أصول في تفسير السلف [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

هذا الموضوع سأطرح فيه مواضيع متعلقة بأصول التفسير، وهي قضايا متعددة.

أول قضية سنناقشها إن شاء الله: فيما يتعلق بمفهوم التفسير، وسأذكر الفرق بينه وبين الاستنباطات والفوائد والزيادات التفسيرية في كتب المفسرين، ثم نأخذ لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وظهور الانحراف فيه.

ثم نأخذ أيضاً أثر اعتقاد المعاني قبل معرفة التفسير، وكذلك قبل فهم تفسير السلف، وسنأخذ أيضاً قضية يمكن أن نعنون لها بتفسير السلف، وهي قضية مهمة، خصوصاً أنه في هذا العصر قد كثر التخبط في علم التفسير، وكثر الذين يجتهدون فيه اجتهادات خاطئة، ممن يكتبون في مجالات التفسير.

ثم إننا سنذكر كيفية معالجة تفسير السلف من جهة الإسناد، ومن جهة المعنى، وسنأخذ أيضاً طريق معرفة التفسير وهي ترجع في الحقيقة إلى مصادر التفسير، لكن سيكون هناك إشارة إلى بعض القضايا المرتبطة باللغة أو الرواية أو الملابسات، وسنأخذ أيضاً كيفية التعامل مع التفسيرات التي جاءت بعد تفسير السلف.

وقد نأخذ شيئاً مما يتعلق بوجوه التفسير، والاختلاف في التفسير وأسبابه، وطريقة التعامل مع هذا الاختلاف.

هذه بعض القضايا التي سنتناولها في هذه اللقاءات.

الموضوع الأول: وهو فيما يتعلق بمفهوم التفسير.

تعريف التفسير لغة واصطلاحاً

تعريف التفسير في اللغة:

أصل التفسير في اللغة مأخوذ من مادة فسر، وهذه المادة تدل على الكشف والبيان والظهور والإيضاح، ولهذا يعبر عن التفسير بأحد هذه العبارات المتقاربة، أنه كشف أو إظهار أو بيان أو إيضاح، وقد يعبر أيضاً عن التفسير بأنه شرح؛ لأنه يرتبط بالمعاني.

وإذا نظرنا إلى طريقة استخدامات العلماء لمصطلح التفسير ومصطلح الشرح، فإننا سنجد أن التفسير أصبح مصطلحاً أقرب إلى القرآن، والشرح أصبح مصطلحاً أقرب إلى السنة، وكذلك إلى شرح أشعار العرب، وإن كان قد يرد هذا مكان هذا، وهذا مكان هذا، إلا أنه صار أشبه بالمصطلح فإذا قيل: علم التفسير فإنه يتجه إلى تفسير القرآن، وأما الحديث أو أشعار العرب فغالباً ما يرتبط بها مصطلح الشرح؛ ولذا يقولون: كتب شروح الحديث، وشروح أشعار العرب.

وهذه قضية اصطلاحية، لكن كل هذه المعاني متقاربة؛ للتنبيه أو للدلالة على معنى البيان.

تعريف التفسير في الاصطلاح:

إذا نظرنا إلى تعريف التفسير كعلم مستقل، من خلال ما هو موجود عندنا من كتب علماء التفسير أو كتب علوم القرآن، فسنجد أنه تأخر تعريف علم التفسير، ولو رجعنا إلى بعض المدونات في كتب التفسير فسنجد إشارة إلى أن التفسير معروف مما يكتب، لكن تحديد وتحرير المصطلح هذه مرحلة جاءت متأخرة، فلننظر إلى هذا النقل عن ابن أبي زمنين المتوفى سنة ثلاثمائة وتسع وتسعين، حين اختصر تفسير يحيى بن سلام ، وهو يوضح سبب اختصاره يقول: (وبعد فإني قرأت كتاب يحيى بن سلام في تفسير القرآن، فوجدت فيه تكراراً كثيراً، وأحاديث ذكرها يقوم علم التفسير بدونها)، فهذه العبارة نستفيد منها أن ماهية التفسير عند ابن أبي زمنين محددة، ولم يذكر لنا ما هو علم التفسير، لكن كونه يختصر، ويخرج أشياء من كتاب يحيى بن سلام ، ويرى أن علم التفسير يقوم بدونها، فيه دلالة على أن مفهوم التفسير عنده محدد وواضح، لكنه لم يبين لنا ما هو مصطلحه في علم التفسير.

وهناك أمثلة كثيرة اخترنا بعضها، فـالرازي المتوفى سنة ستمائة وست، وقيل: أربع، يقول في ضمن كلامه عن قضية الرؤية: المسألة الثالثة: اعلم أن القاضي ذكر في تفسيره وجوهاً أخرى تدل على نفي الرؤية، وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية، ومنفصلة عن علم التفسير، وخوض في علم الأصول، ولما فعل القاضي ذلك، فنحن ننقلها ونجيب عنها، ثم نذكر لأصحابنا وجوهاً دالة على صحة الرؤية.

فماهية علم التفسير واضحة عند الرازي لأنه يقول: إن القضايا التي ذكرها القاضي، يعني القاضي عبد الجبار قضايا خارجة عن علم التفسير، ومنفصلة عن علم التفسير.

إذاً: فعلم التفسير عنده علم له ماهية، ونحن لا نناقش ما هي الماهية عند الرازي ؛ لأن الرازي اعترض عليه في تفسيره؛ كما أن ماهية علم التفسير عند الرازي واضحة عنده، إلا أن التطبيقات التي أعملها في كتابه خرجت أيضاً به عن حد التفسير كما سيأتي.

و أبو حيان أيضاً يقول: وذكروا أن الفاتحة تسمى: الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والواقية، والكافية، والشفاء، والشافية، والرقية، والكنز، والأساس، والنور، وسورة الصلاة، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التفويض.

وذكروا ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة، والكلام على هذا كله من باب التذييلات؛ لأن ذلك ليس من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم، أو سبب نزول، أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك يضطر إليه علم التفسير، ثم ذكر أيضاً كلامهم عن (آمين)، وقال: إنه خارج عن علم التفسير.

فمفهوم التفسير عند أبي حيان أيضاً محدد، وأخرج أشياء ليست من علم التفسير.

نقل آخر أيضاً لـأبي حيان نأخذه لأن فيه لـ للرازي نقداً حين تكلم عن النسخ، قال: وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبما ينسخ وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطولوا في ذلك، وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه، وهكذا جرت عادتنا أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي المعروف بـابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير.

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه من العلوم.

فكلام أبي حيان هذا يدل على أن علم التفسير علم واضح عنده له حدوده كمفهوم.

وانتقد الرازي الذي نبه على أن بعض العلوم خارجة عن علم التفسير، لكونه وقع فيما انتقده، حيث أشار إلى دخول علم بعض ما يتعلق بعلم الهيئة وعلم الفلك والنجوم في علم التفسير، وانتصر لذلك بأوجه، ولكن كل هذه الأوجه منتقدة من جهة أنها تدخل في علم التفسير، أما كونها تكون من علوم الآية فهذا شيء آخر! فيجب أن نفرق بين علم التفسير وبين علوم الآية.

هذا ما يتعلق ببعض القضايا المرتبطة بالمصطلح، وأنه كان واضحاً بالنسبة للعلماء وهم يكتبون، وإن كانت التطبيقات قد تخرج بالمفسر عن صلب التفسير.

والخلاصة أن علم التفسير: علم يفهم به كلام الله سبحانه وتعالى، واستخراج حكمه وأحكامه.

دخول الأحكام القرآنية في حد علم التفسير

وهنا مسألة: هل استخراج الحكم والأحكام يدخل في علم التفسير؟

والجواب: ليست كل الأحكام المذكورة في القرآن تدخل في التفسير، وهنا لا بد من وضع قيد؛ ليبين ما الذي يدخل من أحكام القرآن في باب التفسير وما الذي يخرج؟

فلو أراد إنسان أن يفسر آية من القرآن عموماً، فإنه لا يتكلم على طريقة كتب أحكام القرآن، فلو تكلم عن حكم شرعي مثل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فمفهوم المعنى إذا انتهينا منه، فإن تفصيلنا لأحكام العمرة هنا، كما فعل بعضهم، لا يدخل في باب التفسير بل هو استطراد؛ لأن بيان العمرة كمصطلح شرعي وبيان أحكام العمرة ليس له علاقة بالتفسير.

والضابط الذي يمكن أن نجعله قيداً للتفسير هو البيان. فالبيان المباشر لمعاني الآيات هو التفسير، فما كان خارجاً عن حد هذا البيان فهو داخل إما في علوم الآية، أو في علوم السورة، وسيأتي التنبيه عليه.

فالخلاصة: أن ما كان بياناً لشيء في الآية فإنه تفسير، بغض النظر عن المصدر الذي بين، فقد يكون البيان بآية، وقد يكون البيان بسنة نبوية، وقد يكون البيان بلغة، وقد يكون البيان بقول صحابي، وقد يكون البيان بسبب نزول، كل هذه تدخل في محيط التفسير، لكن إذا انتهى من البيان فما بعده خارج عن حد التفسير وداخل في علوم القرآن المتنوعة التي ستأتي الإشارة إليها.

وباختصار فإن علم التفسير: هو بيان معاني القرآن، وهذه أخصر عبارة يمكن أن نقولها في حد التفسير، فإذا كان حد علم التفسير هو بيان المعاني فما بعد بيان المعاني سيكون خارجاً عن هذا الحد.

وأما استخراج الحكم والأحكام فإذا كانت هذه الأحكام منصوصاً عليها مباشرة، فهذا نعتبره من التفسير، وإذا استطردنا في بيان ما يتعلق بهذا الحكم من جهة الأحكام الأخرى فهذا خارج عن حد التفسير، كما في المثال السابق: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196]، فالتفصيل في أحكام العمرة خارج عن حد التفسير.

قال السيوطي ، وقد نبه على الفرق بين هذين المعنيين: حد التفسير وحد الاستنباط في كتابه الإكليل في استنباط التنزيل.

يقول في مقدمة كتابه: (فعزمت على وضع كتاب في ذلك) يعني: في الاستنباط .. إلى أن قال: (أورد فيه كل ما استنبطه منه أو استدل به عليه من مسألة فقهية أو أصولية أو اعتقادية، وبعض مما سوى ذلك مقروناً بتفسير الآية حيث توقف فهم الاستنباط عليها).

فنلاحظ في كلام السيوطي أن هناك فرقاً بين الاستنباط والتفسير، حيث قال: إنه أحياناً قد يتوقف الاستنباط على فهم الآية فيولي التفسير الآية من أجل هذا، ففرق بين هذين العلمين: علم الاستنباط، وعلم التفسير.

ولما ذكر أبو حيان رحمه الله تعريف التفسير قال: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك، فهذا التعريف المطول شرحه أبو حيان ، ونأخذ الحيثية الأولى التي ذكرها وهي: كيفية النطق بألفاظ القرآن، حيث قال: (وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هو علم القراءة) الذي هو علم القراءات.

دخول القراءات في علم التفسير

لو سألنا الآن: هل علم القراءات من علوم التفسير أو خارج عنها؟

فالجواب: خارج عن علوم التفسير؛ لأن القراءات فيها توضيح لبعض المعاني.

وليس كل علم القراءات من علم التفسير كما أنه لا يخرج كله عن علم التفسير، ولنضرب لذلك مثالاً: قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] فـالشوكاني رحمه الله تعالى مثلاً يذكر القراءات في: قَدْ سَمِعَ [المجادلة:1]، من باب الإظهار والإدغام، وهذه ليس لها أثر في بيان المعنى بخلاف قول الله سبحانه وتعالى مثلاً: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ [التكوير:24]: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] فاختلاف القراءة له أثر في بيان المعنى.

إذاً: يمكن أن نقول: إن الوجوه المرتبطة بالأداء لا علاقة لها بعلوم التفسير إطلاقاً.

وأما الوجوه المرتبطة بالمعنى فهي داخلة في علم التفسير، فما يؤثر في المعنى من وجوه القراءة فإنه يدخل في صلب التفسير، وما يكون من باب الأداء لا يدخل في صلب التفسير؛ وبهذا نعرف أن التعليلات المعروفة للصلة في قراءة حفص في قوله تعالى: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، وأنها لشدة العذاب علة غير سليمة ولا علاقة لها بذلك، وإنما هي قضية أدائية بحتة.

دخول علوم اللغة في التفسير

ثم ذكر بعد ذلك مدلولات الألفاظ، فقال عن مدلولات الألفاظ: إنه متن علم اللغة، أي: بيان المفردات قال: الذي يحتاج إليه في هذا العلم هو بيان معاني الكلمات، فهل نحتاج إلى بيان معاني الكلمات في علم التفسير؟

فمثلاً: (بظنين) أي: بمتهم، ومعنى: بِضَنِينٍ [التكوير:24] أي: ببخيل، فهذا نحتاجه بل هذا هو أغلب علم التفسير، فأغلب علم التفسير قائم على بيان معاني المفردات، وأنه إذا تبينت معاني المفردات تبين ما بعدها من المعنى الجُملي، فهذا واضح أنه داخل في علم التفسير.

قال: (وأحكامه الإفرادية والتركيبية)، وهذا يشمل علم التصريف، والبيان والبديع، ويسمى بعلم البلاغة.

فعلم التصريف نحتاج منه ما يقوم عليه بيان معنى الكلمة لنضرب مثالاً لذلك: في قوله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2]، معنى (مستمر) قال السلف: ذاهب أو زائل، وقال بعض اللغويين: مستمر قوي، الآن نحتاج إلى علم التصريف لمعرفة الفرق بين القولين فمن قال: إن مستمر بمعنى ذاهب أو زائل، جعلها من مر يمر إذا ذهب، كأنهم يقولون: هذا سحر وسيذهب ويزول مثلما زال غيره، والذين ذهبوا إلى أن مستمر بمعنى قوي، أخذوه من أمر الحبل إذا قوى فتله، فاختلف التصريف.

والمقصد من هذا أن علم التصريف نحتاجه في بعض الكلمات، وهو مهم جداً، مثل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، العتيق قيل: المعتق من الجبابرة، وقيل: القديم، فحين ننظر أصل الكلمة فمن فسرها بالمعتق أخذه من الفعل الثلاثي: أعتق، يعتق، فهو معتق.

والذي جعلها بمعنى القديم أخذها من عَتَقَ، أو عتُق الشيء إذا صار قديماً، وأما علم البلاغة فأنا أرى أنه ما يحتاج إليه.

علم البلاغة عموماً بأنواعه الثلاثة التي استقر عليها: المعاني والبيان والبديع، خصوصاً علم البديع بالذات أكثر مسائله لا يحتاج إليها، أما علم البيان المرتبط بالتشبيه وغيره فهذا قائم على جزءين: جزء منه داخل في بيان المعنى، وجزء منه خارج عن بيان المعنى، وعلم المعاني كذلك جزء منه مرتبط ببيان المعنى وجزء منه خارج عن بيان المعنى.

فالخلاصة في علم البلاغة أن ما يقوم بيان المعنى عليه فإنه داخل في علم التفسير، وما يكون خارجاً عنه فلا يدخل في علم التفسير.

وعلى سبيل المثال: ما يتعلق بالكناية على مذهب من يقول بوجود الكناية في القرآن، أو المجاز على مذهب من يقول بوجود المجاز في القرآن فهذا جزء من علم البلاغة فهمه له أثر في التفسير، لكن الطباق، مثلاً في قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] مثلما ذكر الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى، قال: فيها محسنة طباق، فهذا لا أثر له في التفسير وفهم المعنى.

كذلك قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، فبين (الساعة) و(ساعة) جناس تام، وليس له أثر في بيان المعنى.

فالخلاصة أن أغلب علم البلاغة ليس له علاقة بعلم التفسير، وقد يقول قائل: الزمخشري أقام كتابه على علم البلاغة، بل نص على أن من لم يفهم علم البلاغة لا يستطيع أن يفسر القرآن.

فالجواب: أن علم البلاغة نحتاجه في علم مرتبط بالقرآن، وليس في علم التفسير، بل في علم مثل الإعجاز، وبيان إعجاز القرآن غير تفسير القرآن، ولهذا فـالزمخشري خلط بين الأمرين: بين علم التفسير وبين إعجاز القرآن.

فالمقصد من هذا أن ننبه إلى أن علم البلاغة لبيان الإعجاز، ولو أخذنا بهذا القيد الذي ذكره الزمخشري فإنه سيخرج عندنا كثير من المفسرين أن يكونوا مفسرين؛ لأنهم ليس عندهم علم بالبلاغة.

المقصود فهم قضية التفسير وأنها لبيان معاني القرآن، وما خرج عن حد بيان المعاني فإنه إما يكون من علوم الآية، وإما أن يكون من علوم السورة، وكلها تسمى علوم القرآن.

نأخذ أمثلة من علوم السورة، سورة الصمد، هذه السورة سميت سورة الصمد، وسميت سورة الإخلاص، وسميت سورة: (قل هو الله أحد)، فهذه معلومة، يعني: المفسر كتب في تفسيره هذه المعلومة، ثم قال: وهذه السورة لها فضائل، ثم ذكر فضائلها، منها: أنها تعدل ثلث القرآن، وأنها تقرأ في الوتر.. إلى غير ذلك من فضائل هذه السورة، فهذه المعلومات وهي كون هذه السورة من أسمائها كذا وكذا، وكون من فضائلها كذا وكذا، هذا ليس له أثر في بيان المعنى.

لكن هو من علوم السورة فذكره في التفسير؛ لأنه من علوم السورة.

مثال آخر: آية الكرسي تسمى آية الكرسي، فإذا قلت: هذه آية الكرسي، فهذه المعلومة ليس لها أثر في بيان معنى الآية. وحين أقول: رقم هذه الآية هو كذا، ليس له أثر في بيان المعنى لكنها معلومات مرتبطة بالآية.

فالمقصد هنا أن ننتبه إلى أن المفسر إذا أراد أن يكتب تفسيراً، فإنه سيحشد في تفسيره كثيراً من المعلومات، لكن لا يلزم أن تكون هذه المعلومات من التفسير، وقد نبه بعض العلماء إلى أن بعض المعلومات دخلت في كتب التفسير وليست من علم التفسير.

ولو نظرنا إلى تفسير السلف نظرة إجمالية سريعة وإلى كتب المتأخرين ثم فرزنا المعلومات فرزاً ذهنياً سريعاً فإن الأقرب إلى مصطلح التفسير الذي ذكرته آنفاً هي تفسيرات السلف؛ لأن الغالب على تفسيرات السلف النظر إلى بيان المعاني، وهناك معلومات، لكن إذا نظرنا إلى هذه المعلومات سنجد أنها أقل بكثير من المعلومات التي أدخلها المتأخرون.

فطريقة السلف أو تفسير السلف يدعم أن المراد بالتفسير هو بيان المعاني، وأن هذه الاستطرادات خارجة عن حد التفسير.

تعريف التفسير في اللغة:

أصل التفسير في اللغة مأخوذ من مادة فسر، وهذه المادة تدل على الكشف والبيان والظهور والإيضاح، ولهذا يعبر عن التفسير بأحد هذه العبارات المتقاربة، أنه كشف أو إظهار أو بيان أو إيضاح، وقد يعبر أيضاً عن التفسير بأنه شرح؛ لأنه يرتبط بالمعاني.

وإذا نظرنا إلى طريقة استخدامات العلماء لمصطلح التفسير ومصطلح الشرح، فإننا سنجد أن التفسير أصبح مصطلحاً أقرب إلى القرآن، والشرح أصبح مصطلحاً أقرب إلى السنة، وكذلك إلى شرح أشعار العرب، وإن كان قد يرد هذا مكان هذا، وهذا مكان هذا، إلا أنه صار أشبه بالمصطلح فإذا قيل: علم التفسير فإنه يتجه إلى تفسير القرآن، وأما الحديث أو أشعار العرب فغالباً ما يرتبط بها مصطلح الشرح؛ ولذا يقولون: كتب شروح الحديث، وشروح أشعار العرب.

وهذه قضية اصطلاحية، لكن كل هذه المعاني متقاربة؛ للتنبيه أو للدلالة على معنى البيان.

تعريف التفسير في الاصطلاح:

إذا نظرنا إلى تعريف التفسير كعلم مستقل، من خلال ما هو موجود عندنا من كتب علماء التفسير أو كتب علوم القرآن، فسنجد أنه تأخر تعريف علم التفسير، ولو رجعنا إلى بعض المدونات في كتب التفسير فسنجد إشارة إلى أن التفسير معروف مما يكتب، لكن تحديد وتحرير المصطلح هذه مرحلة جاءت متأخرة، فلننظر إلى هذا النقل عن ابن أبي زمنين المتوفى سنة ثلاثمائة وتسع وتسعين، حين اختصر تفسير يحيى بن سلام ، وهو يوضح سبب اختصاره يقول: (وبعد فإني قرأت كتاب يحيى بن سلام في تفسير القرآن، فوجدت فيه تكراراً كثيراً، وأحاديث ذكرها يقوم علم التفسير بدونها)، فهذه العبارة نستفيد منها أن ماهية التفسير عند ابن أبي زمنين محددة، ولم يذكر لنا ما هو علم التفسير، لكن كونه يختصر، ويخرج أشياء من كتاب يحيى بن سلام ، ويرى أن علم التفسير يقوم بدونها، فيه دلالة على أن مفهوم التفسير عنده محدد وواضح، لكنه لم يبين لنا ما هو مصطلحه في علم التفسير.

وهناك أمثلة كثيرة اخترنا بعضها، فـالرازي المتوفى سنة ستمائة وست، وقيل: أربع، يقول في ضمن كلامه عن قضية الرؤية: المسألة الثالثة: اعلم أن القاضي ذكر في تفسيره وجوهاً أخرى تدل على نفي الرؤية، وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية، ومنفصلة عن علم التفسير، وخوض في علم الأصول، ولما فعل القاضي ذلك، فنحن ننقلها ونجيب عنها، ثم نذكر لأصحابنا وجوهاً دالة على صحة الرؤية.

فماهية علم التفسير واضحة عند الرازي لأنه يقول: إن القضايا التي ذكرها القاضي، يعني القاضي عبد الجبار قضايا خارجة عن علم التفسير، ومنفصلة عن علم التفسير.

إذاً: فعلم التفسير عنده علم له ماهية، ونحن لا نناقش ما هي الماهية عند الرازي ؛ لأن الرازي اعترض عليه في تفسيره؛ كما أن ماهية علم التفسير عند الرازي واضحة عنده، إلا أن التطبيقات التي أعملها في كتابه خرجت أيضاً به عن حد التفسير كما سيأتي.

و أبو حيان أيضاً يقول: وذكروا أن الفاتحة تسمى: الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والواقية، والكافية، والشفاء، والشافية، والرقية، والكنز، والأساس، والنور، وسورة الصلاة، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التفويض.

وذكروا ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة، والكلام على هذا كله من باب التذييلات؛ لأن ذلك ليس من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم، أو سبب نزول، أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك يضطر إليه علم التفسير، ثم ذكر أيضاً كلامهم عن (آمين)، وقال: إنه خارج عن علم التفسير.

فمفهوم التفسير عند أبي حيان أيضاً محدد، وأخرج أشياء ليست من علم التفسير.

نقل آخر أيضاً لـأبي حيان نأخذه لأن فيه لـ للرازي نقداً حين تكلم عن النسخ، قال: وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبما ينسخ وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطولوا في ذلك، وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه، وهكذا جرت عادتنا أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي المعروف بـابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير.

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه من العلوم.

فكلام أبي حيان هذا يدل على أن علم التفسير علم واضح عنده له حدوده كمفهوم.

وانتقد الرازي الذي نبه على أن بعض العلوم خارجة عن علم التفسير، لكونه وقع فيما انتقده، حيث أشار إلى دخول علم بعض ما يتعلق بعلم الهيئة وعلم الفلك والنجوم في علم التفسير، وانتصر لذلك بأوجه، ولكن كل هذه الأوجه منتقدة من جهة أنها تدخل في علم التفسير، أما كونها تكون من علوم الآية فهذا شيء آخر! فيجب أن نفرق بين علم التفسير وبين علوم الآية.

هذا ما يتعلق ببعض القضايا المرتبطة بالمصطلح، وأنه كان واضحاً بالنسبة للعلماء وهم يكتبون، وإن كانت التطبيقات قد تخرج بالمفسر عن صلب التفسير.

والخلاصة أن علم التفسير: علم يفهم به كلام الله سبحانه وتعالى، واستخراج حكمه وأحكامه.

وهنا مسألة: هل استخراج الحكم والأحكام يدخل في علم التفسير؟

والجواب: ليست كل الأحكام المذكورة في القرآن تدخل في التفسير، وهنا لا بد من وضع قيد؛ ليبين ما الذي يدخل من أحكام القرآن في باب التفسير وما الذي يخرج؟

فلو أراد إنسان أن يفسر آية من القرآن عموماً، فإنه لا يتكلم على طريقة كتب أحكام القرآن، فلو تكلم عن حكم شرعي مثل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فمفهوم المعنى إذا انتهينا منه، فإن تفصيلنا لأحكام العمرة هنا، كما فعل بعضهم، لا يدخل في باب التفسير بل هو استطراد؛ لأن بيان العمرة كمصطلح شرعي وبيان أحكام العمرة ليس له علاقة بالتفسير.

والضابط الذي يمكن أن نجعله قيداً للتفسير هو البيان. فالبيان المباشر لمعاني الآيات هو التفسير، فما كان خارجاً عن حد هذا البيان فهو داخل إما في علوم الآية، أو في علوم السورة، وسيأتي التنبيه عليه.

فالخلاصة: أن ما كان بياناً لشيء في الآية فإنه تفسير، بغض النظر عن المصدر الذي بين، فقد يكون البيان بآية، وقد يكون البيان بسنة نبوية، وقد يكون البيان بلغة، وقد يكون البيان بقول صحابي، وقد يكون البيان بسبب نزول، كل هذه تدخل في محيط التفسير، لكن إذا انتهى من البيان فما بعده خارج عن حد التفسير وداخل في علوم القرآن المتنوعة التي ستأتي الإشارة إليها.

وباختصار فإن علم التفسير: هو بيان معاني القرآن، وهذه أخصر عبارة يمكن أن نقولها في حد التفسير، فإذا كان حد علم التفسير هو بيان المعاني فما بعد بيان المعاني سيكون خارجاً عن هذا الحد.

وأما استخراج الحكم والأحكام فإذا كانت هذه الأحكام منصوصاً عليها مباشرة، فهذا نعتبره من التفسير، وإذا استطردنا في بيان ما يتعلق بهذا الحكم من جهة الأحكام الأخرى فهذا خارج عن حد التفسير، كما في المثال السابق: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196]، فالتفصيل في أحكام العمرة خارج عن حد التفسير.

قال السيوطي ، وقد نبه على الفرق بين هذين المعنيين: حد التفسير وحد الاستنباط في كتابه الإكليل في استنباط التنزيل.

يقول في مقدمة كتابه: (فعزمت على وضع كتاب في ذلك) يعني: في الاستنباط .. إلى أن قال: (أورد فيه كل ما استنبطه منه أو استدل به عليه من مسألة فقهية أو أصولية أو اعتقادية، وبعض مما سوى ذلك مقروناً بتفسير الآية حيث توقف فهم الاستنباط عليها).

فنلاحظ في كلام السيوطي أن هناك فرقاً بين الاستنباط والتفسير، حيث قال: إنه أحياناً قد يتوقف الاستنباط على فهم الآية فيولي التفسير الآية من أجل هذا، ففرق بين هذين العلمين: علم الاستنباط، وعلم التفسير.

ولما ذكر أبو حيان رحمه الله تعريف التفسير قال: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك، فهذا التعريف المطول شرحه أبو حيان ، ونأخذ الحيثية الأولى التي ذكرها وهي: كيفية النطق بألفاظ القرآن، حيث قال: (وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هو علم القراءة) الذي هو علم القراءات.

لو سألنا الآن: هل علم القراءات من علوم التفسير أو خارج عنها؟

فالجواب: خارج عن علوم التفسير؛ لأن القراءات فيها توضيح لبعض المعاني.

وليس كل علم القراءات من علم التفسير كما أنه لا يخرج كله عن علم التفسير، ولنضرب لذلك مثالاً: قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] فـالشوكاني رحمه الله تعالى مثلاً يذكر القراءات في: قَدْ سَمِعَ [المجادلة:1]، من باب الإظهار والإدغام، وهذه ليس لها أثر في بيان المعنى بخلاف قول الله سبحانه وتعالى مثلاً: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ [التكوير:24]: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] فاختلاف القراءة له أثر في بيان المعنى.

إذاً: يمكن أن نقول: إن الوجوه المرتبطة بالأداء لا علاقة لها بعلوم التفسير إطلاقاً.

وأما الوجوه المرتبطة بالمعنى فهي داخلة في علم التفسير، فما يؤثر في المعنى من وجوه القراءة فإنه يدخل في صلب التفسير، وما يكون من باب الأداء لا يدخل في صلب التفسير؛ وبهذا نعرف أن التعليلات المعروفة للصلة في قراءة حفص في قوله تعالى: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، وأنها لشدة العذاب علة غير سليمة ولا علاقة لها بذلك، وإنما هي قضية أدائية بحتة.

ثم ذكر بعد ذلك مدلولات الألفاظ، فقال عن مدلولات الألفاظ: إنه متن علم اللغة، أي: بيان المفردات قال: الذي يحتاج إليه في هذا العلم هو بيان معاني الكلمات، فهل نحتاج إلى بيان معاني الكلمات في علم التفسير؟

فمثلاً: (بظنين) أي: بمتهم، ومعنى: بِضَنِينٍ [التكوير:24] أي: ببخيل، فهذا نحتاجه بل هذا هو أغلب علم التفسير، فأغلب علم التفسير قائم على بيان معاني المفردات، وأنه إذا تبينت معاني المفردات تبين ما بعدها من المعنى الجُملي، فهذا واضح أنه داخل في علم التفسير.

قال: (وأحكامه الإفرادية والتركيبية)، وهذا يشمل علم التصريف، والبيان والبديع، ويسمى بعلم البلاغة.

فعلم التصريف نحتاج منه ما يقوم عليه بيان معنى الكلمة لنضرب مثالاً لذلك: في قوله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2]، معنى (مستمر) قال السلف: ذاهب أو زائل، وقال بعض اللغويين: مستمر قوي، الآن نحتاج إلى علم التصريف لمعرفة الفرق بين القولين فمن قال: إن مستمر بمعنى ذاهب أو زائل، جعلها من مر يمر إذا ذهب، كأنهم يقولون: هذا سحر وسيذهب ويزول مثلما زال غيره، والذين ذهبوا إلى أن مستمر بمعنى قوي، أخذوه من أمر الحبل إذا قوى فتله، فاختلف التصريف.

والمقصد من هذا أن علم التصريف نحتاجه في بعض الكلمات، وهو مهم جداً، مثل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، العتيق قيل: المعتق من الجبابرة، وقيل: القديم، فحين ننظر أصل الكلمة فمن فسرها بالمعتق أخذه من الفعل الثلاثي: أعتق، يعتق، فهو معتق.

والذي جعلها بمعنى القديم أخذها من عَتَقَ، أو عتُق الشيء إذا صار قديماً، وأما علم البلاغة فأنا أرى أنه ما يحتاج إليه.

علم البلاغة عموماً بأنواعه الثلاثة التي استقر عليها: المعاني والبيان والبديع، خصوصاً علم البديع بالذات أكثر مسائله لا يحتاج إليها، أما علم البيان المرتبط بالتشبيه وغيره فهذا قائم على جزءين: جزء منه داخل في بيان المعنى، وجزء منه خارج عن بيان المعنى، وعلم المعاني كذلك جزء منه مرتبط ببيان المعنى وجزء منه خارج عن بيان المعنى.

فالخلاصة في علم البلاغة أن ما يقوم بيان المعنى عليه فإنه داخل في علم التفسير، وما يكون خارجاً عنه فلا يدخل في علم التفسير.

وعلى سبيل المثال: ما يتعلق بالكناية على مذهب من يقول بوجود الكناية في القرآن، أو المجاز على مذهب من يقول بوجود المجاز في القرآن فهذا جزء من علم البلاغة فهمه له أثر في التفسير، لكن الطباق، مثلاً في قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] مثلما ذكر الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى، قال: فيها محسنة طباق، فهذا لا أثر له في التفسير وفهم المعنى.

كذلك قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، فبين (الساعة) و(ساعة) جناس تام، وليس له أثر في بيان المعنى.

فالخلاصة أن أغلب علم البلاغة ليس له علاقة بعلم التفسير، وقد يقول قائل: الزمخشري أقام كتابه على علم البلاغة، بل نص على أن من لم يفهم علم البلاغة لا يستطيع أن يفسر القرآن.

فالجواب: أن علم البلاغة نحتاجه في علم مرتبط بالقرآن، وليس في علم التفسير، بل في علم مثل الإعجاز، وبيان إعجاز القرآن غير تفسير القرآن، ولهذا فـالزمخشري خلط بين الأمرين: بين علم التفسير وبين إعجاز القرآن.

فالمقصد من هذا أن ننبه إلى أن علم البلاغة لبيان الإعجاز، ولو أخذنا بهذا القيد الذي ذكره الزمخشري فإنه سيخرج عندنا كثير من المفسرين أن يكونوا مفسرين؛ لأنهم ليس عندهم علم بالبلاغة.

المقصود فهم قضية التفسير وأنها لبيان معاني القرآن، وما خرج عن حد بيان المعاني فإنه إما يكون من علوم الآية، وإما أن يكون من علوم السورة، وكلها تسمى علوم القرآن.

نأخذ أمثلة من علوم السورة، سورة الصمد، هذه السورة سميت سورة الصمد، وسميت سورة الإخلاص، وسميت سورة: (قل هو الله أحد)، فهذه معلومة، يعني: المفسر كتب في تفسيره هذه المعلومة، ثم قال: وهذه السورة لها فضائل، ثم ذكر فضائلها، منها: أنها تعدل ثلث القرآن، وأنها تقرأ في الوتر.. إلى غير ذلك من فضائل هذه السورة، فهذه المعلومات وهي كون هذه السورة من أسمائها كذا وكذا، وكون من فضائلها كذا وكذا، هذا ليس له أثر في بيان المعنى.

لكن هو من علوم السورة فذكره في التفسير؛ لأنه من علوم السورة.

مثال آخر: آية الكرسي تسمى آية الكرسي، فإذا قلت: هذه آية الكرسي، فهذه المعلومة ليس لها أثر في بيان معنى الآية. وحين أقول: رقم هذه الآية هو كذا، ليس له أثر في بيان المعنى لكنها معلومات مرتبطة بالآية.

فالمقصد هنا أن ننتبه إلى أن المفسر إذا أراد أن يكتب تفسيراً، فإنه سيحشد في تفسيره كثيراً من المعلومات، لكن لا يلزم أن تكون هذه المعلومات من التفسير، وقد نبه بعض العلماء إلى أن بعض المعلومات دخلت في كتب التفسير وليست من علم التفسير.

ولو نظرنا إلى تفسير السلف نظرة إجمالية سريعة وإلى كتب المتأخرين ثم فرزنا المعلومات فرزاً ذهنياً سريعاً فإن الأقرب إلى مصطلح التفسير الذي ذكرته آنفاً هي تفسيرات السلف؛ لأن الغالب على تفسيرات السلف النظر إلى بيان المعاني، وهناك معلومات، لكن إذا نظرنا إلى هذه المعلومات سنجد أنها أقل بكثير من المعلومات التي أدخلها المتأخرون.

فطريقة السلف أو تفسير السلف يدعم أن المراد بالتفسير هو بيان المعاني، وأن هذه الاستطرادات خارجة عن حد التفسير.

نأتي الآن إلى مسألة مرتبطة بمفهوم التفسير أيضاً وهي: بعض المصطلحات التي أضيفت إلى التفسير.

علاقة التفسير الإشارية بمفهوم التفسير

مصطلح التفسير الإشاري، وهل هو داخل في حد التفسير أم لا.

أولاً: نحتاج أن نعرف ما هو التفسير الإشاري، لم يذكر في علوم القرآن تعريف وهو يعني: إيراد معنى باطن خلاف المعنى الظاهر.

أي: تفسير المعاني بمعان بعيدة.

فتفسير الألفاظ مثلاً بدلالة القياس هذا نوع من الإشارة.

وعلى العموم ليس هناك تعريف واضح يمكن أن يوصف به التفسير الإشاري، وأبلغ عبارة جاءت فيه هي: ما أشارت إليه الآيات من المعاني، التي لا تكون من ظاهر الآية، أو إشارات للآيات ليست من ظاهر الآية، ويتبين التفسير الإشاري بالأمثلة.

أقسام التفسير الإشاري

والتفسير الإشاري أقسام، قسم فيه معان باطلة، وألحقت بالقرآن على أنها من باب التفسير الإشاري، فهذه مردودة؛ لأن المسألة المذكورة باطلة، فليس في هذا القسم نقاش.

وهناك بعض المعاني هي في ذاتها صحيحة، لكن ارتباطها بالآية فيه نظر، فنردها لأنها ليست مما يتعلق بالآية.

وهناك معان مذكورة لها ارتباط بالآية بوجه ما، وليست مأخوذة من ظاهر الآية، فهذا ما يسمى بالتفسير الإشاري.

ولنضرب مثالاً لذلك: قوله سبحانه وتعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، فبعض الإشاريين يقول: هذا العبد يخرب قلبه بالمعاصي، ولو نظرنا إلى سياق الآية، فإنها لم تنزل في هذا الغرض أصلاً، بل الآية نزلت في شأن بني النضير، فهو أخذ هذا الجزء من الآية وذكر هذا المعنى، وهذا المعنى الذي ذكره صحيح من حيث هو معنى، لكن دلالة الآية عليه من حيث هي آية لم تدل عليه بوجه ما، والذي جعله يربط بين هذا وبين هذا المقايسة بين المعنى الجُملي لقوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، وبين المعنى الموجود في كون العبد يخرب قلبه بالمعاصي يعني: فهذا العمل يشبه هذا العمل، لكن هذا النوع لا يدخل في حد التفسير فلا يصح أن نقول عنه: تفسير؛ لأنه ليس فيه بيان للمعنى، فالمعنى في قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2] ليس نفس المعنى الذي ذكره التفسير الإشاري، بل المعنى متبين من دون التفسير الإشاري.

وهذه قاعدة ينبغي التنبه لها وهي أن التفسير الإشاري الذي نقبله هو الذي يأتي بعد بيان المعنى في الحقيقة، وهذا ليس فيه بيان للمعنى، فما دام ليس فيه بيان للمعنى فيكون خارجاً عن حد التفسير.

والسؤال: مادام خارجاً عن حد التفسير، فهل يصح أن نقول له: التفسير الإشاري؟

على العموم هو مصطلح شائع، لكن الذي أردت أن أنبه عليه هو أنه يجب أن ننتبه للفروق الدقيقة في هذه المصطلحات، وأن التفسير الإشاري في حقيقته ليس من باب بيان المعاني، ولو أردنا أن ندخل التفسير الإشاري في باب من أبواب علوم القرآن فإنه في حقيقته نوع من الاستنباط من القرآن.

إذاً: حقيقة التفسير الإشاري هذا هو استنباطات من القرآن، بمعنى أنه عمد هذا الإشاري إلى القرآن وأراد أن يخرج شيئاً من الاستنباطات.

وليس القصد أن نخطئ التسمية، ولكن القصد أن نبين المعنى، والمصطلح كما ذكرت سائد وشائع، وأنا لا أقول: إن هذه التسمية خطأ أو صواب، لكن أبين أنه ينبغي التنبه إلى أنه وإن سمي بالتفسير الإشاري فهو في حقيقته ليس من باب التفسير.

يوجد جزء مما كتب في التفسير الإشاري اسمه من لطائف الإشارات للقشيري، وكذلك حقائق التفسير لـأبي عبد الرحمن السلمي ، وهما كتابان مطبوعان، سنجد أن هناك كلاماً لبعض المتصوفة ليس من باب التفسير حتى الإشاري، وإنما هي مجرد كلمات تعبيرية أدبية يذكرها هذا الصوفي عند هذه الآية، وهي في حقيقتها ليس لها علاقة، لا بالتفسير الإشاري ولا بالتفسير.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في كتب التفسير الإشاري، وكتب التفسير الإشاري كما قلت لها أقسام، ليس هذا محل ذكرها، وهي تحتاج إلى بحث، لكن المقصد أننا ننتبه إلى كثير مما يذكر في التفسير الإشاري وهو مجرد كلام عام حول هذه الآية، وإن كان لا يدخل لا في هذا ولا في هذا، وليس فيه استنباط ولا بيان معنى، إنما هو أشبه بالكلام الأدبي حول الآية.

علاقة التفسير الموضوعي بالتفسير

نأتي إلى مصطلح آخر أيضاً ولا نريد أن نناقش المصطلحات كلها، وإنما بعض الأمثلة:

التفسير الموضوعي: وهو على ثلاثة أقسام، وهو بحث مفردة في القرآن أو جملة في القرآن، أو بحث موضوع من خلال القرآن، أو بحث سورة أو موضوع من خلال سورة.

فالتفسير الموضوعي في الغالب بحث موضوع من خلال القرآن، مثل الملائكة في القرآن، أو الأنبياء في القرآن، أو الصلاة في القرآن.. إلى آخره من هذه العناوين، وهذه البحوث هي نوع جديد من التفسير، ومن خلال قراءتي في التفسير الموضوعي ظهر لي أنه ليس هناك بيان معان جديدة، وإنما فيه استنباطات جديدة، فهو في الحقيقة داخل في باب الاستنباط؛ لأن الذي يأتي ويجمع هذا الموضوع في القرآن يكون عنده في النهاية استخراج فوائد واستنباطات لم يسبق إليها أحياناً، أو أنه جمعها من كلام المفسرين، وليس في التفسير الموضوعي بيان معان جديدة، بل نجد بيان استنباطات وجمع للموضوع المتفرق وترتيب هذا الموضوع المتفرق.

أما بيان معان جديدة فلا نجد، وبناءً عليه وكما قلنا: إنه مصطلح اشتهر وشاع ولا مشاحة في الاصطلاح، فالتفسير الموضوعي في حقيقته ليس داخلاً في حد التفسير، وإنما في باب الاستنباط.

ومن قرأ تتضح له جلياً هذه القضية.

والمقصود أن عندنا بعض المصطلحات أو بعض ما ينسب إلى التفسير، مثل: التفسير الإشاري والتفسير الموضوعي، وهي في الحقيقة أشياء اصطلح عليها وانتشرت وشاعت، لكن يجب أن ينتبه إلى أنه لا يلزم من كونها نسبت إلى التفسير أن يكون فيها بيان معان، وإنما هي داخلة في ما بعد البيان مما يتعلق بالاستنباط.

نأتي الآن إلى: إطلاق مصطلح التفسير على بعض أسلوب الكتابة التي انتهجها المؤلف، فبعض المعاصرين تجده يسمي كتابه مثلاً في ظلال القرآن لـ السيد قطب ويقول: هذا تفسير أدبي، يضعه من باب التفسير الأدبي.

وسنناقش هذا المصطلح، أولاً من أين جاءت لفظة أدبي، ولماذا لا نقول عن تفسير ابن جرير : إنه أدبي؟ وهو في الحقيقة أدبي.

والمراد بالأدب الإنشاء، فالأدب هو الإنشاء، وهذا الكتاب تميز صاحبه بالفعل بجودة الإنشاء، فسمى كتابه بالتفسير الأدبي، ونحن نناقش هذا المصطلح، وهل هناك شيء اسمه تفسير أدبي؟ يعني: بيان المعاني بالأدب، وهل الأدب مصدر تتبين به المعاني؟

وفي الحقيقة لا يدخل في حد التفسير، لأنا لو نظرنا إلى حقيقة التفسير الأدبي وإلى أسلوب الكتابة فإننا نسميه التفسير الأدبي.

لكن لو أردنا أن ندقق في المصطلح فإننا نقول: الأسلوب الأدبي في التعبير عن التفسير، لكن لا يعني هذا أن تفسير ابن جرير الطبري ليس من التفسير، وليست عبارته أدبية، بالعكس كلام ابن جرير الطبري يعتبر من الكلام المتين والقوي جداً، ولهذا أحياناً قد يصعب على بعض المتعلمين في هذا العصر قراءة مثل هذه العبارات عن الطبري ، وليست كثيرة، لكن قد يكون فيها صعوبة؛ لأن فيها تحريراً قوياً جداً، و الطبري معروف علمه باللغة.

والمقصد من هذا أن ننتبه إلى أن مثل هذا المصطلح المعاصر يقال له: التفسير الأدبي، وهو بالنسبة إلى النظر فيه من جهة أسلوب الكتابة، وهذا لا يعني أن الأدب مصدر للتفسير.

علاقة التفسير الاجتماعي بالتفسير

مصطلح آخر يرتبط بالمعلومات التي أكثر المؤلف من الكلام عنها مثل التفسير الاجتماعي، ويمثلون له بتفسير المنار، نلاحظ نفس القضية، فعندما ينسب التفسير الاجتماعي هل يعني ذلك أن الاجتماع أثر أو مصدر يرجع إليه المفسر بحيث يسمى التفسير الاجتماعي؟

وسمي التفسير الاجتماعي لأنه غلب على المؤلف فيه البحث عن قضايا المجتمع.

علاقة التفسير اللغوي بالتفسير

وعند النظر إلى مصطلح المصدر الذي غلب على المفسر، مثلاً ما يسمى بالتفسير اللغوي، فلا يعني أنه خلا عن جميع المصادر الأخرى.

إنما المقصود أنه طغى عليه جانب اللغة، وحين نقول: التفسير اللغوي، لا يعني: أن التفسير اقتصر على اللغة.

وحين نقول: التفسير الاجتماعي لا يعني أنه مصدر في التفسير بحيث ننسب إليه، لكن حين نقول: التفسير اللغوي، فإن اللغة مصدر، فقولنا: التفسير اللغوي يصح هذا الإطلاق من هذه الجهة.

علاقة التفسير الأثري بالتفسير

كذلك أيضاً التفسير الأثري، يعني: الذي يهتم بالأثر، وهذا بناءً على أقسام التفسير، فتفسير ابن جرير الطبري اعتمد الآثار في تفسيره فالآثار تفسر القرآن.

فالتفسير الأثري له علاقة بالبيان، يتبين به المعنى، فالإطلاق هذا أسلم وأدق من الإطلاقات السابقة؛ لأن الأدب أو الاجتماع أو التفسير الموضوعي أو الإشاري ليس له علاقة بالبيان، لكن لو افتقدنا رواية السلف مثلاً، فإنه ينقص البيان، ولو افتقدنا المعاني اللغوية فإنه ينقص البيان.

إذاً: هذه وإن كانت جزءاً من التفسير إلا أن الإطلاق يكون صحيحاً حين نقول: التفسير اللغوي أو نقول: التفسير الأثري.

فهذه إشارة سريعة إلى بعض المصطلحات التي ترتبط بالتفسير.

فإذا نظرنا في هذه المصطلحات وما فيها من بيان، وجدنا أن اللغة لها علاقة بالبيان، فنقول: إطلاق التفسير اللغوي يصح، أما التفسير الأدبي فليس فيه التفسير الذي يكون بالأدب؛ لأن الأدب ليس مصدراً في التفسير، وأما التفسير الإشاري فإنه من باب الاستنباط، وليس من باب بيان المعاني، لكن غلبت واشتهرت هذه المصطلحات.