أرشيف المقالات

بين شاعر ومصور

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
مشروع زواج بقلم محمد روحي فيصل جلس الصديقان يتسامران بعد العشاء، وقد انبسطت أعضاؤهما فوق الأرائك الناعمة الوثيرة، يرسلانها على هواهما، ثم يعبثان بما ينشأ عن دخان التبغ في الفضاء من منعرجات وأشكال.
وتلك ساعة حلوة عذبة، تنشرح لها الصدور، وتشرق فيها الوجوه، وتنطلق فيها الألسن بالكلام، وتجيش فيها القلوب بنوازي الحياة وشتى العواطف والأهواء، وكلها تنزع إلى الظهور والإفصاح، وتطلب السفور والإعلان من غير التواء ولا تحجب.
وكان ضوء المصباح نحيلا شاحباً، يضطرب كالمحتضر على جدران الغرفة الرحبة، ثم لا يكاد يبين ما يزينها: من طنافس مزركشة وأسلحة مفضضة.
إنما يبرز إلى النصف بين الظلال الفاحمة رسم امرأة فتية قد اتخذت وضعاً مائلا نحو الأمام كأنما هي تتسمع صاغية، وضاحة المحيا، صبوحة الوجه في عينين زاهيتين، وفم مطبق مرهوب تطفو عليه ابتسامة حيرى ذات معان!! وكان الكرسي الصغير والنعال الدقيق المبعثرة ههنا وههنا توحي للخاطر بوجود طفل وليد في الدار، ومن الغرفة المجاورة كانت تنبعث الحين بعد الحين أنغام شجية، وموسيقى متسقة منسجمة، إذ تهدهد الأم الرؤوم فتاها كي ينام.
فيمتلئ الجو بالنشيد روعة وجمالاً، ويشيع فيه عبير اللذة والهناء، فيصيح الشاعر مهتاجاً: (لك الحق يا أخي أن تتزوج وأن تنعم بالزواج، فليست سبل السعادة كثيرة متشعبة.
إنها هنا على مقربة منا.

بربك التمس لي فتاة أتزوجها!)
المصور - أنا ألتمس لك فتاة؟! تالله لن أخوض غمار ذلك أبداً الشاعر - ولماذا؟ المصور - تسألني لماذا؟ فاعلم أن أصحاب الفن ما ينبغي أن يتزوجوا، وما ينبغي أن يكون لهم في الحياة شركاء الشاعر - يا للعجب! تقول ذلك ولا تخشى أن يغور نور المصباح وتنقض على رأسك الجدران.
إن حياتك الزوجية نصب مائل للسعادة المنشودة والنعيم المقيم! ومثلك فيما تز كمثل أولئك الأغنياء المترفين يكنزون المال ويضاعفون الثروة من آلام الآخرين وشقاء العاملين، ويستطيعون نار الشتاء حين يذكرون البؤساء الذين لا مأوى لهم ولا نار عندهم!! المصور - قل ما تشاء، شبهني بما تهوى، فلن أكون لك إلا الصديق الوفي النصوح الذي يرى الخطر فلا يقف مكتوف اليدين متبلد الحس، جامد الشعور الشاعر - أراك تسرف في كره الزواج إسرافاً كبيراً مع أني استروح أريج السعادة هنا كما أتنفس الهواء الطلق في الحقول! المصور - نعم إني سعيد كما تقول، أحب زوجتي حباً جما وأرى فيها وفي ولدي كل جمال الوجود والحياة.
لقد كان زواجي مرفأ هانئاً آمنا تحفه المياه الوادعة، أقلني وما زال يقلني إلى ما أصبو إليه من مواطن الراحة والسلام.
وإنتاجي أحصب وسما، ولعل خير رسومي قد أبدعتها في عهد الزواج.
الشاعر - وما بالك تنأى بي إذن عن عالم السعادة؟ المصور - ها.

إن السعادة التي أنعم في أحضانها إنما هي أعجوبة من أعاجيب القدر، لا يسمح بها الزمان، ولا تجود بها الطبيعة على الناس جميعا.
وأنا كلما أدركت ماهية الزواج فرحت لهذا الحظ الضاحك الذي حباني به الإله الكريم.
فحالي تشبه حال من فطن للهوة السحيقة المخيفة بعد أن اجتازها فأعجب بشجاعته ومضاء همته، وشكر الله على سلامته! الشاعر - وما هي مساوئ الزواج يا أخي؟ المصور - أولى المساوئ وأعظمها أن الأسرة تستهلك المواهب وتميت الإبداع، وهذا أمر له وجاهته بلا ريب في حياة الفن الجميل.
يكون الزواج استجابة طبيعية للغريزة الكامنة الحمراء، وقد يعلى شأن بعض الرجال ويوسع إطار خبرتهم، ويدنيهم من الأرض والمدنية، ثم لقد يكون ضرورة من ضرورات المهنة والمعاش.
أما الفنانون من شعراء ومصورين ونحاتين وموسيقيين لا يمتزجون بالناس ولا يدخلون المجتمع، وإنما يعيشون على حافة الحياة يرقبونها عن كثب ويتأملون خطوطها وألوانها ثم يسجلون مشاهداتهم ويبدعون آثارهم.
فالمتزوجون فيهم على هذا ينبغي أن يكونوا قلائل نادرين هذا (ديلا كروا) العظيم الذي تعجب به وتهيم برسومه قضى عمره الطويل أعزب يدب وحيداً بين جدران بيته.
لقد خطرت البارحة على (شانروازى) ومتعت النفس بحديقتها النضرة المتزهرة.
إنه ظل عشرين عاماً يغدو بها وبروح لا مؤنس له غير هديل الحمام وتغريد العنادل.
ترى ما قيمة إنتاجه لو كان أباً يهتم للكسب والأولاد، يربيهم ويعني بتعليمهم، وقد يمرضون فيسهر على مداواتهم ولا ينام؟! الشاعر - ذكرت لي ديلا كروا مثلا، فهلا ذكرت فكتور هوجو.

أتعتقد أن شؤون الأسرة قتلت ملكاته وأخذت عليه سبيل الإنتاج الأدبي الخالد؟ المصور - أنا لا أرى ذلك ابداً، ولكن الفنانين المتزوجين ليسوا كلهم عباقرة تهضم الفن والعائلة قواهم النفسية.
الشاعر - ما عجبت لشيء عجبي لحكاية متزوج سعيد لا يحب لغيره إلا العزوبة والوحدة! المصور - إن الحكم الذي أضعه بين يديك ليس مصدره حياتي الخاصة! إنما كونته عندي تلك الشرور القائمة في كثير من الأسر التي عرفتها واتصلت بها.
والباعث على الشرور التباين العقلي والنفسي بين الفنان وزوجه.
أتذكر ذلك النحات الماهر الذي ترك الأهل والوطن وهاجر إلى حيث لا يدري مصيره أحد من الخلق؟ لقد كان يعبد مهنته ويفنى فيها وقته وحواسه، ولكن زوجه الذكية الحسناء كانت تريده على أن يحيط حسنها بهالة من الثروة والجاه، فطفق النحات يكد ويعمل طوال عشر سنين، وربما تدفع به وبنفسها في بعض الأماسي إلى الأبهاء الرفيعة الأرستقراطية تدخلهن واحدة بعد أخرى وتذيع فيهن مالها وبهاءها، ولقد تقطع عليه عمله في النهار لتزور ويزور صويحباتها، ثم يرتادان معاً أماكن اللهو ومجالس الأنس.
ستقول إنه يستطيع لو شاء ألا يحقق مناها، ولكن الزواج في طبيعته يضطرنا إلى أن نؤثر جانب الرفق واللين على جانب الشدة والعنف.
لا أنكر أن هواء البيت إنما نتنفسه على الرغم منا، ولو لم يكن فيه ذرة من القوة والمثل الأعلى لثقل علينا ضغطه وكثافته.
إن الفنان ليودع في آثاره كل ما يملك من جهد وفكر، ويجرد لهذا الغرض العزم والإرادة، ولكنه يقف من توافه الحياة موقف العاجز الضعيف، يلين لزوجته حتى المهانة، ويخنس لسلطانها حتى العبودية، تأمره فيمضي في صمت وتقول فيفعل في هدوء.
على انه قد يثور إذا اطرد الاستبداد واشتدت العبودية، فهذه العصائب المانعة للنور ان هي عاقته عن الإنتاج الفني لا يلبث ان يطرحها في نفور كما فعل المثال المهاجر، وقد حزنت الزوجة لهذه الهجرة الفجائية فتساءلت (أأكون أنا الجانية عليه؟ هل من إساءة وخزته بها؟) بلى! إنها لم تعمد إلى الإساءة عمداً، وإنما جرت مع طبيعتها الطائشة الغريرة دون ان تفقه زوجها الحساس.
فليس يكتفي ان تكون المرأة ذكية حصيفة لتصلح شريكة الفنان في الحياة، بل ينبغي لها في النزعات نكران الذات والتضحية بالنفس، وهذا ما لا تجده عند امرأة جاهلة بهرتها لذاذات الدنيا وغشيتها الأنانية!! إنما يرغب النساء أن يكن رشيقات ساحرات، وأن يتزوجن وجيه القوم كي يظهرن إلى جنبه متأبطات ذراعه.
فأما الفنان الصناع فلا يجد متسعاً من الوقت حتى يتبرج مختالا كما يتبرجن مختالات فخورات، أرأيت كيف تشقى الاسر وينتابها الألم؟ أعرفت كيف يسقط الزوج ضحية الجلاد الأعظم.

وبالأمس زرت (دار حنتى) الموسيقار وكان يسمر مع خواته الكثير، فطلبوا إليه فيما طلبوا أن يعزف على البيان، فقام يرجع لحنا سائغا طرب له الحاضرون وصفقوا أيما تصفيق، ولكن زوجته ما لبثت أن شرعت تتحدث في خفوت، فما زال صوتها يعلو حتى ملأ الغرفة وشغل الناس، فقطع الموسيقار لحنه ثم التفت إلي وهمس في أذني (هكذا تصنع معي على الدوام.
إنها لا تطرب للموسيقى.!)
الشاعر - سهوت عن أمر جليل.
إن الزواج خطرة هي لحظات الخور والملال، يتشاءم فيها الفنان ويشك في نفسه وفي قيمة فنه، فالمتزوج إنما يرى بقربه قلباً حبيباً يبثه أشجانه وشكوكه.
والطفل؟ هذه الابتسامة البريئة التي تتألق على وجه الغض، أليست تعزى الشيخ وتجدد شبابه، ولك ما يخسره الفنانون يربحه أبناؤهم من بعدهم.
فهذه الشعرات البيضاء التي تتساقط في المشيب يرونها تنبت سوداء متجعدة على رأس مستدير بديع المصور - وكيف يستطيع الشيخ الواهن إطعام الطفل الصغير؟ الشاعر -.

.
وعلى كل حال فالفنان إنما خلقه الله للزواج قبل أن يخلقه للفن، فإذا لم يتزوج كان في الدنيا كالمسافر الجواب قد أتعبه التشرد فسكن إلى غرفة من غرف الفندق كتبت عليها هذه العبارة المبتذلة (للإيجار ليلة أو شهر) المصور - ولكن هذا المسافر المتنقل لن يتذوق طعوم اللذات. الشاعر - كفى! لقد اعترفت بأن في الدنيا لذات.
وبدا للمصور فنهض من مكانه إلى درج رسومه يلتمس منه كتابا مخطوطاً بالياً ثم عاد وقال (أما المناقشة على هذا النحو فلن تفيد أبداً.
لقد بسطت لك رأيي ولكنك تأبى إلا الزواج، فهذا كتاب خطته يد متزوج سعيد لابس أسر الفنانين ودرس ما يكابدون من أسقام، ثم صور ذلك تصويراً طريفاً دقيقاً، ولم يطبعه بعد، فاقرأه بإمعان فهو رادك بلا ريب إلى جادة الصواب.
)
عن (أزواج الفنانين) بتصرف محمد روحي فيصل في الأدب الفرنسي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢