Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

التربية ضرورة ومنهج


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من ضعف، وجعله قابلاً للنمو والتطور، وآتاه وسائل ذلك النمو والتطور، فيسر له سبل الهدى، وأعانه على ذلك بما آتاه من الجوارح المعينة على التدبر في آيات الله المسطورة والمنظورة ليزداد بذلك إيماناً ويقيناً؛ وليزداد في أخلاقه وفي سلوكه وفي أعماله كلها.

والإنسان محتاج إلى ذلك الازدياد بصورة مستمرة دائماً، ولهذا فإن الإنسان لا يتوقف نموه بالكلية إلا إذا هو أقبل على النقص، فالإنسان دائماً في مسير إما إلى الأمام وإما إلى الخلف، لكنه لا يمكن أن يتوقف مسيره، فهو في بداية نشأته نشأ ضعيفاً، ثم بعد ذلك وصل إلى القوة، ثم تراجع إلى الضعف والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، وفي مسيره الأول من بداية نشأته لا بد أن يمر بأطوار كثيرة، كما قال نوح عليه السلام في دعوته: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14] ، وهذه الأطوار ذكر الله منها في كتابه تسعة هي قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:13-16]، هذه تسع مراتب من أطوار خلق الإنسان، وفي كلها تجد النمو والازدياد، وهذا النمو والازدياد ما كان مكتسباً منه هو الذي يسمى بالتربية.

والتربية مشتقة من: ربا يربو إذا زاد، فزيادة المال تسمى رباً له، وكذلك زيادة العقل، وزيادة قوة البدن ، وزيادة الخلق، كل ذلك يسمى تربية.

وأصل هذه المادة في اللغة يستعمل منها أربعة أفعال، فيقال: ربا يربو، ومنها رباه يربيه إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومن هذا الفعل قول الشاعر:

وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

ويقال أيضاً: ربه يربه، ومنه قول صفوان بن أمية بن خلف رضي الله عنه: لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن.

الفعل الثالث: يقال: رببه يرببه، إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :

بيض مرازبة غلب أساورة أسد ترببن في الغيضات أشبالا

ويقال كذلك: ربته يربته، وهذا الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهل

ومن هذا الفعل الرب، فالرب يطلق على المالك؛ لأنه هو الذي يعتني بتنمية مربوبه، فيقال: رب البيت ورب المنزل ورب الدابة، أي: مالكها، وأصلها راب، فكثير ما تحذف الألف من (فاعل) للمضعف، كما قال ابن مالك :

وينحذف بقلة مضاعف منه ألف

قوله: (بقلة) أي أنه مقصور على السماع، وليس معنى ذلك: قلة وجود الأمثلة على هذا، وذلك: كربٍ وشتٍ وقذٍ وعمٍ فكل هذا بمعنى فاعل.

وقول الله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ[آل عمران:79] ، قال ابن عباس في تفسير ربانيين: الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذا هو التدرج في طلب العلم، وهو مناسب لهذه المادة، ومثل ذلك قول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146] ، فالربيون منسوبون إلى الرب، وهم المربون أو هم المشتغلون بعبادة الرب سبحانه وتعالى.

وهذه التربية منها ما يقوم به الوالدان، فالولد أمانة عندهما يربيانه على وفق ما يريدان، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وقال: (ما منكم أحد إلا وينتج كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل ترى فيها من جدعاء) أو (فهل ترى فيها من جدع) فمعناه: أنه يولد كامل الأعضاء على الفطرة، ثم بعد ذلك تعمل فيه الأيدي في التربية، كما أن البهائم تولد كاملة ثم إن أهلها يسمونها، إما بقطع الآذان، وإما بوضع ميسم أو غير ذلك.

ثم بعد هذا تربية الإنسان لنفسه، وكذلك تربية مجتمعه له، فالشارع الذي يتربى فيه الإنسان، والمدرسة التي يدرس فيها، ووسائل الإعلام التي يسمع، ونحوها... كل ذلك مؤثرات تؤثر في سلوكه وتزيد في عمله أو تنقص، وتؤثر في السلوك فيكون إيجابياً ويكون سلبياً.

وعلى هذا فالتربية ثلاثة أقسام:

تربية عقلية: وهي بزيادة العلم؛ لأن العقل مبناه على العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً، وهذا يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا.

القسم الثاني: التربية البدنية، وهي بتقوية البدن وتعويده على المهارات والخبرات المختلفة، كمهارات العدو والجري، ومهارة السباحة، ومهارة ركوب الخيل، ومهارة سياقة السيارة، ومهارة القفز، ومهارة حمل الأثقال، ومهارة الكتابة، وغير ذلك من المهارات التي هي من التربية البدنية.

ثم النوع الثالث من أنواع التربية: التربية الروحية، والمقصود بها تزكية النفوس، وتطهير الأخلاق بتهذيبها، والتخلي عن الصفات الذميمة، والتحلي بالصفات الحميدة، ولا يكون ذلك إلا وفق المنهج الذي شرع الله لعباده.

فهذه الأقسام الثلاثة هي قابليات الإنسان التي يمكن تطويرها، فيمكن أن يطور الإنسان من الناحية العلمية: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل:78] .

فكل يوم يمكن أن يزداد الإنسان علماً، ولهذا أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طلب الازدياد من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]

وكذلك قوة البدن ومهاراته، فكل يوم بالإمكان أن يزداد الإنسان مهارة لم تكن لديه، فتشغيل أي جهاز من الأجهزة -كتشغيل المسجل أو تشغيل جهاز الكمبيوتر أو غير ذلك- كلها مهارات، بالإمكان أن يستفيدها الإنسان في أي يوم من أيام حياته.

ومثل ذلك: المهارات النفسية، فمهارة العبادة والأدب مع الله سبحانه وتعالى، ومهارة الإخلاص في العمل الصالح، ومهارة الأنس بالله، والتوكل عليه وخوفه ورجائه، وكذلك مهارة التوبة والإنابة إلى الله، كلها مهارات روحية بالإمكان أن يكتسبها الإنسان، وما أحوج الإنسان إلى اكتسابها.

إن هذه التربية عظيمة تغير الإنسان عن حاله، فبعد أن كان الإنسان جاهلاً أمياً، وبعد أن كان ضعيفاً، وبعد أن كان سيء الخلق، ينتقل بواسطة التربية إلى أعلى كمال ممكن، فبعد الجهل المطلق ينتقل الإنسان إلى مرتبة الاجتهاد أو مرتبة التوقيع عن رب العالمين، وبعد مرتبة الضعف -الذي لا يستطيع الإنسان به إلا مص الثدي- ينتقل الإنسان إلى مقاتل ماهر، وشجاع لا يرده أي خوف، ولا يثنيه أي إرهاق، وكذلك بعد نشأة الإنسان السيئة التي فيها تعويد النفس على ما تشتهي وعدم الحيلولة بينها وبين ذلك، وضعف الحيلة في الوصول إلى ما يشتهيه الإنسان، كالصبي إذا منع شيئاً ليس لديه حيلة إلا البكاء، فهذا الضعف الشديد بعده ينتقل إلى إنسان قوي الشخصية، لا يتضعضع أمام الوسائط، ولا يخضع للإرهاب والتهديد، فيكون متصلاً بالله سبحانه وتعالى، متقوياً بقوته التي لا حدود لها، وبذلك يتغير حاله بالكلية.

بهذا نعلم أن هذه التربية ليست عملية مؤقتة بزمن محدد، كما يتوهمه بعض الناس، فقول العرب: العوان لا تعلم الخمرة، المقصود بذلك: أصل التعليم لا زيادة المهارة، فهي لا تعلم الخبرة؛ لأنها قد تعلمتها، لكن يمكن أن تزداد مهارة فيها، فما من شيء يتعلمه الإنسان إلا وهو قابل للتطوير والزيادة، ولهذا أدركنا كبار السن -وبعضهم من أهل العلم- كل يوم يحاولون زيادة مهارات أداء سنن الصلاة، فيركع الإنسان أمام الناس ليروه هيئة الركوع، ويسجد أمامهم ليقوموا له النقص الذي لديه بهيئة السجود، ويتوضأ أمامهم ليرى مهارات الوضوء، وهكذا.

فما من مهارة يتعلمها الإنسان إلا وهي قابلة للتطوير والزيادة، حتى أن أنبياء الله الذين أوصلهم الله سبحانه وتعالى إلى درجات الكمال العليا الممكنة للبشر، ما من أحد إلا وهو يحرص على الازدياد من التربية، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام مر مع الحواريين في زقاق ضيق، فاستقبله خنزير، فقال له عيسى: انفذ بسلام، فقيل: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير.

وكذلك مر هو والحواريون على جيفة كلب قد أنتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته، فقال عيسى: ما أحسن بياض أسنانه؟ فقيل له في ذلك، فقال: ذكرته بأحسن ما فيه؟

وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقوم الليل فيطيل القيام حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة : (أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، إنه يريد زيادة الشكر، ويحرص على ذلك، وهذا الحرص هو الذي يقتضي للإنسان السمو وعلو الهمة، بحيث لا يرضى بالمراتب الدنية، يريد السمو إلى أن يكون منتهاه الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، فلا يرضى بأي شيء أقل من ذلك ولا دونه، ولهذا يروى أن النابغة الجعدي رضي الله عنه حين أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته الرائية بلغ فيها قوله:

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله.

وكذلك العلماء الكبار الذين اشتهروا بكثرة ما حووه من العلم، لم يقصروا في الطلب يوماً من أيام حياتهم، فتسمعون عن محمد بن مالك الطائي الجياني الأندلسي الدمشقي إمام أهل العربية، الذي ألف الكتب الكثيرة في خدمة لسان العرب، فمنها: الخلاصة الألفية المشهورة السائرة، والكافية، وتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والفوائد كذلك، وعدة الحافظ وعمدة اللافظ، والاعتضاد بين ظاهر الظاء والضاد، والواو والياء، والإعلام بتثليث الكلام، والتوضيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وشروح هذه الكتب كلها وغير هذا من الكتب الكثيرة، مع ذلك تعلم يوم موته ثمانية شواهد من ولده، وهو في اللحظات الأخيرة.

وهذا الإمام مالك بن أنس على جلالة قدره في العلم وكبر سنه فقد عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومع ذلك ففي آخر عمره سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقال: لا أحفظ فيه شيئاً، فلما انفضت الحلقة جلس إليه عبد الله بن وهب وهو أحد طلابه، فقال: حدثني الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابعه في الوضوء)، فحفظ مالك هذا الحديث فلما عادت الحلقة إلى مكانها، قال: سألتموني بالأمس عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقلت لكم: لا أحفظ فيه شيئاً، وقد حدثني عبد الله بن وهب هذا قال: حدثنا الليث بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل الأصابع في الوضوء).

فكل يوم هم في شغف من الازدياد من العلم، لا يقصرون في ذلك، ويطلبونه على كل الأحيان، ولذلك بلغوا ما بلغوا من المنازل العلية، فكل من شعر بأنه استغنى عن التربية، ووصل إلى حد لا يحتاج فيه إلى الزيادة، فمعناه أنه بدأ في النقص، ولهذا حين أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع هذه الآية، فقالوا: وما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ قال: ما من شيء يتم إلا نقص، فالدين أتمه الله، فخشي عمر أن يكون ذلك بداية النقص، وأول نقص فيه موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك موت الخلفاء الراشدين، ثم لا يزال الدين ينقص، كلما نقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها، فأول ذلك الحكم وآخره الصلاة.

إن الإنسان محتاج إلى العناية بتربية نفسه، ولذلك وسائل كثيرة:

فمن أهم الوسائل قراءة سير السابقين الذين بلغوا المقامات العلية ، وقراءة سيرهم ليست لمجرد الثقافة والتاريخ ، وإنما هي لأخذ العبر، وليرسم الإنسان لنفسه طريقاً فيحاول تطبيقه، ولهذا فإن مؤلفات هذه الأمة في التاريخ كثيرة جداً، فلماذا ألفوا فيه؟ لماذا كتب لنا الذهبي رحمه الله أكثر من ثلاثين كتاباً في التاريخ والسير وتراجم الرجال؟

إنما فعلوا ذلك ليكون هذا حافزاً للناس على التخلق بأخلاق هؤلاء، والتربي بتربيتهم، وسلوك منهجهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة أحد هؤلاء الأعلام من السلف الصالح -وكان ذا همة- حاول أن يسد مسده للأمة، وليتذكر الشباب الآن أن علماء الأمة وعظماءها وقادتها ليسوا مخلدين، فما منهم أحد إلا وهو على موعد مع ملك الموت، وإذا جاء ذلك الموعد لا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم، والأمة محتاجة إليهم فمن سيخلفهم؟ ومن سيأخذ اللواء منهم؟ لا ترضى الأمة أن يسقط اللواء على الأرض، بل تريد من يقوم بحمل هذا اللواء ويتهيأ لذلك، وأنتم تعرفون قول حسان رضي الله عنه:

لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم

فلا بد من هؤلاء النجوم الذين يتأهبون لحمل اللواء، ويستعدون لذلك، فيعدون العدة له قبل أن يصابوا بهذه المصيبة، كل إنسان عليه أن يفكر أنه ربما يكون في يوم من الأيام مسئولاً عن دين الله في بلد من البلدان، فالذين يعول عليهم الآن القيام لله بالحق والقسط هم على موعد مع ربهم، وسيلبون نداءه، وكذلك هم عرضة للفتنة وعرضة للقتل والسجن وغير ذلك، فلا بد ممن يخلفهم ويقوم مقامهم، فقبل أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعين عليك أن تقوم مقام أولئك، فاجتهد بنفسك في أن تصل إلى المقام الذي وصلوا إليه، وأن تكون عتاداً جاهزاً يخلف أولئك السابقين، كحال أهل مؤتة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم قال: (أميركم زيد ، فإن قتل فـجعفر بن أبي طالب ، فإن قتل فـعبد الله بن رواحة ، فإن قتل فليتفق المسلمون على رجل منهم)؛ ولذلك فإن ثابت بن أقرم رضي الله عنه، كان قريباً من عبد الله بن رواحة ، فلما قتل أخذ اللواء وقال: يا معشر المسلمين! إني ما أخذته لأقودكم، وإنما أخذته لتقدموا رجلاً منكم، فقدموا خالد بن الوليد فأعطاه ثابت بن أقرم اللواء.

ومصائب المسلمين باخترام قادتهم، وحملة اللواء فيهم، هي من جنس الابتلاء الذين يبتلون به في أديانهم، وهي مستمرة وسنة كونية لا انقطاع لها، فهم يحتاجون كذلك إلى وجود البدائل الجاهزة، التي يمكن أن تكون عند مستوى التحدي، وهذه البدائل لم تكن إلا أصحاب الهمم العالية الذين يفكرون في سد مسد هؤلاء، ويفكرون بتفكير جاد، ليأخذوا قسطهم الآن قبل أن يصل إليهم الدور، فهم ينتظرون في الطابور، ويعلمون أن الكراسي هي مثل كرسي الحلاق، يجلس عليه هذا فإذا حلق رأسه قام فجلس غيره.

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

فلهذا يتمثلون دائماً قول الشاعر:

يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا

فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا

وذو الجهل يأمن وأيامه وينسى مصارع من قد خلا

فإن دهمته صروف الزما ن ببعض مصائبه أعولا

فالعويل لا فائدة فيه، بل هو كما قال الأعرابي: نصرها بكاء وبرها سرقة، فلهذا علينا أن ننظر إلى حال الذين سدوا للأمة مسداً، وكيف كانت حوافزهم لذلك، عندما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عباس فتى في العاشرة من عمره أو الثالثة عشرة، قال: فذهبت إلى لدة لي من الأنصار كان يلعب معي، فقلت: يا أخي! إن الله قد أخذ رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الأمة تحتاج إلينا يوماً من الأيام، قال: فقال لي: دعنا نلعب فمتى يحتاج إلينا، فذهبت وتركته، فذهب ابن عباس في طلب العلم، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح عضواً في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وكان عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه فتى الكهول، ولا يقضي أمراً حتى يستشيره فيه، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة:

بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب

فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا

ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بمنتظمات لا ترى بينها فصلا

كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

إن أولئك الذين تربوا تلك التربية النافعة هم الذين تحملوا المسئوليات، وإن هذه التربية لا بد فيها من ضرائب، فهي تحتاج إلى تضحيات جسيمة، لقد حدثنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن أولئك النفر الأوائل الذين صدقوا الله ورسوله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فامتحنوا على طريق الهداية، وأوذوا في الله، وحوصروا ثلاث سنين، لا يبايعهم أحد ولا يهدي إليهم ولا يعطيهم أحد، ويمنعون من دخول الأسواق، ومن ورود المياه العذبة، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، وقد عقدت قريش حلفها على ذلك، وكتبوه في الصحيفة التي علقوها في الكعبة، فيقول:

فكنا في الشعب -في شعب أبي طالب- يربط أحدنا على بطنه حجراً من الجوع، فخرجت ذات ليلة فوجدت ثوباً قد علاه العفاء، أي: سفته السوافي، فأخذته فغسلته فقسمته نصفين، فتأزرت بنصفه، وأعطيت نصفه سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص فأتزر به، ثم إن سعد بن مالك خرج ذات ليلة لقضاء حاجته، فوقع بوله على شيء فلمسه، فإذا هو جلد فأخذه فغسله وشواه فأكلناه! ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار، بعد أن حصل ما حصل من الأذى!

ويقول سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري: (والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام خبت إذاً وضل سعيي).

إن أولئك النفر قد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عجيبة، مكثت هذه التربية في مدرستها الأولى ثلاث عشرة سنة، فهذه مدة المدرسة الابتدائية وهي العهد المكي، لكن هذه السنين الثلاث عشرة آتت أكلها، فكل سنة منها جاءت بقرن كامل من الزمن من عمر الأمة، فاستمر عمر دولة الإسلام ثلاثة عشر قرناً على آثار تلك التربية في ثلاث عشرة سنة.

وكذلك فإنهم تربوا تربية مكنتهم من البطولات، فهؤلاء الذين كانوا في هذا الأذى الشديد هم الذين استطاعوا فيما بعد تحمل المشاق، وهم الذين صبروا في المواقف العظيمة، فهذا أبو بكر الصديق الذي نال منه المشركون ما نالوا، وكانوا يقرعونه في كل أمر يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فأكثروا عليه من ذلك، فلما كانت ليلة الإسراء والمعراج لم يكن أبو بكر حاضراً، فأتوه فقالوا: إن صاحبك زعم أنه جيء بدابة فذهب بها إلى الشام ليلته هذه، فدخل بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماء فاخترق السماوات السبع! أفتصدقه فيما قال؟ قال: إن كان قالها فقد صدق، هذه هي القوة اليقينية التي استطاع بها أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة.

لينظر كل واحد منكم إلى نفسه لو كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه، وكان الوحي أشد ما يكون تتابعاً، والغزو أشد ما يكون كثرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوضع، ماذا سيحصل له؟ إنها أعظم مصيبة يمكن أن تفكروا فيها، لكن أبا بكر صمد عند هذه المصيبة، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إنها التربية العقدية الصحيحة التي تقتضي من الإنسان التمسك بالمبادئ وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف.

يقرأ أبو بكر على الناس قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144-145] فيثبت الله به هذه الأمة، وقد وصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال الصحابة إذ ذاك بقوله: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما ماتوا كانوا كالمعز المطيرة، فلم يستطع أحد منهم الوقوف ولا الكلام إلا أبا بكر .

إن هذا الأثر أثر واضح من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليكون خليفة عنه، وليسد مسده للأمة.

وكذلك حال عمر بن الخطاب عند موت أبي بكر ، يقول ابن عباس كما في الصحيح: عندما مات عمر فحمل على الرقاب جاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي، ثم نظر إليه فقال: رحمك الله، لكثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر و عمر ، ودخلت أنا و أبو بكر و عمر ، فالتفت فإذا هو علي ، علي بن أبي طالب يشهد لـعمر بهذه التربية، وهي الاصطحاب الدائم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئه به للقيام بهذا الأمر، فكان يهيئ أبا بكر و عمر للخلافة فيصطحبهما في كل الأمر، فيقول: خرجت أنا وأبو بكر و عمر ، ودخلت أنا و أبو بكر و عمر ، وبهذا كان أهلاً لهذه الخلافة، وشهد بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

كذلك فإن أثر هذا بارز حتى في شهادات النبي صلى الله عليه وسلم، حدث أصحابه ذات يوم فقال: (إن بقرة تكلمت، كان صاحبها يسوقها فركبها، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا، فقالوا: سبحان الله بقرة تكلم! فقال: لكني أومن بذلك أنا و أبو بكر و عمر)، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر و عمر بأنهما يؤمنان بهذا الذي أخبر هو به، ولم يسمع منهما ذلك، فهذا يدلنا على أهمية هذه التربية وأثرها البالغ.

إن هذه التربية كذلك هي التي تجعل الرجال ينتقلون من طور إلى طور، فـعمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر فيسجد له ويعبده، ثم إذا جاع أكله فصنع صنماً آخر، أصبح يقول للحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

وكذلك فإن الذين كانوا في الجاهلية الجهلاء انتقلوا إلى هذه المقامات العلية العجيبة، ففي المقام العلمي مثلاً، كانت هذه الأمة أمة لا تحسب ولا تكتب، وكان العرب أشد الشعوب تخلفاً، وبالأخص في مجال الحساب والعلوم العقلية، مع ذلك فما هي إلا سنوات من التربية حتى يخرج علينا علي بن أبي طالب فيقف على المنبر خطيباً فيقول: الحمد الله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيقول له قائل: هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فيقول: صار ثمنها تسعاً، ويستمر في خطبته. فسميت هذه المسألة بالمنبرية لدى أهل علم الفرائض، فإن أصل المسألة من أربعٍ وعشرين، وعالة إلى سبع وعشرين، والأصول العائلة ثلاثة فقط، والأصل الثالث من أصول العول هو أصل أربعة وعشرين ولا يعول إلا مرة واحدة وهي عوله إلى سبعة وعشرين كما بين علي في هذه المسألة، لكن السرعة الهائلة في الحساب جعلته لا يفكر ولا يقطع خطبته، ويستمر على نفس القافية التي كان مستمراً عليها في خطبته، فيقول: صار ثمنها تسعاً.

وتجعله كذلك يفكر تفكيراً قليلاً، في أقل أمد الحمل، فيقول: هو ستة أشهر، ويأخذ ذلك من قول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[الأحقاف:15] ، مع قوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14] فانتزع عامين من ثلاثين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر، فعامين للفصال وستة أشهر للحمل؛ لأن الله جعل الحمل والفصال ثلاثين شهراً ثم جعل الفصال وحده عامين، أربعة وعشرين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر فهي أقل أمد الحمل.

وكذلك تجعل آخرين ينتقلون من أحضان الأمهات وتربية النساء المدللة، إلى السفارة الإسلامية الشاملة، وقيادة الأمم بكاملها، فهذا مصعب بن عمير كان أحب الأولاد إلى أمه، وكانت تغدق عليه من أموالها، فلما أسلم آذته وحبسته بين أربعة جدران، وكلفت به أشداء من الرجال يضربونه صباحاً ومساءً؛ لعله يرجع عن دينه فامتنع عن ذلك، ومع هذا يخرج من كل ما كان فيه من النعيم، مهاجراً في سبيل الله سفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقيم أول لبنة من لبنات الدولة الإسلامية، يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة عندما بايعه الأنصار وسألوه أن يرسل معهم إماماً لهم، اختار هذا الشاب الحدث، فأخرجه إماماً للمدينة الجديدة التي هي عاصمة الإسلام، فيخرج وليس معه من الدنيا إلا سيفه وبردته، ويعطيه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء يوم بدر، ويعطيه اللواء يوم أحد، ولما قتل يوم أحد لم يكن عنده من المال إلا بردته تلك وسيفه، فكانوا إذا غطوا رجليه بدا رأسه، وإذا غطوا رأسه بدت رجلاه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، فخرج ولم يتعجل شيئاً من هذه الدنيا.

وكذلك الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك، فكانوا في المجال الدبلوماسي خير السفراء، كـعبد الله بن حذافة بن قيس الذي أرسله إلى كسرى، وكـدحية بن خليفة الكلبي الذي أرسله إلى هرقل ، وكـعمرو بن العاص الذي أرسله إلى المنذر بن ساوى ، وغير هؤلاء من الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق فكانوا خير السفراء لهذه الأمة الإسلامية.

نماذج ممن تربى على يد الصحابة والتابعين

ومثل ذلك القادة الذين برزوا فقادوا هذه الأمة في أحلك الظروف، في حروبها ومشكلاتها، إنما كانت قياداتهم من آثار تربيتهم، فهذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزن بألف رجل، عندما أرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستنجده بثلاثة آلاف مقاتل، فأرسل إليه عمر ثلاثة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ، فكتب إليه: لقد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، فكان عمرو بن العاص يجعل هؤلاء في الواجهة أمام المسلمين، فلا يرجعون على أدبارهم حتى يهزم العدو.

يحدثنا الزبير عن تربية أمه له، فيقول: كانت صفية بنت عبد المطلب تضربني في صباي ضرباً شديداً، فكان عمي ينكر ذلك عليها، ويزعم أنها تبغضني، فكانت تقول:

من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب

ويهزم الجيش ويأتي بالسلب

جاءها رجل ذات يوم فقال لها: أين الزبير ؟ فقالت: ما حاجتك إليه، قال: أريد أن أقتله، فقالت: هو في النخل، فاذهب إليه! فذهب الرجل إلى الزبير فاعتركا، فأخذه الزبير فكتفه بحبل وجعله على كتفه وجاء به يحمله، فرماه بين يدي أمه صفية ، فضربت رأسه بمغزل، وقالت له: كيف وجدت زبراً، أعسلاً وتمراً، أم أسداً هزبراً؟!

وكذلك فإن تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتهيئته للقيام بمعارك الإسلام الفاصلة كان لها الأثر البارز في شجاعة الرجل وإقدامه، فقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من المعارك أمام العدو، ولذلك يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل

فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يبذل

ومثل هذا تربية أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير ، الذي جاءت به حين ولد إلى بيت أختها عائشة ، فوضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، ثم تربى تربية أبي بكر والزبير بن العوام ، حتى إنه كان في خطابته يشبه بـأبي بكر ، وفي فروسيته يشبه بـالزبير ! عندما خرج مع عبد الله بن أبي سرح في الجيش الذي وجهه عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع إلى أفريقيا، خرجوا في ثلاثة آلاف فدخلوا أرض برقة وهي أرض ليبيا، فاستقبلهم جيش البربر في مائة وعشرين ألف مقاتل، وعليهم ملك أفريقيا وهو جرجير ، وكان بين قينتين تغنيان وهو يركب بينهما في مركب، فلما رأى ابن أبي سرح الجيش وكثرته دخل قبة له، فقال: لا يدخل عليَّ أحد حتى أفكر في خدعة، فاقتحم عليه ابن الزبير فرعب منه، فقال: إنه ظهرت لي خدعة، فقال: وما هي؟ قال: أن تعطيني مائة مقاتل يحمون ظهري، فأخرج كأني رسول إلى الملك فأطير رأسه، وحينئذ سينهزمون، فأذن له ابن أبي سرح بذلك، فخرج، فاختار مائة فارس وخرج يشق صفوف العدو، وهم لا يظنون إلا أنه يحمل رسالة إلى الملك، حتى وصل إليه فأطار رأسه من بين القينتين، ودارت المعركة، وانقض المسلمون عليهم، وقتلوهم قتلاً.

ثم إن ابن أبي سرح وجه عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان بن عفان ، فأتاه بداره فأخبره بتفاصيل المعركة، وقد كان عثمان في العادة إذا أتاه بشير عن معركة من المعارك، وقفه على المنبر فشرح للناس تفاصيل ما حصل، كما كان يفعل عمر من قبله، لكنه في هذه المرة آثر أن يتقدم ابن الزبير فيقف على المنبر، فيقص على الناس تفاصيل المعركة، وما ذلك إلا لشدة تأثر عثمان بما سمع من قص ابن الزبير وما دار في المعركة، فهو قص إنسان مباشر، دخل المعركة وأفاد فيها، وأبلى البلاء الحسن.

فلما وقف ابن الزبير على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وسمع ذلك المسلمون بكوا بكاءً شديداً، حين تذكروا خطبة أبي بكر ، فقالوا: ما هو إلا أبو بكر .

وكذلك الذين كانوا بعد هؤلاء من التابعين تربوا على تربيتهم، فلذلك كانت لهم الآثار البارزة في نصرة الله ورسوله، وتحمل أعباء هذه الأمة، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي ، وكان شاباً من شباب المسلمين خرج بالجيوش إلى خراسان، فافتتح في غزوة واحدة اثنتين وسبعين مدينة، وكان من أشهر المسلمين في الفتوحات، حتى إنه لم تهزم له راية قط في معاركه كلها، وكان شاباً حديث السن، لكنه كان ذكياً مؤمناً محباً للجهاد في سبيل الله، حاصر حصناً من الحصون فترة فلم يفتح عليه، فقال للمسلمين: لعلكم قصرتم في سنة من سنن الدين؛ حبس الله عنكم الفتح لأجلها، فنظروا فإذا هم قد تأخروا عن السواك، فقد كانوا في أرض ليس بها من الشجر ما يستاكون به، فأمر بعض القوم فأتاهم بالمساويك، فلما صفوا في أوجه العدو جعلوا يستاكون، فظن العدو أنهم يشحذون أسنانهم ليأكلوهم ففتحوا لهم الحصن.

نماذج لأهل التربية والهمم العالية

وكذلك الذين برزوا في العلم وحمل هذه الرسالة والأمانة العظيمة، إنما كان ذلك أثراً من آثار تربيتهم، فهذا سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى يقول: دعتني أمي، وكانت ذات همة وحرص على العلم، فقالت: يا بني! إن لدي همة لجمع العلم، وإني امرأة لا أستطيع أن أغشى مجالس الرجال، ولكني سأكفيك أمر الدنيا بمغزلي، وتكفيني أنت أمر العلم، فكانت تلك المرأة ذات مغزل فتبيع ما غزلته من الصوف، وتنفق به على ولدها، وتغدق عليه الأموال التي يتزود به لأسفاره، ويجمع بها الكتب، ويستطيع بها التفرغ لطلب العلم، فاشتركا في الأجر: فالمرأة تغزل الصوف وتبيعه، والرجل تفرغ لطلب العلم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين.

وكذلك مالك بن أنس رحمه الله يقول: دعتني أمي، وكنت أشتغل بضرب العود، أي بتعلم الغناء في ذلك الوقت وهو صغير، فقالت: يا بني! إنها حرفة لا تصلح لك، فعممتني بعمامة، وكستني ثوباً أبيض، وأعطتني صرة من الدراهم، وقالت: اذهب إلى المسجد فلا ترجع إليَّ حتى تكون رأس الحلقة، وكذلك ربيعة بن فروخ وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك ،الذي اشتهر بـربيعة الرأي ، ما رباه إلا أمه، فإن أباه خرج في الغزوة فمكث أربعاً وعشرين سنة في غزوة من الغزوات، وقد ترك ولده حملاً، فلما رجع وقفل من غزوته جاء إلى بيته فاستقبله رجل، فدخلا في عراك حتى عرف أنه ولده الذي تركه حملاً، وإذا هو عالم المدينة إذ ذاك دون مدافع، فسأل امرأته عن المال الذي تركه عندها، قالت: أنفقته على ولدك حتى أصبح عالم المدينة.

وكذلك غير هؤلاء من الذين برزوا في هذا المجال، كان للتربية الأثر البالغ فيهم، سواء كانت تلك التربية من تربية الأمهات أو من عناية الآباء أو من تربية المربين الآخرين، فهذا أبو يوسف القاضي كان ذكياً جداً، وكان أبوه يحرص على تعليمه بعض المهن الدنيوية، يريد أن ينال من ورائه كسبا ًمادياً، فكان يمر على حلقة أبي حنيفة فيسمعه يناظر في الفقه فتعجبه المناظرة، فيجلس إليه، فرآه أبو حنيفة فأعجب به، فامتحنه، فأعجب بذكائه، فقال: اجلس إليّ حتى تحمل عني بعض هذا العلم الذي لديَّ فقال: إن أبي يمنعني ذلك، فقال: وما حاجة أبيك إليك، قال: يريد مالاً، فقال أبو حنيفة : أنا أكفيك ذلك، فكان أبو حنيفة يعطيه مالاً يقدمه لأبيه كل شهر، ويجلسه هو في مجلسه يتعلم، حتى أصبح الناس يقولون: أبو يوسف وأبو حنيفة ، فهو صورة طبق الأصل من أبي حنيفة .

وكذلك فإن أبا جمرة رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: جلست إلى ابن عباس فكنت أترجم بينه وبين الناس فقال: اجلس عندي شهراً؛ حتى أعطيك قسطاً من مالي، فتقاسم ابن عباس ماله مع أبي جمرة حين أعجب بعلمه، يريد منه أن يتفرغ للحديث وحمل العلم، وكذلك يذكر عن مالك أنه قاسم الشافعي ماله تشجيعاً له على طلب العلم، وكذلك كان محمد بن شهاب الزهري إذا رأى من يعجبه ذكاءه من الطلبة أنفق عليه الآلاف من الدنانير؛ لكي لا تشغله الدنيا والتفكر فيها عن طلب العلم، فكان يفرغ طلاب العلم، فيحتمل الديون في ذلك.

ومثل هذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك العالم المجاهد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان من أشد هذه الأمة قياماً بالحق، فكان إذا رأى من يعجبه ذكاءه أنفق عليه؛ ليقوم لهذه الأمة مقاماً تحتاج إليه، وكان إذا خرج بالحج يأخذ أزواد طلاب العلم فيقول: كل من معه شيء من المال فليأت به، فيأتون بأموالهم، فيتركها عبد الله في مروة، وينفق عليهم من ماله الخالص طيلة الحج، حتى إذا رجع إلى مروة سلم إلى كل واحد منهم ماله الذي أخذ منه، وهم يظنون أنهم يأكلون من أموالهم وأزوادهم، وهم إنما يأكلون من مال عبد الله وزاده؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:

إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها

وقد كتب رحمه الله إلى الفضيل بن عياض -وكان عبد الله إذ ذاك في الغزو إلى أرض فارس، فلقي ركباً يذهبون إلى الحجاز- رسالة يقول فيها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

فلما بلغت هذه الأبيات الفضيل بن عياض بكى بكاءً شديداً حين علم أن الجهاد أفضل مما هو فيه، وأن ابن المبارك والزمرة الذين معه من طلاب العلم هم في نحور العدو وفي الجهاد في سبيل الله في الثغور، فقال للرسول الذي أتاه يحمل هذه الرسالة: لأحدثنك بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالحديث الذي فيه: (لا يجتمع غباران في أنف امرئ مسلم: غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم).

وهكذا الذين أتوا بعد هؤلاء قد اعتنوا عناية بالغة بتربية أولادهم وطلابهم؛ ليكونوا أهلاً لتحمل المسئولية، يحدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله أنه كف بصره وهو صغير في الرابعة من عمره، فقالت له أمه: إن من كان أعمى لا يزينه عند الناس إلا العلم، فاشتغل بحفظ السنة، فإن ذلك يعوض لك ما فقدت من البصر، قال: فاشتغلت بحفظ السنة، واعتكفت ذات ليلة في المسجد وأنا أطلب السنة، فسألت الله أن يرد عليّ بصري، فرده علي، ومع ذلك استمر على الاشتغال بحفظ السنة، وكانت أمه تنفق عليه وتفرغه لطلب الحديث، فإذا أراد الرحلة إلى أي مدينة من أنحاء العالم زودته أمه بأحسن زاد، واختارت له أحسن مركب، وما ذلك إلا من عمل يدها، ولهذا لم تبق حاضرة من حواضر العلم في الأرض إلا دخلها البخاري، وروى ما فيها، حتى بلغت مروياته سبعمائة ألف حديث.

وكذلك حال أبي محمد الجويني رحمه الله، فإنه أراد أن يولد له ولد يربيه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من علماء هذه الأمة، فاكتسب من الحلال حتى أحرز أربعمائة درهم، فأرسل بها إلى رسول أمين إلى أرض الثغر فاشترى له جارية من أرض الثغر، لم تتداولها الأملاك بعد، فأتاه بها، فحرص على تغذيتها من الحلال، ورباها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها، وحرص على منعها من مخالطة الناس، وكان يوقظها لقيام الليل معه ويلزمها بصيام النفل معه، ويعودها على الطاعات والعبادات، حتى أتت بولدها وهو أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني ، فلما ولد منعها من مخالطة الناس، وكان يسعى في الكسب من الحلال للنفقة على زوجه وولده، وكان يأمرها بإرضاعه إذا أكلت من حلال، وبينما هو يصلي ذات يوم، إذ دخلت البيت امرأة فخفف من صلاته وأقبل مسرعاً، فإذا المرأة ترضع ولده، فغضب غضباً شديداً، فيقول عبد الملك : فأخذ برجلي وحملني وعصرني حتى أخرج من بطني كل شيء كان فيه، قال: فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة!

وكذلك يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله في تربية جدته له، يقول : إنه توفيت أمه عند مولده قبل أن يسمى، وتوفي أبوه بعد ذلك بشهر فربته جدته من الأم، فاعتنت بتربيته عناية عظيمة، وقد قص هذه العناية فذكر من أعاجيبها أنها كانت إذا جاعوا تركته حتى ينام، ثم تخرج فتكتسب فتشتري غذاء من التمر والخبز، فتجعله تحت طرف الفراش، فإذا استيقظ جائعاً تقول له: ما لنا إلا أن نسأل ربنا، فتعال بنا نسأل ربنا أن يرزقنا، فيمد يديه ويضرع إلى الله ويبكي وتبكي معه، ثم تقول: إن ربنا قد أعطانا هذا فتكشف الفراش عما تحته من التمر والخبز، وكذلك إذا احتاج إلى اللباس تتركه، حتى إذا انصرف في طلب العلم أو نحو ذلك، فتكتسب هي حتى تشتري له ملابس، ثم تضعه تحت طرف الفراش وتسترها في البيت، ثم تأمر الصبي بالضراعة إلى الله لعل الله يرزقه لباساً، وتعوده على هذا، حتى يقول هو عن نفسه: ما تعلمت اللجأ إلى الله إلا من جدتي تلك، فكان يلجأ إلى الله في شأنه كله.

واللجأ إلى الله مهارة تربوية عظيمة، فإن كثيراً من الناس إذا نابتهم نائبة لجئوا إلى الناس، ولم يلجئوا إلى الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يلجأ إليه، ويسأل وتلتمس منه الحوائج هو وحده الغني الحميد، يقول المكودي رحمه الله:

إذا عرضت لي في زمان حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد

وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد

ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد

الذي يقول حارسه: سيدي اليوم راقد هذا لا تلتمس منه الحوائج، فلذلك يقول: إنه إذا التجأ إلى الله بأي شيء يسره له، وكذلك يقول السهيلي رحمه الله:

بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع

ومن الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع

يقول أحد علماء الشام: كنت معتكفاً في بيت المقدس في رمضان، والمسجد يموج بالمعتكفين، فنام الناس غفوة من وسط الليل، فقام إبراهيم بن أدهم يتضرع إلى الله فيقول:

إلهي عبدك العاصي أتاك مقر بالذنوب وقد دعاك

فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك

فلم يبق أحد في المسجد إلا ردد معه هذه الأبيات من شدة تأثيرها وتعلقها بالله سبحانه وتعالى وحده، وأثر ذلك بالغ فهذا أحد المشايخ رحمه الله أخذه النصارى الفرنسيون فجعلوه في زورق حربي كان يسمى (بني)، فنقلوه يريدون تغريبه، وإخراجه من بلاده؛ بسبب مخالفة حصلت منه لأمرهم، فلما أيقن أنهم قد أخذوه، وأنه لا تصرف له في الأمر، انتزع عمامته من فوق رأسه، والتجأ إلى الله عز وجل وقال:

أقول لما أتى ....... بنا بُنيٌ وغرب عنها وهو منجزل

يقصر الطرف عنه وهو مجتهد عدواً ويقصر عنه العربد الرعل

تلقي دواخله من خلفه ظللاً من فوقها ظلل من تحتها ظلل

الله صاحبنا سفراً وحافظنا رب العباد إليه الوجه والعمل

ولم يخب أمل بالله معتلق ولم يضع من على الرحمن يتكل

فلما انتهى من الأبيات، وقع ماتور الزورق في البحر، فجاء إليه قبطانه يشكو إليه ما حصل، فلجئوا إلى الشاطئ، وانتهت المهمة على هذا الحد، ورجع معززاً مكرماً، وكبت الذي كفر؛ ولذلك كان يقول: أنه إذا جاءته أي نازلة دعا الله تعالى بأبياته المشهورة بالدعاء التي يقول فيها:

يا رب إني إلى رحماك محتاج وأنت من ترتجى من عنده الحاج

أبواب فضلك ما زالت مفتحة ما إن لها دون من يرجوك إرتاج

وبحر جودك غمر كلما نفدت أمواج خير تداعت منه أمواج

منهاج قصدك للحاجات إن حضرت لا ريب في أنه للقصد منهاج

لا يغتني سوقة عنه ولا ملك ما زال يورث في آبائه التاج

ومن يؤمك في الحاجات أجمعها منه سيحمد عند الصبح إدلاج

فيقول: ما دعا بهذه الأبيات في مهمة إلا تحققت.

ومثل ذلك ما يقول الشيخ محمد علي بن عبد الودود رحمه الله:

إني ولو كنت محتاجاً لمحتاج لخير من ترتجى من عنده الحاج

فمنه أطلب حاجي دون واسطة تكون مثلي كما أحتاج تحتاج

وكان يقول كذلك:

لا آمل الناس في سرٍ ولا علنٍ في حالتي ثروة مني وإفلاس

ولا أرى الرزق إلا عند خالقه ولا أضيف أمور الله للناس

إن هذا نوع من التربية يقتضي الاتصال بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده، وبذلك يتقوى الإنسان قوة خارقة، ليست على مستوى قوة الأسباب، فالذي يتصل بالملك الديان سبحانه وتعالى ويسند إليه شأنه كله، قد استعاذ بمعاذ وأوى إلى ركن شديد، ولهذا فهو الغالب لا محالة؛ لذلك كان كثير من السلف ينشد قول الشاعر:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

وهذا المعنى هو الذي يقول فيه العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:

أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي

وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي

أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي

ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالاموال

متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال

ومثل ذلك القادة الذين برزوا فقادوا هذه الأمة في أحلك الظروف، في حروبها ومشكلاتها، إنما كانت قياداتهم من آثار تربيتهم، فهذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزن بألف رجل، عندما أرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستنجده بثلاثة آلاف مقاتل، فأرسل إليه عمر ثلاثة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ، فكتب إليه: لقد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، فكان عمرو بن العاص يجعل هؤلاء في الواجهة أمام المسلمين، فلا يرجعون على أدبارهم حتى يهزم العدو.

يحدثنا الزبير عن تربية أمه له، فيقول: كانت صفية بنت عبد المطلب تضربني في صباي ضرباً شديداً، فكان عمي ينكر ذلك عليها، ويزعم أنها تبغضني، فكانت تقول:

من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب

ويهزم الجيش ويأتي بالسلب

جاءها رجل ذات يوم فقال لها: أين الزبير ؟ فقالت: ما حاجتك إليه، قال: أريد أن أقتله، فقالت: هو في النخل، فاذهب إليه! فذهب الرجل إلى الزبير فاعتركا، فأخذه الزبير فكتفه بحبل وجعله على كتفه وجاء به يحمله، فرماه بين يدي أمه صفية ، فضربت رأسه بمغزل، وقالت له: كيف وجدت زبراً، أعسلاً وتمراً، أم أسداً هزبراً؟!

وكذلك فإن تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتهيئته للقيام بمعارك الإسلام الفاصلة كان لها الأثر البارز في شجاعة الرجل وإقدامه، فقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من المعارك أمام العدو، ولذلك يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل

فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يبذل

ومثل هذا تربية أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير ، الذي جاءت به حين ولد إلى بيت أختها عائشة ، فوضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، ثم تربى تربية أبي بكر والزبير بن العوام ، حتى إنه كان في خطابته يشبه بـأبي بكر ، وفي فروسيته يشبه بـالزبير ! عندما خرج مع عبد الله بن أبي سرح في الجيش الذي وجهه عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع إلى أفريقيا، خرجوا في ثلاثة آلاف فدخلوا أرض برقة وهي أرض ليبيا، فاستقبلهم جيش البربر في مائة وعشرين ألف مقاتل، وعليهم ملك أفريقيا وهو جرجير ، وكان بين قينتين تغنيان وهو يركب بينهما في مركب، فلما رأى ابن أبي سرح الجيش وكثرته دخل قبة له، فقال: لا يدخل عليَّ أحد حتى أفكر في خدعة، فاقتحم عليه ابن الزبير فرعب منه، فقال: إنه ظهرت لي خدعة، فقال: وما هي؟ قال: أن تعطيني مائة مقاتل يحمون ظهري، فأخرج كأني رسول إلى الملك فأطير رأسه، وحينئذ سينهزمون، فأذن له ابن أبي سرح بذلك، فخرج، فاختار مائة فارس وخرج يشق صفوف العدو، وهم لا يظنون إلا أنه يحمل رسالة إلى الملك، حتى وصل إليه فأطار رأسه من بين القينتين، ودارت المعركة، وانقض المسلمون عليهم، وقتلوهم قتلاً.

ثم إن ابن أبي سرح وجه عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان بن عفان ، فأتاه بداره فأخبره بتفاصيل المعركة، وقد كان عثمان في العادة إذا أتاه بشير عن معركة من المعارك، وقفه على المنبر فشرح للناس تفاصيل ما حصل، كما كان يفعل عمر من قبله، لكنه في هذه المرة آثر أن يتقدم ابن الزبير فيقف على المنبر، فيقص على الناس تفاصيل المعركة، وما ذلك إلا لشدة تأثر عثمان بما سمع من قص ابن الزبير وما دار في المعركة، فهو قص إنسان مباشر، دخل المعركة وأفاد فيها، وأبلى البلاء الحسن.

فلما وقف ابن الزبير على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وسمع ذلك المسلمون بكوا بكاءً شديداً، حين تذكروا خطبة أبي بكر ، فقالوا: ما هو إلا أبو بكر .

وكذلك الذين كانوا بعد هؤلاء من التابعين تربوا على تربيتهم، فلذلك كانت لهم الآثار البارزة في نصرة الله ورسوله، وتحمل أعباء هذه الأمة، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي ، وكان شاباً من شباب المسلمين خرج بالجيوش إلى خراسان، فافتتح في غزوة واحدة اثنتين وسبعين مدينة، وكان من أشهر المسلمين في الفتوحات، حتى إنه لم تهزم له راية قط في معاركه كلها، وكان شاباً حديث السن، لكنه كان ذكياً مؤمناً محباً للجهاد في سبيل الله، حاصر حصناً من الحصون فترة فلم يفتح عليه، فقال للمسلمين: لعلكم قصرتم في سنة من سنن الدين؛ حبس الله عنكم الفتح لأجلها، فنظروا فإذا هم قد تأخروا عن السواك، فقد كانوا في أرض ليس بها من الشجر ما يستاكون به، فأمر بعض القوم فأتاهم بالمساويك، فلما صفوا في أوجه العدو جعلوا يستاكون، فظن العدو أنهم يشحذون أسنانهم ليأكلوهم ففتحوا لهم الحصن.

وكذلك الذين برزوا في العلم وحمل هذه الرسالة والأمانة العظيمة، إنما كان ذلك أثراً من آثار تربيتهم، فهذا سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى يقول: دعتني أمي، وكانت ذات همة وحرص على العلم، فقالت: يا بني! إن لدي همة لجمع العلم، وإني امرأة لا أستطيع أن أغشى مجالس الرجال، ولكني سأكفيك أمر الدنيا بمغزلي، وتكفيني أنت أمر العلم، فكانت تلك المرأة ذات مغزل فتبيع ما غزلته من الصوف، وتنفق به على ولدها، وتغدق عليه الأموال التي يتزود به لأسفاره، ويجمع بها الكتب، ويستطيع بها التفرغ لطلب العلم، فاشتركا في الأجر: فالمرأة تغزل الصوف وتبيعه، والرجل تفرغ لطلب العلم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين.

وكذلك مالك بن أنس رحمه الله يقول: دعتني أمي، وكنت أشتغل بضرب العود، أي بتعلم الغناء في ذلك الوقت وهو صغير، فقالت: يا بني! إنها حرفة لا تصلح لك، فعممتني بعمامة، وكستني ثوباً أبيض، وأعطتني صرة من الدراهم، وقالت: اذهب إلى المسجد فلا ترجع إليَّ حتى تكون رأس الحلقة، وكذلك ربيعة بن فروخ وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك ،الذي اشتهر بـربيعة الرأي ، ما رباه إلا أمه، فإن أباه خرج في الغزوة فمكث أربعاً وعشرين سنة في غزوة من الغزوات، وقد ترك ولده حملاً، فلما رجع وقفل من غزوته جاء إلى بيته فاستقبله رجل، فدخلا في عراك حتى عرف أنه ولده الذي تركه حملاً، وإذا هو عالم المدينة إذ ذاك دون مدافع، فسأل امرأته عن المال الذي تركه عندها، قالت: أنفقته على ولدك حتى أصبح عالم المدينة.

وكذلك غير هؤلاء من الذين برزوا في هذا المجال، كان للتربية الأثر البالغ فيهم، سواء كانت تلك التربية من تربية الأمهات أو من عناية الآباء أو من تربية المربين الآخرين، فهذا أبو يوسف القاضي كان ذكياً جداً، وكان أبوه يحرص على تعليمه بعض المهن الدنيوية، يريد أن ينال من ورائه كسبا ًمادياً، فكان يمر على حلقة أبي حنيفة فيسمعه يناظر في الفقه فتعجبه المناظرة، فيجلس إليه، فرآه أبو حنيفة فأعجب به، فامتحنه، فأعجب بذكائه، فقال: اجلس إليّ حتى تحمل عني بعض هذا العلم الذي لديَّ فقال: إن أبي يمنعني ذلك، فقال: وما حاجة أبيك إليك، قال: يريد مالاً، فقال أبو حنيفة : أنا أكفيك ذلك، فكان أبو حنيفة يعطيه مالاً يقدمه لأبيه كل شهر، ويجلسه هو في مجلسه يتعلم، حتى أصبح الناس يقولون: أبو يوسف وأبو حنيفة ، فهو صورة طبق الأصل من أبي حنيفة .

وكذلك فإن أبا جمرة رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: جلست إلى ابن عباس فكنت أترجم بينه وبين الناس فقال: اجلس عندي شهراً؛ حتى أعطيك قسطاً من مالي، فتقاسم ابن عباس ماله مع أبي جمرة حين أعجب بعلمه، يريد منه أن يتفرغ للحديث وحمل العلم، وكذلك يذكر عن مالك أنه قاسم الشافعي ماله تشجيعاً له على طلب العلم، وكذلك كان محمد بن شهاب الزهري إذا رأى من يعجبه ذكاءه من الطلبة أنفق عليه الآلاف من الدنانير؛ لكي لا تشغله الدنيا والتفكر فيها عن طلب العلم، فكان يفرغ طلاب العلم، فيحتمل الديون في ذلك.

ومثل هذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك العالم المجاهد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان من أشد هذه الأمة قياماً بالحق، فكان إذا رأى من يعجبه ذكاءه أنفق عليه؛ ليقوم لهذه الأمة مقاماً تحتاج إليه، وكان إذا خرج بالحج يأخذ أزواد طلاب العلم فيقول: كل من معه شيء من المال فليأت به، فيأتون بأموالهم، فيتركها عبد الله في مروة، وينفق عليهم من ماله الخالص طيلة الحج، حتى إذا رجع إلى مروة سلم إلى كل واحد منهم ماله الذي أخذ منه، وهم يظنون أنهم يأكلون من أموالهم وأزوادهم، وهم إنما يأكلون من مال عبد الله وزاده؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:

إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها

وقد كتب رحمه الله إلى الفضيل بن عياض -وكان عبد الله إذ ذاك في الغزو إلى أرض فارس، فلقي ركباً يذهبون إلى الحجاز- رسالة يقول فيها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

فلما بلغت هذه الأبيات الفضيل بن عياض بكى بكاءً شديداً حين علم أن الجهاد أفضل مما هو فيه، وأن ابن المبارك والزمرة الذين معه من طلاب العلم هم في نحور العدو وفي الجهاد في سبيل الله في الثغور، فقال للرسول الذي أتاه يحمل هذه الرسالة: لأحدثنك بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالحديث الذي فيه: (لا يجتمع غباران في أنف امرئ مسلم: غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم).

وهكذا الذين أتوا بعد هؤلاء قد اعتنوا عناية بالغة بتربية أولادهم وطلابهم؛ ليكونوا أهلاً لتحمل المسئولية، يحدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله أنه كف بصره وهو صغير في الرابعة من عمره، فقالت له أمه: إن من كان أعمى لا يزينه عند الناس إلا العلم، فاشتغل بحفظ السنة، فإن ذلك يعوض لك ما فقدت من البصر، قال: فاشتغلت بحفظ السنة، واعتكفت ذات ليلة في المسجد وأنا أطلب السنة، فسألت الله أن يرد عليّ بصري، فرده علي، ومع ذلك استمر على الاشتغال بحفظ السنة، وكانت أمه تنفق عليه وتفرغه لطلب الحديث، فإذا أراد الرحلة إلى أي مدينة من أنحاء العالم زودته أمه بأحسن زاد، واختارت له أحسن مركب، وما ذلك إلا من عمل يدها، ولهذا لم تبق حاضرة من حواضر العلم في الأرض إلا دخلها البخاري، وروى ما فيها، حتى بلغت مروياته سبعمائة ألف حديث.

وكذلك حال أبي محمد الجويني رحمه الله، فإنه أراد أن يولد له ولد يربيه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من علماء هذه الأمة، فاكتسب من الحلال حتى أحرز أربعمائة درهم، فأرسل بها إلى رسول أمين إلى أرض الثغر فاشترى له جارية من أرض الثغر، لم تتداولها الأملاك بعد، فأتاه بها، فحرص على تغذيتها من الحلال، ورباها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها، وحرص على منعها من مخالطة الناس، وكان يوقظها لقيام الليل معه ويلزمها بصيام النفل معه، ويعودها على الطاعات والعبادات، حتى أتت بولدها وهو أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني ، فلما ولد منعها من مخالطة الناس، وكان يسعى في الكسب من الحلال للنفقة على زوجه وولده، وكان يأمرها بإرضاعه إذا أكلت من حلال، وبينما هو يصلي ذات يوم، إذ دخلت البيت امرأة فخفف من صلاته وأقبل مسرعاً، فإذا المرأة ترضع ولده، فغضب غضباً شديداً، فيقول عبد الملك : فأخذ برجلي وحملني وعصرني حتى أخرج من بطني كل شيء كان فيه، قال: فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة!

وكذلك يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله في تربية جدته له، يقول : إنه توفيت أمه عند مولده قبل أن يسمى، وتوفي أبوه بعد ذلك بشهر فربته جدته من الأم، فاعتنت بتربيته عناية عظيمة، وقد قص هذه العناية فذكر من أعاجيبها أنها كانت إذا جاعوا تركته حتى ينام، ثم تخرج فتكتسب فتشتري غذاء من التمر والخبز، فتجعله تحت طرف الفراش، فإذا استيقظ جائعاً تقول له: ما لنا إلا أن نسأل ربنا، فتعال بنا نسأل ربنا أن يرزقنا، فيمد يديه ويضرع إلى الله ويبكي وتبكي معه، ثم تقول: إن ربنا قد أعطانا هذا فتكشف الفراش عما تحته من التمر والخبز، وكذلك إذا احتاج إلى اللباس تتركه، حتى إذا انصرف في طلب العلم أو نحو ذلك، فتكتسب هي حتى تشتري له ملابس، ثم تضعه تحت طرف الفراش وتسترها في البيت، ثم تأمر الصبي بالضراعة إلى الله لعل الله يرزقه لباساً، وتعوده على هذا، حتى يقول هو عن نفسه: ما تعلمت اللجأ إلى الله إلا من جدتي تلك، فكان يلجأ إلى الله في شأنه كله.

واللجأ إلى الله مهارة تربوية عظيمة، فإن كثيراً من الناس إذا نابتهم نائبة لجئوا إلى الناس، ولم يلجئوا إلى الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يلجأ إليه، ويسأل وتلتمس منه الحوائج هو وحده الغني الحميد، يقول المكودي رحمه الله:

إذا عرضت لي في زمان حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد

وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد

ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد

الذي يقول حارسه: سيدي اليوم راقد هذا لا تلتمس منه الحوائج، فلذلك يقول: إنه إذا التجأ إلى الله بأي شيء يسره له، وكذلك يقول السهيلي رحمه الله:

بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع

ومن الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع

يقول أحد علماء الشام: كنت معتكفاً في بيت المقدس في رمضان، والمسجد يموج بالمعتكفين، فنام الناس غفوة من وسط الليل، فقام إبراهيم بن أدهم يتضرع إلى الله فيقول:

إلهي عبدك العاصي أتاك مقر بالذنوب وقد دعاك

فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك

فلم يبق أحد في المسجد إلا ردد معه هذه الأبيات من شدة تأثيرها وتعلقها بالله سبحانه وتعالى وحده، وأثر ذلك بالغ فهذا أحد المشايخ رحمه الله أخذه النصارى الفرنسيون فجعلوه في زورق حربي كان يسمى (بني)، فنقلوه يريدون تغريبه، وإخراجه من بلاده؛ بسبب مخالفة حصلت منه لأمرهم، فلما أيقن أنهم قد أخذوه، وأنه لا تصرف له في الأمر، انتزع عمامته من فوق رأسه، والتجأ إلى الله عز وجل وقال:

أقول لما أتى ....... بنا بُنيٌ وغرب عنها وهو منجزل

يقصر الطرف عنه وهو مجتهد عدواً ويقصر عنه العربد الرعل

تلقي دواخله من خلفه ظللاً من فوقها ظلل من تحتها ظلل

الله صاحبنا سفراً وحافظنا رب العباد إليه الوجه والعمل

ولم يخب أمل بالله معتلق ولم يضع من على الرحمن يتكل

فلما انتهى من الأبيات، وقع ماتور الزورق في البحر، فجاء إليه قبطانه يشكو إليه ما حصل، فلجئوا إلى الشاطئ، وانتهت المهمة على هذا الحد، ورجع معززاً مكرماً، وكبت الذي كفر؛ ولذلك كان يقول: أنه إذا جاءته أي نازلة دعا الله تعالى بأبياته المشهورة بالدعاء التي يقول فيها:

يا رب إني إلى رحماك محتاج وأنت من ترتجى من عنده الحاج

أبواب فضلك ما زالت مفتحة ما إن لها دون من يرجوك إرتاج

وبحر جودك غمر كلما نفدت أمواج خير تداعت منه أمواج

منهاج قصدك للحاجات إن حضرت لا ريب في أنه للقصد منهاج

لا يغتني سوقة عنه ولا ملك ما زال يورث في آبائه التاج

ومن يؤمك في الحاجات أجمعها منه سيحمد عند الصبح إدلاج

فيقول: ما دعا بهذه الأبيات في مهمة إلا تحققت.

ومثل ذلك ما يقول الشيخ محمد علي بن عبد الودود رحمه الله:

إني ولو كنت محتاجاً لمحتاج لخير من ترتجى من عنده الحاج

فمنه أطلب حاجي دون واسطة تكون مثلي كما أحتاج تحتاج

وكان يقول كذلك:

لا آمل الناس في سرٍ ولا علنٍ في حالتي ثروة مني وإفلاس

ولا أرى الرزق إلا عند خالقه ولا أضيف أمور الله للناس

إن هذا نوع من التربية يقتضي الاتصال بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده، وبذلك يتقوى الإنسان قوة خارقة، ليست على مستوى قوة الأسباب، فالذي يتصل بالملك الديان سبحانه وتعالى ويسند إليه شأنه كله، قد استعاذ بمعاذ وأوى إلى ركن شديد، ولهذا فهو الغالب لا محالة؛ لذلك كان كثير من السلف ينشد قول الشاعر:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

وهذا المعنى هو الذي يقول فيه العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:

أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي

وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي

أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي

ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالاموال

متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال

إن قراءة سير هؤلاء السلف واتصالهم بالله سبحانه وتعالى وما بذلوه في سبيل دينه من الأمور المثبتة على دين الله، التي يحتاج إليها الإنسان في كثير من مواقفه، فعندما تشتد الأزمات ويتكالب الأعداء على دين الله، يلجأ المسلمون إلى قراءة سير سلفهم الصالح، فيجدون فيها متنفساً، ويجدون فيها تقوية لعزائمهم، وتثبيتاً لهم على منهج الله، وإقناعاً لهم بثوابتهم التي لا تتغير ولا تتبدل، وعندما يضيق حال إنسان في هذه الدنيا فيأسى لذلك، يرجع لقراءة سير السلف الصالح فيجد فيها تسلية عما أصابه، ويجد فيها عزاءً، وثقة بالله سبحانه وتعالى وتوكلاً عليه، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله به قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].

أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، قال: (فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق به فرقتين، لا يصده ذلك عن دينه، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، إن هذه القصة التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال السابقين مثبتة للمؤمنين الذين يكون بلاؤهم دون ذلك، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما آذاه رجل فوقف عليه فقال: يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، ابتسم ونظر إليه وقال: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

إن تذكر أحوال أولئك والنكبات التي أصابتهم معين للإنسان على التزام طريق الحق والثبات عليه، والإنسان محتاج إلى مراجعة نفسه وزيادة تربيته من خلال سير هؤلاء الصالحين، ومما يحتاج الناس إلى مراجعته اختيارات العلماء في هذا الباب، فمثلاً يحتاج طلاب العلم إلى مراجعة كتاب الذهبي ، تذكرة الحفاظ، فقد اختار فيه تراجم عدد من الحفاظ الذين بذلوا أسباباً أنجحها الله سبحانه وتعالى، فحفظوا العلم للناس، وكذلك بقراءتنا لكتابه الآخر (سير أعلام النبلاء) يتبين لنا مواقف كثير من المضحين الباذلين في سبيل الله.

إن كل نوع من الناس عليه أن يقرأ في تراجم الذين يريد أن يجعلهم مثلاً حسناً له، فطلاب العلم عليهم أن يقرءوا سير حفاظ العلم ورواة الحديث، والتجار والأغنياء عليهم أن يقرءوا سير الباذلين في سبيل الله، كسيرة عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و سعد بن عبادة بن دليم وغيرهم من المضحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذلين.

وكذلك النساء عليهن أن يدرسن سير نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته اللواتي بايعنه من أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار، وكذلك سير من لحقن على هذا الدرب وسلكن هذا الطريق على مر العصور، إن كل شريحة من المجتمع تركن إلى نظيرتها، ويمكن أن تتأثر بها أبلغ تأثر، فإذا قرأ الملوك تراجم الملوك الصالحين، وقرأ طلاب العلم تراجم العلماء، وقرأ التجار تراجم المضحين؛ فإنهم سيحاولون اللحاق بهم، وسلوك طريقهم، ويكون ذلك وقوداً لهم وعوناً لهم على الاستمرار على هذا المنهج وسلوك هذا الطريق، وما لم يفعلوا فإن التربية ستبقى أموراً نظرية يتهمها كثير من الناس بعدم الواقعية؛ ولذلك فإن بيان الإمكان محتاج إليه، كما يقول أهل البلاغة في قول امرئ القيس :

مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ

فإن قوله: (مكر مفر مقبل مدبر معاً) لا يمكن تصوره إلا بالمشاهدة، فلما مثله بقوله: (كجلمود صخر حطه السيل من عل) عرف الناس إمكان ذلك.

فلهذا نحتاج إلى بيان الإمكان، وما ذلك على الله بعزيز، وبدراستنا لسير هؤلاء يتبين لنا إمكان تطبيق منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وإمكان أن يكون الناس على وفق ما ارتضاه لهم بارئهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وإمكان أن يتدارك الإنسان ما فاته، فهذا العز بن عبد السلام ما طلب العلم إلا بعد أن أكمل ستين سنة، ومع ذلك أصبح مفتي العالم كله، وأصبح سلطان العلماء، بل حين حكم بتكفير أحد وزراء مصر، كان الناس جميعاً لا يلتفتون إليه ولا يتقبلون منه كلمة، بل أرسله الملك برسالة إلى ملك نائي المكان، فلما أتاه بالرسالة قال: من أنت؟ فقال: وزير من وزرائه، قال: لا تكن أنت الذي كفرك العز بن عبد السلام ، فبهت الرجل فقال: أخرجوه عني فهو الذي كفره العز بن عبد السلام .

وحين غاضب ملك مصر خرج من مصر على أتان وحمار له، يحمل على أحدهما زوجه وعلى الآخر كتبه، فلما رآه الناس خارجاً من مصر خرجوا جميعاً في أثره، فجاء الجند إلى الملك، وقالوا: إذا كنت تريد أن تكون ملكاً على مصر فقد خرج أهلها جميعاً مع العز بن عبد السلام ، فإنك لن تكون ملكاً إلا على الخلاء الذي ليس فيه أحد، فذهب الملك إليه يسترضيه ويسترجعه حتى رجع.

وهذا النووي رحمه الله الذي خرج من نوى شاباً حدث السن، وذهب إلى دمشق، واشتغل بطلب الحديث، عزم على أن لا ينام مضطجعاً حتى يعود إلى أهله، فمكث في دمشق سبع عشرة سنة ما نام مضطجعاً، لا ينام إلا مستنداً على سارية من سواري المسجد ويضع عينيه على يديه فوق ركبته؛ لكي لا يستغرق في النوم عن طلب العلم، ولهذا كان أسلافنا يقولون: الحر فيما مشى.

وكذلك لم يأكل خياراً مدة مقامه بدمشق، قال: إن أكله يؤدي إلى الركون إلى الدنيا، فلم يأكل خياراً مدة مقامه في دمشق، والخيار نوع من البقول معروف.