خطب ومحاضرات
نماذج من تضحيات علماء الشناقطة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الناس بالرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين ليدلوا الناس على الطريق الذي يرتضي منهم خالقهم سبحانه وتعالى، فما من أمة إلا وفرط فيها رسول دعاها إلى ما يرتضيه منها خالقها سبحانه وتعالى.
وعندما ختم الله رسالات الرسل إلى أهل الأرض جعل العلماء ورثة الأنبياء، فجعلهم الحاملين لمشعل الحق والرافعين للوائه، يجاهدون في سبيله ويعلون كلمة الله سبحانه وتعالى بما يبذلون ويضحون، وقد يسرهم الله سبحانه وتعالى لذلك وأعانهم عليه، واختارهم اختياراً من بين خلقه، فقد قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51] .
وقد اختار من خلقه أمناءه على الوحي الذين هم خلفاء الأنبياء وحملة هذا الوحي وأمناء الله عليه، وهم الموقعون عن رب العالمين، تقوم بهم الحجة لله على الناس، وقد قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم!
إن أولئك الذين ائتمنهم الله سبحانه وتعالى على الوحي واختارهم من بين الخلق لإقامة الحجة هم أمناء الله سبحانه وتعالى، قد ارتضاهم لهذه الأمانة، فلم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، إنما يختار لوحيه من يصلح لأن يؤتمن عليه.
ويعدهم الله سبحانه وتعالى لذلك إعداداً عظيماً قبل أن يكلفهم بهذه المهمات، وقد انتبه لهذا الإعداد أحد شعراء شنقيط وهو ........ الحسني رحمه الله في قصيدته التي يصف بها الشيخ سديه ابن المختار رحمهم الله أجمعين حيث يقول:
ما للمشيب وفعل الفتية الشببه وللبيب يواصي في الصبا خببه
آلت لذي شمط الخدين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه
لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صدري بما سلبه
ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه
أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة
حتى وضعت عصا سيري بباب فتىً يؤوي الطريد ويولي الراغب الرغبة
من نبعة طيب الباري أرومتهـا بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه
حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه
أحنى على الشعث والأيتام من نصـب على صغير لها قد أكبرت عطبه
أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة
يلقى العفاة بوجه من سماحتـه كالهندوان تجلو متنه الجلبه
وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه
ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه
رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبة
رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه
رأى الضيوف على باب الكمال كمـا يرى العفاة على عدّ حمت قلبه
من معتفٍ وأخي حوجا وملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه
أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه
فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربة
إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبة
لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه
وكم ذءاً بينما حيي أصلحه خرز الصناع لمسنى أجرة قربه
أما الرقاع فأعناق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربة
رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه
فهنا انتبه إلى الاختيار الرباني للذين يأتمنهم الله على الوحي ويجعلهم أساطين الأرض يقومون بالحجة لله فيقولون كلمة الحق مدوية لا يخافون في الله لومة لائم، ويقومون لله بالقسط في عباده، فيؤدون الحق الذي عليهم بعد أن تحملوه، فأخذوه من حله ووضعوه في محله، وجاهدوا في سبيله، فلذلك قال:
رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه
علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطيرة من سرب المها عطبة
إن أولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لابد أن يتفرقوا في الأرض ضرورة؛ لأن الناس تفرقوا فيها وشغلوا، فلذلك لابد أن يكون في كل بلاد من بلاد الله من يحملون لواء الحق ويضحون في سبيله، ويبذلون كل ما يبذله الناس في أمور الدنيا في سبيل الله عز وجل وإقامة دينه.
ومن هؤلاء حملة العلم الذين آثروه على كل ما سواه، وبذلوا في سبيله أوقاتهم النفيسة، فكما ضحى المجاهدون بدمائهم في سبيل الله كذلك ضحى العلماء بمدادهم في سبيل الله، وكان لهم الدور البارز في تكوين المجاهدين والباذلين بمختلف أنواع البذل، فكم من عالم كتب له أجر الآلاف من المجاهدين والمضحين، وكم من عالم كذلك كتب لدعوته البقاء فاستجاب لها الملايين بعد موته، واستمرت خالدة في هذه الأرض ببركة إخلاصه لله عز وجل وقناعته بصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن هؤلاء الذين تفرقوا في الأرض لا يمكن أن يكون لبلد منهم ما هو أوفر من نصيب غيرهم من البلدان؛ لأن عدل الله سابق، لكن إنما تتفاوت حظوظهم باعتبار اعتراف الناس لهم بالجميل أو عدم اعتراف الناس لهم بذلك.
ومن هنا فعلماء قطر شنقيط الميامين الذين خاضوا مشارق الأرض ومغاربها حاملين هذا العلم ومبلغيه إلى كل من يمكن أن يؤتمن عليه، ومربين الأجيال على ما حملوه منه ثم يكن لهم في الماضي من الحظ لدى الناس ما ينقص أجرهم، فلم يشتهروا في حياتهم بالذكر والشكر في أغلب الأحيان، وإنما عاشوا في أغلب الأحيان مغمورين لا يعرفهم إلا أهل بلادهم.
واليوم في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه بمثابة قرية واحدة، وأصبحت الأنباء فيه تتناقل بما يسوء في أكثر الأحيان من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن جنوبها إلى شمالها وبالعكس، كان جديراً بهؤلاء أن يذكر ما قدموه لعدة أمور:
أولاً: اعترافاً بالجميل وشكراً للنعمة. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، وفي رواية (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)، فلابد أن يشكر الناس بما معهم من الحق.
وقد أمر الله بشكر ذوي النعم كالوالدين في قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[لقمان:14] .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالاعتراف بالجميل لأهله، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أمره بإنزال الناس منازلهم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، ومن المعلوم أن الصحابي الكبير إذا قال: (أمرنا) فالمقصود بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء قد اختارهم الله للائتمان على وحيه، فمن الثناء على الله ومن إعلاء كلمته ومن إعزاز دينه تشريفهم وتكريمهم، فهم أمناء الرسل وخلفاؤهم، فجدير بهم أن يذكروا وأن يبين فضلهم للأمة، وبالأخص في الأوقات التي تتعالى فيها صيحات المدعين الذين هم من الأدعياء الذين لا يبلغ أحدهم شسع نعل أحد من أولئك، ولا يمكن أن يصل إلى أقل شيء من تضحياته وبذله.
وفي الوقت الذي أصبح الخلف فيه يتنكرون للسلف فأصبحوا يظنون أنهم في غنى عما كان لدى أسلافهم، بل أصبح كثير من الناس يهرع في سباق محموم إلى حضارات أعدائه وثقافاتهم متنكراً لحضارات الأسلاف الذين هم -لا شك- أعقل وأزكى وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
كذلك فإن هؤلاء الأئمة رحمهم الله قد خلفوا مجداً عريقاً ينبغي أن يحيا في أذهان الجيل الصاعد ليعلموا أنهم ورثة لذلك الجيل، وليساهموا في إحياء ما أبقوه، وليسلكوا طريقهم، فقد كانوا مُثُلاً يحتذى بها ويقتدى بها في طريق الحق.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته.
فأولئك الأسلاف الذين شهد لهم بالاستقامة حتى ماتوا على طريق الحق جدير بهم أن تبين سيرهم للناس ليقتدوا بهم وليسلكوا طريقهم.
كذلك لاشك أن البلدان الإسلامية -وبالأخص البلدان الفقيرة- تشهد في زماننا هذا كثيراً من المؤامرات الدنيئة الخسيسة من قبل أعداء الله ورسوله، فهم يشوهون تاريخها ويحاولون قطع الشعوب عن ماضيها، ويحاولون شغلهم بما لا خير فيه، فإذا راجعت المقررات الدراسية التي يقرها المعهد التربوي المحترم في موريتانيا ستجد فيها كثيراً من أدبيات الفرنسيين وغيرهم وقليلاً من تراث المسلمين، وبالأخص التراث العلمي لهذا البلد العريق.
كذلك مما يحدو إلى بيان حال هؤلاء والتنويه بأمرهم أن آثارهم أيضاً في هذه الأمة مشهودة محمودة، فقد سافر عدد منهم، فكانت لهم الصولات والجولات في مشارق الأرض ومغاربها، وأبقوا الأثر المحمود الذي ينبغي أن يشتهروا عليه وأن يذكروا به.
كذلك مما لا شك فيه أن هؤلاء أيضاً من حقهم علينا أن نبين بعض مآثرهم وبعض كتبهم التي تركوها لعلها تجد من يهتم بها فيبحث عنها ويفتش عنها بين مكتبات أهل البادية، لعلها تخرج فيستفيد منها الجيل الصاعد، فكم من إنسان عثر على مخطوطة نادرة ولم يكن هو من أهل العلم فاختزنها في خزانة وبقيت حبيسة طيلة عمره حتى إذا مات اكتشفت وعرفت قيمتها.
ومع الأسف فإن هذا المجال سبق فيه أعداء الله عز وجل من المستشرقين من المنصرين واليهود، فهم الذين سبقوا للتنقيب عن المخطوطات ونشرها، لكن من الواضح أنهم في ذلك لا يقصدون إشهار العلم وإحياءه، وإنما يقصدون إذاعة المنكر وإشاعته بين الناس.
ولهذا فإنهم يبحثون عن الكتب المنحرفة، فيفرحون كثيراً إذا وجدوا كتاباً في الخمريات، أو في أشعار الغزل المنحرف، أو في الفلسفات المترجمة الدخيلة على الإسلام، أو بعض كتب الذين اندسوا في التاريخ ولم يكن لهم ذكر في تاريخ هذه الأمة، فيحاولون نشر هذه الكتب.
وإذا تجرد بعضهم فاطلع على مخطوطة نادرة من التراث المهم لهذه الأمة في مثل مكتبة (الإسكوريال) أو (دبلن) أو غيرهما من المكتبات الغربية الكبرى يحاول إخراجها محرفة، والأمثلة على هذا كثيرة، وبين يدي كتاب المصاحف لـأبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله، وهذا الكتاب قد نشره أحد المستشرقين عن نسخة مخطوطة، لكنه تعمد التحريف فيه والتبديل بما لا يدع مجالاً للشك من أنه قاصد لذلك متعمد له، ونظير هذا كثير جداً.
ولذلك فإن الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله عندما ألف كتابه المهم (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فضح بعض سرائر هؤلاء المستشرقين، فناقش أحد المشاهير منهم وهو يوسف شخت عندما أراد أن يطعن في الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله فذكر أن مسلماً طعن فيه في مقدمة الصحيح، وأنه قال: كان عبد الله بن المبارك ثقة يأخذ عن كل من هب ودب.
وهذا المستشرق تعمد تحريف النص، فالنص في مقدمة صحيح مسلم هو كالتالي: قال عبد الله بن المبارك : كان بقية يأخذ عن كل من هب ودب. وهذا تجريح من عبد الله لـبقية، و بقية من الضعفاء، فغير هو الكلمة فقال: ثقة. وجعل الكلام موجهاً إلى ابن المبارك فقال: وكان ثقة يأخذ عن كل من هب ودب. بدل: وكان بقية يأخذ عن كل من هب ودب.
لكن الله فضحه أولاً بالتناقض، حيث لا يعلم أن من كان ثقة لا يمكن أن يأخذ عن كل من هب ودب، ثم بعد ذلك بما بينه الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.
إن علماء بلاد المغرب العربي قد اشتهروا منذ القرن الخامس الهجري في بداياته عندما قدم إلى هذه البلاد عبد الله بن ياسين الجزولي رحمه الله داعياً إلى منهج الحق مجدداً للإسلام في هذه البلاد، فأقام أول حركة إسلامية عرفت في هذا البلد وهي حركة المرابطين، أقامها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوحيين الكتاب والسنة، وأخذ الناس بالعزائم وضحى التضحية الجميلة العجيبة، فإنه قد خرج مهاجراً من بلده لم يصحب أهلاً ولا مالاً، وما أخذ معه من بلاده إلا سيفه وكتابه.
ولما جاء إلى موريتانيا اعترضه أمراء القبائل، ووجد مضايقة من الملأ والكبار كعادتهم في استقبال كل دعوة وافدة، فمن المعلوم أن كبار كل أهل بلد يقفون دائماً في وجه الدعوات، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا[الأنعام:123] ، فهم الذين يقفون في وجه الدعوات ويناصبون الأنبياء العداء ويناصبون كل من دعا إلى الله العداء، وهم الملأ الذين يريدون الحفاظ على الواقع المنحرف الذي تربعوا على عرشه فلا يريدون تغييره.
لكن الدعاة من سنة الله أن يستجيب لهم الضعفاء، وأن تستجيب لهم الطبقات المسحوقة، وأن يستجيب لهم الشباب، كما قال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ[يونس:83] .
وعندما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أضعفاء الناس اتبعوه أم أقوياؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل.
فأتباع الرسل في كل زمان ومكان والمستجيبون والمبادرون لهذه الدعوة في الغالب هم المسحوقون في أمور الدنيا يعوضهم الله عنها خيراً منها.
فإن الملأ يريدون الحفاظ على الواقع؛ لأن مصالحهم مرتبطة به، أما الشباب والمستضعفون فليست لهم مصالح واقعية يحافظون عليها، فلذلك يرغبون في الاستجابة للدعوة، وإذا رأوا الحق واضحاً لم يحل بينهم وبين اتباعه والاستجابة له بعض المكاسب أو الآمال الدنيوية.
عندما جاء ابن ياسين إلى بلاد موريتانيا هذه ووقف في وجهه الملأ استجاب له الشباب، فاختار منهم مجموعة قليلة رأى أنها أهل الجلد والصبر، وذكر أن هؤلاء الفئة القليلة يصدق عليهم قول الله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249] .
طريقة ابن ياسين في التربية والسلوك
وقد أسكن أولئك الشباب في جزيرة شمال نواكشوط، وهي جزيرة (تيدرا)، و(تيدرا) بالعجمية البربرية معناها (المقبرة)، وذلك أنه يدفنها الماء في بعض فصول السنة فتختفي، وفي بعض الفصول يخف دونها الماء، فأسكنهم في هذه الجزيرة وفصلهم عن المجتمع المنحرف ورباهم تربية عميقة، فكان يجلد من تأخر عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تأخر عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تأخر عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تأخر عن الرباعية كلها أربعين سوطاً، حتى كونهم رجالاً أهل صلابة وقوة.
وهذا الجلد قد ظنه بعض الناس تطرفاً وتشدداً وتحجراً، ولكن الواقع خلاف ذلك، كما قالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما كانت تضرب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في صغره فكان عمه يتهمها فيقول: ما ضربته إلا لبغضك إياه. فقالت:
من خالني أبغضه فقد كذب
وإنما أضربه لكي يلب
ويهزم الجيش ويأتي بالسلب
ولذلك رأى أحد حكماء هذه البلاد وأمرائها وهو الأمير العادل محمد الحبيب بن أعمر بن مختار رحمهم الله أجمعين، رأى أحد أولاده يبكي والناس يسترضونه فغضب، فقال: دعوه حتى يشبع من البكاء، فمن لا يبكي لا يُنكي.
إنها كلمة حكيمة قالها هذا الرجل الحكيم، فبقيت أثراً خالداً في تربيته لأولاده، فكانوا في السكينة والقوة والصبر على المكان المعروف لهم.
كذلك فإن ابن ياسين رحمه الله أخذ هؤلاء جميعاً بتعلم العلم، فجعل النهار كله للعلم والليل كله للعبادة والدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان أولئك الذين صحبوه مُثُلاً عالية لهذا الشعب.
إقامة ابن ياسين لدولة المرابطين
ولما رأى منهم ما يسره من الإقبال على الله سبحانه وتعالى وإحسان عبادته والمستوى العلمي الذي وصلوا إليه. قال: الآن امتثلنا أمر ربنا في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[الأنفال:60].
ثم جعلهم بينه وبين القبلة، فمد يديه إلى الله عز وجل قائلاً: يا رب! هذه عدتي أعددتها للجهاد في سبيلك. وخرج بهم يزجيهم إلى الجهاد في سبيل الله.
فجاهد لإقامة دولة الإسلام وجاهد الكفار والمنافقين فلم تقف أمامه أي دولة، ولم يهزم له لواء، واستمر الفتح في البلاد الإفريقية، وكان هو لفضله وحكمته لا يحب الرئاسة ولا الشهرة ولا الذكر بين الناس، فأمر على أولئك المرابطين المجاهدين خيرهم، وهو يحيى بن عمر اللمتوني، وكان خيرهم علماً وورعاً وشجاعة وعبادة وتضحية فكان قرة عين له، ومع ذلك عندما قاتلوا في إحدى الوقائع فتقدم يحيى حتى اخترق صفوف المشركين غضب عبد الله بن ياسين، فأمر بالأمير بعد انتهاء المعركة فجلد عشرين سوطاً، فقيل: علام تجلد الأمير وقد رجع ظافراً منتصراً على أعداء الله؟! فقال: لأنه خاطر، ما ينبغي للأمير أن يدخل المخاطرة إلا عندما يكون الجيش في خطر!
ومن هنا تدرك ذكاء ابن ياسين وملكته القتالية الجهادية بالإضافة إلى ملكاته العلمية العبادية.
ذكر العلماء الذين خلفوا ابن ياسين بعد مقتله
في ذلك الوقت ظهر رجل في جنوب المغرب ادعى النبوة، فخرج إليه ابن ياسين لجهاده فقتله وصلبه وقتل أصحابه، لكن اغتالته هو قبيلة (برقواطة) وهي قبيلة من البربر، فكانت كارثة بالنسبة للدعوة في هذا البلد فقد فقدت مربيها الأول وعالمها وقائدها ومرشدها، فاحتاج الناس إلى خلف يخلفه فأتوا بالإمام الحضرمي، وكان من كبار طلاب أبي الحجاج الضرير، وهو من أئمة المالكية المحدثين والفقهاء، فاستوفدوه إلى هذه البلاد قاضياً ومرشداً ومعلماً، فقام بالأمر بعد ابن ياسين خير قيام.
ولم يتحفنا التاريخ بكثير من قصصه إلا أنه رحمه الله ترك كتاباً يدل على نبل وعلو منزلة، وهو كتاب (الإشارة في تدبير الإمارة)، وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وهو يدل أيضاً على مكانة الرجل وذكائه ومهاراته وخبرته وتضحيته في إعلاء كلمة الله.
وقد رزقه الله الشهادة في سبيله -نحسبه كذلك- في (أثوقي) قرب مدينة (أطار)، ودفن في ذلك المكان وما زال قبره فيه معروفاً إلى اليوم.
وعندما قتل كانت الكارثة الثانية على المرابطين أيضاً، فبحثوا عن بديل، فأتوا بـإبراهيم الأموي من الأندلس، وكان من العلماء الزهاد العباد، وهو من ذرية عمر بن عبد العزيز ، وكان في بقايا بني أمية الذين كانوا يحكمون الأندلس، فأخرجوه من الأندلس وحاكموه إلى قاض فحكم لصالحهم، فترك كتبه وماله وجاء بأهله حتى نزل بمجلس يحيى بن عمر اللمتوني فكان قاضي المجلس، وهو الذي اشتهرت ذريته بقبيلة المجلس، أي: مجلس العلم أو مجلس القضاء. لأنه كان قاضي ذلك المجلس وعالمه.
وقد عاش فيه زماناً حتى قتل يحيى وخلفه أخوه أبو بكر الذي يشتهر لدى العامة بـأبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان أبو بكر كذلك يجمع بين العلم والقيادة والصلاح، فقد بذل كذلك جهوداً كثيرة في الجهاد في سبيل الله حتى قتل رحمه الله تعالى، وقبره معروف إلى اليوم.
ثم بعد ذلك العصر اشتهر عدد من المضحين الباذلين في عصور متفاوتة، ومن أولئك الذين صحبوا يوسف بن تاشفين إلى المغرب ثم إلى الأندلس وشهدوا معه موقعة الزلاقة، وكان فيهم ثلاثون ألفاً من الملثمين، أي: من سكان هذه البلاد، وفيهم يقول الداني الأندلسي:
قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا
وبقي أولاد المرابطين محافظين على هذا النهج، حتى إن كثيراً من كتب التاريخ تذكر أن مدينة (تنيقي) -وكانت تسكنها قبيلة تجاكانك- كانت قبل إحدى المعارك المعروفة فيها تخرج ثلاثمائة طفل في التاسعة أو العاشرة يحفظون الموطأ والمدونة.
وقد أسكن أولئك الشباب في جزيرة شمال نواكشوط، وهي جزيرة (تيدرا)، و(تيدرا) بالعجمية البربرية معناها (المقبرة)، وذلك أنه يدفنها الماء في بعض فصول السنة فتختفي، وفي بعض الفصول يخف دونها الماء، فأسكنهم في هذه الجزيرة وفصلهم عن المجتمع المنحرف ورباهم تربية عميقة، فكان يجلد من تأخر عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تأخر عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تأخر عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تأخر عن الرباعية كلها أربعين سوطاً، حتى كونهم رجالاً أهل صلابة وقوة.
وهذا الجلد قد ظنه بعض الناس تطرفاً وتشدداً وتحجراً، ولكن الواقع خلاف ذلك، كما قالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما كانت تضرب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في صغره فكان عمه يتهمها فيقول: ما ضربته إلا لبغضك إياه. فقالت:
من خالني أبغضه فقد كذب
وإنما أضربه لكي يلب
ويهزم الجيش ويأتي بالسلب
ولذلك رأى أحد حكماء هذه البلاد وأمرائها وهو الأمير العادل محمد الحبيب بن أعمر بن مختار رحمهم الله أجمعين، رأى أحد أولاده يبكي والناس يسترضونه فغضب، فقال: دعوه حتى يشبع من البكاء، فمن لا يبكي لا يُنكي.
إنها كلمة حكيمة قالها هذا الرجل الحكيم، فبقيت أثراً خالداً في تربيته لأولاده، فكانوا في السكينة والقوة والصبر على المكان المعروف لهم.
كذلك فإن ابن ياسين رحمه الله أخذ هؤلاء جميعاً بتعلم العلم، فجعل النهار كله للعلم والليل كله للعبادة والدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان أولئك الذين صحبوه مُثُلاً عالية لهذا الشعب.
ولما رأى منهم ما يسره من الإقبال على الله سبحانه وتعالى وإحسان عبادته والمستوى العلمي الذي وصلوا إليه. قال: الآن امتثلنا أمر ربنا في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[الأنفال:60].
ثم جعلهم بينه وبين القبلة، فمد يديه إلى الله عز وجل قائلاً: يا رب! هذه عدتي أعددتها للجهاد في سبيلك. وخرج بهم يزجيهم إلى الجهاد في سبيل الله.
فجاهد لإقامة دولة الإسلام وجاهد الكفار والمنافقين فلم تقف أمامه أي دولة، ولم يهزم له لواء، واستمر الفتح في البلاد الإفريقية، وكان هو لفضله وحكمته لا يحب الرئاسة ولا الشهرة ولا الذكر بين الناس، فأمر على أولئك المرابطين المجاهدين خيرهم، وهو يحيى بن عمر اللمتوني، وكان خيرهم علماً وورعاً وشجاعة وعبادة وتضحية فكان قرة عين له، ومع ذلك عندما قاتلوا في إحدى الوقائع فتقدم يحيى حتى اخترق صفوف المشركين غضب عبد الله بن ياسين، فأمر بالأمير بعد انتهاء المعركة فجلد عشرين سوطاً، فقيل: علام تجلد الأمير وقد رجع ظافراً منتصراً على أعداء الله؟! فقال: لأنه خاطر، ما ينبغي للأمير أن يدخل المخاطرة إلا عندما يكون الجيش في خطر!
ومن هنا تدرك ذكاء ابن ياسين وملكته القتالية الجهادية بالإضافة إلى ملكاته العلمية العبادية.
في ذلك الوقت ظهر رجل في جنوب المغرب ادعى النبوة، فخرج إليه ابن ياسين لجهاده فقتله وصلبه وقتل أصحابه، لكن اغتالته هو قبيلة (برقواطة) وهي قبيلة من البربر، فكانت كارثة بالنسبة للدعوة في هذا البلد فقد فقدت مربيها الأول وعالمها وقائدها ومرشدها، فاحتاج الناس إلى خلف يخلفه فأتوا بالإمام الحضرمي، وكان من كبار طلاب أبي الحجاج الضرير، وهو من أئمة المالكية المحدثين والفقهاء، فاستوفدوه إلى هذه البلاد قاضياً ومرشداً ومعلماً، فقام بالأمر بعد ابن ياسين خير قيام.
ولم يتحفنا التاريخ بكثير من قصصه إلا أنه رحمه الله ترك كتاباً يدل على نبل وعلو منزلة، وهو كتاب (الإشارة في تدبير الإمارة)، وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وهو يدل أيضاً على مكانة الرجل وذكائه ومهاراته وخبرته وتضحيته في إعلاء كلمة الله.
وقد رزقه الله الشهادة في سبيله -نحسبه كذلك- في (أثوقي) قرب مدينة (أطار)، ودفن في ذلك المكان وما زال قبره فيه معروفاً إلى اليوم.
وعندما قتل كانت الكارثة الثانية على المرابطين أيضاً، فبحثوا عن بديل، فأتوا بـإبراهيم الأموي من الأندلس، وكان من العلماء الزهاد العباد، وهو من ذرية عمر بن عبد العزيز ، وكان في بقايا بني أمية الذين كانوا يحكمون الأندلس، فأخرجوه من الأندلس وحاكموه إلى قاض فحكم لصالحهم، فترك كتبه وماله وجاء بأهله حتى نزل بمجلس يحيى بن عمر اللمتوني فكان قاضي المجلس، وهو الذي اشتهرت ذريته بقبيلة المجلس، أي: مجلس العلم أو مجلس القضاء. لأنه كان قاضي ذلك المجلس وعالمه.
وقد عاش فيه زماناً حتى قتل يحيى وخلفه أخوه أبو بكر الذي يشتهر لدى العامة بـأبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان أبو بكر كذلك يجمع بين العلم والقيادة والصلاح، فقد بذل كذلك جهوداً كثيرة في الجهاد في سبيل الله حتى قتل رحمه الله تعالى، وقبره معروف إلى اليوم.
ثم بعد ذلك العصر اشتهر عدد من المضحين الباذلين في عصور متفاوتة، ومن أولئك الذين صحبوا يوسف بن تاشفين إلى المغرب ثم إلى الأندلس وشهدوا معه موقعة الزلاقة، وكان فيهم ثلاثون ألفاً من الملثمين، أي: من سكان هذه البلاد، وفيهم يقول الداني الأندلسي:
قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا
وبقي أولاد المرابطين محافظين على هذا النهج، حتى إن كثيراً من كتب التاريخ تذكر أن مدينة (تنيقي) -وكانت تسكنها قبيلة تجاكانك- كانت قبل إحدى المعارك المعروفة فيها تخرج ثلاثمائة طفل في التاسعة أو العاشرة يحفظون الموطأ والمدونة.
دور الحجاج الثلاثة والشريف مولاي عبد المؤمن
ذكر المختار بن حامد رحمه الله أن قبيلة المجلس كان فيهم إذ ذاك في أيام مرابط المجلس المشهور عدد كبير من الفتيات اللواتي يحفظن المدونة.
وهكذا حافظ أحفاد المرابطين على هذا العلم زماناً طويلاً، فلما كان في أواسط القرن السادس الهجري جاء الحجاج الثلاثة المشهورون فنزلوا مدينة (شنقيط) وبنوها، فكان أحد هؤلاء الثلاثة كفيلاً بالهندسة المعمارية، وكان الآخر كفيلاً بالتجارة، وكان الثالث كفيلاً بالعلم والإمامة والقضاء، واشتهرت ذريتهم بذوي الحاج، أي: بذرية هؤلاء الحُجاج الثلاثة، وكان لهم أثر بالغ في تجديد العلم بعد دولة المرابطين، وقد نشروه فاشتهرت مدينة شنقيط من ذلك العهد بالعلم، فكان الناس يفدون إليها من مشارق الأرض ومغاربها ليتعلموا فيها، واشتهر من الذين يفدون إليها كثير من الأفارقة الذين اشتهروا بالعلم والصلاح في البلدان الأفريقية.
ولم يستقر أولئك الحجاج الثلاثة في مدينة شنقيط حتى جاء الشريف مولاي عبد المؤمن فبنى مدينة (تشيد)، وجاء يحمل مكتبة ضخمة عظيمة ما زالت آثارها إلى الآن خالدة من المخطوطات التي لا يعرف أحد اليوم أسماءها ولا فنونها فيما أعلم.
وهي إلى الآن ما زالت موجودة قائمة في مكتبة الشريف مولاي عبد المؤمن في (تشيد) يسرق منها النصارى وينهبون، ومع ذلك بقيت آثارها إلى وقتنا هذا.
دور قبيلة البدوكل وسيدي محمد الكنتي
كذلك عندما قامت قبيلة (بدوكل) فأعلنوا الجهاد في سبيل الله من جديد وجددوا دعوة المرابطين وفد إليهم الشيخ سيدي محمد الكنتي من (توات) من جنوب الجزائر، وهو من ذرية عقبة بن نافع الفاتح لهذه البلاد رضي الله عنه، فجاء بعلم جم وسكن في بدوكل، ورباهم على العلم وحببه إليهم، فكان الناس يفدون إليه في طلب العلم.
وخرج من ذريته الشيخ سيدي أحمد البكاي الذي اتجه إلى الحج فنزل بمدينة (ولاته) فرافعه أهلها فقالوا: يجب عليك المقام بين أظهرنا حتى تعلمنا ما معك من العلم. ورافعوه عند القاضي فحكم لهم القاضي، وكان أهل (ولاته) من ذلك العهد إلى زماننا هذا محبين للعلم يجتمع عليه سوادهم الأعظم.
فلم تكن مدينة من مدن هذه البلاد يجتمع سوادها الأعظم من العامة والتجار وغيرهم في حلقات العلم مثلما كان موجوداً في (ولاته)، ولذلك استمر الحال فيهم إلى هذا الزمان، فهم يختمون صحيح البخاري في شهر شوال بعد أن يقرءوا غالبه في شهر رمضان، ويختمون كتاب الشفا للقاضي عياض كذلك في شهر ربيع الأول، ويجتمع على قراءة هذين الكتابين جماهيرهم وعوامهم إلى وقتنا هذا.
دور تحالف قبائل تشمشة في نشر العلم وإحياء الدين
اشتهر في القرن السابع والثامن عدد من الذين وفدوا إلى هذه البلاد من خارجها، ومنهم الخمسة المشاهير الذين كونوا تحالف قبائل (تشمشة)، وهم: يعقوب ........ جد قبيلة (بني يعقوب) وهو من ذرية جعفر بن أبي طالب ، وقد كان من العلماء العاملين، وكذلك منهم ..... ضمغر جد قبيلة (أولاد ديمان)، ومنهم كذلك دبيال يعقوب، وهو جد قبيلة (إدات شغا)، وكذلك يدال، وهو جد قبيلة (اليداليين)، ويدمسه، وهو جد قبيلة (دقبهني)، وقد وفد هؤلاء إلى هذه البلاد فتحالفوا فيها على تجديد الدين، وانطلقوا من قول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[الفرقان:63] .
وأرادوا إقامة دولة الإسلام، فوجدوا إذ ذاك هذه المنطقة يسيطر عليها قبائل (أولاد رزق) فلم يجدوا لديهم تحمساً لإقامة دولة الإسلام، فلما جاء المغافرة قدم عليهم أحمد بن دامان، وكان أصغر أخوته لكنه كان سيداً مطاعاً، فأعجبه هديهم ودلهم وسمتهم وأعجب بهم غاية الإعجاب، فلما جاء من الشمال من أراد مقاتلتهم منعه أحمد بن دامان ذلك وقاتل دونهم، فجعلهم قضاة هذه البلاد وعهد إليهم بالتدريس فيها، وقد نصبوا قاضياً مشهوراً فيها.
ذكر المختار بن حامد رحمه الله أن قبيلة المجلس كان فيهم إذ ذاك في أيام مرابط المجلس المشهور عدد كبير من الفتيات اللواتي يحفظن المدونة.
وهكذا حافظ أحفاد المرابطين على هذا العلم زماناً طويلاً، فلما كان في أواسط القرن السادس الهجري جاء الحجاج الثلاثة المشهورون فنزلوا مدينة (شنقيط) وبنوها، فكان أحد هؤلاء الثلاثة كفيلاً بالهندسة المعمارية، وكان الآخر كفيلاً بالتجارة، وكان الثالث كفيلاً بالعلم والإمامة والقضاء، واشتهرت ذريتهم بذوي الحاج، أي: بذرية هؤلاء الحُجاج الثلاثة، وكان لهم أثر بالغ في تجديد العلم بعد دولة المرابطين، وقد نشروه فاشتهرت مدينة شنقيط من ذلك العهد بالعلم، فكان الناس يفدون إليها من مشارق الأرض ومغاربها ليتعلموا فيها، واشتهر من الذين يفدون إليها كثير من الأفارقة الذين اشتهروا بالعلم والصلاح في البلدان الأفريقية.
ولم يستقر أولئك الحجاج الثلاثة في مدينة شنقيط حتى جاء الشريف مولاي عبد المؤمن فبنى مدينة (تشيد)، وجاء يحمل مكتبة ضخمة عظيمة ما زالت آثارها إلى الآن خالدة من المخطوطات التي لا يعرف أحد اليوم أسماءها ولا فنونها فيما أعلم.
وهي إلى الآن ما زالت موجودة قائمة في مكتبة الشريف مولاي عبد المؤمن في (تشيد) يسرق منها النصارى وينهبون، ومع ذلك بقيت آثارها إلى وقتنا هذا.
كذلك عندما قامت قبيلة (بدوكل) فأعلنوا الجهاد في سبيل الله من جديد وجددوا دعوة المرابطين وفد إليهم الشيخ سيدي محمد الكنتي من (توات) من جنوب الجزائر، وهو من ذرية عقبة بن نافع الفاتح لهذه البلاد رضي الله عنه، فجاء بعلم جم وسكن في بدوكل، ورباهم على العلم وحببه إليهم، فكان الناس يفدون إليه في طلب العلم.
وخرج من ذريته الشيخ سيدي أحمد البكاي الذي اتجه إلى الحج فنزل بمدينة (ولاته) فرافعه أهلها فقالوا: يجب عليك المقام بين أظهرنا حتى تعلمنا ما معك من العلم. ورافعوه عند القاضي فحكم لهم القاضي، وكان أهل (ولاته) من ذلك العهد إلى زماننا هذا محبين للعلم يجتمع عليه سوادهم الأعظم.
فلم تكن مدينة من مدن هذه البلاد يجتمع سوادها الأعظم من العامة والتجار وغيرهم في حلقات العلم مثلما كان موجوداً في (ولاته)، ولذلك استمر الحال فيهم إلى هذا الزمان، فهم يختمون صحيح البخاري في شهر شوال بعد أن يقرءوا غالبه في شهر رمضان، ويختمون كتاب الشفا للقاضي عياض كذلك في شهر ربيع الأول، ويجتمع على قراءة هذين الكتابين جماهيرهم وعوامهم إلى وقتنا هذا.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |