أسئلة من أمريكا


الحلقة مفرغة

السؤال: كيف نواجه المشكلات القائمة بين بعض المسلمين، بسبب [الخلافات الفقهية] أو ببعض [المفاهيم المكتسبة] مما تؤدي -أحياناً- إلى تبادل التهم بالتشدد أو العكس أو غير ذلك؟

وكذلك هذا يؤثر على المسلمين الجدد الداخلين في الإسلام سواءً من الغرب أم من غيرهم؟

الجواب: الخلاف الفقهي -يا أخي- يمكن أن يقسم إلى قسمين أيضاً:-

القسم الأول: خلاف مبني على اجتهاد في الدليل الشرعي: فهذا مثل الخلاف الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وسلف الأمة، وكذلك الخلاف القائم بين المذاهب الفقهية الإسلامية المعروفة، المذاهب الأربعة وغيرها، والخلاف المبني على الاجتهاد في الدليل، مثل: اختلافهم في مسائل الطهارة، والصلاة، والزكاة وفي غيرها، بناءً على وجود أدلة شرعية لكل واحد منهم قد يفهمها بوجهٍ آخر، أو الدليل يصح عند هذا ولا يصح عند هذا، فمثل هذا الخلاف إذا اجتهد الإنسان وسعه إلى الوصول إلى الحق وتحري الصواب، فإنه إن شاء الله على خير -أصاب أم أخطأ- فهو إن شاء الله مأجور ومعذور.

القسم الثاني: الخلاف المبني على مجرد التقليد، كأن هذا يقلد شخصاً، وهذا يقلد شخصاً آخر، فلا شك أن الأصل أنه مذموم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3] والواجب على المسلم المستطيع أن يتحرى في معرفة الأحكام الشرعية، فإن كان فقيهاً وعالماً تحرى في الأدلة والنظر في الأدلة، والتصحيح والتضعيف والاستنباط، وإن لم يكن كذلك فإنه يتحرى في اختيار القول الذي يأخذ به من الأقوال الفقهية، فلا يأخذ أقوال إنسان مهما كان أصاب أو أخطأ، وسواء أوجد معه دليل أم لم يجد معه دليل، بل على أقل تقدير أن يسأله عن دليله، ويحاول أن يتفهم هذا الدليل بقدر المستطاع.

وحتى إذا وصل الأمر إلى أن يقلده دون أن يفهم دليله، فهذا المستوى من التقليد لا يبيح له أبداً أن ينتقد الآخرين الذين خالفوه، أي لو فرضنا أن قلنا: إن التقليد ضرورة بالنسبة لفلان من الناس -مثلاً- لأنه لا يستطع إلا التقليد، فبهذه الحالة لا يتعدى الأمر أن هذا المقلد يطالب الآخرين -أيضاً- أن يقلدوا من يقلد، وأن ينتقد الذين يخالفونه في المسلك، أو في الاجتهاد، أو الذين ينظرون في الأدلة، وأيضاً ينبغي أن يكون ذلك كله بعيداً عن التراشق بالتهم والسباب والشتام وغير ذلك، وترديد العبارات التي نسمعها كثيراً من الدوائر الأجنبية، أو من الأجهزة المعادية للإسلام، أن هذا متشدد وهذا غير متشدد، وهذا معتدل وهذا غير معتدل؛ لأن هذا نوع من التمزيق للمسلمين.

والأخذ بالدليل والنص الشرعي والتحري فيه لا يمكن أن يوصف بأنه تشدد بحال من الأحوال، وربما يكون من أسباب المشكلة هذه في الغالب: ضعف العلم الشرعي وضعف الدعاة القائمين به، وعدم وجود مؤسسات علمية -جامعات مثلاً، أومعاهد- تسعى إلى تعليم المسلمين العلم الشرعي المبني على أصول شرعية، على فهم القرآن وعلى فهم الحديث، وعلى إدراك الأصول الفقهية والقواعد وغير ذلك، فهذه مشكلة موجودة حتى في البلاد الإسلامية نفسها، والجامعات الإسلامية، فضلاً عن البلاد الغربية، والله المستعان

السؤال: ما ضابط خروج المرأة المسلمة في المجتمعات الكافرة -مثلاً- للدراسة أو الذهاب للأسواق وغير ذلك؟

الجواب: أولاً: خروج المرأة للحاجة، فتخرج لحاجتها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لأزواجه: {قد أُذن ليكن لتخرجن لحوائجكن} فينبغي للمرأة أن يكون خروجها من البيت إذا احتاجت إلى ذلك.

ثانياً: ثم خروجها ينبغي أن يكون مضبوطاً -أيضاً- بما لا يثير الفتنة، مثلاً: لا تتطيب لخروجها، ولا تتبرج بزينة غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن تتطيب المرأة إذا أرادت أن تخرج حتى إلى المسجد للعبادة، فقال:{يخرجن وهن تفلات} يعني غير متطيبات ولا متزينات؛ لأن خروجها بالزينة والطيب، مدعاة للفتنة والإثارة.

ثالثاً: وكذلك ينبغي أن تتجنب أماكن الرجال ووجودهم وازدحامهم، بقدر المستطاع، فلا تفتن ولا تفتتن.

والضابط العام في هذا كله: هو درء الفتنة، درء الفتنة عن المرأة نفسها لئلا تفتن نفسها بالآخرين، ودرء الفتنة عن الآخرين لئلا تفتنهم بنفسها، كأن ينظروا إليها أو يظنوا بها سوءاً، أو يضايقوها بأمور ليست مناسبة، ونحن الآن نجد في المجتمعات الغربية، على الرغم من أن هذه المجتمعات أصبح وجود المرأة فيها عادياً معتاداً بين الرجال، وأصبحت المناظر يراها الناس صباحاً ومساءً، في السوق وفي أجهزة الإعلام، وهذا يقلل -بلا شك- من التأثر بها، ومع ذلك تجد أن هناك أرقاماً عالية جداً لمضايقات النساء في دوائر العمل، أو حتى ابتزازهن من قبل القائمين على العمل، من قبل رؤسائهن ومن قبل زملائهن في العمل، حتى في الدوائر العسكرية التي تعد ذات طابع جدي وصارم، فربما أنكم تسمعون وتعرفون أنه حتى في الدوائر العسكرية وجود المرأة أصبح مدعاة لتحرش الرجال بها على نطاق واسع.

والإسلام حينما وضع للمرأة شروطاً وضوابط؛ من أجل حفظ المرأة عن مثل هذه الأشياء، ومن أجل أن الرجل يكف نفسه، فلا يجد الشيء الذي يستمتع به إلا في البيت، وهذا يعطيه قوة في حسن التعامل مع أهله والعناية بهم والاهتمام، بخلاف ما إذا كان هذا الشيء مباحاً متاحاً له في كل مكان، فإنه لن يجد في بيته أي شيء آخر يعد جديداً في نظره.

فعلى كل حال المجتمعات التي فيها قدر كبير من التسيب الأخلاقي والانفتاح، واختلاط الرجال بالنساء، يجب على المرأة أن تحرص قدر المستطاع أن تبتعد عن ذلك، وأن يكون خروجها للحاجة وهي غير متطيبة ولا متزينة ولا متبرجة، وحينما تحتاج إلى محادثة الرجال فعليها أن تتمثل قول الله تعالى، في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] فتتكلم بكلام ليس فيه خضوع، ولا تكسُّر ولا إغراء بفتنة، ولا همس يدعو إلى الشك والإثارة، بل بكلام واضح محدد في الموضوع الذي تحتاج إليه، هذا أهم ما يحضرني الآن من الضوابط.

السؤال: نجد من إخواننا المسلمين من يخالف بعض أحكام الشريعة، التي قام الدليل على ثبوتها، بناءً على أن هذه أحكام لا تتمشى مع العقل والذوق، وكأنهم يجعلون العقل حاكماً على النص، فما نصيحتكم لهؤلاء؟ وما المجالات التي يعمل فيها العقل، ويجب ألا يتخطاها؟

الجواب: ينبغي أن نعلم أولاً: أنه لا يمكن أن يوجد تعارض حقيقي بين العقل والنص، هذا لا يمكن أن يوجد بحال من الأحوال، لأن منـزل النص هو خالق العقل سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] فليس بين ما خلق الله تعالى وهو العقل، وكذلك الكون، وبين ما أنـزل الله تعالى وهو (الوحي) ليس بينهما أي تضارب أو تعارض، بل هما يسيران على سنن الوثاق والوئام دائماً، لكن هذه القضية المجملة يجب أن يؤمن بها المؤمن، ولو لم يستطع أن يطبق كل تفاصيلها؛ لأن الإنسان قد يكون عقله -مثلاً- ناقصاً، فلا يستطيع أن يدرك مغزى النص، وقد يكون فهمه للشرع ناقصاً، فلا يستطيع أن يوفق بينه وبين العقل في مسألة معينة، إنما عليه أن يؤمن بهذه القاعدة الكلية إيماناً مطلقاً، لا يقبل الشك، ثم يجتهد في تطبيقها على تفاصيل الأحكام والأحوال والمسائل، ولذلك من الخطأ الكبير اشتعال خصومة بين العقل وبين النقل الشرعي، ومن الخطأ أن يتحدث المسلمون عن فلان أنه مثلاً فلان العقلاني، وكأن العقل منقصة ينبغي التبرأ منها، أو إن فلاناً نصوصي، وكأن ذلك تنقص له، يعني: أنه يهتم بالنصوص ويلغي دور العقل.

والأصل أن العقل والنص يسيران جنباً إلى جنب، فالنص -مثلاً- لا يمكن أن يفهم إلا بالعقل، وكلما كان الإنسان أكبر وأوسع عقلاً كان أقدر على فهم النصوص، وأقدر على استيعابها وأقدر على إدراك مغازيها، وأقدر على التوفيق بينها.

إذاً فالعقل هو الذي يفهم به النص، ويدرك به وتستنبط به الأحكام من مصادرها وأصولها، وكذلك العقل له مجال رحب بتطبيق النص على واقع الحياة، وتنـزيل الأحكام الشرعية على مواضعها، وله دور كبير في استكشاف آفاق المجهول في الحياة، وفي معرفة السنن والنواميس، وفي معرفة النتائج من مقدماتها إلى غير ذلك من المجالات الواسعة.

أما المجالات التعبدية، والمجالات الاعتقادية المحضة، فهذه دور العقل أن يفهمها وأن يحتج لها، وليس دوره أن يشطب عليها أو يعترض أو يردها أو ينكرها، ولو أننا أفضينا بالعقل إلى هذا لكررنا الأخطاء التي وقع فيها بعض المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية، في فترة مضت، حينما أنهكوا العقل في التعرف على أسماء الله وصفاته، من حيث التكييف ومن حيث الإثبات والنفي إلى غير ذلك، فأضاعوا جهودهم في غير طائل، بل أضاعوا جهودهم في أمر عاد على المسلمين بشيء كبير من الضرر، انهماك في قضايا غيبية لا مجال للعقل في إدراكها، وانشغال العقل عن مجالاته الطبيعية في أمور الحياة التي يمكن أن يثمر فيها، أو حتى في معرفة الجوانب الشرعية التي تعرف بالعقل فعلاً، كما أكدت نماذج من ذلك.

الجانب الثاني: نقول فيما يتعلق بالنصوص الشرعية: وجود من قد يجهل نصاً، ليس غريباً في هذا العصر أن يوجد من تخفى عليه بعض الأحكام أو كثيراً من الأحكام، فعلينا أن نحرص قدر المستطاع على الصبر على من يكون هذا شأنه، وأن لا نواجه هؤلاء بكثير من التسخط والانـزعاج؛ لأن هذا الزمان (زمان غربة الدين) فالجاهل فيه ليس غريباً، فالغريب فيه أن يوجد العلم، خاصة في المناطق البعيدة والنائية والبلاد التي طال عهد المسلمين فيها بالجهل، وبَعُدَ عهدهم بالنص والعلم والشرع.

ولاشك أن هذا هو زمان الغربة، وأننا ينبغي أن نصبر على المسلمين، وألا نستغرب أن يجهلوا بعض أحكام الدين، فلا يدعونا هذا -مثلاً- إلى رميهم، أو إلى التسخط عليهم، أو اتهامهم، بل ينبغي أن نحلم عليهم وندرك أن هذا جزء من مدلول الحديث النبوي، الذي يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: وهو حديث صححه جماعة من أهل العلم {إنكم في زمان من ترك عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من عمل بعشر ما أمر به نجا} وعندما نقرأ حديث الغربة مثلاً، نعرف أن جزءاً من الحكمة في الإخبار بهذا الخبر، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام {وسيعود غريباً كما بدأ} أنه إنما أخبر بذلك حتى يكون الداعي، والعالم، وطالب العلم، والمرشد والمعلم صبوراً على الناس، لا ينفعل أو ينـزعج إذا رأى منهم -مثلاً- مخالفة له، أو إعراضاً أو عدم قبول، أو ما أشبه ذلك، ويفسر ذلك بأن هذا زمان الغربة.

ولا شك أن من كان عنده علم أوفهم أو دين، أو دعوة في مثل هذه الأوقات، (أوقات الغربة) ينبغي أن يكون عنده مع ذلك طول نفس وسعة صدر، وصبر على الناس، وقدرة على تحمل مخالفتهم له، حتى يستطيع أن يحقق ما يصبو إليه من التعليم دون أن يكون سبباً في مزيد من كثرة الاختلافات بين المسلمين، أو كثرة القيل والقال، أو تباعد النفوس، أو اختلاف القلوب أو ما أشبه ذلك من الآثار والأضرار التي قد تكون عوائق أمام دعوته، بحيث ينظر الناس إليه على أنه سبب في تفريق الكلمة، يظنون هذا لعدم علمهم، بالاختلاف بين المسلمين أو ما أشبه ذلك.

فعلى الداعي أن يتذرع بمزيد من الحلم والصبر وطول البال، والأناة مع الناس، وكما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة} فنحن أحوج ما نكون، خاصة الذين يحملون الحق، ويحملون المنهج الصحيح، أحوج ما يكون أن يقدموه في قالب من الود والحلم والأناة والصبر، ومغفرة أخطاء الناس، كما قال الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] أما كوني كلما وجدت من الناس تلوماً أو تباطؤاً أو مخالفة لي، أو عدم قبول ما عندي مما أعتقد أنه حق، أشهرت فيهم سلاح النقد والتجريح وما أشبه ذلك من التعيير، وتكلمت عنهم بكثير من التبرم، فإن هذا يدل على نقص عندي، وهو سبب من أسباب عدم قبول الدعوة، أسأل الله تعالى للجميع التوفيق.

السؤال: هناك مشكلة تعاني منها المراكز والتجمعات الإسلامية، وهي عن كيفية معالجة الخلافات التي تحدث بين بعض المسلمين بسبب الخلافات السياسية بين حكوماتهم؟

الجواب: يا أخي ينبغي للمسلم في مثل بلادكم، (البلاد التي تعيشون فيها) أن لا يشعر أنه جاء لهذه البلد، ليتكلم باسم حكومة ينتمي إليها -مثلاً- أو يمثل هذا الحكومة أو تلك، وإنما جاء لهدف محدد، جاء للتأليف، للدراسة، للدعوة، جاء لغرض واضح، وبالتأكيد فهو يقول: إنه لم يستشر في أي موقف من المواقف التي تقوم بها الدولة التي ينتمي إليها مثلاً، وبالتالي فهو غير مسئول عنها، فلا ينبغي أن يحمل أحد مسئولية شيء لم يفعله، ولم يؤخذ رأيه فيه أصلاً.

وهذا أمر بديهي معروف لدى الجميع، أي منظمة أو أي دائرة أو أي جهة لم تستشر أفرادها ولم تستشر المنسوبين إلى البلد التي تكون منه فيما تفعل وما تترك وما تأخذ وما تقول، ومن تفاوض ومن تصادق ومن تعادي، وماذا تفعل، فلا ينبغي أن نحاسب هؤلاء على ذنب لم يقترفوه، أو شيء لم يقولوه أو لم يوافقوا عليه، كما أنهم هم -أيضاً- لا ينبغي أن يدافعوا عن أشياء ومواقف ليسوا مسئولين عنها، ولم يؤخذ رأيهم فيها.

ينبغي للمسلمين أن يعدوا وجودهم في هذه البلاد فرصة لتحقيق الإخاء الإسلامي، وفرصة للتعارف، وحينما أقول التعارف (لا أعني التعارف بالأسماء فقط) بل تعارف المواهب، وتعارف الملكات، والإمكانيات التي يستطيع كل مسلم أو مجموعة من المسلمين أن يقوموا بها، وبالتالي التعاون في هذه المجالات وتكامل الجهود الإسلامية، يكمل بعضها بعضاً ويعز بعضها بعضاً، كأن تكون مجالاً لأن يتبنى كل إنسان موقف جماعة بعينها، أو حكومة أو منظمة أو جهة ويدافع عنه، لمجرد أنهم ينتمون إلى البلد الذي هو فيه مثلاً، فينصر قومه وقبيلته بالحق وبالباطل، ويتعصب لذلك، ويتبناه، ويكون هذا سبباً في العداوة، وربما يقاطع هذا المسجد أو هذا المركز أو هذه المجالس؛ لأن الأغلبية التي فيها من مجموعة أخرى، أو من جنسيه أخرى، أو من بلد آخر.

أنا أقول بصراحة: إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد فلا حول ولا قوة إلا بالله، أنا أخاف أن أقول لا خير فينا، يعني: قد نفسر بعض الأوضاع التي يعيشها المسلمون أنها أوضاع اضطرارية ليس لهم فيها يد، لكن إذا كان هذا الداء انتقل إلى مثل تلك البلاد التي تعيشون فيها، وهي بلاد المسلم فيها حر يستطيع أن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء مما يعتقد أنه حق وصواب، ومع ذلك تجد أن هذا المسلم ينحو المنحى الذي يعد خطأ، يحتاج إلى من يفسره أو يعتذر عنه، ويترك ما يعتقد أنه صواب فهذا أمر محزن فعلاً، أن تنتقل الخلافات (جرثومة الداء) إلى البلاد التي ينبغي أن تكون فرصة للمسلمين حتى يزيلوا الخلافات الموجودة بينهم، وحتى يتعارفوا من خلال مؤتمرات، أو جلسات، أو زيارات، أو ندوات، أو لقاءات تُعقد، تكون سبباً في إزالة هذه الشحناء وبتعارف المسلمين بعضهم ببعض.

أقول: المسلمون -أيها الأخ الكريم- يؤملون آمالاً كبيرة في الإخوة الموجودين في مثل هذه البلاد، أن يفلحوا في التغلب على الأوضاع المأساوية التي يعيشها المسلم في بلادهم الأكثرية، فإذا كان الداء ينتقل إليكم أنتم، فهذه مشكلة تجعل منا -أحياناً- أن نعيد النظر في تقويمنا لما وصل إليه المسلمون من وعي وإدراك، وأنهم في الواقع يكررون أخطاءهم في كل مكان، ويعيدون الشريط نفسه، ويجترون الآلام من جديد، وأنهم ما زالوا دون المستوى المطلوب، أقول: إذا كان الأمر بهذا الشكل، فهذه نتيجة مؤلمة ولا شك.

السؤال: تربية الأولاد هاجس يشغل بال كل مسلم، يعيش في مثل هذه الدولة الكافرة، ما هي النصيحة التي يقدمها الشيخ لمثل هؤلاء؟

الجواب: تربية الأولاد حتى في البيئات النظيفة والطيبة والمسلمة، تعد مشكلة تحتاج إلى جهد، إذا كانت البيئة سيئة والولد -مثلاً- بنتاً أو ذكراً يواجه في المدرسة اختلاطا وألوناً من الفساد، ويواجهه في الشارع، ويواجهه في جهاز التلفاز، الذي قد يملأ بمشاهد كثيرة من هذا القبيل، فإن الجهد يتضاعف على الأب، فلا بد من جهد يقوم به الأب، ولا بد من تنسيق وتعاون بين الأبوين، بحيث تقوم الأم -أيضاً- التي قد تكون أكثر تفرغاً بدور كبير في هذا المجال.

ويمكن هذا بطبيعة الحال من خلال: توفير الكتب، وبعض الأشرطة التخصصية للأطفال، وتحفيظهم بعض الأذكار وتربيتهم على الأخلاق الإسلامية التي تناسب مستواهم، كذلك ينبغي أن يكون هناك مجهود جماعي مشترك للمسلمين مثلاً، في هذه الولاية أو في هذه المدينة، أو في هذا المسجد أو المركز، بإيجاد نشاط للأطفال، في تجمع مسائي -مثلاً- أو في أي وقت من الأوقات، أو مدرسة لتعليمهم، والإتيان بهم إلى المسجد، وأن يكون في المسجد مكتبة خاصة للأطفال، وأن يكون هناك برنامج مشترك بينهم، حتى قد يقوموا به فيما بينهم، يكون دور الكبار فيه مجرد الإرشاد والتوجيه، كما أن عليهم أن يتعاملوا مع الأوضاع السيئة التي يشاهدها الأطفال، في تفسيرها لهم وبيان ما فيها من خطأ، وبيان ما فيها من ضرر، حتى يتدرب الطفل منذ صغره على رفض الخطأ، وعلى إدراك الخطأ أيضاً، إدراكه ثم رفضه؛ لأنه من أخطر الأشياء أن يتطبع الطفل مع بعض الأوضاع القائمة ويعتقد أنها صواب، فهو بحاجة دائمة إلى أن يُبين له إلى أن هذا وإن كان موجوداً إلا أنه خطأ، وأن الذين يقومون بهذا الشيء -مثلاً- هم كفار، أناس من الكفار، أو من الفساق، أو حتى هذا العمل وإن فعله مسلم إلا أنه غلط، والواجب أن يفعل المسلم كذا والصواب هو ما يفعله فلان، والطفل بالتدريب والتكرار يمكن أن يفهم ذلك.

السؤال: ما الفرق بين النظام الديموقراطي والنظام الإسلامي؟

وهل يصح قول بعضهم: إن عمر وأبا بكر رضي الله عنهما من زعماء الديمقراطية؟ وما معنى حرية الرأي في الإسلام؟

الجواب: النظام الديموقراطي في الأصل مأخوذ من كلمة "ديموقراطيك" وهي فيما أعلم كلمة يونانية معناها حكم الشعب،إذاً الديموقراطية يقصد بها حكم الشعب،وفي البيئات التي نشأ فيها هذا المصطلح لم يكن للشريعة مقام ولا وجود أصلاً -لم يكن للنص الإلهي والحكم الإلهي "بمعنى التشريع"، لم يكن له وجود- فكانت هذه الكلمة تنطلق على حكم الشعب في المجالات التشريعية، بمعنى أن الشعب هو الذي له سن الأنظمة والأحكام والقوانين، فالشعب -مثلاً- هو: الذي يحكم بأن هذا الشيء أحلال هو أم حرام، حق أم باطل، خطأ أم صواب، وهو الذي يضع الأنظمة التفصيلية أيضاً في كل شئون الحياة، وكذلك الشعب له حق السلطة التنفيذية والقضائية، بمعنى أن الشعب هو الذي يمارس تنفيذ القوانين، فيكون الشعب هو مصدر التشريع وهو مصدر السلطات، وبناءً عليه لا يكون للشرع حكم أو مرجعية، هذا أصل وجود الديموقراطية.

وهو كذلك بالنسبة للديموقراطية اللبرالية الغربية، فهي تقوم على أساس علماني لاديني، على أساس عدم دخول الدين في السلطة، ولذلك فإن البرلمانات الغربية والمجالس أياً كان اسمها، هي التي تسن القوانين وتشرع، فمن الممكن أن تخرج -مثلاً- في هذا العام قانوناً فحواه: أن الشذوذ الجنسي مثلاً مباح، فيكون مباحاً كما هو الآن الجدل الدائر في أمريكا وفي غيرها، وهكذا كل الأشياء الأخرى، فهذه الديمقراطية العلمانية اللبرالية تقوم على أساس إقصاء الحكم الإلهي والتشريع الرباني، وإحلال الفرد كما لو كان إلهاً يحكم ويشرع ويأمر وينهى، كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] وهذا لا شك أنه شرك في الألوهية والربوبية وإعطاء حق التشريع لغير الله تعالى، والله تعالى يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

أما المعنى الثاني: الذي يستخدمه بعض الكتاب، فقد يستخدمون مصطلح الديمقراطية نفسه، ويقصدون به المشاركة الشعبية في إدارة دفة الحكم، من خلال انتخاب الشعب بنوابه وممثليه ومن يكونون في دوائر تنفيذ الأمور، دون أن يكون لهم تدخل في التحليل والتحريم، ولا علاقة بالأحكام الشرعية، وفي ظل إقرار الجميع بأن الشريعة، هي شريعة الله، وأن الحكم حكم الله، وأنه لا يحق لأحد فرداً كان أو جماعة أو أمة أن يغير شريعة الله تعالى، لا من خلال اختيار ولا من خلال انتخاب، ولا من خلال تصويت، ولا غير ذلك، بل الجميع مقرون بأن شريعة الله تعالى هي المرجع، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] وبعض الكتاب الذين يتحدثون من منطلق إسلامي، يقصدون هذا المعنى، لا يقصدون المعنى الأول؛ لأن المعنى الأول هو بلا شك يعني منح التشريع لغير الله تعالى كما أسلفت، وهذا شأنه كما اتضح.

حتى المعنى الثاني لا أرى أبداً استخدام الكلمة، لأن الكلمة غربية أجنبية، لها مصطلح له ظل، وله معنى خاص، واعتبار أن الديموقراطية الغربية هي النظام الإسلامي بلا شك خطأ، لأن الإسلام مستقل بمصطلحاته وعباراته كما هو مستقل بنظمه وأحكامه، فالإسلام جاء بالشورى نعم، فـعمر ومن قبله أبو بكر ومن قبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا أئمة الشورى، والله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وقال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] ولا شك أن النبي عليه السلام كما قال عنه أبو هريرة [[لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كان يستشيرهم في أمور كثيرة، من أمور الحرب، والسلم والأمن والخوف وغير ذلك، مما هو معروف من هديه وسيرته عليه الصلاة والسلام، والشورى فيها منافع وفوائد عظيمة جداً:

منها: تدريب الأمة على المشاركة، وألا تحول الأمة إلى قطيع يساق دون أن يكون له رأي.

ومنها: تدريب الأمة على المواقف والأزمات.

ومنها: الاشتراك في تحمل التبعات والمسئوليات، وألا يتحملها فرد أو أفراد بأعينهم، ويتحول البقية إلى نائمين في وقت الأمن، ولائمين في وقت المصائب والأزمات، وحصول ضد ما هو متوقع، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة التي ليس هذا مجالاً للحديث عنها.

فالنظام الإسلامي نظام شوروي، نعم، ولا شك أن من الشورى أن يشترك المسلمون في الاختيار، كما حدث في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فإن عمر رضي الله عنه لم يحدد الخليفة من بعده، بل جعل الأمر في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فترتب على ذلك أنهم فوضوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في سؤال الناس، فكان يسأل الرجال والنساء حتى العذارى في خدورهن، ويأخذ رأيهم في ذلك؛ وبناءً عليه جعل الأمر في علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ثم آل الأمر إلى اختيار عثمان بن عفان بالتخصيص، فكان هو الخليفة الراشد الثالث على ما هو معروف تفصيله في التاريخ.

فالمقصود أن هذا الأمر لا داعي أبداً أن يسميه بعضهم بـالديموقراطية، لأن الإسلام مستقل في أحكامه وشرائعه، كما هو مستقل بمصطلحاته وعباراته، وإطلاق مصطلح أجنبي أو غربي أو حتى في الأصل وثني غير شرعي، على أي حكم من أحكام الشريعة فيه إجحاف بحق الشريعة، وقد يكون فيه نوع من التلبيس.

والعذر الذي قد يقدمه بعضهم، هو أن هذا المصطلح أصبح مصطلحاً مشهوراً دارجاً عند الناس معروفاً، هنا نقول: إن الإنسان عليه أن يبين من يستخدم هذا المصطلح بعينه، بل يبين أن المصطلح الذي هو الديموقراطية -مثلاً-، إن أريد به المشاركة التي وصفتها -كما سبق- فهذا صحيح وجاء في الإسلام، لكن الإسلام لا يطلق عليه مثل هذا المصطلح، وإن أريد به أن الشعب له حق التشريع والنقض والاعتراض على ما أنـزل الله، فهذا معنى باطلٌ شرعاً، وليس لأحدٍ من الناس حق الاعتراض على ما أنـزل الله تعالى، وحكم وقرر وقضى، والأمر يتطلب مزيداً من التفصيل بلا شك؛ لأنها قضية خطيرة وكبيرة، وهي أحد الإشكاليات التي يكتب فيها المعنيون بالسياسة الشرعية في هذا الزمان، لكن هذه عجالة تناسب ضيق الوقت.

السؤال: حمل المسلمون الأوائل دعوة الإسلام عن طريق الجهاد، تحت راية الدولة الإسلامية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، هل مازال الجهاد هو الطريق الرئيسي لحمل الدعوة؟

وكيف نحيي هذه الفريضة؟

الجواب: علينا أن نحدد أولاً: ما هو الجهاد؟

إذا كان المقصود من الجهاد القتال، فلا شك أن القتال هو شريعة، والجهاد بهذا المعنى شريعة محكمة غير منسوخة، وهو باقٍ إلى قيام الساعة، ولا تزال طائفة من هذه الأمة تقاتل أعداءها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن ليس هو الطريق الوحيد، بل هناك الدعوة، والدعوة تسبق القتال بلا شك، ولهذا أوصى النبي عليه الصلاة والسلام، القادة من أصحابه كما في حديث بريدة في صحيح مسلم: {إذا لقي عدوه من المشركين أن يدعوه إلى الإسلام أولاً} فالدعوة تسبق القتال.

ولهذا على المسلمين أن ينشطوا في مجال الدعوة إلى الله، وفي مجال الاستفادة من الفرص الإعلامية المعاصرة، وهي فرص ضخمة جداً بالدعوة إلى الله عز وجل وفي نشر الإسلام، وفي تحريك عقول الآخرين للبحث عن هذا الدين، واكتشافه كما يقولون؛ لأن الكثيرين قد أخفت عليهم وسائل الإعلام، واليهوديـة وصورت الإسلام بأنه دين العنف، ودين سفك الدماء، ودين الإرهاب، ودين التضييق على المرأة، ودين مصادرة حقوق الإنسان إلى غير ذلك، واستخدمت بعض ما يعانيه المسلمون في بلادهم، من تخلفٍ، وضعفٍ وبعدٍ عن الدين، وعدت هذا هو الدين.

ولا شك أن بين واقع المسلمين وبين حقيقة الدين بونٌ شاسع، ولا يمكن أن يحاكم الدين إلى واقع الناس، مع أن واقع الناس قام على غير أساس الدين، والقائمون على الدين من العلماء والمصلحين، يسعون إلى تقريب هذا الواقع إلى الدين، فالمقصود أن هناك انشطاراً حقيقياً بين واقع المسلمين وبين الإسلام، وهذا قد يحدث إشكالاً عند الكثيرين من البسطاء والعامة الذين لا يمكن أن يفهموا الدين فهماً نظرياً، إلا في ظل واقع عملي يشار إليه، ويقال لهم: هذا هو الإسلام، وهذا هو الدين، لكن مع ذلك ينبغي أن نحرص:

أولاً: على تكوين الواقع العملي في التجمعات الإسلامية، ولو كانت صوراً مصغرة.

ثانياً: وكذلك نحرص على شرح الإسلام ودعوتهم إلى اكتشافه، ونشر الكتب المنصفة التي تبين حقيقية الإسلام في أوساطهم، حتى تتم الدعوة.

ثالثاً: وعلينا لكوننا مسلمين، أن نسعى إلى الإستفادة من الفرص الإعلامية الضخمة الموجودة في هذا العصر، عصر ثورة الاتصالات من خلال الكمبيوتر، ومن خلال التلفزة، والإذاعة، والصحافة، إلى غير ذلك من وسائل الاتصال السريعة والحديثة، وأن نستغلها في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي إيضاح القضية الإسلامية، فهذا واجب ضخم وعظيمٌ جداً علينا، وهذا لا يعني أن الجهاد بالقتال مؤجل إلى أن تتم الدعوة؛ لأن الدعوة أولاً: ليست واجباً مؤقتاً، بل هي واجبٌ دائم.

وثانيا: لأن هناك مواقع، وهناك بعض البلاد، وبعض الرقاع تواجه عدواناً وتسلطاً من أعداء الدين، سواء كانوا يهود كما هو الحال في فلسطين، أم نصارى كما هو الحال في بلادٍ كثيرةٍ جداً، كـالفلبين مثلاً، أو السودان، أو عدة مناطق أفريقية أو غيرها، أو كانوا سيخاً أو وثنيين كما هي الحال في كشمير، أو كانوا شيوعيين، أو كانوا مرتدين أيضاً.

فالمقصود أن هذه المواقع التي يواجه المسلمون فيها تسلطاً من عدوهم، ومصادرة لحقهم في الحياة، وحقهم في العبادة، وحقهم في إقامة شريعة ربهم، أن عليهم واجباً وهو أن يقاوموا عدوهم، وأن يغالبوه كما قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-42]. فهذا أيضاًَ واجب بإزاء ذلك الواجب.

وبشكل عام فإن الجهاد ميادينه واسعة، فهناك من يجاهدو في الثغور، وهناك من يجاهد في مجال التعليم، وهناك من يجاهد في مجال الإعلام، وهناك من يجاهد في مجال الدعوة، وهناك من يجاهد في إصلاح أحوال المسلمين، وهناك من يجاهد في مجال دعوة غير المسلمين وشرح القضية الإسلامية لهم، وهكذا مجالات الجهاد واسعة جداً، وهناك من يجاهد أيضاً في مجال الاقتصاد، وهو مجال ضخم وخطير في هذا العصر، وعلى المسلمين أن يعملوا على القيام بهذه الفروض الكفائية، كلٌ بالمجال الذي يشعر بأنه يتقنه ويجيد فيه أكثر من غيره.

السؤال: فضيلة الشيخ ما موقفنا مما يجري في أفغانستان، وأي الأطراف أولى بالتأييد والدعم؟

الجواب: الحقيقة الصورة قاتمة ومظلمة، وأنا أتكلم أقول لك عن نفسي وأقول لك عن قطاع عريض، بل عن كل من رأيت من الناس، من عامة وخاصة وطلبة علم ومتعلمين، وغير متعلمين، ومتحمسين لقضية الإسلام وغير متحمسين، كل من لقيت وجدت أنه مستاءٌ جداً مما يجري في أفغانستان، ولا شك أن الوضع سيء ومؤذي، وأنا أعد أن ما يجري نكولٌ عن الجهاد، الذي قام نُشوبه على مدى أربع عشرة سنة هناك، وتحركت همم المسلمين إليه، وكان محط آمالهم على مدى السنين كلها، وكم استنـزف فيه من أموال ومن دماء ومن جهود، ومن دموع، وفي النهاية يتحول الأمر إلى صراع محتدم بين أطراف المجاهدين.

أقول: إن ضراوة المعركة التي تجري الآن، بكل تأكيد لم تحدث على مدى الأربع عشرة سنة الماضية، يوم كان القتال من الشيوعيين أنفسهم، وقد أصبحنا شماتة لعدونا في الإعلام، وفي المجالس العامة والخاصة، وفي الدوائر وفي غيرها، فمتى يصح الإخوة المجاهدون في أفغانستان، ومتى يثوبوا بإخوانهم الذين تبنوا قضية الجهاد في كل البلاد، ومتى يصبوا إلى رشدهم ويدركوا أن سعي كل طرف لتدمير الطرف الآخر، سعي بغير طائل، وأنه تدمير لأنفسنا بأيدينا، وأن هذا تشبه بأهل الكتاب الذين قال الله عنهم: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2] وادعاء أن القضية لن تتوقف بعد، وأن المعركة ما زالت قائمة، ومثل هذا الكلام أنا أقول عن نفسي، الإنسان لا يستطيع أن يتحمل مثل هذا الكلام، نحن نلوم المجاهدين بصراحة جميعاً، وكل الأطراف ولا نجد أن هناك حاجة إلى دراسة أي الطرفين أولى بالدعم، لأن هذا الموضوع موضوع شائك وغير واضح، والقضية متناقضة في الواقع، ولو فرض أن واحداً مثلاً استطاع أن يقول: إن هذا الطرف أو ذاك، فإن هذا الأمر من الصعب أن تدركه الجماهير التي تحمست زماناً طويلاً لقضية أفغانستان.

وكما نلوم الإخوة في أفغانستان، فإننا نلوم أنفسنا -أيضاً- معشر المسلمين، إذ كيف يستمر القتال الضاري ومن قبله الخلاف السياسي زمناً طويلاً دون أن يكون عند المسلمين آلية عملية قوية لحسم المنازعات، والضغط على الأطراف حتى ترضى وتقبل بالحلول السلمية، والحوار بين الأطراف المختلفة، ولذلك أذكركم أنتم أيها الإخوة بواجبكم؛ لأنكم تستطيعون ما لا يستطيعه المسلمون في بلادهم في كثير من الأحيان، من الضغط على هؤلاء الإخوة، وبعث الرسائل إليهم والعرائض وليوقعها آلاف، أو حتى عشرات الآلاف من المسلمين، تحتج على ما يجري، يذهب وفود مثلاً، تتكلم باسم المسلمين، وتقول للإخوة المجاهدين هناك كفوا، كفى! كنا نريد أن تكون أفغانستان منطلقاً لتحرير المسلمين في الجمهوريات السوفيتية الأخرى، ومنطلقاً للنور وللدعوة، وللعلم، فإذا بنا نفاجأ أن المهاجرين الطاجيك مثلاً في أفغانستان، أصبحوا يعانون أوضاعاً في غاية الصعوبة، بسبب الوضع المتأزم في أفغانستان، وقد يطحنون بين الطرفين المتنازعين، كما هو الحال في قندز وغيرها، فكم هذا الأمر محزن، ومؤسف، وكما قلت لأحد الإخوة سألني أنه أصبح المسلمون حتى مجرد البكاء أحياناً لا يملكونه:-

وليس البكـا أن تسفح العـين      إنما أحر البكا عين البكاء المولد

والله تعالى المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأرجو -يا أخي- أن تبلغ إخوانك المسلمين بهذه الوصية لعل الله يجعل في ذلك بعض الحزم.

السؤال: بعد توقيفكم يا شيخ لعلكم أن تحدثونا عن المشاريع والأعمال التي تنهمكون فيها؟

الجواب: ربما تفاصيل الأعمال لا يكون هناك مجال واضح للحديث عنها، لكني أحاول أن أبذل جهدي فيما يتاح لي من خدمة لإخواني المسلمين، ودائماً ينبغي أن نعلم أن الدعوة ليست مجرد كلمة تقال في مسجد أو درس، فهذه الكلمة التي تقال عبر شريط، أو كتاب أو في مجلس عام أو خاص، هذه الكلمة هي دعوى وادعاء، والواقع هو الذي يصدقها أو يكذبها، والموقف هو الذي يصححها أو يخطئها، فعلينا أن نصدق أقوالنا بأفعالنا، بوضوح المبدأ ووضوح الهدف، وعدم الانحراف أوالركون أو الضعف أو المتاجرة بالمبدأ، هذا هو الشيء الأساس الذي ينبغي أن يحرص عليه الداعية؛ لأن الناس يسمعون الداعي يتكلم، فقد يكون كلامه جميلاً، وقد تكون عباراته معسولة، وقد تكون أفكاره جيدة أيضاً، لكن ربما هذا هو كل رصيده، وكم من داعية أو طالب علم أو عالم يخفق في أول اختبار عملي يواجهه في الحياة، فنحن نعد أن ما يقع ويجري فرصة لأن نختبر أنفسنا، ما مدى صبرنا على ما نلقاه في ذات الله تعالى!، ما مدى استعدادنا لتحمل الأذى في سبيل ما نعتقد أنه حق وصواب!

إن الإنسان تتقلب به الأحوال تقلباً كبيراً، فالإنسان قد تمر به حالة قوة، وقد تمر به حالة ضعف، وقد تمر به حالة صحة، وقد تمر به حالة مرض، حالة غنى حالة فقر، والصورة المثلى التي ذكرها الله تعالى في القرآن، هي صورة ذلك المؤمن الذي هو المؤمن في كل الظروف، ولهذا عاب الله تعالى على أقوام، إذا أوذوا غيروا، كما قال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].

كما عاب سبحانه على طوائف من الناس، إذا جاءهم الضر آمنوا، وإذا جاءهم الفرج والسعة انحرفوا وابتعدوا، كما قال سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] والمؤمن الحق هو من لا تغيره الشدائد والظروف، ولا تقلبات الأحوال، فهو يتعبد الله تعالى بأنواع العبادة، القوة لها عبادة، والضعف له عبادة، والغنى له عبادة، والفقر له عبادة، والصحة لها عبادة، والغنى له عبادة، والمرض له عبادة، والسفر له عبادة، والإقامة لها عبادة، وكل حال من الأحوال والتقلبات لها عبادة محددة في الشريعة، فالله تعالى يبتلي عباده بما شاء من ذلك، وهذا هو المحك الحقيقي.

فمن الناس -مثلاً- من قد يندفع بالدعوة ويسير في طريقها، ويلمع نجمه في تيار الاندفاع، والقوة والتقبل والفرص المفتوحة، لكن إذا أصبحت هذه الفرص تتضايق، أصبح يبحث عن الفرص حتى ولو على حساب ما يعتقد، وما يدين به وما يؤمن به.

ومن الناس من يعد أن هناك قضايا يقف عندها، حتى لو أدى ذلك إلى تفويت بعض الفرص عليه؛ لأنه ليس همه أن يهتبل الفرص ولا همه أن يقف أمام الناس ليتحدث، ولا همه أن يشتهر -مثلاً-، ولا همه أن يتعاطى الناس اسمه، إنما له هدف واضح في الدعوة إلى الله يسعى في تحقيقه بنفسه أو بغيره، ولو يعجز عن التحقيق بسبب شرعي، يعد أنه قد أدى ما عليه وبرئت ساحته، ويلجأ بعد ذلك إلى ما يستطيعه من الوسائل الشرعية، وهو موقن بأنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

وأرجو أن تعفيني من الكلام بالتفصيل بطبيعة الحال، وإن كان الحمد لله أكثر الإخوة يعرف أن هناك مجالاً واسعاً لمزيد من القراءة والاطلاع، الذي يحتاج إليه الإنسان، وقد ينشغل عنه ببعض النشاطات الدعوية، ونحن بحاجة إلى أن نجدد أنفسنا ونجدد عقولنا ونوسع مداركنا باستمرار، ولا نقف عند حد معين، -ككتابة بعض الكتب، أو تصحيح بعض المحاضرات السابقة وإعدادها للطباعة لتطبع، إذا أتيحت فرصة في أي مكان من الأرض-، والحمد لله أبشركم -باختصار- بأنني قطعت شوطاً طيباً، أشعر بأنني لم أكن راضياً عنه إلا أنني أعتقد بأنه أمر جيد، والحمد لله تعالى.

السؤال: كيف يرى الشيخ تعدد الجماعات الإسلامية في الساحة وآثارها على واقع الصحوة؟

وكيف يمكن تقليص الخلاف بينها؟

الجواب: التجمع من أجل الدعوة إلى الله تعالى، لا شك أنه داخل في عموم قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وقوله سبحانه وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] لكن ينبغي أن يكون هناك أيضاً وحدة للعمل وتقارب، كما أمر الله في قوله سبحانه: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] وقوله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فكلما أمكن توحيد العاملين للإسلام، كان هذا ألزم وأوجب.

فإذا كان هناك مدعاة للاختلاف أو سبب للاختلاف مقبول شرعاً، كأن يكون الاختلاف كما يقال: اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، ومعنى اختلاف التنوع: أن كل إنسان يعمل في مجاله، وكلها مجالات مشروعة، والمسلمون محتاجون إليها، فهذا لا بأس به.

ومثله -أيضاً- أن يكون الاختلاف ناتجاً عن اختلاف الظروف السياسية، والظروف الاجتماعية من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فهذا أيضاً اختلاف مقبول.

ومثله أن يكون الاختلاف ناتجاً عن الاختلاف في الاجتهاد فيما يجوز الاجتهاد فيه، في هذه الأُطُر يكون الاختلاف مقبولاً، بشرط ألا يؤدى إلى التفرق؛ لأن الله تعالى نهى عن التفرق قال: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]؛ فالتفرق منهيٌ عنه مطلقاً، وهو تنافر القلوب واختلافها، وتضاد الجهود وتناقض القوة، بحيث يكون الإنسان كارهاً للآخر، أو ينتقص حقه وحق أُخوته الإسلامية بسبب اختلافٍ معه، أو ما أشبه ذلك من الأسباب والصور التي تكون مذمومة شرعاً، فينبغي أن نفرق بين موضوع الاختلاف الناتج عن أسباب شرعية، وبين الاختلاف الناتج عن الهوى، أو الناتج عن الجهل، وأيضاً يجب أن يفرق بين الاختلاف الذي يكون مصحوباً بحفظ حقوق الأخوة، وحسن الظن وتقديم المساعدة والتعاون على البر والتقوى، وبين اختلاف يكون نتيجتة التناحر والتباغض، وربما يساعد الأخ عدوه على أخيه.