أرشيف المقالات

رمضان وتربية الإنسان الكامل

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
رمضان وتربية الإنسان الكامل
هل نستطيع جني ثماره؛ لتكون زادًا لأعمارنا كلها؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
 
وبعد:
فنَحن على مشارف الوَداع، تلاقينا مع الشهر الكريم، وعانقنا فيه الهدى، ورَجَونا من الله العفو، وأخذتْنا حرارةُ الدُّعاء وتلاوة الذِّكر، راقبْنا فيه رَبَّنا، فتحققتْ في أنفسنا - كلٌّ على قدر إخلاصه - تقوى الله - عزَّ وجلَّ - ومَحَّصتنا بفضل الله مدرسةُ الصيام، التي هي بحقٍّ مدرسة صناعة الإنسان الكامل، وتربية الأخلاق الشاملة، التي سعى إلى تَحقيقها في النفس البشرية علماءُ النفس، وعلماء التربية، وفلاسفة كل العصور.
 
هل يُمكن أن تستمر معنا حالةُ رمضان إلى ما بعد رمضان، الذي أوشك على الرحيل، هل نَحفظ مقامه وهو المعلم الفذ، والأستاذ الأعز، الذي لو فقهنا، لكان منا تلامذة له في مدرسة الإنسان الكامل.
 
أولاً: من الإنسان الكامل؟
هو عند فيلسوف مثل "كانت": الشخصُ الذي يكون سلوكه قابلاً لأن يُؤخَذ مبدأ إنسانِيًّا عامًّا، وعند (نيتشه): الإنسانُ الخارق الذي يعمل على تطوير ذاتِه؛ حَتَّى يصيرَ بالعقل والقوة قادرًا على التحكُّم في الأشياء.
 
لَم تتمكن - لعَمْر الحق - أيَّةُ مدرسة من مدارس التربية، ولا علم النفس، ولا الفلسفات المختلفة - من أن تخرج لنا الإنسانَ الكامل المزعوم، ولا أزعم أنَّ المسلمين استطاعوا في عصورهم الأخيرة أنْ يُخرجوا نموذجًا يقترب من الإنسان الكامل، الذي أرى مدرسة الصيام رافدًا من أهم روافد انطلاقه وشُموخه، وروعة أخلاقه.
 
ذلك لأنَّنا نؤدي العباداتِ في مُجملها طقوسًا حركية، لا ندرك معها بُعْدَها الرُّوحي، وأثرَها الأخلاقي، لكن تأمل معي - رعاك الله - رَوْعَة الأخلاق التي يُمكن أن يربيها فينا الصيام، وتأمَّل الثمار التي يُمكن أن نجنيها من رمضان؛ بل إنِّي لأجزم أنَّ مَن تأمَّلها، وتَمثلها، وعاش وفقًا لها، فهو الإنسان الأقرب إلى الكمال بحول الله، ولا غروَ أن يكونَ إمامُنا وحبيبنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكملَ شخص عرفه تاريخُ البشرية؛ لأَنَّه - عليه الصلاة والسلام - لَم يعرف الفصام الذي نعيشه بين العبادة وأثرها، وعاش الصيام روحًا ووجدانًا قبل أن يكون صيام البطن والشهوة، فكان أسرعَ بالخير من الريح المرسلة.
 
ما الذي تبثه فينا مدرسة الصيام؟
أول ما يتبادر: إشعارُ العبد برقابة الله - جل وعلا - هبْ أنَّ مُسلمًا في نَهار رمضان يجلس وحْدَه في غرفة، أو في قصر، أو يسير في فلاة، لا يراه أحد، ولا يراقبه مُراقب، لماذا لا يُقدِم على تناوُل الطعام الشهي على جوعه، ولماذا لا يَمد يده؛ ليروِيَ ظمأه بالماء القراح؟ ما الذي يَمنعه من ذلك؟ إنَّه الشعور بأنَّ الله يراه، أليس هذا هو الإحسانَ الذي هو أعلى من درجة الإيمان؟ وعبر القرآن عن هذا الأثر للصيام قائلاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، كلٌّ مِنَّا ينال قسطًا ما من رقابة الله في رمضان فعلاً لا قولاً، قسطًا من التقوى، من الإحسان، يَجب أن ينميه وينفخ فيه لرمضان وما بعد رمضان؛ كي يكون خُلقًا ملازمًا تكتمل به شخصية المسلم.
 
لقد رَبَّى الصيامُ فينا رقابةَ الله، حتى لو كُنَّا في مأمن من أنظارِ الخلائق جميعًا، فنحن نسلك سلوك المراقب لمولاه، بالله علينا لو أخذنا هذا الخُلق بعيدًا واستثمرْنا آثاره، أيكذب الكاذب، أو يسرق السارق، أو يرتشي المرتشي، أو يُرابي المرابي، أو يعق العاقُّ، أو يفسد المفسِد بين الناس، في رمضان أو في غير رمضان؟ هذا الخلق الجليل يمكن أن يحل وحْدَه مآسِيَ تعيشها اليومَ الأمةُ الإسلامية؛ من خيانة، وسرقة، ولُصوصِيَّة، وكذب، حتى إنَّ الكذب صار خلقًا يكذب معه الكثيرون بلا مُبرر، رمضان - لو فقهنا - يُعلمنا رقابةَ الله، وعندئذٍ نسلك مع أخلاقِ رمضان سلوكًا يصح مبدأ عامًّا على ما يرى "كانت" وغيره، وليسوا حجةً لنا، لكننا نعرض أشواقهم التي يلبِّيها الإسلام الفذ.
 
وثانيًا: هناك الإرادة الصلبة التي يُربيها فينا الصيام، فلا نَخضع للشهوات، ولا نسقط أمامَ سُلطان العادات؛ بل ننتصر على أنفسنا، وعلى شَهواتنا، ونقمع رغائبنا؛ ابتغاءَ مَرضاة ربِّنا، أمَّة تَمتنع عن الطعام والشراب والشهوات من مَطلع الفجر إلى مَغيب الشمس، هي أمة مُريدة لا تضعُف، عزيمتها ماضية لا تلين، معدنها نقي متين، قدراتها الذاتية هائلة؛ لأنَّها لا تضعف أمامَ أحد، فلو أنَّنا نَمَّيْنا في أنفسنا هذا الخُلق الكريم من أخلاق مدرسة الصيام، لكنَّا سادةَ الدنيا، كما كنا ذات يوم؛ لذلك حكى أحدُ الدُّعاة عن شاب إسباني لا يعرف الإسلامَ، سأله مرة عن معنى الصيام الإسلامي، فشرحه له، فما كان منه إلاَّ أنْ علق قائلاً: "إن كنتم تصومون بهذه الحال، فلماذا أنتم متخلفون؟"، فَهِمَ الشاب بالمنطق الإنساني العام أنَّ أمةً تربَّت فيها الإرادة في مدرسة الصيام، لا يُمكن إلا أن تكون صاحبة الباع الأكبر في التقدُّم، فما التقدمُ إلا وضع الهدف، والتخطيط له، وبذْل الجهد لتحقيقه، وكل ذلك لا يكون إنْ لَم تكن الإرادة التي يربِّيها فينا الصيام أفضل تربية.
 
ويرتبط برمضان أيضًا الصبر، وما أجمله من خُلق يرفع صاحبه، ويُحقِّق له النصر! كما جاء في الحديث الشريف من تعاليم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "واعلم أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرجَ مع الكرب، وأنَّ مع العُسر يسرًا"، أمَّةُ الصبر تستطيع إنْ شاءت أن تنتصرَ على أمراضها الداخلية، وكيْد الأعداء لها؛ ليتبدل الضعف قوة، والذلُّ رفعةً، والتخلف تقدمًا، أليس الطيش والرعونة شيئًا كريهًا يعالجه الصيام بتعويد الصبر، لماذا كثرت المشكلات، وكثرت حالات الطلاق في بلادنا، وصراع الأقرباء والغرباء على فُتَاتِ الدنيا؟ لماذا كثر القتل والكيد؟ لأَنَّ الصبرَ لَم يعُد خلقًا، كم يعالج الصبر الرمضاني من أدوائنا؟ كم تكتمل الشخصية الإنسانية بالصوم؟
 
وانظر إلى عِفَّة اللسان، كما علمنا الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الشريف الصحيح: ((الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يفسق، فإن سابَّه أحد، فليقل: إنِّي صائم))، بالله، كم يقدح في الإنسان البذاء والسباب واللسان السليط! الصيام يحل لنا هذا بجملة واحدة، ثم كم تحل لنا عِفَّة اللسان من مُشكلاتٍ طوقتْنا بالإيذاء في مُؤسساتنا وشوارعنا وأسواقنا، وكم تكتمل الشخصية الإنسانية بعفة اللسان، لو طبِّقت في مناحي الحياة المختلفة؟
 
وانظر إلى انتصارِ النَّفس على هوى الشح؛ ((من فطَّر صائمًا، فله مثل أجره، غَيْرَ أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيء))، ما هذه الروعة الناصعة في حمل الأنفس حملاً على تعود الكرم؟! إنَّها المدرسة الإلهية الرمضانية، انتصر على شحك، أرفد إخوانك بكرمك، لن تَخسر شيئًا؛ ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: 39]، لا ينقص المال، بل يزداد الثواب، وتكمل الشخصية الإسلامية الفذة ببركات رمضان، انظر إلى الفارق الهائل بين شخصية البخيل واحتقار الناس لها، وبين احترام الكريم بين من يعرفه ومن لا يعرفه، صحيح أنَّنا لا نصدر في أعمالنا من أجل البشر، ولكن من بركات العمل لله أنَّك تعلو في أعين عبادِه أيضًا، وإن لم تسعَ إلى ذلك، هل هناك مدرسة أزالتْ معايبَ النفس، وغرست في أعماقها الفضائل مثل مدرسة رمضان؟
 
قِسْ على ذلك التكافُلَ الاجتماعي من إخراج زكاة المال، أو على الأقل زكاة الفطر، وما تغرسه من تعوُّد على الإنفاق، حتى الفقير الذي لا يَملك إلاَّ قوتَ يومٍ وليلة يُخرج صدقةَ الفطر، في منظومةٍ تربوية وسلوكية هائلة الأثر، لو أنَّ المسلمين كانوا يفقهون، هذا التكافل الفريد يبيد الأحقادَ، ويقتل الإحن، ويصنع أمة الخير في تكافُلها، ورعاية القوي للضَّعيف، وحدب الغني على الفقير، يا لَهَا من روعة.
 
ولا تنسَ الإشراقَ الوجداني بتلاوة الذِّكر، وصلاة القيام، والدعاء، وليلة القَدْر، وتَهافُت الأرواح إلى نفحات الفَتَّاح وبركاته وإتحافاته، أمة اكتملتْ خصالها الوجدانية والبَدنِيَّة والسلوكية عبادةً، وإنفاقًا، وتكافلاً، ومَحبة، وخضوعًا لله الواحد الأحد، هذا الكمال، فهل يُمكن أن نتخذَ خصالَ رمضان دستورًا لحياة الأمة، هي أمة الاصطفاء، ومع ذلك لا تدرك معاني الاصطفاء، هي أمة الكمال ويَجب أن تكتملَ الدائرة في الحال والمآل - إن شاء الله تعالى.
 
إنسان اكتملت خصاله وسلوكياته لاكتمالِ مُعتقداته، وجَمال عباداته، تَحقَّق برَغْم أنف (كانت، ونيتشه)، وبرغم أنف أهل الضلال ممن قالوا ولم يبلغوا شيئًا، تَحقق بالصوم الإنسانُ الكامل، أو سَمِّه الخارقَ، أو (السوبر مان)، سَمِّه ما شئت، إنَّه ابنُ الإسلام، إنه أنت أيها المسلم.
 
تحقق الكمال في شخصك - أيها المسلم - فافرح بما عند ربك؛ ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، عليك أن تعي دروسَ الصيام في مدرسة رمضان، وخُذ أخلاق رمضان بشدة وعَضَّ عليها، لا تفرِّط فيها بعد ذلك أبدًا، أنت مراقب لربك، تعزم على الخير، وتُحققه بإرادتك بحول الله، تصبر على الضرِّ من أيِّ لون؛ ابتغاءَ وجه الله، تَعفُّ لسانَك عمَّا يُسيء، تنفق بكرم في سبيل الله، تتكافل مع الفقير والمسكين، أنت الإنسان الكامل، أنت حبيبي في الله، أنت المسلم، شكرًا لخالقنا أن جعل لنا رمضان.
 
اللهم أعدْه على أُمَّةِ حبيبك محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعوامًا عديدة، وآجالاً سعيدة، وفَقِّهنا في دروسه، وورثنا أخلاقَه، واجعلنا من عتقائه من النار، وارزقنا بركةَ ليلة القَدْر، وتقبل طاعات المسلمين أجمعين، والحمدُ لله أولاً وآخرًا.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢