أرشيف المقالات

من أدباء الصعيد في القرن السادس

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الرشيد الأسواني للأستاذ محمود عزت عرفة (تتمة ما نشر في العدد الماضي) دعواه الخلافة في اليمن آلت هذه الدعوى بالرشيد إلى القبض عليه وتجريده، ثم إنفاذه مكبلاً إلى قوص وسجنه بها، وكان حاكمهاً (طرخان) ممن يسرون له عداوة قديمة؛ فشهره في الاسواق، ولم يقصر في إضعاف العقوبة له، ولكن سرعان ما ورد الأمر من قبل الملك الصالح بإطلاق سراح الرشيد، ولما يمض على اعتقاله أكثر من ليلتين (وكان الصالح إذ ذاك والياً على منية ابن خصيب) ومن الغريب حقاً أن يكون هذا كل ما ينال الرشيد من عقوبة على دعواه الجريئة؛ وما من ريب في أن التهمة - بهذا الوضع - مبالغ فيها، ولا سيما إذا ذكرنا أن بعثته إلى اليمن وقعت في عهد الخليفة الحافظ لدين الله، والد الخليفة الظافر الذي رثاه الرشيد أول مقدمه إلى القاهرة وقد حدد موعدها الأدفوي بعام تسع وثلاثين وخمسمائة - أي قبل وقفته في رثاء الخليفة الظافر بعشر سنوات - فهو لم يكن وقت هذه البعثة على شيء من الجاه أو النفوذ، يكفل له النجاة من عواقب دعوى جريئة، كتلك التي نسبت إليه، إن كان يجدي في مثل هذا نفوذ أو جاه! نعم، قد يكون لسعي أخيه (المهذب) الذي كان عظيم الحظوة لدى الملك الصالح أثره في العفو عنه.

ولكن، هل يتفق مع نوع هذه التهمة أن يأمر الصالح - بعد ليلتين من وصول الرشيد - بإطلاق سراحه والإحسان إليه، فيحضره والي قوص من سجنه مكرماً - كما يذكر ياقوت -؟ التهمة ولا شك مبالغ فيها - كما ذكرنا - وغير مستبعد أن تكون قد دست عليه في جملتها وتفصيلها، ثم تبينت براءته منها بوجه لم يدع إلى مؤاخذته سبيلاً.
ويؤيد هذ أن الأدفوي (صاحب الطالع السعيد) يؤكد براءته من تهمة دعوى الخلافة بدليل يمكن أن نعده قاطعاً.
فقد ذكر أنه ذهب إلى اليمن داعياً للخليفة الحافظ، متلقباً بعلم المهتدين، حتى قال فيه بعض شعرائهم من قصيدة بعث بها إلى صاحب مصر: بعثت لنا علم المهتدين (م) ولكنه علم (أسود)! ثم قال: (وقد وقفت على محضر كتبه باليمن، فيه خط جماعة كثيرة، أنه لم يدع الخلافة، وأنه مواظب على الدعوة للخليفة، رأيت المحضر بأسوان) ويذهب ابن خلكان في تعليل الغضب عليه واعتقاله مذهباً آخر - دون أن يشير إلى قصة ادعائه الخلافة - فيذكر أن الرشيد كان قد مدح جماعة من ملوك اليمن، منهم علي بن حاتم الهمداني الذي قال فيه: لقد أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا ...
فلست أنال القحط في أرض قحطان وقد كفلت لي (مأرب) بمآربي ...
فلست على (أسوان) يوماً بأسوان وأن جهلت حقي زعانف خندفِ ...
فقد عرفت فضلى غطارف همْدانِ قال: فحسده الداعي في عدن على ذلك، وكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه المهذب أخو الرشيد كان من أسباب تعجيل العفو عن الرشيد ما سعى به أخوه المهذب (حسن بن الزبير) لدى الملك الصالح؛ وكان لديه أثيراً وبه مختصاً والمهذب شاعر معروف، مجيد في نظمه وفي نثره.
ذكره العماد الأصفهاني، فأجزل في الثناء عليه ثم قال: هو أشعر من الرشيد، والرشيد أعلم منه.
ومن شعره قوله: هْمُ نصبُ عيني أَنجدُوا أم غاروا ...
ومُنى فؤادي أَنصَفوا أو جاروا وهموا مكان السِّر من قلبي وإنْ ...
بعُدتْ نوى بهمو وشطَّ مزارُ تركوا المنازل والديار، فما لهم ...
إلا القلوبَ منازلٌ وديار واستوطنوا البيد القفار فأصبحت ...
منهم ديار الأنس وهي قفارُ وله أيضاً هذا البيت الذي يستشهد به علماء المعاني كثيراً، في باب الإطناب: ومالي إلى ماءٍ سوى النيل غُلةٌ ...
ولو أنهُ - أستغفُر الَله - زمزمُ وهو من قصيدة يمدح بها كنز الدولة ابن متوج أولها: بأيِّ بلادٍ غيرِ أرضي أخيمُ ...
وأيَّ أناسٍ غيرَ أهلي أيِّممُ ومن أشهر شعر المهذب قصيدة له تسمي (النواحة) كتب بها إلى داعي اليمن يمدحه ويستعطفه على أخيه، ويقول فيها: يا ربعُ أين ترى الأحبة يَّمموا؟ ...
هل أنجدُوا من بعدنا أم أتهموا؟ رحلوا وقد لاح الصباح وإنما ...
يسرى إذا جُنَّ الظلامُ الأنْجمُ وتعوضت بالأنس روحي وحشةً ...
لا أوحش لله المنازل منهمو! لولا همو ما قمتُ بين ديارهْم ...
حيرانَ أستافُ التراب وألثِم وقد أجاب الرشيد على هذه القصيدة بميمية من وزنها قال فيها: رحلوا فلا خلتِ المنازلُ منهمو ...
ونأوْا فلا سلتِ الجوانحُ عنهمو وسرَوْا - وقد كتموا الغداةَ مسيرهم - ...
وضياء نور الشمس ما لا يُكتَم وتبدَّلوا أرضَ العقيق عن الحمي ...
روَّت جفوني أيَّ أرض يمموا! ما ضرهم لو ودَّعوا من أودعوا ...
نار الغرام، وسلَّموا من أسلموا هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا ...
أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتهَموا في غمرة السياسة خرج الرشيد من معتقله موفور الكرامة، ممتلئ النفس بالآمال الجسم؛ وقد انتقل بعد حين إلى القاهرة فاحتل مكانه موموقة بين أدبائها. وكانت أبواب المناصب أمامه مفتوحة، وسبله إليها معبدة.
ولكن همته كانت أبعد من أن تفق من ذلك عند غاية، وقد اختير في عام 559 هـ ناظراً على الدواوين السلطانية في ثغر الإسكندرية، فكان ذلك على كره شديد منه؛ ولعله كان أشد اهتماما وقتئذ بما جرى في مصر من أحداث سياسية، اجتذبه تيارها - بعد حين - فخض غمرتها في جرأة وطموح كفاه حياته وتفصيل ذلك أن أبا شجاع شاور بن مجير - وكان والياً على الصعيد الأعلى - قصد القاهرة بعد مقتل الملك الصالح عام 556 هـ وتمكن من قتل العادل وزير الخليفة العاضد (آخر خلفاء الفاطميين)، واحتلال مكانه من الوزارة.
ثم لم يلبث أن خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر فطرده من القاهرة وتولى الوزارة بعده. وقد ذهب شاور إلى الشام مستنجداً بالملك الصالح نور الدين محمود زنكي أمير حلب، الذي أمده بجيش يقوده أسد الدين شيركوه (عام 559هـ) فانتصر على ضرغام وتبوأ منصب الوزارة من جديد. ولكن ما عتم أن تنكر لحلفائه وخان عهد من نصروه، واستعان بملك الإفرنج صاحب بيت القدس على محاربتهم وطردهم؛ وبعد مناوشات وحرب وحصار انسحب شيركوه مرتداً بجيشه إلى الشام. وفي أثناء هذه الحوادث كان يبدو ميل الرشيد إلى نصرة شيركوه، وقد جرت بينهما مكاتبات انتهى أمرها إلى شاور فحنق عليه حنقا شديداً وجد في طلبه ولكنه اختفى.

واعتقل شاور المهذب - أخا الرشيد - لنفس التهمة.
ولم يجد لديه ما استعطفه به من رقيق الأشعار، حتى التجأ إلى ابنه أبو الفوارس شجاع ابن شاور - وكان كريم النفس خيرا - فتقبل منه مدائحه التي بعث بها إليه من معتقله، وعنى بأمره أبلغ عناية، حتى تمكن من إخراجه من محبسه، ثم ضمه إليه ورفه من حاله واصطنعه.

ولم يمتد حبل الحياة بالمهذب بعد هذا طويلاً فمات في ربيع الثاني من سنة 561 هـ وفي عام 562 هـ عاد شيركوه إلى مصر فاستولى على الجيزة وهزم الإفرنج في الصعيد، ثم مضى إلى الإسكندرية فافتتحها، وجعل عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف.
ولما عاد شيركوه إلى الصعيد حاصرت عساكر الإفرنج والمصريين مدينة الإسكندرية؛ وقد جاهد صلاح الدين في سبيل الاحتفاظ بها ثلاثة أشهر.
وظهر أثناء ذلك أبو الحسين الرشيدي بعد أن طال اختفاؤه، واقبل يقاتل بين يدي صلاح الدين بسيفه؛ ولم يزل معه حتى تم رفع الحصار باتفاق أجراه الطرفان إثر عودة شيركوه، وبذلك تم انسحاب عسكر الشام القبض على الرشيد ومقتله لم يمض غير يسير على الحوادث حتى وقع الرشيد في قبضة شاور وكان حقده عليه بالغاً.
قال ياقوت: (اتفق أن ظفر به على صفة لم تتحقق لنا، فأمر بإشهاره على جمل، وعلى رأسه طرطور، ووراءه جلواز ينال منه) وقد رؤى على هذه الحال الشنيعة وهو ينشد: إن كان عندك يا زمان بقيةٌ ...
مما تهين به الكرام فهاتها وشنق الرشيد وهو على حال عجيب من التجلد وفرط الاحتمال؛ وقد ظل يتمتم بآيات من القرآن الكريم حتى فاضت روحه، وكان ذلك في المحرم من سنة 563 هـ ورواية المنذري عن مقتله تقول: (دخل مع الناصر الإسكندرية وكتب في أمور، فأخذه شاور وعذبه عذاباً شديداً.
فبلغه أنه قال: (الهوان والعذاب من الملوك في طلب الملك ليس بعار.
فأمر به فضربت عنقه) وقد دفن الرشيد في الموضع الذي صلب فيه؛ ثم نقلت رفاته بعد عام أو أكثر إلى مقبرة خاصة في مدافن القاهرة. (جرجا) محمود عزت عرفة

شارك الخبر

المرئيات-١