تفسير سورة النصر
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
تفسير سورة النصرعن ابن عباسٍ قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدني ابن عباسٍ، فقال له عبدالرحمن بن عوفٍ: إن لنا أبناءً مثله، فقال: إنه مِن حيث تعلم، فسأل عمرُ ابن عباسٍ عن هذه الآية: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1]، فقال: "أَجَلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ إيَّاه"، قال: ما أعلم منها إلا ما تعلم"؛ صحيح البخاري.
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1]:
"إذا" ظرف لما يُستقبل من الزمان؛ كقوله تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ [الزلزلة: 1]، وكقوله سبحانه: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، والإخبار بذلك قبلُ كونه مِن أعلام النبوة، ووجهٌ مِن وجوه إعجاز القرآن في الإخبار بالمغيَّبات المستقبلة.
وعبَّر سبحانه عن حصول النصر بالمجيء؛ للإشعار بأن المقدَّرات مُتوجهة إلى أوقاتها المعينة لها، فتقترب منها شيئًا فشيئًا.
والفرق بين النصر والفتح هو: أن النصر هو التأييد الذي يكون به قهرُ الأعداء، والفتح: هو فتح مساكنهم، فالنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذِكْر النصر، وعطف الفتح عليه كما جاء النصرُ مضافًا إلى الله تعالى؛ لأنه ما من نصرٍ إلا وهو مِن عند الله؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 126 - الأنفال: 10].
ونَكَّرَ النصرَ لأنه نصرٌ مِن نصر الله، وعَرَّفَ الفتح لأنه قُصد به فتح مكة، كما صَحَّ عند البخاري في صحيحه من حديث عائشة قالتْ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر مِن قول: ((سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه))، قالتْ: فقلتُ: يا رسول الله، أراك تُكثر مِن قول: ((سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه))؟ فقال: ((أخبرني ربي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتها أكثرتُ مِن قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1]، فتح مكة، ﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 2، 3]".
﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾ [النصر: 2]:
الناس: هم العرب عامَّة؛ للحديث الذي رواه البخاري في صحيحه مِن حديث عمرو بن سلمة الذي قال: "وكانت العربُ تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌّ صادقٌ، فلما كانتْ وقعة أهل الفتح بادر كلُّ قومٍ بإسلامهم".
و"الناس" هم أهل اليمن خاصة، عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ إذ قال: ((الله أكبر! الله أكبر! جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قومٌ نقيَّةٌ قلوبهم، ليِّنة طباعهم، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية))؛ صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان.
﴿ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ [النصر: 2]: دينُ الله هو الإسلام، وأضافه تعالى إليه تشريفًا وتعظيمًا، مثل: بيت الله، وناقة الله.
أفواجًا: أي جماعات، لا أفرادًا متفرقين كما كان يحدث في السنين الأولى للدعوة.
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]:
أي: فقل: سبحان الله متلبسًا بحمده، أو حامدًا له، وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسَّره الله له مما لم يكن يخطر ببال أحد، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم مِنَّته عليه بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأم القرى، ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار.
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1] إلا يقول فيها: ((سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي))؛ صحيح البخاري.
والجمع بين هذا الذكر والدعاء من باب: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، ومن باب تقديم الوسائل على المطالب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك:
1- ليكون كالطابع على عمله في آخر عمره:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسًا أو صلَّى، تَكلَّم بكلماتٍ"، فسألتُه عن الكلمات، فقال: ((إن تكلم بخيرٍ كان طابعًا عليهنَّ إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كان كفارةً له: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك))؛ الصحيحة.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن تَوَضَّأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم طبع بطابعٍ، فلم يكسر إلى يوم القيامة))؛ الصحيحة.
2- ليكون فيه تشبه بالملأ الأعلى، وما هو مُقبل عليه؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [غافر: 7].
3- ليكون فيه الازدياد من محبة الله تعالى؛ لقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ [البقرة: 222].
4- ليكون فيه تعليم لهذه الأمة، وإشارة إلى أن النصر لهذا الدين يستمر ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره؛ فقد قال سبحانه: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال سبحانه على لسان هود: ﴿ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52]، ولم يزَلْ نَصْرُ الله مستمرًّا، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان، إلى أن حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث، فابتلاهم الله بتفرُّق الكلمة، وتشتُّت الأمر، فحصل ما حصل.
5- ليكون فيه تنبيه لهذه الأمة بأن الله تعالى جعل لها أمانين من عذابه؛ أحدهما: وجوده صلى الله عليه وسلم فيهم، والثاني: وجود الاستغفار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، فمجيء نصر الله والفتح كان مشعرًا بأن الأمان الأول قد ينقضي زمانه عن قريب، وأنه ينبغي للأمة المواظبةُ على الأمان الثاني، والاجتهاد فيه، وأكد لهم الأمر بذلك، بتوجيه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأن أمر الرئيس أدعى إلى امتثال أتباعه، وكل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو خطابٌ لأمته.
والحمدُ لله الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحات
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك