من روائع تطبيق السلف لحديث النصيحة
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
من روائع تطبيق السلف لحديث النصيحةالصحابيُّ الجليل جرير بن عبدالله البجَليّ - رضى الله عنه - راوي حديث البيعة على النصيحة، روى الطبرانيُّ في ترجمته أنَّ غلامه اشترى له فرسًا بثلاثمائة؛ فلمَّا رآه قدَّر أنَّه يُساوي أكثر من ذلك، فجاء إلى صاحب الفرس، فقال: إنَّ فرسكَ خير من ثلاثمائة.
فلم يزل يزيده مائة بعد أخرى حتى أعطاه به ثمانمائة.
وعلى هذا الدرب الإمام القدوة الحجة يونس بن عبيدٍ الذي قال عنه هشام بن حسان: ما رأيتُ أحدًا يطلُب بالعلم وجه الله إلا يونس بن عبيد.
وله مواقِفُ يقرؤها المرء فيقف مشدوهًا، وكلُّها تطبيقٌ عمليٌّ فريدٌ للنُّصح لعباد الله.
وكان يونس - خزَّازًا، وذات يومٍ جاء رجلٌ شاميٌّ إلى سوق الخزَّازين، فوقف على يونس، فقال: عندك مُطْرَفٌ[1] بأربع مئة؟ فقال يونس بن عبيد: عندنا بمئتين.
فنادى المنادي: الصلاة.
فانطلق يونس إلى بني قشير ليُصلِّيَ بهم، فجاء وقد باع ابن اخته الـمُطرف من الشاميِّ بأربع مئة، فقال: ما هذه الدراهم؟ قال: ثمن ذاك المطرف، فقال: يا عبدالله هذا المطرف الذي عرضته عليك بمئتي درهم، فإن شئت فخذه وخذ مئتين، وإن شئت فدعْهُ[2].
وجاءت إليه امرأةٌ بجُبَّةِ خَزٍّ تعرضها للبيع، فقال: بكم؟ قالت بخمس مائة.
قال: هي خيرٌ من ذلك.
قالت: بست مائة.
قال: هي خير من ذلك.
فلم يزل حتى بلغت ألفًا.
وكان يشتري الإبْرِيسَم من البصرة، فيبعث إلى وكيله بالسُّوس، وكان وكيله يبعث إليه بالخزِّ، فإنْ كتب وكيله إليه: إنَّ المتاع عندهم زائد، لم يشتر منهم أبدًا حتى يُخبرهم أنَّ وكيله كتب إليه أنَّ المتاع عندهم زائد!
وجاءته امرأةٌ بمُطرف خّزٍّ فقال لها: بكم؟ قالت: بستين درهمًا.
فألقاه إلى جاره، فقال: كيف تراه؟ قال: بعشرين ومائة.
قال: أرى ذاك ثمنه، أو نحوًا من ثمنه.
فقال لها: اذهبي، فاستأمري أهلكِ في بيعه بخمس وعشرين ومائة.
قالت: قد أمروني أن أبيعه بستين.
قال: ارجعي فاستأمريهم[3]!
وجاء إلى صاحبِ غنمٍ بشاةٍ يبيعها، فقال: بعها[4]، وابرأ من أنها تقلب العلف، وتنزع الوتد، فبيَّنَ قبل أن يقع البيعُ.
ونشر يونس مرةً ثوبًا ليبيعه لرجُلٍ فسبَّح رجلٌ من جُلساء يونس، فقال: ارفعْ؛ أما وجدتَ موضع التسبيحِ إلا هنا؟!
وأحسبه إنَّما فعل ذلك، لئلَّا يغترَّ الـمُشتري بتسبيح جليس يونس إعجابًا، فيكون يونس قد دلَّس عليه بنوعِ تدليسٍ!
قال النضر بن شُمَيل: غلا الخزُّ في موضعٍ كان إذا غلا هناك غلا بالبصرة، وكان يونس بن عبيد خزَّازًا، فعلِم بذلك، فاشترى من رجُلٍ متاعًا بثلاثين ألفًا، فلمَّا كان بعد ذلك؛ قال لصاحبه: هل كنتَ علمتَ أنَّ المتاع غلا بأرض كذا وكذا؟ قال: لا؛ ولو علمتُ لم أبِعْ.
قال: هلمَّ إليَّ مالي، وخذ مالك.
فردَّ عليه الثلاثين الألف.[5]
وأمَّا ابن المبارك، وما أدراك ما ابن المبارك، قال ابن مهدي: ما رأت عينايَ أفضلَ من أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشُّفًا من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك[6].
كان ابن المبارك إمامًا مبرِّزًا في فنونٍ شتَّى، وكان عالـمًا عاملًا مجاهدًا زاهدًا مُنفقًا بكَّاءً، ضرب في كلِّ علم بسهامٍ وافرة، فجزاه الله عن المسلمين خيرًا.
فمن تلطُّفه في النصيحة - هذا الموقف الناضحُ بالنُّصح، فعن حمدون ابن أبي الطُوسيّ قال: سمعتُ عبدالله بن المبارك يقول: قدمت الشام على الأوزاعيِّ، فرأيتُه ببيروت، فقال لي: يا خراسانيُّ؛ مَن هذا المبتدع الذي خرج بالكوفةِ يُكنَّى أبا حنيفة؟ قال: فرجعتُ إلى بيتي، فأقبلتُ على كتب أبي حنيفة، فأخرجتُ منها مسائل من جياد المسائل، وبقيتُ في ذلك ثلاثة أيام، فجئتُ يوم الثالث وهو مؤذِّن مسجدهم وإمامهم - يعني الأوزاعيَّ - والكتاب في يدي، فقال: أيُّ شيء هذا الكتاب؟ فناولتُه، فنظر في مسألة منها وقَّعْتُ عليها: قال النعمان.
فما زال قائمًا بعد ما أذَّن حتى قرأ صدرًا من الكتاب، ثم وضع الكتابَ في كُمِّه، ثم أقام وصلَّى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: يا خراسانيُّ؛ مَنْ النعمان بن ثابت هذا؟ قلتُ: شيخٌ لقيته بالعراق.
فقال: هذا نبيل من المشايخ.
اذهبْ فاستكثر منه.
قلتُ: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه![7]
وزاد في غيره: ثمَّ لما اجتمع بأبي حنيفة بمكة، جاراه في تلك المسائل، فكشفها أبو حنيفة له بأكثر مما كتبها ابن المبارك عنه.
فلما افترقا قال الأوزاعيُّ لابن المبارك: غبطتُ الرجل بكثرة علمه ووقور عقله، وأستغفر الله تعالى، لقد كنت في غلط ظاهر، الزم الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه.
فانظر أوَّلًا إلى تلطُّف ابن المباركِ في النُّصح، وانظر ثانيًا إلى إنصاف الأوزاعيِّ - ورجوعه إلى الحقِّ لـما اتَّضح له.
ومِن طريف تلطُّف ابن المبارك - أنَّ رجلًا عطس عنده، فلم يحمد الله، فقال له ابن المبارك: أيش يقول الرجل إذا عطس؟ فقال: الحمد لله.
فقال ابن المبارك: يرحمك الله[8].
وهذا الإمام أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري - يقول: "إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول دمًا"!
وهذا عليُّ بن جابر الإشبيلي كان من أهل الصلاح والصيانة والنُّصح للإسلام والمسلمين وكان إمامًا مُقرئًا، يؤم الناس بمسجد العدبَّس، وبلغ من نُصحه للإسلام أنَّه تُوفِّيَ كمدًا بعد استيلاء الروم على البلد هاله نُطق الناقوس وخرس الأذان فما زال يتأسَّف ويضطرب ألمًا لذلك إلى أن قضى نحبه رحمه الله![9]
ومن بليغ نصيحة الأديب أبي محمد بن قتيبة الدينوريِّ لبعض السلاطين: "وقد تحمَّلتُ في هذا الكتاب بعض العتب، وخالفتُ ما أعلمُ؛ إذ عرضتُ بالرأي ولم أُستشَرْ، وأحللتُ نفسي محلَّ الخواصّ ولم أُحَلَّ، ونزعَتْ بي النفسُ حين جاشت وضاقت بما تسمع عن طريق الصواب لهم إلى طريق الصواب لك، وحين رأيتُ لسانَ عدوّك منبسطًا بما يدّعيه عليك وسهامه نافذة، ورأيت وليَّك معكومًا عن الاحتجاج[10]؛ إذ لا يجد العذرَ، ورأيت عوامّ الناس يخوضون بضروب الأقاويل في أمركَ، ولا شيءَ أضرّ على السلطان في حال ولا أنفع في حال منهم، وبما يجريه اللّه على ألسنتهم تسير الركبان، وتبقى الأخبار ويخلد الذكر على الدهر وتشرف الأعقاب، وظاهر الخبر عندهم أعدل من شهادة العدول الثقات"[11]
وفي فصلٍ منه: "وسائسُ الناس ومدبر أمورهم يحتاج إلى سعة الصدر، واستشعار الصبر، واحتمال سوء أدب العامّة، وإفهام الجاهل، وإرضاء المحكوم عليه والممنوع مما يسأل بتعريفه من أين مُنِع، والناس لا يجمعون على الرضا إذا جمع لهم كل أسباب الرضا؛ فكيف إذا منعوا بعضهم؟! ولا يعذرون بالعذر الواضح فكيف بالعذر الملتبس؟! وأخوك من صَدَقَكَ وارتَمَضَ[12] لك، لا من تَابَعَكَ على هواكَ، ثم غاب عنك بغير ما أحضركَ"[13].
استشار زياد بن عبيد اللّه الحارثي عبيد اللّه بن عمر في أخيه أبي بكر أن يوليه القضاء، فأشار عليه به، فبعث إلى أبي بكر فامتنع عليه، فبعث زياد إلى عبيد اللّه يستعين به على أبي بكر، فقال أبو بكر لعبيد اللّه: أنشدك باللّه أترى لي أن آلي القضاء؟ قال: اللهم لا.
قال زياد: سبحان اللّه! استشرتك فأشرت عليّ به ثم أسمعك تنهاه! قال: أيها الأمير استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته.[14]
وقال ابن الجوزيّ يومًا في وعظه للخليفة: "يا أمير المؤمنين؛ إن تكلَّمتُ خِفتُ منك، وإن سكتُّ خِفتُ عليك، وأنا أُقدِّم خوفي عليك على خوفي منك، فقولُ الناصحِ: "اتِّق الله" خيرٌ من قول القائل: أنت أهل بيتٍ مغفورٌ لكم".
وعن ذي النُّون المصريّ أنَّه قال: "كان العلماء يتواعظون بثلاثٍ يكتبُ بعضهم إلى بعض: مَن أحسنَ سريرته أحسن الله علانيته، ومَن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومَن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه".
قال الإمام الذهبي - في ترجمة الحافظ عبدالرحمن بن أبي حاتم: "وقال أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي سمعت أبا بكر محمد بن مَهْرَوَيْهِ الرازيَّ سمعتُ عليَّ بن الحسين بن الجنيد سمعت يحيى بن معين يقول: إنَّا لنطعنُ على أقوامٍ لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتين سنة...
قال ابن مهرويه فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية.
قلتُ (الذهبيّ): أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله والذَّب عن السنة"[15].
[1] المـُطرف بالميم المثلثة، والأصل فيها الضم، ولكن كسروا الميم ليكون أخفَّ، والفتحة جائزة.
وهو ثوب مربَّعٌ من خزٍّ له أعلام.
انظر: لسان العرب؛ مادة (ط ر ف).
[2] سير أعلام النبلاء (5/165).
[3] قد يُقال: لِمَ أصرَّ يونس بن عُبيد - على أن تستأمر الجاريةُ أهلها، والجواب - والله أعلم - أنَّه خشيَ أن يُغريَ فارقُ الثمنِ الفتاةَ بأن تختلس منه شيئًا، فيكون قد أعان عليها الشيطانَ ويكونُ قد أضاع على أهلها بعض ما كان يستطيعُ حفظه، وفي هذا غايةُ النُّصح للفتاة وأهلها، وفيه وجهٌ ثان: أنّهم إذا رأوا ما باعت به الفتاةُ فقد يظنُّون أن السوق قد نَفَقَتْ وأنَّ التاجرَ لم يُعطها فيه عِدلًا مُعتمدًا على رواجِ البضائع، فيحملهم اعتقادهم على التحقُّق، فيكون في تحقُّقهم دفعٌ للظِّنة عن البائع الذي أرسلها لتستأمرهم وهو يونس، وفيه وجهٌ ثالثٌ هو عندي أرجحُ من الوجه السابق: أنَّه خَشِي على الفتاة أن تعودَ لهم بأكثرَ من ضعفيْ ما ارتضوا في ثوبهم، فيظنُّون بها السوء من حيث إنَّها – في زعمهم - كانت تدَّعي أنها تُعطى في نظيره قبل ذلك ستين درهمًا، بدليلِ أنهم أمروها أن تبيعه بستين، فيظنون أنها كانت تختلس الفارق فيعود عليها ذلك بالمضرَّة، ويكون حالها كحال شَوْلةَ التي يُضربُ بها المثل فيقال: (أنصح من شولة)، فإنها كانت خادمة في دار من دور الكوفة تُرسل في كل يوم لتشتري بدرهمٍ سمنًا فبينا هي ذاهبة إلى السوق إذ وجدت درهمًا فأضافته إلى الدرهم الذي معها، واشترت بهما سمنًا وردّته إلى مواليها فضربوها، وقالوا :كنتِ في كلِّ يومٍ تأخذين هذا المقدار من السمن، فتسرقين نصفه! فضُرِب بها المثل فقيل: شولة الناصحة، وقيل: أنصحُ من شولة.
انظر: الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة (2/406).
ويكونُ يونس بن عُبيد على أيِّ وجهٍ مما ذُكر قد أوفى النَّصيحةَ بما لا مزيد عليه: للفتاة ولأهلها ولنفسه.
والله أعلم.
[4] بِعها: اشترها.
والفعل: (باع) من الأضداد.
يقال: (بعتُ الشيءَ): اشتريتُه وبعتُه.
ويقال: اشتريتُ الشيء: اشتريته وبعتُه.
[5] انظر هذه المآثر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (5/165-170)
[6] سير أعلام النبلاء (6/214).
[7] تاريخ بغداد (13/338).
[8] سير أعلام النبلاء (6/211).
[9] معرفة القراء الكبار (2/647).
[10] يعني: لا يجد حُجَّةً يدافع بها عن إمامه ومولاه حين يرى انبساط الألسنة فيه بالقدح والذَّم، ذلك أنَّ ما يقولون حقٌّ في ظاهره.
[11] عيون الأخبار (1/83).
[12] ارتَمَضَ لك: يقال: رَمَضْتُ النَّصل والسكين رَمْضًا إذا جعلته بين حجرين ثم دققتَه ليرقَّ، والرميض: الحادُّ الماضي، ويكون المعنى: أخوكَ ما مَنَعَك من الجَوْرِ ولو بأنْ يُحِدَّ لك النَّصل، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: انصر أخاك ظالمـًا.
[13] عيون الأخبار (1/83-84).
[14] انظر عيون الأخبار (1/84).
[15] سير أعلام النبلاء (8/482).