلك، وأنه إذا لم يرد عن المفسر نفي للمعنى الأول الظاهر وأثبت بعده المعنى اللازم؛ فإننا لا نقول: إنه يذهب إلى أن هذا هو المعنى المراد دون غيره، ولا أنه يذهب إلى التأويل، وهذه سبقت الإشارة إليها.

ففي قوله سبحانه وتعالى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] ورد عن ابن عباس أنه قال: هذه في أهل السماوات والأرض، وهذا من باب التفسير باللازم وليس تفسيراً للاسم، ولهذا بعض المؤولة من المتصوفة لما ناقش هذا الاسم ذهب إلى التأويل واعتمد على قول ابن عباس ؛ لأن ابن عباس قد أول، فيرد عليه أن هؤلاء السلف أمرهم على الإثبات ولا يحكم عليهم بالتأويل إلا إذا ثبت نفيهم للمعنى الظاهر، فإذا ثبت نفيهم له وفسروه بهذا؛ قلنا: أولوا، والأمثلة على هذا موجودة في كتب التفسير وبعض كتب العقائد.

النوع الثالث: التعبير عن اللفظ بجزء من معناه، وهذا الطريق مشهور ومعروف عندهم؛ ولهذا تجد في بعض الألفاظ اللغوية لا يتركب المعنى فيه إلا من أجزاء، فعلى سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9]، لو أرنا أن نعبر عن المور من حيث المعنى الكلي؛ فسنجد أن المور فيه مجموعة أشياء: مور فيه حركة، وفيه اضطراب، وفيه ذهاب ومجيء، فإذا حصلت هذه المعاني الثلاثة قيل: إنه يمور، فقوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9] تجتمع فيه هذه الأوصاف المذكورة وهي جزء من معاني لكن لو رجعنا إلى السلف فنجد بعضهم قال: (مورها): تحريكها، وبعضهم قال: (مورها): اضطرابها، وبعضهم قال: (مورها): ذهابها وموجيئها، وبعضهم عبر عنها بتكفئها؛ فعندنا أكثر من تعبير من تعبيرات السلف في تفسير المور وكلها تعبيرات بجزء من المعنى وليست بكل المعنى، فإذا جمعنا كل الأقوال الواردة عنهم حصل لنا معنى المور على الحقيقة من جهة اللغة.

وهنا يجب التنبه إلى هذا بعض أهل البدع استخدموا التفسير بجزء المعنى وجعلوه هو الأصل ونفوا غيره، فقوله سبحانه وتعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ [التغابن:11]، فالمعتزلة الذين لا يرون وقوع الشر؛ لأن الله ليس فاعلاً للشر؛ قالوا في هذه الآية التي تدل على أن الله خلق هذه المصيبة، فاضطروا إلى تفسير الإذن بجزء المعنى؛ فيقولون: إلا بعلم الله، فيجعلون الإذن بمعنى العلم.

والعلاقة بين الإذن والعلم أن العلم جزء من الإذن فقصروا جزء المعنى على الأذن وهو تحكم في اللغة سببه الاعتقاد الفاسد، وسبق أن قلنا: إن الاعتقاد يؤثر على التفسير، ونحن نثبت العلم لكن ومعه الخلق والقدرة أيضاً.

فعلى سبيل المثال قول المعلم للطالب حين طرق الباب عليه: أذنت لك أن تدخل، فإذنه يعني الإباحة المعتزلة تنكر هذا المعنى؛ لكي يسلم لهم بأن الله لا يخلق الشر، لكن نقول: إنه خلقه قدراً، والمقصد من هذا أنه حينما تأتي إلى مثل هذه اللفظة تجدهم يجعلونها بمعنى العلم بسبب الاعتقاد الفاسد.

الأمثلة عن التعبير بجزء المعنى في تفسير السلف في مواطن كثيرة، ولما تجمع جميع أقوالهم تخرج بالمعنى الكامل للفظ.

وهنا فائدة في باب اللوازم:

اللازم في التفسير قد يكون أحياناً من باب لازم اللفظ المباشر، بمعنى لفظ اللغة يدل على هذا المعنى من جهة اللزوم.

وقد تكون أحياناً اللوازم سياقية، يعني من جهة السياق.

وقد تؤخذ أيضاً اللوازم عندهم من جهة ما عرف من الشريعة والوحي.

على سبيل المثال: قوله سبحانه وتعالى: وَكَأْسًا دِهَاقًا [النبأ:34]، قيل: متتابعة، وقيل: ممتلئة، وحين ننظر إلى لفظ متتابعة وممتلئة نجد أنها تفسير عن المعنى لمعنى دهاق بما يقاربه؛ وإن كانت مختلفة لأن التتابع غير الامتلاء، ولكن هذا المعنى صحيح، وهذا المعنى صحيح، وورد عن عكرمة أنه قال: وَكَأْسًا دِهَاقًا [النبأ:34] قال: صافية، فتعبيره عن دهاقاً بأنها صافية، ليس من جهة اللغة وإنما من جهة التفسير باللوازم، فلا اللفظ يدل عليه، ولا السياق أيضاً يدل عليه؛ وإنما أخذ مما عرف من الوحي عن خمر الجنة؛ فعبر عنه بهذا التعبير، وهذا أيضاً من باب التوسع في التعبير في التفسير عند السلف.

وهناك طرائق سنأخذها لاحقاً مثل: التفسير بالمثال أو غيره، نتركها لاختلاف التنوع.

مصطلحات للسلف ينبغي فهمها للمفسر

لكن من الأشياء المهمة فيما يتعلق بتعبير السلف عن التفسير وهي تدخل في معرفة مصطلحاتهم، وعندنا ثلاث قضايا سنأخذها تتعلق بالمصطلحات.

المثال الأول: في قضية القراءة التي يقرءون بها، فينبغي أن ننتبه لها؛ لأنها مرتبطة بتفسيرهم.

فالصحابة والتابعون وأتباع التابعين الواحد منهم لما يفسر لا يفسر قراءة حفص فقط؛ لأن تشكل القراءات جاء بعدهم، بل يفسر حتى القراءة التي يقرأ بها، وهذه يجب أن تلحظ وينتبه إليها، وهي محل بحث؛ فنجد مثلاً في قوله سبحانه وتعالى: "وكان له ثُمر" قراءة أهل مكة، فـمجاهد لما فسر الثمر فسرها بالمال، فلا يأتي شخص ويقول: أخطأ مجاهد ؛ لأن الثمر المعروف إنما هو ثمر الشجر والنخل، فنقول له: لا؛ لأن مجاهداً لا يفسر مادة ثمر وإنما فسر مادة ثُمر؛ ولهذا ورد عنه تفسير هذه القراءة؛ فجهل المتأخر بقراءة المفسر من السلف قد يوقعه في رد بعض المعاني؛ ولهذا تفسير لـابن حبيش لما سئل عن: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] قال: أنتم تقرءونها: (بظنين) بمعنى بمتهم ونحن نقرؤها: بِضَنِينٍ [التكوير:24] بمعنى: ببخيل، فبين الفرق بين القراءتين.

المثال الآخر فيما يتعلق بالمصطلحات:

مصطلح النسخ عند السلف، وهو مهم للغاية؛ لأنه يقع عند كثير من المتأخرين نقد عبارات السلف في هذا الباب؛ للجهل بمصطلح النسخ عند السلف، والنسخ عند السلف أوسع في المدلول من النسخ عند المتأخرين؛ فهو يشمل النسخ عند المتأخرين وزيادة فيه.

فالنسخ الذي عند المتأخرين كما هو معروف في كتب الأصول: هو رفع الحكم الشرعي بحكم شرعي آخر متراخ عنه، فهذا النسخ يمكن أن نسميه: النسخ الاصطلاحي، أو النسخ الكلي؛ لأنه يقع نسخ كلي للحكم.

أما النسخ الذي يريده السلف فيدخل فيه النسخ الكلي ويدخل فيه ما هو أعم من ذلك، وهو بمعنى رفع أي معنى من الآية، فتخصيص العام فيه رفع لجزء من المعنى فيجعلونه من باب النسخ، وتقييد المطلق الذي عند المتأخرين أيضاً يجعلونه من باب النسخ، والاستثناء أيضاً يجعلونه من باب النسخ، وقس على ذلك.

فنسخ الأخبار على مصطلح السلف جائز، لكن ليس النسخ الكلي وإنما هو النسخ الجزئي، ونبهت على هذا؛ لأن بعض المتأخرين لما رأى عبارات السلف في نسخ بعض الأخبار يقول: قاعدة: والأخبار لا تنسخ، ويعتمد على هذه القاعدة لتخطئة عبارة النسخ الواردة عن السلف، لنأخذ أمثلة على هذا:

في قوله سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، قال بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227] فقوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] هذا عموم، والعموم من باب الأخبار والقاعدة تقول: الخبر لا ينسخ، لكن ابن عباس يقول: نسخها قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227]، وهنا يقع إشكال: إما أن نقول: إن ابن عباس رضي الله عنه أخطأ؛ لأن الأخبار لا تنسخ، وإما أن نقول: إننا نحتاج إلى أن نفهم مدلول النسخ عند ابن عباس ، فأيهما أولى؟ وقد تقرر أن عبارة النسخ عند المتقدمين أوسع من عبارة النسخ عند المتأخرين؛ فإذا أخذنا معنى النسخ بمعنى: رفع جزء من معنى الآية؛ فيكون قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227]، مخصص لهذا العموم الأول؛ فصار تعبيرهم عن التخصيص بالنسخ، فجاز إذاً نسخ الأخبار على هذا الوجه.

ومثله قوله سبحانه وتعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، فلو أردنا أنا نمشي على قواعد المتأخرين في النسخ فإننا سنقول: هذا خبر والأخبار لا تنسخ، لكن ليس مراد المتقدمين النسخ الكلي، وإنما مرادهم النسخ الجزئي.

والمقصود أنه حينما ترد مثل هذه العبارات عن السلف أن ننظر أولاً إما أن يكون المعبر عنه بالنسخ خبراً وإما أن يكون حكماً فإن كان خبراً فنجزم أنهم يريدون النسخ الجزئي، المراد به عند المتأخرين بيان المجمل، أو تقييد المطلق، أو تخصيص العام أو الاستثناء.. إلى غير ذلك من الأمور التي يكون فيها الرفع الجزئي، وليس المراد به نسخ حكم شرعي.

ولا نحكم على المفسر من السلف بأنه أراد النسخ الكلي إلا إذا لم يكن هناك سبيل إلا إلى النسخ الكلي.

وهذه قاعدة في عبارة النسخ عند السلف فلهم مصطلح يجب أن يحاكموا إليه، ويتعامل معهم عليه، لا أن يحاكموا بأقوال المتأخرين، كما هو حاصل في كثير من الكتب، بل إن بعض الفضلاء من العلماء أمثال مكي وأمثال ابن الجوزي وأمثال ابن العربي الذين كتبوا في الناسخ والمنسوخ فقد تجد من بعضهم عبارات على بعض السلف أحياناً قد يكون فيها شيء من عدم فهم عبارات السلف في هذه؛ فيقعون في تخطئتهم في هذا الباب.

المصطلح الأخير: مصطلح النزول؛ لأنه يكثر التعبير بالنزول في تفسير السلف، فعباراتهم في النزول إما أن تكون: كان، كذا أو سئل عن كذا فأنزل الله، أو يقولون: نزلت في فلان، أو نزلت في كذا، أو نزلت في النفقة، أو نزلت في الجهاد، أو نزلت الدعاء، أو نزلت في عذاب القبر، فهذه العبارات لا تخرج عبارات النزول.

وأما ما يوجد في بعض كتب المعاصرين من أن الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي يقول: سبب نزول هذه الآية كذا؛ فهذا لا يوجد في تطبيقاتهم إطلاقاً التعبير بأنه سبب نزول، بل كل تعبيراتهم تدور على ما ذكر آنفاً.

ويمكن أن نستقي من عباراتهم قاعدة عندهم وهي أنه إذا ورد عندهم: فأنزل الله فهي بمعنى النزول المباشر، وإذا وردت: نزلت في كذا؛ فهي بمعنى التفسير، ويمكن القول باختصار: أن عبارة "فأنزل" و"فنزلت" التي هي بالفاء السببية لا نأخذ من العبارة أنها سبب نزول مباشر، وإنما هي قرينة قوية في أن المراد بها سبب النزول المباشر.

وعبارة "نزلت في كذا" أيضاً قرينة قوية في أن المراد بها التفسير.

فالقاعدة في هذا أن عبارات النزول عندهم ليست على باب واحد؛ حتى في فأنزل الله، أو في فنزلت التي هي بفاء التعقيب؛ لأننا لو حملناها على أنها أصل وأنه إذا قال: فأنزل الله؛ أن ذلك سبب نزول؛ فستأتي أمثلة تخرج عن هذا المعنى، وقد يقول: نزلت في كذا وتكون سبباً مباشراً خلافاً لمن قال بأنها قد تأتي للتفسير.

فقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33]، قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في المؤذنين؛ مع أن الأذان إنما كان في المدينة، والآية مكية، فنفهم من عباراتها أن المراد بهذا التفسير، وأنها تشير إلى دخول المؤذنين في معنى الآية، وقس على هذا أمثلة كثيرة جداً، ومعروف الخلاف الذي أورده شيخ الإسلام عن علماء الحديث في إدخال بعضهم صيغة " نزلت في كذا " في التفسير مثل البخاري وغيره؛ ولهذا البخاري يسند الأحاديث أو الآثار التي فيها " نزلت في "فأي أثر فيه" نزلت في "فإنك تجد أنه يسنده على أنه من شرطه؛ فيجعله من الأحاديث المرفوعة، ولو كان وارداً عن الصحابة.

وأما ما يتعلق بقضية المعنى في تفسير السلف، فالنظر فيه يعتبر نظراً في فقه تفسير السلف، وكيف فسر السلف القرآن، وما هي الطرائق التي سلكوها في تفسير القرآن.

فأول ما يمكن أن ينظر إليه في هذا الموضوع هو طرائق السلف في التعبير عن التفسير، نذكر بعض هذه الطرائق كأمثلة لعبارات السلف في التفسير:




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
أصول في تفسير السلف [1] 3732 استماع
أصول في تفسير السلف [3] 3359 استماع
أصول في تفسير السلف [2] 1928 استماع