صلة الأرحام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

الآيات التي تذكر بصلة الرحم

فقد قال الله تعالى في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1] .

فقراءة الجمهور: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيباً) وتفسيرها: اتقوا الله، واتقوا الأرحام الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها وصلوها.

وقراءة حمزة الكوفي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً)، أي: الذي تساءلون به وتساءلون أيضاً بالأرحام، فإن الناس يقولون: أنشدكم الله والرحم، والمقصود بذلك: أذكركم الله وأذكركم الرحم، وذلك لما لها من المكانة والهيبة.

وعرف ذلك من القراءتين معاً من قراءة النصب وقراءة الجر، فكلتاهما تدل على مكانة الرحم في الإسلام، سواءً كانت مما يتقى أو كانت مما يتساءل به، فكلا الأمرين ذو حرمة ومكانة عظيمة.

ثم إن الله سبحانه وتعالى توعد في الجانب السلبي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وعيداً شديداً، ومن أبلغ ذلك ما جاء في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23] ، فهذا وعيد شديد في حق قاطع الرحم.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى بصلاة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى في كتابه في آيات كثيرة، وعطف ذلك على الإيمان به سبحانه وتعالى فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:36] .

وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء:23-24] إلى أن قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا[الإسراء:26] .

وبين الله سبحانه وتعالى دخول صلة الرحم في البر، فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ[البقرة:177] ، إن أمراً بدئ به قبل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام لأمر عظيم.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين الوعد العظيم الذي وعد به من يصل ما أمر الله به أن يوصل، فقال في سورة الرعد: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ[الرعد:21] ، وبين كذلك في المقابل ما في قطيعة الرحم من النكس والرجوع إلى الأعقاب، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فبين سبحانه وتعالى موعظته للمؤمنين بما أمر به.

ووعظ الله لعباده ينقسم إلى قسمين:

إلى وعظ بالأوامر والنواهي.

وإلى وعظ بالتذكير والتخويف.

وقد جمعت هذه الآية بين الأمرين معاً، ففيها وعظ بالأوامر والنواهي في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ[النحل:90] ، وفيها كذلك الوعظ بالتخويف في قوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فهذا بيان للتذكير ببأس الله الشديد، وبما عنده من المخوفات التي يخوف بها من خالف أمره.

إن الآيات في صلة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى كثيرة في كتاب الله عز وجل، وهي متنوعة تنوعاً عظيماً؛ يدل على العناية بهذا الأمر الذي أنزل الله فيه عدداً كبيراً من آيات كتابه.

الأحاديث التي تذكر بصلة الرحم

كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عنه في صلة الرحم عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق، فلما فرغ من خلقهم قامت الرحم فأمسكت بساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله تعالى: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى. فقال: ذلك لكِ)، هذا ضمان من الله عز وجل للرحم أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها.

وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه).

وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في وصفه أنه كان وصولاً للرحم، فقد أخبرته خديجة بذلك عندما أرادت تثبيته عند أول نزول الوحي، فقالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

وكذلك قال ابن الدغنة لـأبي بكر رضي الله عنه حين لقيه مهاجراً إلى أرض الحبشة، حين آذاه قومه بمكة، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى أرض الحبشة، فأذن له بذلك فخرج مسافراً فلقي ابن الدغنة وكان سيد القارة، فلما لقيه قال: إلى أين يا أبا بكر ! فقال: أسيح في الأرض أعبد ربي، فإن قومي منعوني ذلك في دارهم، فقال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، ولكن ارجع إلى دارك فكن فيها فاعبد ربك، فإنك جار لي، فرجع معه ابن الدغنة حتى أتى مجالس قريش من المشركين، فكان يقول: إن أبا بكر مثله لا يخرج ولا يخرج، فإنه ليصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، وإنه جار لي، فأقرته قريش على ذلك، فكان أبو بكر يصلي بمكة لا يخاف أحداً.

وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على تعلم الأنساب لصلة الأرحام، فقد أخرج الحاكم في المستدرك و ابن حبان في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإن تعلم الأنساب معين على صلة الأرحام).

ولذلك جاء في لفظ هذا الحديث عند الحاكم : (فإن الرحم إذا قربت كانت قريبة ولو بعدت، وإذا بعدت كانت بعيدة ولو قربت).

والمقصود ببعدها وقربها في الجملة الأولى تعلمها، فإذا عرف الإنسان رحمه إلى إنسان معين، فإنه سيتخذ تلك الرحم قريبة حتى لو كانت بعيدة من ناحية النسب، وإذا لم يعرف النسب إليه كانت الرحم بعيدة حتى لو كان قريباً منه جداً كابن عمه أو ابن خاله، فلهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإرشاد العظيم.

الآثار الدالة على صلة الأرحام

وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير ابن جرير بإسناد صحيح أن عمر كان يقول: أيها الناس! تعلموا أنسابكم لتصلوا بها أرحاكم، وفي رواية: تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم، فإن الرحم لا توصل إلا بالمعرفة؛ فلذلك لابد أن يتعلم الإنسان رحمه.

وهذا الحق المؤكد الذي يترتب عليه صلة الله سبحانه وتعالى لمن وصله، ويترتب عليه قطيعة الله لمن قطعه، لابد أن يتعلمه الإنسان وأن يقوم به؛ لأن الإنسان لا يستغني عن صلة الله ولا يستطيع أن يقاطعه.

إن من تذكر نعمة الإيمان ثم بعدها نعمة الوجود ونعمة الجوارح ونعمة التثبيت على دين الله، عرف أنه لا يستطيع مقاطعة الله سبحانه وتعالى، فإن الهواء الذي يتنفسه أثر واحد من آثار رحمة الله، والجوارح التي ينعم بها أثر واحد من آثار رحمة الله وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[القصص:73] وقال تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50] .

إن الاتصال بالله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فأعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يلعنه أو أن يطرده عن رحمة الله، والملعون المطرود عن رحمة الله لا يمكن أن يتقبل الله منه أيّ عمل، ولا يمكن أن ينعم عليه بأية نعمة، نعم يمكن أن يرزقه، لكن يكون ذلك الرزق وبالاً عليه وحسرة يوم القيامة وندامة، لا ينعم عليه بنعمه؛ لأن النعم تشريف ولا يستحق التشريف إلا من اتصل بالله سبحانه وتعالى، أما من قاطع الله عز وجل فقاطعه الله، فأولئك هم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم المقطوعون الذين لا يطمعون في مغفرة الله ولا في رحمته، يطردون عن رحمة الله ومغفرته، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هؤلاء القاطعون: الذين يقطعون أرحامهم في هذه الحياة الدنيا.

إن أمراً كهذا نحتاج إلى تعلمه وإلى البحث عنه؛ لأن خطاب الشارع فيه صريح، ولأن الحض النبوي فيه واضح، فما أحوجنا إلى أن نتعلم هذه الشعيرة من شعائر ديننا، وبالأخص أن كثيراً من الناس اليوم قد سرت إليهم عادات الغربيين التي يزعمونها من الحضارة، ويزعمونها من الرقي والتقدم، فأخذوا بها، فقطعوا أنسابهم وهجروا أقاربهم.

بل إن من المؤسف جداً أن تجد الرجل ينعم بأنواع النعم في المدينة ويكون أبوه وأمه في غاية ما يكونان من البؤس والشقاء، وهو لا يشعر بحال أبويه اللذين ربياه صغيراً وحملاه، وهما أمن الناس عليه، وأعظمهم نعمة عليه.

ونتذكر قول أمية بن الأسكر رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يسكن الطائف، وكان له ولدان رباهما أحسن تربية فصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجا في الغزو إلى القادسية وتركاه، فأرسل بقصائده يستقدمهما، يقول في إحدى هذه القصائد:

يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني

يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان

إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان

أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان

انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان

إن ترع ضأناً فإن قد رعبتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان

إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان

أوما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان

ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني

فلما بلغت هذه القصيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن يرسل إليه كلاب بن أمية بن الأسكر في أسرع وقت، فأرسله سعد إلى عمر بن الخطاب ، فلما أتاه سأله: بم كنت تبر أباك؟ فقال: كنت أختار خير نياقنا، فأغسل ضرعها، وأغسل الإناء وأحتلبها فيه، وأمسكها عليها حتى يشرب منها ما شاء، فدعا عمر بـأمية فأجلسه بين يديه، وأمر كلاباً أن يحتلب الناقة دون أن يخبره به، فاحتلب تلك الناقة فأمسكها عمر على أمية ، فلما ذاق طعم اللبن قال: حلب كلاب ورب الكعبة، فأمره عمر أن يلزم أباه، وألا يكون منه أبعد من سجر الكلب حتى يلقى الله، ففعل ذلك.

وهذا التنبيه العظيم من أمير المؤمنين رضي الله عنه ينبه به الأبناء على أهمية الوالدين، فإنهما إذا خرجا من هذه الدنيا وماتا لم يستطع الإنسان برهما، ولم يمكنه أن يستغني عما كانا يقدمان له، أتذكر أن أحد الدعاة المشاهير كانت له أم هو بها بر، وكانت امرأة صالحة كثيرة الدعاء والصدقة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، فلما ماتت، قال لإخوانه: إنه كانت لي أم كنت أترك بسبب دعائها، وكنت أمهل بسبب صدقتها، وإن الله قد أخذها إليه، فدعوني أتعبد لله وأتحصن؛ فإنني كنت أترك في مقابل ما كانت تلك الأم تقدمه.

كذلك ما زاد على هذا من الأرحام الذين بين الله ولايتهم في قوله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[الأحزاب:6] .

فالذين هم أولياء بعض ينبغي أن يتعرف بعضهم على بعض، وأن يقوموا بحقهم وألا يهملوه، وينبغي ألا يغتر أحد بالحفاوة الدنيوية؛ فإن الإنسان يمكن أن يسامح قريبه في هذه الدنيا في حقه، لكنه إذا جاء يوم القيامة حافياً عارياً أغرل ليس مع أحد حينئذٍ إلا عمله لا ترجى منه المسامحة.

فإذا جاء في ذلك الوقت، ورأى الحق بعيني رأسه، وزالت عنه الغمرة، وكان بصره يومئذ حديداً لا يمكن أن يسامح في حقوقه، فالأنساب قد انقطعت كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:101-104] .

إن هذه الصلة لابد أن تبل ببلالها، وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين، لكن لهم رحم أبلها ببلالها).

الكفر والفجور لا يمنع صلة الرحم

فالأرحام لابد أن تبل ببلالها، ولا يقطعها الكفر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أتتني أمي بالمدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، وكانت على دين أهل مكة، فجاءت راغبة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاوره فيها فقلت: إن أمي جاءت راغبة وهي مشركة، فقال: صلي أمك)، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها وهي مشركة.

ولذلك فسر ابن العربي وغيره قول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الممتحنة:8] قالوا: تقسطوا إليهم، أي: تؤدوا إليهم قسطاً من أموالكم، فالإقساط في هذه الآية مشتق من قسط المال الذي هو جزؤه، على تفسير ابن العربي وغيره، وسبب نزول هذه الآية قصة أسماء مع أمها.

وكذلك الفجور فإنه لا يقطع صلة الرحم، حتى لو كان الإنسان مبتدعاً أو مضيعاً لما أمر الله بالحفاظ عليه، فإن ذلك لا يمنع صلة رحمه، بل يجب على الإنسان أن يصل رحمه، وأولى ما يصل به رحمه أن ينصح له، وأن يرشده إلى عدم تضييع ما أمر الله بالحفاظ عليه.

ولذلك فإن حق المضيع المبتلى في دينه هو النصح؛ ليرجع إلى دينه الذي ضيعه، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).

إن أعظم البلاء البلاء في الدين، فالإنسان المفرط المضيع الذي يقبل ويدبر في معصية الله عز وجل مبتلى بلاءً عظيماً، وبلاؤه في الدين، وشر البلية البلاء في الدين، ورحمته إنما هي بنصيحته والاقتراب منه؛ لعل المقترب يحول بينه وبين الشيطان.

فالابتعاد منه لا يزيده إلا تمادياً في أمره، ولا يزيد الشيطان إلا عوناً عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يعينوا الشيطان على أخيهم، فلابد أن يحاول الإنسان القرب من ذوي رحمه، وصلتهم بما يستطيع، إن هذه الصلة التي بينا نحتاج إلى تعريفها، وبالأخص في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الوسائل وانتشرت.

فقد قال الله تعالى في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1] .

فقراءة الجمهور: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيباً) وتفسيرها: اتقوا الله، واتقوا الأرحام الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها وصلوها.

وقراءة حمزة الكوفي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً)، أي: الذي تساءلون به وتساءلون أيضاً بالأرحام، فإن الناس يقولون: أنشدكم الله والرحم، والمقصود بذلك: أذكركم الله وأذكركم الرحم، وذلك لما لها من المكانة والهيبة.

وعرف ذلك من القراءتين معاً من قراءة النصب وقراءة الجر، فكلتاهما تدل على مكانة الرحم في الإسلام، سواءً كانت مما يتقى أو كانت مما يتساءل به، فكلا الأمرين ذو حرمة ومكانة عظيمة.

ثم إن الله سبحانه وتعالى توعد في الجانب السلبي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وعيداً شديداً، ومن أبلغ ذلك ما جاء في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23] ، فهذا وعيد شديد في حق قاطع الرحم.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى بصلاة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى في كتابه في آيات كثيرة، وعطف ذلك على الإيمان به سبحانه وتعالى فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:36] .

وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء:23-24] إلى أن قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا[الإسراء:26] .

وبين الله سبحانه وتعالى دخول صلة الرحم في البر، فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ[البقرة:177] ، إن أمراً بدئ به قبل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام لأمر عظيم.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين الوعد العظيم الذي وعد به من يصل ما أمر الله به أن يوصل، فقال في سورة الرعد: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ[الرعد:21] ، وبين كذلك في المقابل ما في قطيعة الرحم من النكس والرجوع إلى الأعقاب، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فبين سبحانه وتعالى موعظته للمؤمنين بما أمر به.

ووعظ الله لعباده ينقسم إلى قسمين:

إلى وعظ بالأوامر والنواهي.

وإلى وعظ بالتذكير والتخويف.

وقد جمعت هذه الآية بين الأمرين معاً، ففيها وعظ بالأوامر والنواهي في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ[النحل:90] ، وفيها كذلك الوعظ بالتخويف في قوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فهذا بيان للتذكير ببأس الله الشديد، وبما عنده من المخوفات التي يخوف بها من خالف أمره.

إن الآيات في صلة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى كثيرة في كتاب الله عز وجل، وهي متنوعة تنوعاً عظيماً؛ يدل على العناية بهذا الأمر الذي أنزل الله فيه عدداً كبيراً من آيات كتابه.

كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عنه في صلة الرحم عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق، فلما فرغ من خلقهم قامت الرحم فأمسكت بساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله تعالى: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى. فقال: ذلك لكِ)، هذا ضمان من الله عز وجل للرحم أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها.

وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه).

وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في وصفه أنه كان وصولاً للرحم، فقد أخبرته خديجة بذلك عندما أرادت تثبيته عند أول نزول الوحي، فقالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

وكذلك قال ابن الدغنة لـأبي بكر رضي الله عنه حين لقيه مهاجراً إلى أرض الحبشة، حين آذاه قومه بمكة، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى أرض الحبشة، فأذن له بذلك فخرج مسافراً فلقي ابن الدغنة وكان سيد القارة، فلما لقيه قال: إلى أين يا أبا بكر ! فقال: أسيح في الأرض أعبد ربي، فإن قومي منعوني ذلك في دارهم، فقال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، ولكن ارجع إلى دارك فكن فيها فاعبد ربك، فإنك جار لي، فرجع معه ابن الدغنة حتى أتى مجالس قريش من المشركين، فكان يقول: إن أبا بكر مثله لا يخرج ولا يخرج، فإنه ليصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، وإنه جار لي، فأقرته قريش على ذلك، فكان أبو بكر يصلي بمكة لا يخاف أحداً.

وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على تعلم الأنساب لصلة الأرحام، فقد أخرج الحاكم في المستدرك و ابن حبان في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإن تعلم الأنساب معين على صلة الأرحام).

ولذلك جاء في لفظ هذا الحديث عند الحاكم : (فإن الرحم إذا قربت كانت قريبة ولو بعدت، وإذا بعدت كانت بعيدة ولو قربت).

والمقصود ببعدها وقربها في الجملة الأولى تعلمها، فإذا عرف الإنسان رحمه إلى إنسان معين، فإنه سيتخذ تلك الرحم قريبة حتى لو كانت بعيدة من ناحية النسب، وإذا لم يعرف النسب إليه كانت الرحم بعيدة حتى لو كان قريباً منه جداً كابن عمه أو ابن خاله، فلهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإرشاد العظيم.

وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير ابن جرير بإسناد صحيح أن عمر كان يقول: أيها الناس! تعلموا أنسابكم لتصلوا بها أرحاكم، وفي رواية: تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم، فإن الرحم لا توصل إلا بالمعرفة؛ فلذلك لابد أن يتعلم الإنسان رحمه.

وهذا الحق المؤكد الذي يترتب عليه صلة الله سبحانه وتعالى لمن وصله، ويترتب عليه قطيعة الله لمن قطعه، لابد أن يتعلمه الإنسان وأن يقوم به؛ لأن الإنسان لا يستغني عن صلة الله ولا يستطيع أن يقاطعه.

إن من تذكر نعمة الإيمان ثم بعدها نعمة الوجود ونعمة الجوارح ونعمة التثبيت على دين الله، عرف أنه لا يستطيع مقاطعة الله سبحانه وتعالى، فإن الهواء الذي يتنفسه أثر واحد من آثار رحمة الله، والجوارح التي ينعم بها أثر واحد من آثار رحمة الله وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[القصص:73] وقال تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50] .

إن الاتصال بالله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فأعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يلعنه أو أن يطرده عن رحمة الله، والملعون المطرود عن رحمة الله لا يمكن أن يتقبل الله منه أيّ عمل، ولا يمكن أن ينعم عليه بأية نعمة، نعم يمكن أن يرزقه، لكن يكون ذلك الرزق وبالاً عليه وحسرة يوم القيامة وندامة، لا ينعم عليه بنعمه؛ لأن النعم تشريف ولا يستحق التشريف إلا من اتصل بالله سبحانه وتعالى، أما من قاطع الله عز وجل فقاطعه الله، فأولئك هم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم المقطوعون الذين لا يطمعون في مغفرة الله ولا في رحمته، يطردون عن رحمة الله ومغفرته، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هؤلاء القاطعون: الذين يقطعون أرحامهم في هذه الحياة الدنيا.

إن أمراً كهذا نحتاج إلى تعلمه وإلى البحث عنه؛ لأن خطاب الشارع فيه صريح، ولأن الحض النبوي فيه واضح، فما أحوجنا إلى أن نتعلم هذه الشعيرة من شعائر ديننا، وبالأخص أن كثيراً من الناس اليوم قد سرت إليهم عادات الغربيين التي يزعمونها من الحضارة، ويزعمونها من الرقي والتقدم، فأخذوا بها، فقطعوا أنسابهم وهجروا أقاربهم.

بل إن من المؤسف جداً أن تجد الرجل ينعم بأنواع النعم في المدينة ويكون أبوه وأمه في غاية ما يكونان من البؤس والشقاء، وهو لا يشعر بحال أبويه اللذين ربياه صغيراً وحملاه، وهما أمن الناس عليه، وأعظمهم نعمة عليه.

ونتذكر قول أمية بن الأسكر رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يسكن الطائف، وكان له ولدان رباهما أحسن تربية فصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجا في الغزو إلى القادسية وتركاه، فأرسل بقصائده يستقدمهما، يقول في إحدى هذه القصائد:

يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني

يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان

إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان

أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان

انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان

إن ترع ضأناً فإن قد رعبتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان

إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان

أوما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان

ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني

فلما بلغت هذه القصيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن يرسل إليه كلاب بن أمية بن الأسكر في أسرع وقت، فأرسله سعد إلى عمر بن الخطاب ، فلما أتاه سأله: بم كنت تبر أباك؟ فقال: كنت أختار خير نياقنا، فأغسل ضرعها، وأغسل الإناء وأحتلبها فيه، وأمسكها عليها حتى يشرب منها ما شاء، فدعا عمر بـأمية فأجلسه بين يديه، وأمر كلاباً أن يحتلب الناقة دون أن يخبره به، فاحتلب تلك الناقة فأمسكها عمر على أمية ، فلما ذاق طعم اللبن قال: حلب كلاب ورب الكعبة، فأمره عمر أن يلزم أباه، وألا يكون منه أبعد من سجر الكلب حتى يلقى الله، ففعل ذلك.

وهذا التنبيه العظيم من أمير المؤمنين رضي الله عنه ينبه به الأبناء على أهمية الوالدين، فإنهما إذا خرجا من هذه الدنيا وماتا لم يستطع الإنسان برهما، ولم يمكنه أن يستغني عما كانا يقدمان له، أتذكر أن أحد الدعاة المشاهير كانت له أم هو بها بر، وكانت امرأة صالحة كثيرة الدعاء والصدقة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، فلما ماتت، قال لإخوانه: إنه كانت لي أم كنت أترك بسبب دعائها، وكنت أمهل بسبب صدقتها، وإن الله قد أخذها إليه، فدعوني أتعبد لله وأتحصن؛ فإنني كنت أترك في مقابل ما كانت تلك الأم تقدمه.

كذلك ما زاد على هذا من الأرحام الذين بين الله ولايتهم في قوله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[الأحزاب:6] .

فالذين هم أولياء بعض ينبغي أن يتعرف بعضهم على بعض، وأن يقوموا بحقهم وألا يهملوه، وينبغي ألا يغتر أحد بالحفاوة الدنيوية؛ فإن الإنسان يمكن أن يسامح قريبه في هذه الدنيا في حقه، لكنه إذا جاء يوم القيامة حافياً عارياً أغرل ليس مع أحد حينئذٍ إلا عمله لا ترجى منه المسامحة.

فإذا جاء في ذلك الوقت، ورأى الحق بعيني رأسه، وزالت عنه الغمرة، وكان بصره يومئذ حديداً لا يمكن أن يسامح في حقوقه، فالأنساب قد انقطعت كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:101-104] .

إن هذه الصلة لابد أن تبل ببلالها، وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين، لكن لهم رحم أبلها ببلالها).

فالأرحام لابد أن تبل ببلالها، ولا يقطعها الكفر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أتتني أمي بالمدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، وكانت على دين أهل مكة، فجاءت راغبة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاوره فيها فقلت: إن أمي جاءت راغبة وهي مشركة، فقال: صلي أمك)، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها وهي مشركة.

ولذلك فسر ابن العربي وغيره قول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الممتحنة:8] قالوا: تقسطوا إليهم، أي: تؤدوا إليهم قسطاً من أموالكم، فالإقساط في هذه الآية مشتق من قسط المال الذي هو جزؤه، على تفسير ابن العربي وغيره، وسبب نزول هذه الآية قصة أسماء مع أمها.

وكذلك الفجور فإنه لا يقطع صلة الرحم، حتى لو كان الإنسان مبتدعاً أو مضيعاً لما أمر الله بالحفاظ عليه، فإن ذلك لا يمنع صلة رحمه، بل يجب على الإنسان أن يصل رحمه، وأولى ما يصل به رحمه أن ينصح له، وأن يرشده إلى عدم تضييع ما أمر الله بالحفاظ عليه.

ولذلك فإن حق المضيع المبتلى في دينه هو النصح؛ ليرجع إلى دينه الذي ضيعه، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).

إن أعظم البلاء البلاء في الدين، فالإنسان المفرط المضيع الذي يقبل ويدبر في معصية الله عز وجل مبتلى بلاءً عظيماً، وبلاؤه في الدين، وشر البلية البلاء في الدين، ورحمته إنما هي بنصيحته والاقتراب منه؛ لعل المقترب يحول بينه وبين الشيطان.

فالابتعاد منه لا يزيده إلا تمادياً في أمره، ولا يزيد الشيطان إلا عوناً عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يعينوا الشيطان على أخيهم، فلابد أن يحاول الإنسان القرب من ذوي رحمه، وصلتهم بما يستطيع، إن هذه الصلة التي بينا نحتاج إلى تعريفها، وبالأخص في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الوسائل وانتشرت.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

معنى الصلة لغة وشرعاً

إن الصلة في اللغة تشمل كل اقتراب، فتشمل الزيارة والحديث والكلام والإهداء والتلطف وغير ذلك، فكل هذا يدخل في الصلة في اللغة.

وقد عرف البخاري صلة الرحم فقال: هي تشريك الإنسان قرابته فيما أوتي من أنواع الخيرات.

تشريك الإنسان قرابته: أي الذين بينه وبينهم قرابة، وهذا يشمل ما كان من الرحم وما كان من المصاهرة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل نسب الآدمي رحماً وصهراً.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً في قوله: (ستفتحون أرضاً اسمها مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً)، وفي رواية: (رحماً وصهراً)، وهذا يقتضي تشريك الإنسان ذوي قرابته في كل ما أوتي من أنواع الخيرات.

فإن كان الإنسان قد أوتي مالاً فتشريكه لذوي رحمه في ماله من صلة الرحم، وإن كان أوتي علماً فتشريكه لذوي قرابته فيما أوتي من العلم من صلة الرحم، وإن كان أوتي جاهاً فتشريكه ذوي قرابته في جاهه من صلة الرحم، وإن كان أوتي عقلاً فتشريكه لذوي قرابته في الرأي والتسديد والنصيحة هو من صلة الرحم، وهكذا فكل خير أوتيه الإنسان فإن تشريكه لذوي قرابته فيه هو من صلة الرحم التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.

تحديد ذوي الأرحام

يبقى بعد هذا تحديد الرحم، وتحديد الرحم لأهل العلم فيه أقوال كثيرة، فأشهر هذه الأقوال أن الرحم درجتان:

الدرجة الأولى: ما يجب وصله؛ وهو الرحم الوارث الذي يرث، سواءً كان ذلك بالفرض أو بالتعصيب، فهذا الرحم تجب صلته قطعاً، فرضاً عينياً على كل إنسان، فيشمل ذلك الآباء والأبناء إلى منتهاهم: ارتفاعاً واستفالاً، ويشمل كذلك فروع هؤلاء إذا قربت، ويشمل كذلك الكلالة عند حصول الكلالة، أي إذا لم يكن للإنسان أصل ولا فرع وارث، ففروع أجداده إلى منتهاهم.

فهذه إذن هي الرحم المؤكد صلتها، وهي الرحم التي يرث صاحبها.

والمرتبة الثانية: هي ما عرفه الإنسان من نسبه مما يصله بغيره، فكل من عرفت النسب بينك وبينه فهو ذو رحم منك، حتى لو بعد ذلك النسب، ولكن القسم الأول آكد من القسم الثاني.

إن الصلة في اللغة تشمل كل اقتراب، فتشمل الزيارة والحديث والكلام والإهداء والتلطف وغير ذلك، فكل هذا يدخل في الصلة في اللغة.

وقد عرف البخاري صلة الرحم فقال: هي تشريك الإنسان قرابته فيما أوتي من أنواع الخيرات.

تشريك الإنسان قرابته: أي الذين بينه وبينهم قرابة، وهذا يشمل ما كان من الرحم وما كان من المصاهرة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل نسب الآدمي رحماً وصهراً.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً في قوله: (ستفتحون أرضاً اسمها مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً)، وفي رواية: (رحماً وصهراً)، وهذا يقتضي تشريك الإنسان ذوي قرابته في كل ما أوتي من أنواع الخيرات.

فإن كان الإنسان قد أوتي مالاً فتشريكه لذوي رحمه في ماله من صلة الرحم، وإن كان أوتي علماً فتشريكه لذوي قرابته فيما أوتي من العلم من صلة الرحم، وإن كان أوتي جاهاً فتشريكه ذوي قرابته في جاهه من صلة الرحم، وإن كان أوتي عقلاً فتشريكه لذوي قرابته في الرأي والتسديد والنصيحة هو من صلة الرحم، وهكذا فكل خير أوتيه الإنسان فإن تشريكه لذوي قرابته فيه هو من صلة الرحم التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.

يبقى بعد هذا تحديد الرحم، وتحديد الرحم لأهل العلم فيه أقوال كثيرة، فأشهر هذه الأقوال أن الرحم درجتان:

الدرجة الأولى: ما يجب وصله؛ وهو الرحم الوارث الذي يرث، سواءً كان ذلك بالفرض أو بالتعصيب، فهذا الرحم تجب صلته قطعاً، فرضاً عينياً على كل إنسان، فيشمل ذلك الآباء والأبناء إلى منتهاهم: ارتفاعاً واستفالاً، ويشمل كذلك فروع هؤلاء إذا قربت، ويشمل كذلك الكلالة عند حصول الكلالة، أي إذا لم يكن للإنسان أصل ولا فرع وارث، ففروع أجداده إلى منتهاهم.

فهذه إذن هي الرحم المؤكد صلتها، وهي الرحم التي يرث صاحبها.

والمرتبة الثانية: هي ما عرفه الإنسان من نسبه مما يصله بغيره، فكل من عرفت النسب بينك وبينه فهو ذو رحم منك، حتى لو بعد ذلك النسب، ولكن القسم الأول آكد من القسم الثاني.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع