حسن الخلق


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فحسن الخلق مما يقرب العبد من الله تعالى، ويثقل موازينه يوم القيامة، وفي هذا الدرس تقرأ أهمية حسن الخلق، ونماذج من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتقرأ كيف تتحلى بالأخلاق الفاضلة.

موضوع الأدب في كتب السنة

أيها الإخوة! إن موضوع الأخلاق في الإسلام موضوع يبدأ ولا ينتهي، فهو موضوع طويل، ويكفي أن نلقي نظرة على الآيات الواردة في شأن الأخلاق، لنجد أنها تمثل جانباً كبيراً من القرآن الكريم، أو نلقي نظرة على الأحاديث النبوية التي حث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق، أو أمر فيها بخلق معين لنجد أنه ما من كتاب من كتب السنة إلا وتجد فيه باباً خاصاً بعنوان (باب الأدب) أو ما أشبه ذلك؛ يذكر فيه هؤلاء الأئمة المصنفون بعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأخلاق، بل إنك تجد كتباً كثيرة خُصصت لهذا الموضوع.

على سبيل المثال: ألف الإمام البيهقي كتاب الآداب، وألف الإمام السفاريني كتاب غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وألف غيره من الأدباء والمتأخرين كتباً كثيرة خاصة في هذا الموضوع.

اختصار موضوع الأدب

لذلك فإنني أجدني مضطراً إلى أن أختصر هذا الموضوع، والاختصار دائماً له سلبيات منها:

أنه قد لا يأتي على بعض القضايا المهمة التي ينتظرها المستمع لمثل هذا الموضوع، فأقول أولاً: إن هدف الرسالات السماوية هو التزكية، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يدعو الله عز وجل يدعوه أن يبعث في ذريته رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وقد أجاب الله دعوته عليه الصلاة والسلام فبعث في الأميين هذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى في حقه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].

وامتن سبحانه وتعالى علينا جميعاً ببعثة هذا النبي المختار عليه الصلاة والسلام فقال: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151].

أيها الإخوة! إن موضوع الأخلاق في الإسلام موضوع يبدأ ولا ينتهي، فهو موضوع طويل، ويكفي أن نلقي نظرة على الآيات الواردة في شأن الأخلاق، لنجد أنها تمثل جانباً كبيراً من القرآن الكريم، أو نلقي نظرة على الأحاديث النبوية التي حث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق، أو أمر فيها بخلق معين لنجد أنه ما من كتاب من كتب السنة إلا وتجد فيه باباً خاصاً بعنوان (باب الأدب) أو ما أشبه ذلك؛ يذكر فيه هؤلاء الأئمة المصنفون بعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأخلاق، بل إنك تجد كتباً كثيرة خُصصت لهذا الموضوع.

على سبيل المثال: ألف الإمام البيهقي كتاب الآداب، وألف الإمام السفاريني كتاب غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وألف غيره من الأدباء والمتأخرين كتباً كثيرة خاصة في هذا الموضوع.

لذلك فإنني أجدني مضطراً إلى أن أختصر هذا الموضوع، والاختصار دائماً له سلبيات منها:

أنه قد لا يأتي على بعض القضايا المهمة التي ينتظرها المستمع لمثل هذا الموضوع، فأقول أولاً: إن هدف الرسالات السماوية هو التزكية، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يدعو الله عز وجل يدعوه أن يبعث في ذريته رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وقد أجاب الله دعوته عليه الصلاة والسلام فبعث في الأميين هذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى في حقه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].

وامتن سبحانه وتعالى علينا جميعاً ببعثة هذا النبي المختار عليه الصلاة والسلام فقال: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151].

وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بالهدف من بعثته، وحدده تحديداً واضحاً بقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} والحديث صحيح الإسناد، وقد رواه مالك في الموطأ بلاغاً بلفظ: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} وهذه هي الصيغة المشهورة على ألسنة الناس: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}.

والحديث وإن كان رواه مالك باللفظ الأخير بلاغاً أي: أن مالكاً قال: بلغني؛ فإسناده عند مالك منقطع إلا أن الإمام ابن عبد البر قال: وهو متصل من طرق صحاح عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحين يحدد الرسول عليه الصلاة والسلام هدف البعثة بهدف واحد: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} ليس المعنى بطبيعة الحال أن الإسلام فقط بعث لإقامة الأخلاق بين الناس، إذ أن المتبادر من معنى كلمة الأخلاق بين الناس هو المعاملة فيما بينهم، فالمقصود بالحديث أحد أمرين: إما أن يكون هذا خرج مخرج التأكيد على أهمية الأخلاق كما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: { الحج عرفة } أي أن الوقوف بـعرفة من أركان الحج، ولا يتم الحج إلا بها، وإما أن يكون المقصود بالأخلاق معنى أشمل مما هو متعارف عليه بين الناس، فيكون معنى الأخلاق يعني معاملة العبد مع ربه، ثم معاملته مع نفسه، ثم معاملته مع الخلق، أي: معاملته مع الحق، ومعاملته مع الخلق، وبهذا المعنى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث فعلاً إلا لتقويم أخلاق الناس مع ربهم أولاً: اعتقاداً، وعبادة، ثم مع الخلق ثانياً، وهذا المعنى الثاني أقرب وأليق وأنسب، وهو معنى صحيح كما لاحظتم.

إن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد للرسول صلى الله عليه وسلم مهمته في التزكية، وحدد هو نفسه صلى الله عليه وسلم مهمته بتتميم صالح الأخلاق؛ ننظر ماذا كان هديه في الأخلاق قولاً وعملاً، لا شك أن ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر شيء مهم، ويكفي أن أشير إلى بعض الأحاديث القولية بجانب هديه العملي في الحث على الخلق الحسن.

روى عنه أبو الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما من شيء أثقل في ميزان العبد من خلق حسن، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء} والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروى الترمذي أيضاً وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج} والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً أحلت إليها فيما سبق فلا داعي للإطالة بسرد شيء منها.

من هديه العملي

أما هديه العملي فيكفي أن تراجع سيرته، وتنظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الناس كلهم، كيف كان يعامل أزواجه، وكيف كان يعامل أقاربه، وكيف كان يعامل أصحابه، وكيف كان يعامل أعداءه أيضاً، وإذا كان لا بد من سرد نماذج من هديه العملي صلى الله عليه وسلم، فلنقف قليلاً عند بعض المواقف التي لا تمثل إلا شيئاً يسيراً، منها: ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدان من رجل مالاً، فجاء الرجل يتقاضى من النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلظ له القول، فهمَّ به أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً} وكان إذا استلف من أحد شيئاً أضعف له في الوفاء، ودعا له، وقال: { إنما جزاء السلف الجزاء والحمد }.

حتى أن يهودياً استدان منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن حبان وأبو الشيخ وغيرهما واسم هذا اليهودي زيد بن سعنة فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحل الأجل، وقال: يا محمد أوفِ بحقي، فإنكم يا بني عبد المطلب قومٌ مطلٌ -أي: أهل مطل، تماطلون في دفع الدين وسداده- فقام إليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فهموا به فنهاهم أيضاً، وورد أنه قال لـعمر: {كنت وإياه أحوج إلى غير هذا منك، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالرفق} أو كما قال صلى الله عليه سلم فقال هذا اليهودي: ما من علامة من علامات النبوة أُثرت إلا وجربتها وبلوتها فوجدتها فيك، إلا ما ورد عن هذا النبي الخاتم أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد جربتها فيك الآن؛ فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وهذا الحديث قال فيه ابن حجر في الإصابة رجاله موثقون إلا أنه ذكر اختلافاً في أحدهم، وللحديث شاهدٌ آخر.

وذكر أبو الشيخ في كتاب الأمثال " { أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عليه الصلاة والسلام -وكان جزل العطية يعطي الوادي من الإبل أو من الغنم، ويعطي البدرة من الذهب أو من الفضة، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم- فأعطى هذا الأعرابي، ثم قال له: هل رضيت؟ هل أحسنا إليك؟ قال: لا، ما أحسنت، ولا أجملت.

وكان في حضرة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم -ومن المعلوم- مكانته عندهم عليه الصلاة والسلام وشدة تقديرهم له فغضبوا، وهموا بالأعرابي فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه، ثم انفرد به فأعطاه، فقال: هل رضيت؟ قال: لا، ثم أعطاه الثانية، فقال: هل رضيت؟ قال: لا! ثم أعطاه الثالثة، قال: رضيت؟ قال: نعم! فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال: إن في نفوس أصحابي شيئاً فلو أخبرتهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لهم: إن هذا الأعرابي أعطيناه فزعم أنه رضي، أفكذلك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام مؤدباً معلماً لأصحابه: إنما مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فجعل الناس يتبعونها، فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي -لأنه كلما تبعها الناس أسرعت وأمعنت في الهرب، والرجل أخبر بناقته- فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي، فجعل يجمع لها من قمام الأرض حتى ردها إليه هوناً هوناً، حتى لانت واستقامت، وإنكم لو قتلتم هذا الرجل حين قال ما قال لدخل النار}".

فهذه نماذج موجزة قصيرة في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس، وفي حسن خلقه معهم.

وبإمكان أي فرد منا أن يرجع إلى الكتب المصنفة في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ككتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للإمام الترمذي، وكتاب الشمائل المحمدية لـابن كثير، وكتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي الشيخ، والجزء الأول من كتاب زاد المعاد، وغيره من كتب السيرة النبوية ليجد أمثلة كثيرةً جداً بهذا الباب، وليس هذا بغريب، فقد وصفه الله تبارك وتعالى بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

تزكية الله لنبيه

فما بالك بمن وصفه ربه بهذه الصفة، وأكدها بـ(إن) وباللام: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وجاءت (خلق) منكَّرة للتعظيم، ثم زاد أن وصف هذا الخلق بأنه عظيم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وهكذا روى مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام أنه سأل عائشة: ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: { أما تقرأ القرآن؟! كان خلقه القرآن، ثم قرأت قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] } كان خلقه القرآن يحرم ما حرم، ويحل ما أحل، ويأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، ويؤمن به، ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم، فليس بغريب أن تحدث منه هذه الأعمال العظام التي هي أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو سرٌ من أسرار اختياره.

انظر إلى قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو أحد كبار علماء اليهود في المدينة، ولكنه كان رجلاً منصفاً باحثاً عن الحق، فلما سمع بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: { ذهبت إليه فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب } -والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، أي: أنه قرأ على محيا النبي صلى الله عليه وسلم آيات الصدق والبر والوفاء فسمعته يقول: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} والشاهد قوله: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

انظر الحادثة الأخرى المعبرة التي رواها النسائي وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين فتح مكة أهدر دم مجموعة من القرشيين الذين كانوا يعلنون العداء للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام، ويسبونه صلى الله عليه وسلم ويغدرون به، وكان منهم عبد الله بن أبي السّرح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وجد هؤلاء القوم أن يقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وكان عبد الله هذا أخاً لـعثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فجاء به عثمان خلف ظهره، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستأمنه، فوقف بين يديه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لهذا الرجل، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منه الأمان ثانية، وثالثة، فأمنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {ألا رجل فيكم قام حين رآني سكت فقتله فقالوا: يا رسول الله هلاّ أومأت إلينا -أي: لو أشرت مجرد إشارة ولو بعينك لابتدره أي واحدٍ منا فأجهز عليه، فورد أن النبي صلى الله عليه قال: ما ينبغي لنبيٍ أن يكون له خائنةُ الأعين} يعني: حتى الإشارة بالعين يتجنبها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فظاهره وباطنه سواء، فلا يستعمل أساليب اللف والدوران، وطرق الساسة في الاحتيال والتأويل، وما وقع المسلمون -في هذا العصر ومنذ عصور- من كثرة التأويل في الاعتقاد، والأقوال، والأعمال، والمواقف، بل هو واضح كل الوضوح صلى الله عليه وسلم في مواقفه بحيث لا يجد أعداؤه عليه مطعنة.

لذلك لما بعث تحير القرشيون ماذا يقولون فيه، لأنهم لا يجدون أي ثغرة يمكن أن يتسللوا من خلالها، فيطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الناس كلهم الذين يعرفونه يشهدون بصدقه، وعدالته، وكرمه، وجوده وحسن خلقه، حتى كان يعرف في الجاهلية بالأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا جانب من هديه القولي والفعلي صلى الله عليه وسلم في مجال الأخلاق، وهكذا أرشد أمته صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأخلاق، وحذرهم من سفاسفها.

أما هديه العملي فيكفي أن تراجع سيرته، وتنظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الناس كلهم، كيف كان يعامل أزواجه، وكيف كان يعامل أقاربه، وكيف كان يعامل أصحابه، وكيف كان يعامل أعداءه أيضاً، وإذا كان لا بد من سرد نماذج من هديه العملي صلى الله عليه وسلم، فلنقف قليلاً عند بعض المواقف التي لا تمثل إلا شيئاً يسيراً، منها: ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدان من رجل مالاً، فجاء الرجل يتقاضى من النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلظ له القول، فهمَّ به أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً} وكان إذا استلف من أحد شيئاً أضعف له في الوفاء، ودعا له، وقال: { إنما جزاء السلف الجزاء والحمد }.

حتى أن يهودياً استدان منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن حبان وأبو الشيخ وغيرهما واسم هذا اليهودي زيد بن سعنة فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحل الأجل، وقال: يا محمد أوفِ بحقي، فإنكم يا بني عبد المطلب قومٌ مطلٌ -أي: أهل مطل، تماطلون في دفع الدين وسداده- فقام إليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فهموا به فنهاهم أيضاً، وورد أنه قال لـعمر: {كنت وإياه أحوج إلى غير هذا منك، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالرفق} أو كما قال صلى الله عليه سلم فقال هذا اليهودي: ما من علامة من علامات النبوة أُثرت إلا وجربتها وبلوتها فوجدتها فيك، إلا ما ورد عن هذا النبي الخاتم أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد جربتها فيك الآن؛ فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وهذا الحديث قال فيه ابن حجر في الإصابة رجاله موثقون إلا أنه ذكر اختلافاً في أحدهم، وللحديث شاهدٌ آخر.

وذكر أبو الشيخ في كتاب الأمثال " { أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عليه الصلاة والسلام -وكان جزل العطية يعطي الوادي من الإبل أو من الغنم، ويعطي البدرة من الذهب أو من الفضة، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم- فأعطى هذا الأعرابي، ثم قال له: هل رضيت؟ هل أحسنا إليك؟ قال: لا، ما أحسنت، ولا أجملت.

وكان في حضرة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم -ومن المعلوم- مكانته عندهم عليه الصلاة والسلام وشدة تقديرهم له فغضبوا، وهموا بالأعرابي فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه، ثم انفرد به فأعطاه، فقال: هل رضيت؟ قال: لا، ثم أعطاه الثانية، فقال: هل رضيت؟ قال: لا! ثم أعطاه الثالثة، قال: رضيت؟ قال: نعم! فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال: إن في نفوس أصحابي شيئاً فلو أخبرتهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لهم: إن هذا الأعرابي أعطيناه فزعم أنه رضي، أفكذلك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام مؤدباً معلماً لأصحابه: إنما مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فجعل الناس يتبعونها، فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي -لأنه كلما تبعها الناس أسرعت وأمعنت في الهرب، والرجل أخبر بناقته- فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي، فجعل يجمع لها من قمام الأرض حتى ردها إليه هوناً هوناً، حتى لانت واستقامت، وإنكم لو قتلتم هذا الرجل حين قال ما قال لدخل النار}".

فهذه نماذج موجزة قصيرة في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس، وفي حسن خلقه معهم.

وبإمكان أي فرد منا أن يرجع إلى الكتب المصنفة في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ككتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للإمام الترمذي، وكتاب الشمائل المحمدية لـابن كثير، وكتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي الشيخ، والجزء الأول من كتاب زاد المعاد، وغيره من كتب السيرة النبوية ليجد أمثلة كثيرةً جداً بهذا الباب، وليس هذا بغريب، فقد وصفه الله تبارك وتعالى بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

فما بالك بمن وصفه ربه بهذه الصفة، وأكدها بـ(إن) وباللام: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وجاءت (خلق) منكَّرة للتعظيم، ثم زاد أن وصف هذا الخلق بأنه عظيم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وهكذا روى مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام أنه سأل عائشة: ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: { أما تقرأ القرآن؟! كان خلقه القرآن، ثم قرأت قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] } كان خلقه القرآن يحرم ما حرم، ويحل ما أحل، ويأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، ويؤمن به، ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم، فليس بغريب أن تحدث منه هذه الأعمال العظام التي هي أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو سرٌ من أسرار اختياره.

انظر إلى قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو أحد كبار علماء اليهود في المدينة، ولكنه كان رجلاً منصفاً باحثاً عن الحق، فلما سمع بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: { ذهبت إليه فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب } -والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، أي: أنه قرأ على محيا النبي صلى الله عليه وسلم آيات الصدق والبر والوفاء فسمعته يقول: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} والشاهد قوله: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

انظر الحادثة الأخرى المعبرة التي رواها النسائي وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين فتح مكة أهدر دم مجموعة من القرشيين الذين كانوا يعلنون العداء للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام، ويسبونه صلى الله عليه وسلم ويغدرون به، وكان منهم عبد الله بن أبي السّرح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وجد هؤلاء القوم أن يقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وكان عبد الله هذا أخاً لـعثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فجاء به عثمان خلف ظهره، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستأمنه، فوقف بين يديه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لهذا الرجل، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منه الأمان ثانية، وثالثة، فأمنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {ألا رجل فيكم قام حين رآني سكت فقتله فقالوا: يا رسول الله هلاّ أومأت إلينا -أي: لو أشرت مجرد إشارة ولو بعينك لابتدره أي واحدٍ منا فأجهز عليه، فورد أن النبي صلى الله عليه قال: ما ينبغي لنبيٍ أن يكون له خائنةُ الأعين} يعني: حتى الإشارة بالعين يتجنبها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فظاهره وباطنه سواء، فلا يستعمل أساليب اللف والدوران، وطرق الساسة في الاحتيال والتأويل، وما وقع المسلمون -في هذا العصر ومنذ عصور- من كثرة التأويل في الاعتقاد، والأقوال، والأعمال، والمواقف، بل هو واضح كل الوضوح صلى الله عليه وسلم في مواقفه بحيث لا يجد أعداؤه عليه مطعنة.

لذلك لما بعث تحير القرشيون ماذا يقولون فيه، لأنهم لا يجدون أي ثغرة يمكن أن يتسللوا من خلالها، فيطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الناس كلهم الذين يعرفونه يشهدون بصدقه، وعدالته، وكرمه، وجوده وحسن خلقه، حتى كان يعرف في الجاهلية بالأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا جانب من هديه القولي والفعلي صلى الله عليه وسلم في مجال الأخلاق، وهكذا أرشد أمته صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأخلاق، وحذرهم من سفاسفها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع