حصاد الغَيْبَة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا الدرس الرابع والسبعون من سلسلة الدروس العلمية العامة التي تعقد في الجامع الكبير بـبريدة ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين، الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر، من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وعنوانه كما وعدت وأسلفت (حصاد الغَيبة) بفتح الغين لا بكسرها، أي أن: هذا الموضوع هو عرض لمجموع من القضايا والمسائل التي فاتني ذكرها فيما مضى بسبب الانقطاع، أو بسبب ضيق الوقت.

وسوف أعرض في هذه الجلسة إن اتسع الوقت لنحو اثنتي عشرة مسألة إن شاء الله تعالى.

أولاً: حديث سريع عما يسمى بمهرجان السنة النبوية.

ثانياً:متى يجتمع العلماء والدعاة؟.

ثالثا: زُلزلت مصر.

رابعاً: وثائق عن التنصير.

خامساً: الساحة الأفغانية.

سادساً: جريدة خضراء الدمن.

سابعاً: كيف ينهدم الزمان.

ثامناً: الجديد في قضية المسلمين في البوسنة والهرسك.

تاسعاً: نظرة الإعلام الغربي للإسلام.

عاشراً: معان شعرية.

حادي عشر: رسائل ذات معنى.

لقد شهدت هذه المنطقة -بفضل الله تعالى وحمده- خلال الأسبوع الماضي تجمعاً كبيراً تحت عنوان (فعاليات مسابقة السنة النبوية) وكان ذلك تنفيذاً لفكرة قديمة مضى عليها نحو عشرة أشهر، وكانت موضع الدراسة والبحث والإعداد من مجموعة من العلماء والدعاة في هذه المنطقة.

وكان سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- متابعاً لهذه الفكرة من أولها -منذ أن كانت فكرةً عابرةً- وإلى أن تحققت وحدثت بحمد الله تعالى.

وكان الهدف من هذه الفكرة: هو دعم وتشجيع الدروس العلمية القائمة على تعليم الكتاب والسنة والفقه والتفسير والتوحيد وغيرها.

لقد تحقق -بحمد الله تعالى- نجاح كبير خلال الأسبوع الماضي، وكان هذا النجاح الكبير متمثلاً في عدة أمور:

كثرة العلماء والدعاة الذين حضروا الحفل

أولها: الحشد العظيم من المشايخ والعلماء الذين حضروا إلى هذه المنطقة، وربما كان بعضهم يفد إليها لأول مرة، وبالتأكيد فإن ذلك التجمع الكبير الغفير يحدث لأول مرة، كما يشهد بذلك كل الذين تحدثوا عن هذا الموضوع من العلماء والمشايخ.

فقد حضر إلى هذه المنطقة بل إلى هذا المسجد بالذات أمثال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك، وفضيلة الشيخ عبد الله بن قعود، إضافة إلى مشايخ المنطقة كالشيخ محمد بن عثيمين والشيخ حمود بن عقلاء والشيخ محمد بن صالح المنصور، وأعداد غفيرة من العلماء من سائر أنحاء البلاد، كالشيخ سفر الحوالي، والشيخ سعيد بن زعير، والشيخ عبد الوهاب الناصر، والشيخ عائض القرني، وأساتذة الجامعات من جامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية، وجامعة الإمام محمد بن سعود بـالرياض وبـالمنطقة الشرقية أيضاً فضلاً عن القضاة، والوجهاء، والأعيان، والدعاة، وجمهور من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين.

إن هذا سر من أسرار النجاح الذي حققه ذلك العمل الجديد الفريد.

كثرة الجماهير

أما السر الآخر: فيتمثل في جماهير الأمة التي حضرت، وضاق بها رحب المكان في هذا المسجد، فلأول مرة تمتلئ ساحات المسجد وسطوحه وخلواته، والساحات المحيطة به، والشوارع، ويزدحم الناس، وتغلق الشوارع، ويعود الكثير منهم القهقرى؛ لأنه لم يجد مكاناً يتبوءه ويقعد فيه، إنني سألت نفسي وأنا أرى هذه الجموع تتدافع وتتضايق لماذا جاء هؤلاء؟! حمداً لله تعالى أتم الحمد وأكمله وأوفاه.

كنا نقرأ في الصحف، ونسمع في الأخبار، أن لاعباً سوف يتناول طعام الغداء في المطعم الفلاني في الرياض، وأن جماهير من الشباب قد اصطفت صفوفاً وطوابير من أجل أن تشاهده وتلقي عليه نظرة، أو ربما تظفر بأن تصافحه فضلاً عن أنه قد يتمكن من التوقيع لهم على ورقة أو كتاب أو خطاب أو غير ذلك. فيحزننا ذلك كثيراً. وقد نسمع مثل هذا في حضور ممثل أو فنان أو شهير من المشاهير في جدة، أو في أي مكان آخر من هذه البلاد أو في غيرها، فكانت قلوبنا تنطوي على إغماض كبير وحزن شديد.

فإذا بنا نرى جموع المسلمين الصادقين المؤمنين تحضر، وهي لا تطمع في أكثر من أن ترى بعينيها من طالما استمعت إليهم بأذنيها، وربما تمكنت أن تصافحهم أو تحييهم أو تبتسم لهم أو تعرب لهم عن المحبة لله عز وجل.

فالحمد لله أن هؤلاء العلماء والدعاة بل وهؤلاء الشباب من الحفاظ والقراء وطلاب العلم الذين حضرت الأمة وحضر ما يزيد -على حسب التقادير المعتدلة- على خمسة عشر ألفاً حضروا ليشاهدوهم!

إنهم لا يملكون الدنيا ولا يعطونها، وإنما يملكون أن يقولوا كلمة الحق، ويدعوا الناس إلى الله عز وجل، فكان هذا الحضور مما أبهج نفوس المؤمنين وسرهم، فالحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.

نجاح الحفل

أما السر الثالث من أسرار النجاح: فهو كان نجاح الحفل بتفاصيله وبرامجه وتنوعه، وسرور الحضور كلهم سواءً من الوافدين من أهل المنطقة -سرورهم- بما رأوا وما سمعوا وكان ذلك لأول مرة، ومع ذلك فكان فيه من التوفيق والتسديد والنجاح والانضباط ما لم يكن يخطر لنا -جميعاً- على بال، وما كان ذلك ليتم إلا بفضل الله تعالى وتوفيقه، فله المن والفضل، ثم بجهود المخلصين من المشايخ والعلماء والدعاة، ومكتب الدعوة في بريدة، فجزى الله الجميع خيرا.

فعاليات الحفل

وكان السر الرابع من أسرار النجاح: هو الفعاليات المصاحبة لذلك التجمع الغفير، منها: الاحتفالات الخطابية التي جرت في الليلة الأولى هنا في بريدة، وتكلم فيها أصحاب الفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، ثم الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، ثم الشيخ عبد الرحمن البراك، وجموع غفيرة من الدعاة، وألقى فيها الشيخ عائض القرني قصيدته.

ثم كان الاحتفال الآخر من الغد في منـزل الشيخ عبد الله بن حمد الجلالي، وتكلم فيه جماعة من الدعاة، منهم من أسلفت ومضافاً إليهم عدد آخر.

وفي الليلة التي تليها كان الحفل الخطابي في مدينة الرس، وتكلم فيه عدد كبير من الدعاة، منهم من ذكرت مضافاً إليهم الشيخ ناصر بن سليمان العمر، والشيخ محمد بن صالح السحيباني، وجماعة من المشايخ.

ثم تتمثل الفعاليات أيضا في المحاضرات، وقد كانت إحدى المحاضرات في هذا المسجد ليلة الجمعة، وتكلم فيها فضيلة الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي تحت عنوان الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وكانت المحاضرة الأخرى للشيخ رياض الحجيري في مدينة البكيرية وذلك يوم الجمعة ليلة السبت.

أما الندوات: فكانت أولاها في مدينة عنيزة ليلة الجمعة حيث تحدث كل من الشيخ عبد الوهاب الناصر، والشيخ الدكتور حمد الصيفي، والشيخ الدكتور عابد السفياني، ثم أجابوا على أسئلة الحضور.

أما الندوة الثانية: فكانت في الخبراء، حيث تحدث كل من فضيلة الدكتور ناصر العمر، وفضيلة الدكتور حمزة الفعر حول الوسطية في الإسلام.

أما الندوة الثالثة: فكانت في الرس حيث تحدث فيها فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حمود التويجري، إضافة إلى محدثكم حول موضوع الجهاد في سبيل الله.

أما الخطب فقد تناوب بعض الخطباء في بريدة وعيون الجوى فضلاً عن قيام مكتب الدعوة واللجنة العلمية بتوزيع بعض المطويات المتعلقة بطريقة تحفيظ السنة وتعليمها، وكذلك جداول للدروس العلمية، إضافة إلى بعض الأعمال والمشاريع الأخرى.

لقد سرني كثيراً أن يعود الجميع بانطباع جيد جداً عن هذا الاحتفال، وعن هذه المنطقة، وأن ينجح هذا العمل الكبير في تحقيق الجانب الإعلامي للدروس العلمية.

لقد كان إعلامنا مشغولاً كثيراً بأخبار الرياضة، واستضافة بعض الدورات الرياضية، وغير ذلك من التجمعات الحاشدة.

فاستطاع هذا التجمع الكبير -بحمد الله- أن يفرض نفسه عليه، فأشارت إليه مجموعة من الصحف، وذكر ذلك في وسائل الإعلام إلى حد ما.

وكان النجاح الأكبر أن يعود المئات الذين حضروا إلى هنا ولديهم صورة كاملة قوية عن النشاط العلمي الموجود في هذا البلد.

ونحن نحتاج كثيراً أن يسمع الناس قاصيهم ودانيهم بالدروس العلمية، والمحاضرات والنشاطات التي تقوم بها مكاتب الدعوة، وغير ذلك من الأعمال الخيرية التي يحتاج الناس أن يسمعوا عنها أكثر مما يحتاجون أن يسمعوا عن غيرها، بل ربما لا يحتاجون أن يسمعوا أصلاً عن بعض النشاطات التي تضر ولا تنفع.

من أهداف الاجتماع

إذاً قد كان الهدف الأول من خلال هذا العمل النبيل الكبير الناجح المفيد: هو إعطاء الزخم الإعلامي اللازم للدروس العلمية، والنشاطات الدعوية والتربوية في هذه المنطقة، وقد تحقق ذلك بحمد الله تعالى كما أن الشريط الذي سجل عليه ذلك الحفل سوف يؤدي دوراً آخر في هذا المجال.

الهدف الثاني: هو توسيع نطاق الدروس العلمية، وذلك أن الكثيرين سوف يُقبلون على هذه الدروس ويحرصون عليها، ويعملون بها من قبل أن لم يكونوا كذلك، ونحن نحتاج إلى عدد كبير يحيون هذه الدروس ويكثرون الإقبال عليها [[فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا]] كما قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.

الهدف الثالث: هو تطبيع العلم والحفظ فإن الكثير كانوا يقولون: أحياناً لا فائدة من الحفظ ولا جدوى منه، وأي فائدة من أن يحفظ إنسان صحيح البخاري مثلا فنكون أضفنا بذلك نسخة جديدة من نسخ صحيح البخاري.

وكان آخرون يقولون: الحفظ مهم ولا شك، ولكنه أمر صعب عسير ولا يتيسر إلا لأصحاب المواهب الفذة والملكات النادرة، فاستطعنا بحمد الله تعالى أن نقول لهم من خلال ذلك الاحتفال: كلا! الحفظ مهم والحفظ -أيضاً- ميسور بصورة عملية لكل إنسان، وليس شرطاً أن يحفظ الإنسان الصحيحين مثلاً، بل قد يكون قادراً على حفظ الصحيحين، وقد يستطيع أن يحفظ ما هو دون ذلك "وكل ميسر لما خلق له" قال الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]. وكذلك السنة هي وحي ميسر سهل، ويستطيع الإنسان أن يحفظ منها شيئا.ً

فإن لم يحفظ صحيح البخاري، أو مختصره، فبإمكانه أن يحفظ بلوغ المرام أو عمدة الأحكام، وإن لم يتيسر له ذلك فلا أقل من أن يحفظ مائة حديث، فإن لم يستطع فبإمكانه أن يحفظ الأربعين النووية ليتسنى له حفظ شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً الحفظ ليس حكراً على طبقة من أصحاب المواهب النادرة والملكات الفذة بل هو أمر ميسور للجميع.

وقبل سنوات ليست بالبعيدة كنا نعد من يحفظون القرآن على رؤوس الأصابع، وكان الناس يقولون: كان فلان رحمه الله يحفظ القرآن، فيذكرونه بعد ما أصبح رفاتاً رميماً في قبره؛ لأنه كان يحفظ القرآن.

أما اليوم فقد أصبحنا نرى أطفال الكتاب يحفظون القرآن وهم في السنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، فأي خير أكبر وأعظم من ذلك؛ فالحمد لله على ذلك.

إننا نعد تطبيع العلم الشرعي وتسهيله وتيسيره وجعله في متناول أي إنسان من أعظم المكاسب والخطوات التي ينبغي أن نسعى إليها ونحرص على تحقيقها.

أما الهدف الرابع: فكان ربط الناس بعلمائهم مشاهدة واستماعاً ورؤيةً ومحبةً، وقد تحقق ذلك -بحمد الله- سواء أكان ذلك من خلال برنامج مسابقة السنة، أم من خلال ما تبع ذلك من الدروس والندوات والمحاضرات والاحتفالات وغيرها.

أما الهدف الخامس: فهو الإعلان عن شمولية التعليم والتربية التي ندعو بها وننادي إليها.

شمولية التعليم والتربية

إننا نعتقد أن العالم الإسلامي يعيش أحياناً لوناً من النقص أو التقصير أو التشويه، فليس بغريب أن ترى قوماً قد تحيزوا وتحزبوا على جزء من الدين وغفلوا عما سواه، ليس فقط أنهم لم يشتغلوا به بل ربما عابوا من يشتغل به! فأردنا أن نقول للناس ما يلي:-

أولاً: لا بد من العلم والحفظ، العلم بالقرآن والعلم بالحديث، أي: العلم بالنص الشرعي قرآناً وسنة، والعلم بأقوال أهل العلم، والقواعد الشرعية، والأصول العلمية، والنحو والعقيدة والتفسير والحديث، وغير ذلك، لا بد من هذا ولا بد من تربية الجيل عليه.

ثانياً: ولكن هذا وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الأمر الآخر: وهو الفهم والفقه، وليس مرادنا أن نخرج شباباً يستظهرون النصوص ويحفظونها، ثم يكون حالهم كما قال لشاعر:

زواملُ للأسفار لا علمَ عندهـم بجيدها إلا كعلم الأباعرِ

لعمرُكَ ما يدري البعير إذا غدا      بأحماله أو راح ما في الغرائرِ

لا، إن هؤلاء الشباب الذين نقدمهم اليوم للأمة الإسلامية شباب أضافوا إلى العلم والحفظ الفهم والفقه، فهم عارفون بمعاني كتاب الله، عارفون بمعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندهم بقدر سنهم وعمرهم إلمام بالقواعد الفقهية، ومعرفة بالأحكام الشرعية، وقدر من الفهم باللغة العربية، ونوع من الاهتمام بالأدب والشعر.

فهم أصحاب مواهب متنوعة، وعلوم شتى، جمعوا هذا إلى ذاك، ولم يرضوا بمجرد معرفة النصوص حفظاً حتى أضافوا إلى ذلك فهمها ومعرفة معانيها، ولكن العلم والحفظ مضافاً إليه الفهم والفقه لا يكفي إذا استبطن صاحبه اغتراراً واستغناءً عن العلماء الآخرين، وشعوراً بالاكتفاء الذاتي.

ثالثاً: ولهذا كان أولئك الشباب الذين سمعهم الناس أو سمعوا نماذج منهم لم يستبد بهم الغرور ولا العجب ولا الاستكبار، بل هم ذوو تواضع جم، ومعرفة بتواضع أهل العلم السابقين واللاحقين، فهم أمام من يكبرهم سناً أو علماً أو قدراً في غاية التواضع والأدب والاحترام والتعلم، لا يستنكفون أن يتعلموا من أي إنسان مهما كان، مهما كان قدره وشأنه، فضالتهم المنشودة العلم والفهم والفقه، يبحثون عنها، ويستحي الواحد منهم أن يتقدم بين يدي معلمه أو شيخه برأي غريب أو قول شاذ أو مذهب مستبعد، فهم حريصون على تقفي آثار جمهور علماء الأمة من السلف والخلف لم ينفرد أحد منهم بقول أو يشذ برأي يبتكره من قبل نفسه، أو يفتات به على غيره من أهل العلم والفقه والإيمان.

رابعاً: وكل هذا لم يكن لينفع أو يجدي لولا توافر الأمر الرابع الذي ندعو إليه وننادي به ونربى عليه: وهو أن ثمرة العلم هو العمل والصلاح والعبادة، فأنت ستجد هؤلاء الشباب -إن شاء الله- لو صبرتهم وراقبتهم من المبكرين إلى المساجد، الحريصين على النوافل المقبلين على الخيرات، المسارعين إلى الطاعات، البعيدين عن المعاصي والذنوب والموبقات كبائرها وصغائرها، بقدر المستطاع إلا ما استثناه الله عز وجل الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) [النجم:32] فقد ظهرت آثار العلم والمعرفة وسيماهما في طلبة العلم في عبادتهم وسلوكهم وآدابهم وخلقهم مع القريب والبعيد والكبير والصغير مع الجميع؛ فالحمد لله الذي حباهم هذا إلى ذاك.

خامساً: وكل ذلك تضاف إليه التربية على مكارم الأخلاق ومعانيها، والقيام بالدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذاً نقول: لقد حاولنا أن نقدم للناس نموذجاً يقتفي أثر الصحابة رضي الله عنهم في الجمع بين العلم والعمل والدعوة والجهاد وعدم الاقتصار على شيء من ذلك. وهذا لا يعني التبرؤ من النقائص والعيوب؛ بل نحن معدنها وأهلها، ولا شك أنه ما من عمل إلا ويعتريه النقص والعيب، ولكننا نعلنها صريحة مدوية مرددين كلمة الإمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه [[رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا]].

لماذا نقول هذا أيها الأحبة؟! يعلم الله عز وجل أنني لا أقول هذا الكلام لمجرد الإطراء والمديح لفئة من طلبة العلم في هذه المنطقة أو في غيرها، وإنني أسمع من يمدحهم فأكره ذلك ويضيق صدري به خوفاً من أن يتسرب إلى نفس أحد منهم شعوراً لا نرتضيه، أو أن يتسلل الشيطان من خلال كلمة أو عبارة. ولكنني أقول هذا: لأنني ممن يدعو إلى تدمير الانفصام المفتعل والعناد المتكلف بين القضايا الشرعية.

فإن الكثير من الشباب يسألون في أحيان كثيرة: كيف يتم الجمع بين العلم وبين الدعوة؟ وآخرون يقولون: أيهما أفضل! العلم أم الجهاد؟ وثالث يقول: بأيهما أبدأ بالعلم أم بالتربية؟ ورابع يسأل عن الجمع بين العلم والعمل؟ فكأننا جعلنا القرآن عزين، ومزقنا ديننا كل ممزق، فأصبحنا محتاجين إلى من يرفع راية الجمع بين هذه الأشياء كلها.

وليس من شرط من يرفع هذه الراية أن يفلح في تحقيق كل هذه المكاسب والمطالب، فإن الإنسان بطبيعته محدود الإمكانيات، محدود الوقت، محدود القدرة، ولا بد أن يفوت عليه شيء كثير، فإن اعتنى بالعلم قصر في العمل وإن اعتنى بالعمل قصر في الجهاد، وإن اعتنى بالجهاد ربما فرط ببعض أمور الدعوة أو العلم الشرعي وهكذا، لكن يكفينا أن نعلن أننا نؤيد كل من يقوم بعمل من هذه الأعمال.

فنحن نؤيد العلماء في حلقات علمهم، ونؤيد المجاهدين في خنادق جهادهم، ونؤيد الدعاة في ميادين دعوتهم، ونؤيد المصلحين في حلقات تعليمهم وإرشادهم ووعظهم، ونؤيد كل صاحب خير يدعو إليه ما دام على الكتاب والسنة.

ثانياً: هذه هي الرسالة التي حرصت تلك المسابقة بفعاليتها المختلفة أن توصلها إلى الجميع.

أولها: الحشد العظيم من المشايخ والعلماء الذين حضروا إلى هذه المنطقة، وربما كان بعضهم يفد إليها لأول مرة، وبالتأكيد فإن ذلك التجمع الكبير الغفير يحدث لأول مرة، كما يشهد بذلك كل الذين تحدثوا عن هذا الموضوع من العلماء والمشايخ.

فقد حضر إلى هذه المنطقة بل إلى هذا المسجد بالذات أمثال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك، وفضيلة الشيخ عبد الله بن قعود، إضافة إلى مشايخ المنطقة كالشيخ محمد بن عثيمين والشيخ حمود بن عقلاء والشيخ محمد بن صالح المنصور، وأعداد غفيرة من العلماء من سائر أنحاء البلاد، كالشيخ سفر الحوالي، والشيخ سعيد بن زعير، والشيخ عبد الوهاب الناصر، والشيخ عائض القرني، وأساتذة الجامعات من جامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية، وجامعة الإمام محمد بن سعود بـالرياض وبـالمنطقة الشرقية أيضاً فضلاً عن القضاة، والوجهاء، والأعيان، والدعاة، وجمهور من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين.

إن هذا سر من أسرار النجاح الذي حققه ذلك العمل الجديد الفريد.

أما السر الآخر: فيتمثل في جماهير الأمة التي حضرت، وضاق بها رحب المكان في هذا المسجد، فلأول مرة تمتلئ ساحات المسجد وسطوحه وخلواته، والساحات المحيطة به، والشوارع، ويزدحم الناس، وتغلق الشوارع، ويعود الكثير منهم القهقرى؛ لأنه لم يجد مكاناً يتبوءه ويقعد فيه، إنني سألت نفسي وأنا أرى هذه الجموع تتدافع وتتضايق لماذا جاء هؤلاء؟! حمداً لله تعالى أتم الحمد وأكمله وأوفاه.

كنا نقرأ في الصحف، ونسمع في الأخبار، أن لاعباً سوف يتناول طعام الغداء في المطعم الفلاني في الرياض، وأن جماهير من الشباب قد اصطفت صفوفاً وطوابير من أجل أن تشاهده وتلقي عليه نظرة، أو ربما تظفر بأن تصافحه فضلاً عن أنه قد يتمكن من التوقيع لهم على ورقة أو كتاب أو خطاب أو غير ذلك. فيحزننا ذلك كثيراً. وقد نسمع مثل هذا في حضور ممثل أو فنان أو شهير من المشاهير في جدة، أو في أي مكان آخر من هذه البلاد أو في غيرها، فكانت قلوبنا تنطوي على إغماض كبير وحزن شديد.

فإذا بنا نرى جموع المسلمين الصادقين المؤمنين تحضر، وهي لا تطمع في أكثر من أن ترى بعينيها من طالما استمعت إليهم بأذنيها، وربما تمكنت أن تصافحهم أو تحييهم أو تبتسم لهم أو تعرب لهم عن المحبة لله عز وجل.

فالحمد لله أن هؤلاء العلماء والدعاة بل وهؤلاء الشباب من الحفاظ والقراء وطلاب العلم الذين حضرت الأمة وحضر ما يزيد -على حسب التقادير المعتدلة- على خمسة عشر ألفاً حضروا ليشاهدوهم!

إنهم لا يملكون الدنيا ولا يعطونها، وإنما يملكون أن يقولوا كلمة الحق، ويدعوا الناس إلى الله عز وجل، فكان هذا الحضور مما أبهج نفوس المؤمنين وسرهم، فالحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.

أما السر الثالث من أسرار النجاح: فهو كان نجاح الحفل بتفاصيله وبرامجه وتنوعه، وسرور الحضور كلهم سواءً من الوافدين من أهل المنطقة -سرورهم- بما رأوا وما سمعوا وكان ذلك لأول مرة، ومع ذلك فكان فيه من التوفيق والتسديد والنجاح والانضباط ما لم يكن يخطر لنا -جميعاً- على بال، وما كان ذلك ليتم إلا بفضل الله تعالى وتوفيقه، فله المن والفضل، ثم بجهود المخلصين من المشايخ والعلماء والدعاة، ومكتب الدعوة في بريدة، فجزى الله الجميع خيرا.

وكان السر الرابع من أسرار النجاح: هو الفعاليات المصاحبة لذلك التجمع الغفير، منها: الاحتفالات الخطابية التي جرت في الليلة الأولى هنا في بريدة، وتكلم فيها أصحاب الفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، ثم الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، ثم الشيخ عبد الرحمن البراك، وجموع غفيرة من الدعاة، وألقى فيها الشيخ عائض القرني قصيدته.

ثم كان الاحتفال الآخر من الغد في منـزل الشيخ عبد الله بن حمد الجلالي، وتكلم فيه جماعة من الدعاة، منهم من أسلفت ومضافاً إليهم عدد آخر.

وفي الليلة التي تليها كان الحفل الخطابي في مدينة الرس، وتكلم فيه عدد كبير من الدعاة، منهم من ذكرت مضافاً إليهم الشيخ ناصر بن سليمان العمر، والشيخ محمد بن صالح السحيباني، وجماعة من المشايخ.

ثم تتمثل الفعاليات أيضا في المحاضرات، وقد كانت إحدى المحاضرات في هذا المسجد ليلة الجمعة، وتكلم فيها فضيلة الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي تحت عنوان الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وكانت المحاضرة الأخرى للشيخ رياض الحجيري في مدينة البكيرية وذلك يوم الجمعة ليلة السبت.

أما الندوات: فكانت أولاها في مدينة عنيزة ليلة الجمعة حيث تحدث كل من الشيخ عبد الوهاب الناصر، والشيخ الدكتور حمد الصيفي، والشيخ الدكتور عابد السفياني، ثم أجابوا على أسئلة الحضور.

أما الندوة الثانية: فكانت في الخبراء، حيث تحدث كل من فضيلة الدكتور ناصر العمر، وفضيلة الدكتور حمزة الفعر حول الوسطية في الإسلام.

أما الندوة الثالثة: فكانت في الرس حيث تحدث فيها فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حمود التويجري، إضافة إلى محدثكم حول موضوع الجهاد في سبيل الله.

أما الخطب فقد تناوب بعض الخطباء في بريدة وعيون الجوى فضلاً عن قيام مكتب الدعوة واللجنة العلمية بتوزيع بعض المطويات المتعلقة بطريقة تحفيظ السنة وتعليمها، وكذلك جداول للدروس العلمية، إضافة إلى بعض الأعمال والمشاريع الأخرى.

لقد سرني كثيراً أن يعود الجميع بانطباع جيد جداً عن هذا الاحتفال، وعن هذه المنطقة، وأن ينجح هذا العمل الكبير في تحقيق الجانب الإعلامي للدروس العلمية.

لقد كان إعلامنا مشغولاً كثيراً بأخبار الرياضة، واستضافة بعض الدورات الرياضية، وغير ذلك من التجمعات الحاشدة.

فاستطاع هذا التجمع الكبير -بحمد الله- أن يفرض نفسه عليه، فأشارت إليه مجموعة من الصحف، وذكر ذلك في وسائل الإعلام إلى حد ما.

وكان النجاح الأكبر أن يعود المئات الذين حضروا إلى هنا ولديهم صورة كاملة قوية عن النشاط العلمي الموجود في هذا البلد.

ونحن نحتاج كثيراً أن يسمع الناس قاصيهم ودانيهم بالدروس العلمية، والمحاضرات والنشاطات التي تقوم بها مكاتب الدعوة، وغير ذلك من الأعمال الخيرية التي يحتاج الناس أن يسمعوا عنها أكثر مما يحتاجون أن يسمعوا عن غيرها، بل ربما لا يحتاجون أن يسمعوا أصلاً عن بعض النشاطات التي تضر ولا تنفع.

إذاً قد كان الهدف الأول من خلال هذا العمل النبيل الكبير الناجح المفيد: هو إعطاء الزخم الإعلامي اللازم للدروس العلمية، والنشاطات الدعوية والتربوية في هذه المنطقة، وقد تحقق ذلك بحمد الله تعالى كما أن الشريط الذي سجل عليه ذلك الحفل سوف يؤدي دوراً آخر في هذا المجال.

الهدف الثاني: هو توسيع نطاق الدروس العلمية، وذلك أن الكثيرين سوف يُقبلون على هذه الدروس ويحرصون عليها، ويعملون بها من قبل أن لم يكونوا كذلك، ونحن نحتاج إلى عدد كبير يحيون هذه الدروس ويكثرون الإقبال عليها [[فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا]] كما قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.

الهدف الثالث: هو تطبيع العلم والحفظ فإن الكثير كانوا يقولون: أحياناً لا فائدة من الحفظ ولا جدوى منه، وأي فائدة من أن يحفظ إنسان صحيح البخاري مثلا فنكون أضفنا بذلك نسخة جديدة من نسخ صحيح البخاري.

وكان آخرون يقولون: الحفظ مهم ولا شك، ولكنه أمر صعب عسير ولا يتيسر إلا لأصحاب المواهب الفذة والملكات النادرة، فاستطعنا بحمد الله تعالى أن نقول لهم من خلال ذلك الاحتفال: كلا! الحفظ مهم والحفظ -أيضاً- ميسور بصورة عملية لكل إنسان، وليس شرطاً أن يحفظ الإنسان الصحيحين مثلاً، بل قد يكون قادراً على حفظ الصحيحين، وقد يستطيع أن يحفظ ما هو دون ذلك "وكل ميسر لما خلق له" قال الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]. وكذلك السنة هي وحي ميسر سهل، ويستطيع الإنسان أن يحفظ منها شيئا.ً

فإن لم يحفظ صحيح البخاري، أو مختصره، فبإمكانه أن يحفظ بلوغ المرام أو عمدة الأحكام، وإن لم يتيسر له ذلك فلا أقل من أن يحفظ مائة حديث، فإن لم يستطع فبإمكانه أن يحفظ الأربعين النووية ليتسنى له حفظ شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً الحفظ ليس حكراً على طبقة من أصحاب المواهب النادرة والملكات الفذة بل هو أمر ميسور للجميع.

وقبل سنوات ليست بالبعيدة كنا نعد من يحفظون القرآن على رؤوس الأصابع، وكان الناس يقولون: كان فلان رحمه الله يحفظ القرآن، فيذكرونه بعد ما أصبح رفاتاً رميماً في قبره؛ لأنه كان يحفظ القرآن.

أما اليوم فقد أصبحنا نرى أطفال الكتاب يحفظون القرآن وهم في السنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، فأي خير أكبر وأعظم من ذلك؛ فالحمد لله على ذلك.

إننا نعد تطبيع العلم الشرعي وتسهيله وتيسيره وجعله في متناول أي إنسان من أعظم المكاسب والخطوات التي ينبغي أن نسعى إليها ونحرص على تحقيقها.

أما الهدف الرابع: فكان ربط الناس بعلمائهم مشاهدة واستماعاً ورؤيةً ومحبةً، وقد تحقق ذلك -بحمد الله- سواء أكان ذلك من خلال برنامج مسابقة السنة، أم من خلال ما تبع ذلك من الدروس والندوات والمحاضرات والاحتفالات وغيرها.

أما الهدف الخامس: فهو الإعلان عن شمولية التعليم والتربية التي ندعو بها وننادي إليها.

إننا نعتقد أن العالم الإسلامي يعيش أحياناً لوناً من النقص أو التقصير أو التشويه، فليس بغريب أن ترى قوماً قد تحيزوا وتحزبوا على جزء من الدين وغفلوا عما سواه، ليس فقط أنهم لم يشتغلوا به بل ربما عابوا من يشتغل به! فأردنا أن نقول للناس ما يلي:-

أولاً: لا بد من العلم والحفظ، العلم بالقرآن والعلم بالحديث، أي: العلم بالنص الشرعي قرآناً وسنة، والعلم بأقوال أهل العلم، والقواعد الشرعية، والأصول العلمية، والنحو والعقيدة والتفسير والحديث، وغير ذلك، لا بد من هذا ولا بد من تربية الجيل عليه.

ثانياً: ولكن هذا وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الأمر الآخر: وهو الفهم والفقه، وليس مرادنا أن نخرج شباباً يستظهرون النصوص ويحفظونها، ثم يكون حالهم كما قال لشاعر:

زواملُ للأسفار لا علمَ عندهـم بجيدها إلا كعلم الأباعرِ

لعمرُكَ ما يدري البعير إذا غدا      بأحماله أو راح ما في الغرائرِ

لا، إن هؤلاء الشباب الذين نقدمهم اليوم للأمة الإسلامية شباب أضافوا إلى العلم والحفظ الفهم والفقه، فهم عارفون بمعاني كتاب الله، عارفون بمعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندهم بقدر سنهم وعمرهم إلمام بالقواعد الفقهية، ومعرفة بالأحكام الشرعية، وقدر من الفهم باللغة العربية، ونوع من الاهتمام بالأدب والشعر.

فهم أصحاب مواهب متنوعة، وعلوم شتى، جمعوا هذا إلى ذاك، ولم يرضوا بمجرد معرفة النصوص حفظاً حتى أضافوا إلى ذلك فهمها ومعرفة معانيها، ولكن العلم والحفظ مضافاً إليه الفهم والفقه لا يكفي إذا استبطن صاحبه اغتراراً واستغناءً عن العلماء الآخرين، وشعوراً بالاكتفاء الذاتي.

ثالثاً: ولهذا كان أولئك الشباب الذين سمعهم الناس أو سمعوا نماذج منهم لم يستبد بهم الغرور ولا العجب ولا الاستكبار، بل هم ذوو تواضع جم، ومعرفة بتواضع أهل العلم السابقين واللاحقين، فهم أمام من يكبرهم سناً أو علماً أو قدراً في غاية التواضع والأدب والاحترام والتعلم، لا يستنكفون أن يتعلموا من أي إنسان مهما كان، مهما كان قدره وشأنه، فضالتهم المنشودة العلم والفهم والفقه، يبحثون عنها، ويستحي الواحد منهم أن يتقدم بين يدي معلمه أو شيخه برأي غريب أو قول شاذ أو مذهب مستبعد، فهم حريصون على تقفي آثار جمهور علماء الأمة من السلف والخلف لم ينفرد أحد منهم بقول أو يشذ برأي يبتكره من قبل نفسه، أو يفتات به على غيره من أهل العلم والفقه والإيمان.

رابعاً: وكل هذا لم يكن لينفع أو يجدي لولا توافر الأمر الرابع الذي ندعو إليه وننادي به ونربى عليه: وهو أن ثمرة العلم هو العمل والصلاح والعبادة، فأنت ستجد هؤلاء الشباب -إن شاء الله- لو صبرتهم وراقبتهم من المبكرين إلى المساجد، الحريصين على النوافل المقبلين على الخيرات، المسارعين إلى الطاعات، البعيدين عن المعاصي والذنوب والموبقات كبائرها وصغائرها، بقدر المستطاع إلا ما استثناه الله عز وجل الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) [النجم:32] فقد ظهرت آثار العلم والمعرفة وسيماهما في طلبة العلم في عبادتهم وسلوكهم وآدابهم وخلقهم مع القريب والبعيد والكبير والصغير مع الجميع؛ فالحمد لله الذي حباهم هذا إلى ذاك.

خامساً: وكل ذلك تضاف إليه التربية على مكارم الأخلاق ومعانيها، والقيام بالدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذاً نقول: لقد حاولنا أن نقدم للناس نموذجاً يقتفي أثر الصحابة رضي الله عنهم في الجمع بين العلم والعمل والدعوة والجهاد وعدم الاقتصار على شيء من ذلك. وهذا لا يعني التبرؤ من النقائص والعيوب؛ بل نحن معدنها وأهلها، ولا شك أنه ما من عمل إلا ويعتريه النقص والعيب، ولكننا نعلنها صريحة مدوية مرددين كلمة الإمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه [[رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا]].

لماذا نقول هذا أيها الأحبة؟! يعلم الله عز وجل أنني لا أقول هذا الكلام لمجرد الإطراء والمديح لفئة من طلبة العلم في هذه المنطقة أو في غيرها، وإنني أسمع من يمدحهم فأكره ذلك ويضيق صدري به خوفاً من أن يتسرب إلى نفس أحد منهم شعوراً لا نرتضيه، أو أن يتسلل الشيطان من خلال كلمة أو عبارة. ولكنني أقول هذا: لأنني ممن يدعو إلى تدمير الانفصام المفتعل والعناد المتكلف بين القضايا الشرعية.

فإن الكثير من الشباب يسألون في أحيان كثيرة: كيف يتم الجمع بين العلم وبين الدعوة؟ وآخرون يقولون: أيهما أفضل! العلم أم الجهاد؟ وثالث يقول: بأيهما أبدأ بالعلم أم بالتربية؟ ورابع يسأل عن الجمع بين العلم والعمل؟ فكأننا جعلنا القرآن عزين، ومزقنا ديننا كل ممزق، فأصبحنا محتاجين إلى من يرفع راية الجمع بين هذه الأشياء كلها.

وليس من شرط من يرفع هذه الراية أن يفلح في تحقيق كل هذه المكاسب والمطالب، فإن الإنسان بطبيعته محدود الإمكانيات، محدود الوقت، محدود القدرة، ولا بد أن يفوت عليه شيء كثير، فإن اعتنى بالعلم قصر في العمل وإن اعتنى بالعمل قصر في الجهاد، وإن اعتنى بالجهاد ربما فرط ببعض أمور الدعوة أو العلم الشرعي وهكذا، لكن يكفينا أن نعلن أننا نؤيد كل من يقوم بعمل من هذه الأعمال.

فنحن نؤيد العلماء في حلقات علمهم، ونؤيد المجاهدين في خنادق جهادهم، ونؤيد الدعاة في ميادين دعوتهم، ونؤيد المصلحين في حلقات تعليمهم وإرشادهم ووعظهم، ونؤيد كل صاحب خير يدعو إليه ما دام على الكتاب والسنة.

ثانياً: هذه هي الرسالة التي حرصت تلك المسابقة بفعاليتها المختلفة أن توصلها إلى الجميع.

هذا سؤال، وهو الفقرة الثانية، طرحه عليَّ مجموعة من الإخوة، وأكتفي بنموذج واحد رسالة من أحد الإخوة، أحد الإخوة بعد المقدمة يقول: أذكرك بقول الله عز وجل إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون )َ) [النور:51]. إن مما يتقطع القلب له ألماً ما يحدث بين أهل العلم من الدعاة من تناحر وتفارق وتنافر وبغض وبعد، حتى كان سبباًَ في فرقة بعض الشباب من طلبة العلم، ورمي بعضهم بعضاً واتهام بعضهم بعضاً في الاعتقاد، بل وفي النيات -عياذاً بالله-! وهذا والله الذي يريده أعداء الدعوة، وأعداء الصحوة.

إنني أناشدكم بالله أن تسعوا لسد هذا الشرخ، وأن تقفلوا الطريق على أهل الباطل. ثم يقول: إن هذه الفتنة لم تنحصر بين العلماء؛ بل شملت طلاب العلم، وشملت بعض أهل التسجيلات الذين كان يجب عليهم أن ينشروا الخير بين الناس، فهذه تبيع أشرطة الشيخ فلان وفلان والأخرى لا تبيعها.

والسؤال: من يستطيع أن يجمع هؤلاء العلماء والمشايخ على كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؟ أدعو الله عز وجل أن يقر أعيننا بجمع شمل علمائنا وإخواننا طلاب العلم، وأدعوه تبارك وتعالى أن يبطل كيد الكائدين إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله.

وإنني أشكر الأخ وكل من يطرح هذا السؤال؛ لأن الأمة التي تنـزعج بالخلاف وتبتئس له، لابد واصلة إن شاء الله تعالى إلى شاطئ الوحدة والأخوة والإيمان متى صدقت النية وحسن القصد وسلك السبيل المستقيم.

ولأنني أعرف ماذا يقصد هذا الأخ، وربما الكثيرون يدركون جانباً من بعض الخلافات التي تعصف بالدعاة، فإنني أطرح باختصار النقاط والمسائل التالية:-

الكلام السابق في الموضوع لم ينشر

أولاً: لقد تحدثت عن شيء من هذا الموضوع في محاضرة كانت بعنوان (ولكن في التحريش بينهم) وكانت خلال الإجازة الماضية؛ ولكن يؤسفني أن أقول: إن هذه المحاضرة وكل المحاضرات التي تلتها والدروس العلمية -حسب ما وصل إليَّ من مصادر موثوقة- لم تعد تباع في محلات التسجيلات، ولم تعد وزارة الإعلام ترخص بها أو تسمح لها أو تستقبلها أصلاً، وإنني أعجب أشد العجب أنه في الوقت الذي تستقبل فيه آلاف المجلات الخليعة، وآلاف الصحف المنحرفة، ومئات بل آلاف الكتب التي تنشر الرذيلة والفساد أو تنشر أحياناً -أقول وأنا مسؤول عن ما أقول- الإلحاد، ويسمح فيه بمئات وآلاف من الأشرطة والأفلام التي تصور في عيون الناس صور الانحلال الخلقي بألوانه وأشكاله، ويسمح لكل صاحب فكر دخيل أن يتكلم بملء فمه وينشر ما يقول وما يريد، إنه يؤسفني جدَّاً أن يوقف أمام الكلمة النيرة!!

أنا لا أعترض أن ترى الجهات المختصة -في شريط أو في كلمة أو في محاضرة- شيئاً تعتقد أنه ليس من المصلحة نشره فتستبعده، وقد كانت تمارس ذلك وتفعله طيلة السنوات الماضية، وتستبعد أحيانا أشياء مفيدة، لكننا كنا نسكت عن ذلك.

أما اليوم فأصبح مجرد العثور على شريط لفلان في يد شخص مدعاة للمساءلة، وقد حدثني فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين وهو من تعلمون يقول: إن شاباً وجد معه شريط لك فأخذ وأودع السجن منذ ثمانية عشر يوماً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

على كل حال أعتقد أن نشر الخير ممكن، وأنه ليس من مصلحة أحد كائناً من كان أن يقف في طريق الخير وفي طريق الدعوة، فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.

الدعاة يكمل بعضهم بضاً

ثانيا: أنا لا أقول عن نفسي ولا عن غيري إننا استفرغنا القيام بكل الواجبات الكفائية، بل أقول: إن أكثر الدعاة يرى الواحد منهم أنه قام ببعض الواجب، وسد بعض النقص وغطى بعض الأمور، وقام في بعض الثغور، وأن غيره قام بواجبات أخرى، فكل من قام بواجب مما اشتغل به الدعاة أو مما لم يشتغل به الدعاة فنحن نشكره ونؤيده وندعو له، ولا نقول إن الذي نقدمه إنما نقدمه للناس هو منهج ينبغي للجميع أن يسلكوه؛ بل هو محاولة لسد نقص وتلافي ثغرة موجودة، وغيرنا يقوم بغير ذلك من ألوان الخير وصنوفه، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام، وكلٌ على خير إن شاء الله تعالى.

عدم رضا الدعاة بالخلاف

ثالثاً: ليس بيننا وبين أحد من أهل الحق خصومة إن شاء الله تعالى، ولا يرضى الإخوة الدعاة وطلبة العلم أن تثار معركة من أجل أشخاصهم، أنا أقول عن نفسي وبالنيابة عنهم؛ لأنني أعرف ماذا يفكرون به وكيف يتحدثون؟

نقول: جميعاً لا نرضى ولا نوافق على إثارة معركة كلامية بين مجموعات من الشباب من أجل أشخاصنا، فنحن أهون وأقل من ذلك، والذي يعنينا هو أمر الإسلام وأمر الدعوة، أمَّا الأشخاص فيذهبون ويجيئون، وليس من شرط لنجاح الداعية أن يكون مقتنعاً بفلان أو محباً لفلان أو متبعاً لفلان أو مستمعاً لفلان.

أطع الله فيمن عصاك فيه

رابعاً: من عصى الله تعالى فينا وجب علينا أن نطيع الله تعالى فيه، ونحسن إليه بقدر المستطاع، وندعو له سراً وعلانية، ونعدل معه ما استطعنا، ونجتنب ظلمه والإساءة إليه، إلا ما يقع من الإنسان عفواً فإن الإنسان بشر يخطئ.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

كلام الأتباع والجماهير

خامساً: أما كلام الأتباع والجماهير والهمج والرعاع؛ فإنه لا يلتفت إليه، فإن الكلام يطول ويقصر ويزيد وينقص، وكم من كلمات ذاعت وشاعت وذهبت وشرقت وغربت، والواحد يعلم علم اليقين كما أن دون غد الليلة أن هذه الكلمة مختلقة مفتعلة لا أصل لها.

أمسك بي منذ أيام أحد الشباب وقال لي: إن كتاباً خرج في الرد على أحد الدعاة. قلت له: نعم، قال: بعض الشباب يحرقون هذا الكتاب!! قلت له: هذا لا ينبغي، هذا من إتلاف المال، قال يحرقونه بكميات كبيرة!! قلت: هذا أشد وأشد. قال: هم ينسبون هذا الأمر إليك، ويزعمون أنك قلته. قلت: هاتهم -تعالى وإياهم إلي حتى يتبين من هو الذي كذب وافترى-.

ليست هذه مسألة خلاف

سادساً: المسألة التي يتكلم عنها الأخ السائل وغيره ليست مسألة خلاف فيما أرى وأعتقد، وقد أكون مخطئاً لكنها مسألة تعدي من جهة معينة، وهذا على الأقل هو رأيي، ومن علم عني أو عن غيري من الدعاة أننا قابلنا ذلك بمثله، أو ظلمنا أحداً أو افتعلنا خصومة مع أحد من هؤلاء الذين هم على منهج الكتاب والسنة إجمالاً فليرد ذلك علينا وليبينه فإنا راجعون عنه إن شاء الله تعالى.

أهمية النصيحة

سابعاً: لا مانع أن يعتقد إنسان خطأ الداعية فلان، وأن ينتقده ولو كان الحق مُرَّاً فقد تعودنا بحمد لله على سماع النقد والنصيحة سواءً أكانت بالحكمة والموعظة الحسنة أم كانت بغير ذلك، وليطمئن الإخوة أن سماعنا للنصيحة بل سماعنا للشتيمة -أيضاً- لا يقلقنا ولا يزعجنا ولا يضيق صدورنا ولا يجعلنا نسهر الليالي، فقد تجاوزنا ذلك كثيراً والحمد لله، وأصبح لا يأخذ من وقتنا ولا من جهدنا ولا من اهتمامنا شيئاً يذكر.

بل الذي يحسن إلينا ليس هو الذي يأتينا بهذا الشريط وهذا الكتاب وهذه الورقة، ويقول: فيه كيت وكيت بل من يطوي ذلك عنا، فعندنا مما يعتقد أنه عمل مفيد مثمر في نفع الناس، ودعوتهم ونفعهم في دينهم وفي دنياهم، والتواصل مع المسلمين في القريب والبعيد ما نعتقد أن فيه غناء، ونرى أن العمر يضيق عن بعض الأشياء التي تقبل التأجيل أو تقبل الإهمال.

أما التركيز على العيوب والمآخذ فأرى أنه لا يصلح؛ لأنه من أسباب الرد، ونحن كغيرنا بشر ينبغي على الإنسان إذا أراد أن ينتقد أحداً أن يحرص على نقده بالتي هي أحسن.

أما مسألة الكلام في المقاصد والنيات فهذا لا ينبغي.

كن مفيداً للمسلمين

وأخيرا نقول: ليس المهم موقفك من فلان الداعية أو طالب العلم، لكن المهم أن تعمل عملاً مفيداً للمسلمين في دينهم أو دنياهم.

أما موقفك من فلان فهذا لا يضر، وقد قلت في أكثر من مناسبة: ليس مهماً أن يغتر جماعة من الناس بالداعية الفلاني أو بمن يعارضه، فقد اغتر الناس ببعض رؤوس الضلالة والبدعة، واغتروا ببعض العلمانيين، واغتروا ببعض الحداثيين، واغتروا بمن هو ضرر محض على المسلمين، ومع ذلك لم نستطع أن نـزيل اغترار الناس، فليس كل خطأ يقع نحن قادرون على إزالته.

أهمية المنهج للدعاة وتأييدهم لبعضهم

ثم أيضاً إن المهم هو أن يكون هؤلاء الإخوة لهم منهج يدعون به إلى الله تعالى، ويعلّمون به من ضل ويساعدون به إخوانهم المسلمين. وحق وواجب على كل داعية صادق مخلص أن يؤيد ويساعد كل من يعلم أنه على الكتاب والسنة والحق في دعوته وعلمه وعمله حتى ولو كان ينتقده أو ينتقصه، وكما قلت: لا تجد فيمن عصى الله فيك أفضل من أن تطيع الله تعالى فيه.

مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه

ثم إنني وجدت كلاماً عجيباً للإمام ابن القيم في كتابه القيم مدارج السالكين وهو كلام طويل، لكنني أذكره مختصراً في هذه الكلمات.

عنوان هذه المقالة له رحمه الله "مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه" والكلام مختصر -يعني موقف الإنسان فيمن يجني عليه أو يؤذيه:

المشهد الأول: مشهد القدر وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والألم والمرض وهبوب الرياح، فإن الكل أوجبته مشيئة الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

الثاني: مشهد الصبر، مشهد وجوب الصبر وحسن عاقبته وجزاء الصابرين، وما يترتب على الصبر من الغبطة والسرور.

الثالث: مشهد العفو والصفح والعلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لعشاً في بصيرته، فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً} كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما علم ذلك بالتجربة والوجوب.

الرابع: مشهد الرضا وهو فوق مشهد العفو لا سيما إذا كان ما أصيب به الإنسان سببه القيام بما يرضي الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخط به وتشكا منه كان ذلك دليلاً على كذبه في المحبة.

الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح منه، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه.

فينبغي لك أن تشكره، ويهون ذلك -أيضاً- علمك بأن الجزاء من جنس العمل؛ فإن كان عملك فيه إساءة من المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك، وهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني سبحانه وتعالى بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة العبد إليك، فهذا لا بد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.

السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته وهو: ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وبإدراك الثأر منه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً والرشيد لا يرضى بذلك.

السابع: مشهد الأمن؛ فإنه إذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل أمن من تولد العداوة وزيادتها، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيراً فكم من حقيرٍ، أردى عدوه الكبير.

الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله تعالى منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن.

فإذا أراد الله أن يسلم إليه الثمن وهو الجنة فليسلم هو إلى الله تعالى السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه إذا كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]. ومن رضي بقتل النفس رضي بما دون ذلك.

التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه:

الأول: أن يشهد نعمة الله عليه أن جعله مظلوماً يترقب النصر، ولم يجعله ظالماً يترقب الأخذ والمقت.

والثاني: أن يشهد نعمة الله تعالى في التكفير بذلك من خطاياه {فإنه ما أصاب المؤمن من همٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفَّر الله به من خطاياه} كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك.

ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر وإنها في الحقيقة نعمة، والمصيبة الحقيقية هي مصيبة الدين.

ومنها: توفية أجلها وثوابها يوم الفقر والفاقة، وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما ناله عند الناس وبما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ولا يبطله بالانتقام الذي لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.

المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو -أيضاً- مشهد شريف، فإن العاقل الذي يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه، فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس.

ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده الأمثل فالأمثل، ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم.

وفي الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص-: {هل مر عليك يوم كان أشد من يومأحدقال عليه الصلاة والسلام: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال -هذا في الطائف- فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب، إلى قوله في آخر الحديث لما عرض عليه ملك الجبال ما عرض فقال له: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا}.

المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد، وهو أجلّ المشاهد، وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له وإيثار مرضاته والأنس به واطمأن إليه، واتخذه ولياً دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأخذيته، وفني بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه؛ ومن سواه فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البته فضلاً عما يشتغل قلبه وفكره وسره في تطلب الانتقام والمقابلة.

هذا بعض ما يحضرني وأرى أنه ينبغي أن يقال في هذه المناسبة.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5005 استماع
حديث الهجرة 4965 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4076 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3921 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع