شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 15-17


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. ‏

حرمة أكل الميتة إلا ما استثناه الشارع

أيها الإخوة! حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه فيه فوائد أخرى غير الفائدتين السابقتين.

من فوائد حديث ابن عمر: أن الميتة حرام، وهذا يؤخذ بالمفهوم، لأن قوله: ( أحلت لنا ميتتان ) هو نوع من الاستثناء، يعني: حكم مستثنى، فالأصل في الميتة التحريم، فقوله رضي الله عنه: ( أحلت لنا ميتتان ) يعني: أنهما استثنيتا من تحريم الميتة، وهذا الحكم ورد بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، فتحريم الميتة ثابت بنص القرآن الكريم .

حرمة أكل الدم إلا ما استثناه الشارع

ومن فوائد حديث ابن عمر: تحريم أكل الدم، وهذا يؤخذ من قوله: (ودمان).

إذاً: قوله: (أحلت لنا ميتتان ودمان) يدل على أن الأصل في الدم التحريم، وإنما استثني ما ذكر في الحديث: الكبد والطحال، وما عداهما فهو محرم، وهذا الحكم أيضاً ثابت بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، وفي آية البقرة: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [البقرة:173] .. وغيرها من النصوص.

فالدم حرام لا يجوز أكله.

وما المقصود بالدم؟ المقصود بالدم هو الدم المعروف، ولكن ورد تقييده في القرآن الكريم بأنه الدم المسفوح: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. فالدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذبحها هو محرم أكله بالإجماع.

و أما الدم الذي يوجد في عروق ولحم الحيوان المذكى فإنه معفو عنه ليس بحرام؛ وذلك لأن الشرع جاء بالتخفيف والتيسير على العباد ؛ بخلاف شريعة أهل الكتاب من قبلنا وخاصة اليهود فإنهم كانوا يتشددون في النجاسات، حتى إنهم كانوا لا يأكلون هذا الدم الذي يوجد في اللحم والعروق، وهذا لا شك فيه حرج وأصر ومشقة، فجاء الإسلام بتخفيف هذا الأمر على الناس، فالدم المحرم هو الدم المسفوح، وما عداه فإنه ليس بحرام، وقد كان المسلمون يطبخون لحومهم ومرقهم، ويوجد فيه أثر الدم من عروق أو صفرة .. أو غيرها، ولا يمنع ذلك من أكله أو شربه إن كان مرقًا.

جواز أكل الجراد

من فوائد حديث ابن عمر رضي الله عنه في قوله: ( أحلت لنا ميتتان .. وذكر: الجراد والحوت )، يؤخذ منها جواز أكل الجراد، وهذا ورد فيه أيضاً حديث صحيح، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: ( غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ست أو سبع غزاوت، فكنا نأكل معه الجراد )، فهذا الشاهد قوله: (فكنا نأكل معه الجراد)، وهو دليل على حل أكل الجراد؛ حيث كان الصحابة يأكلونه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، فعلم أنه جائز ومباح.

جواز أكل ميتة البحر

ومن فوائد الحديث: حل ميتة البحر من الحوت وغيره.

والحديث نص في الحوت: (فأما الميتتان فالجراد والحوت)، لكن من أين يؤخذ غير الحوت؟ من الحديث الذي مضى، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، فهذا مطلق في ميتات البحر كلها من الحوت وغيره.

وميتة البحر حلال، لكن ما المقصود بميتة البحر، هل المقصود ما ماتت في البحر ثم طفت فيه، أو المقصود التي تموت بمفارقتها البحر؟

الراجح: أن المقصود الأمران، يعني: سواء ماتت في البحر فطفت فيه فهي حلال، أو ألقى بها البحر خارجه فماتت فهي أيضاً حلال، ولم يرد في النص تفريق بين هذه وتلك، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور .. وكثير من أهل العلم: أنهم لا يفرقون بين ما مات في البحر وبين ما ألقاه البحر خارجه فمات بمفارقته.

والحديث يشهد لهذا المعنى، ومثله الحديث السابق: ( الحل ميتته ).

وقد روى الطبري في تفسيره والدارقطني في سننه والبيهقي .. وغيرهم [ عن أبي بكر وأبي أيوب وابن عباس رضي الله عنهم بأسانيد صححها أهل العلم: أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [المائدة:96] أنهم قالوا: إن صيد البحر ما صيد فيه، وطعامه ما مات فيه ].

فـ الصيد: هو ما صاده الإنسان في البحر، وأما الطعام فهو ما مات في البحر من ميتة البحر -من حيوانات البحر-، فطفا على ظهر الماء، ففسر هؤلاء الصحابة الأجلاء -ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس - طعام البحر بأنه ما مات فيه، وقد صح هذا عن جمع من الصحابة.

قصة السرية التي أكلت من حوت العنبر ودلالتها على جواز أكل ميتة البحر

ومما يشهد لصحة هذا المعنى: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن جابر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثمائة من المهاجرين وغيرهم في سرية، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، قال: فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يزودهم إلا شيئًا من تمر، فكان أبو عبيدة يعطيهم تمرة تمرة -صرف لهم يومياً تمرة واحدة-. فقال أحد الرواة لـجابر : وما تنفع التمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فقدناها، فكان الواحد منهم يضعها في فمه فيمصها كما يمص الصبي الثدي -وكانت هذه السرية وهي مشهورة عند أهل السير بسرية الخبط؛ لأنهم لما جاعوا كانوا يضربون الخبط أو يضربون الشجر، وهو شجر في الحجاز معروف يسمى شجر السلم يضربونه فيتساقط ورقه اليابس، وهو يسمى خبطاً، فيضعونه في الماء فيبلونه فيأكلونه ويتقوون به- قال جابر رضي الله عنه: فقام رجل فنحر ثلاث جزائر -وهذا الرجل هو قيس بن سعد رضي الله عنه- ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، كلما احتاجوا نحر، حتى نهاه أبو عبيدة رضي الله عنه -ولعله نهاه خوفاً من قلة الظهر مع المسلمين، يعني: من قلة ما يركبون- قال: فتراءى لنا على جانب البحر حوت عظيم كالكثيب أو كالضرب، يعني: مرتفع ارتفاعاً يرى من بعيد، قال: فلما أتيناه، قال أبو عبيدة رضي الله عنه: هذا ميتة، ثم قال: نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، فنحن مضطرون فكلوا فأكلوا منه، فكانوا يقطعون منه اللحم كالفدر العظيمة -يعني: القطعة من اللحم كالثور العظيم من هذا الحوت-، ويأخذون من دهنه حتى رجعت إليهم حالهم، وكانوا يدهنون بودكه حتى قووا وصحوا، ثم أمر أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر من الصحابة فنزلوا في قحف عينه -نزلوا في حجاج عينه، يعني: نقرة العين لهذا الحوت نزل فيها ثلاثة عشر رجلاً- وكانوا يغترفون الدهن بالقلال منه، ثم أمر أبو عبيدة رضي الله عنه بضلع أو ضلعين من أضلاعه -قال بعض الرواة: بضليع يعني: من أصغر أضلاعه- فنصبه، ثم أمر بأعظم بعير فرحل، وركب عليه أعظم وأطول رجل في السرية، ثم مر من تحت هذا الضلع فلم يصبه، فحملوا من لحمه وشائق إلى المدينة، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه؟ فقال: هذا رزق ساقه الله إليكم، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأعطوه صلى الله عليه وسلم من لحمه فأكل منه ).

والقصة في البخاري ومسلم .. وغيرهما، فهي قصة صحيحة ثابتة، وهي عجب من العجب، وهذا الحوت يسمى العنبر، ويوجد في العصر الحاضر ما يشبهه، فهو أمر وإن كان عجيباً إلا أنه معروف في البحر.

فهذه القصة تدل على جواز أكل ميتة البحر وإن ماتت فيه؛ لأن مثل هذا الحوت العظيم لو كان حياً لكان مكانه ثبج البحر ووسطه، وإنما اقترب من ضحل البحر ومن طرفه؛ لأنه مات في البحر -والله أعلم-.

وحتى على فرض أن هذا الحوت يمكن أن يكون في طرف البحر، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يتساءلوا أو ينظروا: هل مات في البحر أو مات بخروجه؟ وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسألهم: هل مات في البحر أو مات بعد خروجه من البحر؟ فدل هذا على عدم التفصيل؛ ولذلك قال علماء الأصول: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، وهذه من القواعد الأصولية، يعني: عدم الاستفصال في أمر يحتمل أكثر من وجه يدل على أن الحكم واحد في الحالين، فكونه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يستفصل: هل مات الحوت في البحر أم مات خارجه بمفارقة الماء، دل على أن الحكم واحد سواء مات في البحر أو مات خارجه.

ولـابن القيم كلام طيب مفيد جداً في هذه المسألة في الجزء الثالث من كتاب زاد المعاد في صفحة (392 وما بعدها) حقق فيه القول بجواز أكل ميتة البحر في الحالين.

والسبب في إطالته في هذه المسألة رحمه الله؛ لأنه ورد في حديث ضعيف رواه أبو داود عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن أكل ما طفا على البحر )، والحديث ضعيف، فيه عبد العزيز بن عبيد الله ضعفه الدارقطني وغيره، فلا يصح ولا يقاوم الأحاديث الصحيحة السابقة .

هذه بعض الفوائد من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أو من أثره: ( أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال ).

ليس كل محرم نجساً ولا كل نجس محرماً عند الضرورة

وهاهنا مسألة وهي: هل النجاسة ملازمة للتحريم، أو هل التحريم ملازم للنجاسة؟

خلاصة الجواب على هذه المسألة: أن كل نجس فهو محرم إلا في حالة الضرورة، ولا عكس: فليس كل محرم بنجس، فأنت تجد -مثلاً- أن الذهب والفضة محرما الاستعمال والأكل والشرب فيهما، مع أنهما ليسا بنجسين بالاتفاق، وكذلك السم أكله حرام ومع ذلك فليس بنجس، والخمر ذهب بعض أهل العلم كـالليث بن سعد والأوزاعي وربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك .. وغيره إلى طهارتها مع أنها محرمة بالاتفاق، فكل نجس فهو محرم ولا عكس، فليس كل محرم بنجس، فقد يكون محرماً لنجاسته، وقد يكون محرماً لسبب آخر غير النجاسة.

أيها الإخوة! حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه فيه فوائد أخرى غير الفائدتين السابقتين.

من فوائد حديث ابن عمر: أن الميتة حرام، وهذا يؤخذ بالمفهوم، لأن قوله: ( أحلت لنا ميتتان ) هو نوع من الاستثناء، يعني: حكم مستثنى، فالأصل في الميتة التحريم، فقوله رضي الله عنه: ( أحلت لنا ميتتان ) يعني: أنهما استثنيتا من تحريم الميتة، وهذا الحكم ورد بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، فتحريم الميتة ثابت بنص القرآن الكريم .

ومن فوائد حديث ابن عمر: تحريم أكل الدم، وهذا يؤخذ من قوله: (ودمان).

إذاً: قوله: (أحلت لنا ميتتان ودمان) يدل على أن الأصل في الدم التحريم، وإنما استثني ما ذكر في الحديث: الكبد والطحال، وما عداهما فهو محرم، وهذا الحكم أيضاً ثابت بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، وفي آية البقرة: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [البقرة:173] .. وغيرها من النصوص.

فالدم حرام لا يجوز أكله.

وما المقصود بالدم؟ المقصود بالدم هو الدم المعروف، ولكن ورد تقييده في القرآن الكريم بأنه الدم المسفوح: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. فالدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذبحها هو محرم أكله بالإجماع.

و أما الدم الذي يوجد في عروق ولحم الحيوان المذكى فإنه معفو عنه ليس بحرام؛ وذلك لأن الشرع جاء بالتخفيف والتيسير على العباد ؛ بخلاف شريعة أهل الكتاب من قبلنا وخاصة اليهود فإنهم كانوا يتشددون في النجاسات، حتى إنهم كانوا لا يأكلون هذا الدم الذي يوجد في اللحم والعروق، وهذا لا شك فيه حرج وأصر ومشقة، فجاء الإسلام بتخفيف هذا الأمر على الناس، فالدم المحرم هو الدم المسفوح، وما عداه فإنه ليس بحرام، وقد كان المسلمون يطبخون لحومهم ومرقهم، ويوجد فيه أثر الدم من عروق أو صفرة .. أو غيرها، ولا يمنع ذلك من أكله أو شربه إن كان مرقًا.