مقدمة في التفسير [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يتكلم كلاماً يليق بجلاله متى شاء أن يتكلم، بما شاء أن يتكلم به، والكلام صفة كمال في حقه سبحانه وتعالى، وقد أنزل الكتب المتضمنة لتشريعه، وهي نوع من أنواع كلماته؛ فكلماته تنقسم إلى قسمين: إلى كلمات تكوينية وكلمات تشريعية.

الكلمات التكوينية

الكلمات التكوينية: التي يخلق بها خلقه، ويدبر بها أمره، وهذه لا حصر لها ولا نهاية، كما قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وكما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27]، وهذه الكلمات التكوينية هي التي لا تبديل فيها، ولا نسخ، ولا تغيير؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [الأنعام:34]، أي: للكلمات التكوينية.

وقد بين الله سبحانه وتعالى عظم شأن الكلمات الكونية، فقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وقال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فكل مرادات الله عز وجل تتحقق بين الكاف والنون، فلا يحتاج إلى معالجة، ولا يمكن أن يأخذه نصب ولا لغب ولا تعب، فخلق السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهن، كله كخلق نفس واحدة، كما قال الله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، فقدرة الله لا تتفاوت، قدرته على الكائنات جميعاً كقدرته على فرد واحد من أفرادها، خلق هذا الكون الذي ترونه باتساعه وما فيه مساو لخلق ذبابة واحدة، أو فراشة واحدة مما ترونه يطير.

وقد كانت هذه الكلمات الكونية قبل خلق الكون، ولا ينزل بها الوحي، ولا ينزل بها الملائكة، وإنما يتكلم الله بها إذا شاء، وإذا تكلم بها، فإن أهل السماوات من الملائكة يفزعون لشدة كلامه وهوله، فلا يستطيع أحد منهم أن يفهم شيئاً منها إلا جبريل عليه السلام، فهو أمين الله على وحيه، فإذا فزع عن صدور الملائكة قالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، فيفزع عن صدورهم بعد نهاية ذلك الفزع، يفزع عن صدورهم؛ أي: يزال عنها الفزع بعد حصول الفزع في وقت كلام الله جل جلاله، ثم بعد ذلك يصدقون به ولو لم يسمعوه؛ لأنهم يعلمون أن قوله الحق، فيقولون: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].

وهذه الكلمات لا انقطاع لها، فهي مستمرة، كل شيء في هذا العالم فهو بها، وكل حركة وسكون فهي بهذه الكلمات.

الكلمات التشريعية

والنوع الثاني من الكلمات هو الكلمات التشريعية: وهي التي يأمر بها الله وينهى، فيطيعها المهتدي ويعصيها العاصي، والكلمات الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر، إذا قال للبر: مت، سيموت من حينه، وإذا قال للفاجر: مت، سيموت من حينه، ولا أحد يستطيع تعقيباً عليها، فالكمات الكونية لا يستطيع أحد رد كلمة منها، أما الكلمات التشريعية فإنها أمر الله الذي يأمر به عباده، فمن وفقه الله للطاعة امتثل تلك الأوامر، ومن خذله أعرض عن تلك الأوامر وخالفها.

الكلمات التكوينية: التي يخلق بها خلقه، ويدبر بها أمره، وهذه لا حصر لها ولا نهاية، كما قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وكما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27]، وهذه الكلمات التكوينية هي التي لا تبديل فيها، ولا نسخ، ولا تغيير؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [الأنعام:34]، أي: للكلمات التكوينية.

وقد بين الله سبحانه وتعالى عظم شأن الكلمات الكونية، فقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وقال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فكل مرادات الله عز وجل تتحقق بين الكاف والنون، فلا يحتاج إلى معالجة، ولا يمكن أن يأخذه نصب ولا لغب ولا تعب، فخلق السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهن، كله كخلق نفس واحدة، كما قال الله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، فقدرة الله لا تتفاوت، قدرته على الكائنات جميعاً كقدرته على فرد واحد من أفرادها، خلق هذا الكون الذي ترونه باتساعه وما فيه مساو لخلق ذبابة واحدة، أو فراشة واحدة مما ترونه يطير.

وقد كانت هذه الكلمات الكونية قبل خلق الكون، ولا ينزل بها الوحي، ولا ينزل بها الملائكة، وإنما يتكلم الله بها إذا شاء، وإذا تكلم بها، فإن أهل السماوات من الملائكة يفزعون لشدة كلامه وهوله، فلا يستطيع أحد منهم أن يفهم شيئاً منها إلا جبريل عليه السلام، فهو أمين الله على وحيه، فإذا فزع عن صدور الملائكة قالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، فيفزع عن صدورهم بعد نهاية ذلك الفزع، يفزع عن صدورهم؛ أي: يزال عنها الفزع بعد حصول الفزع في وقت كلام الله جل جلاله، ثم بعد ذلك يصدقون به ولو لم يسمعوه؛ لأنهم يعلمون أن قوله الحق، فيقولون: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].

وهذه الكلمات لا انقطاع لها، فهي مستمرة، كل شيء في هذا العالم فهو بها، وكل حركة وسكون فهي بهذه الكلمات.

والنوع الثاني من الكلمات هو الكلمات التشريعية: وهي التي يأمر بها الله وينهى، فيطيعها المهتدي ويعصيها العاصي، والكلمات الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر، إذا قال للبر: مت، سيموت من حينه، وإذا قال للفاجر: مت، سيموت من حينه، ولا أحد يستطيع تعقيباً عليها، فالكمات الكونية لا يستطيع أحد رد كلمة منها، أما الكلمات التشريعية فإنها أمر الله الذي يأمر به عباده، فمن وفقه الله للطاعة امتثل تلك الأوامر، ومن خذله أعرض عن تلك الأوامر وخالفها.

وهذه الكلمات التشريعية لم تكن قبل خلق الكون، إنما أنزلت لحاجة الكون إليها بعد أن كان الكون، وهي التي ينزل بها جبريل عليه السلام بالكتب المنزلة على الرسل، وهي وحي من عند الله، وهي أنواع، يأتي على أحد عشر نوعاً، فتارة يأتي به الملك في صورة رجل فيكلم النبي، فيعي عنه ما يقول، وتارة يأتيه في صورة لا يراها، فينزل على صدره مباشرة، فيسمع مثل صلصلة الجرس، وهو أشد ذلك، ثم يعي بعد هذا ما قال الملك، وتارة يأتي بالرؤيا في النوم، وتارة يأتي على طريقة الحوار، وتارة يأتي باللمة الربانية، أي: الخاطر الذي يلقى في قلب الإنسان، فلا يستطيع تأخيراً ولا تقديماً عند مجيئه، وتارةيت يتيأتي يأتي هذا الوحي كتباً مكتوبة في ألواح أو في صحف، فتنزل من عند الله تعالى، كما كتب الله التوراة لموسى بيمينه، كتبها الله بيمينه بالألواح، وتارة يأتي بصوت يسمعه النبي من شجرة، كما حصل لموسى في تكليمه لله في طور سيناء، في الجانب المقدس من الوادي، فسمع الصوت من تلك الشجرة، فكل هذه هي أنواع من أنواع الوحي، وقد أخرج البخاري في الصحيح، في ثاني حديث في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف التنيسي، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني فأعي عنه ما يقول، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً ).

الكتب المنزلة على الرسل

وهذه الكلمات التشريعية منها الكتب المنزلة التي يجب الإيمان أنها من كلام الله، وهذه منها الكتب الأربعة التي جاء ذكرها في القرآن، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومنها صحف موسى، وصحف إبراهيم، وغير ذلك من الصحف التي أنزلت على الأنبياء، وقد ختم هذا النوع من الكلمات بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا نبي بعده، فانقطع الوحي من السماء إلى الأرض، لا يمكن أن يأتي أي شيء من هذا الكلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفاه الله والوحي أشد ما يكون تتابعاً.

تميز الرسل عن غيرهم من البشر بتقوية الله لهم

وظاهرة هذا الوحي ظاهرة عجيبة جداً، ففيها من الإعجاز للبشر وحتى للخلائق الأخرى أشياء عجيبة جداً، فقد سبق أن الملائكة وهم الأقوياء الأشداء لا يتحملون سماع كلام الله جل جلاله، سواء منهم من كان في السماء الدنيا، أو في السماء التي فوقها، أو في السماء التي فوقها، أو فوق السماوات بمسافات شاسعة، لا يتحملون سماع ذلك الكلام الجليل، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، والبشر يقويهم الله تقوية لسماع كلامه، من أراد منهم تقويته لذلك؛ ولذلك يختار الرسل من أشد الخلائق في أجسامهم وقواهم، وما منهم أحد إلا وهو أقوى من أهل زمانه جميعاً، يقوون بثلاثة أنواع من أنواع القوة: القوة الأولى: قوة جسمية، تشمل قوة البدن، وقوة السمع، وقوة البصر، وقوة الحركة، وقوة جميع الأجهزة البدنية.

والقوة الثانية: قوة في العقل، والفهم، والاتعاظ، تقتضي من الإنسان أيضاً تمام الشخصية بحيث يثق بنفسه، وبفهمه، وباستيعابه، وبقوته.

والقوة الثالثة: قوة روحية تقتضي اتصالاً بالله سبحانه وتعالى وربانية، وانقطاعاً عن الخلائق، وعدم تعلق قلب بأي أحد من الناس.

وهذه القوى الثلاثة قوى الله بها أنبياءه؛ فاستطاعوا أن يتحملوا الوحي، وأن يفهموه، وأن يؤدوه كما أنزل عليهم.

تأثير ظاهرة الوحي على الكائنات المختلفة

وهذه الظاهرة - التي هي ظاهرة الوحي - كما ذكرنا- تتأثر بها البهائم وحتى الجبال، كما قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، وعندما سأل موسى ربه أن يراه قال: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، فصار الجبل دكاً من جلال الله جل جلاله؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي وهو يركب دابة لم تستطع أن تتحمله، إلا القصواء وحدها، وهي ناقته، وكان إذا نزل عليه الوحي لا يحمله من الدواب سواها، فإذا نزل الوحي وقفت واستقرت أرجلها مكانها، ولم تستطع الحركة، وكفت عن المضغ والاسترجاع، فتقف حتى ينتهي الوحي، ويحس البشر كذلك الذين لا يوحى إليهم عند نزول الوحي وحضرته إحساساً عجيباً، ويتأثرون تأثراً بالغاً؛ فقد ثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه - وكان من أشداء الأنصار- قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسند ركبته إلى فخذي، فأنزل عليه الوحي، فكأنما ارفضت فخذي) من شدة الوحي، ركبة النبي صلى الله عليه وسلم تمس فخذه هو، فلما نزل الوحي على النبي كأنما تشظت فخذه من شدة الوحي، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه الوحي، يسمع مثل أزيز النحل، وكان أبو بكر ربما سمع عند النبي مثل غلي المِرجل، أصوات يسمعونها، وهم لا يفهمونها، ولا يدركون مأخذها، وهي الوحي، من شدته.

شدة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي ومظاهر ذلك

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر عند نزوله تأثراً بالغاً، فقد أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه؛ فأنزل الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة:16] )، (كان مما يحرك شفتيه) أي: كثيراً ما يحرك شفتيه،(كان يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه) أي: كثيراً ما يحرك شفتيه، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، ومنه قول الشاعر:

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم

(لمما نضرب الكبش ضربة) الكبش: قائد الكتيبة، و (لمما نضربه)؛ أي: كثيراً ما نضربه.

وكذلك في صحيح مسلم في حديث الرؤى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مما يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، كان إذا سلم من صلاة الفجر مما يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، أي: كثيراً ما يقول ذلك، يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، فتارة يفسر الرؤيا، وتارة يعرض عنها، فقال له رجل: ( يا رسول الله، رأيت كأن رأسي قطع فتدحرج فتبعته، فقال: لا تقصص علي ألاعيب الشيطان بك )، فبين أن هذا ليس رؤيا، وإنما هو حلم من الشيطان.

وهذه الشدة التي كان يعالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي تتمثل أيضاً ببعض المظاهر التي تظهر عليه - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- عند نزول الوحي، فمنها آثار جسمية عليه، كما قال: ( شيبتني هود وأخواتها )، أخواتها؛ أي: السور التي هي مثل هود جاء فيها أمره بالاستقامة: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، فقد جاء ذلك في سورة هود، فشيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة هذا الأمر الذي أمر به: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:112-113]، فأدى ذلك به إلى حزن شديد عند نزول هذا النوع من الأوامر، وكذلك تأثر آخر وقتي يقع عند نزول الوحي، كما صح في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه، أنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجعته - أو قفوله- من الطائف نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، فأحرم منها، فجاء رجل وعليه جبة مضمخة بطيب، فقال: ( يا رسول الله، أحرمت بعمرة وعلي هذه الجبة، فمرني: ماذا أصنع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم )، ثم دعاني عمر، فقال: انظر إليه، فإنه يوحى إليه الآن، فإذا هو قد اربد وجهه وتحدر منه العرق، وإذا هو يغط غطاً شديداً، ( فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فأمره أن ينزع عنه الجبة، وأن يغسل الطيب، وأمره ببقية ما يلزمه )، فـيعلى بن أمية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه، وهذا الوحي الذي نزل في ذلك الوقت ليس من القرآن، إنما هو فتوى لذلك السائل فيما يصنع، فنزل عليه الوحي بمن هو متضمخ بطيب، فقد سبق محظور الإحرامِ الإحرامَ ماذا يصنع؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى تلك الشدة التي اربد منها وجهه - أي: تغير لونه وصار إلى الغبرة - وكذلك غط غطاً شديداً من شدة الهول، كأنه يحمل عبئاً ثقيلاً.

بداية نزول الوحي إلى الأرض

وظاهرة هذا الوحي إلى الأرض بدأت بهبوط آدم و حواء عليهما السلام، فقد كان الوحي يأتي آدم بالرسالة، وهو محل إجماع، فقد أجمع المسلمون على أن آدم كان يوحى إليه؛ ولذلك فهو رسول من رسل الله، وقد جاء التصريح بذلك في بعض الأحاديث التي فيها ذكر أن آدم أرسل إليه يوم الجمعة، وفيها كذلك - من أدلتها- ذكر الاجتباء، فقد جاء في القرآن، وقد قال ابن عباس: إن الاجتباء كان من خصائص الرسل في الأمم السابقة حتى أنزل على هذه الأمة جملة، فمن خصائص هذه الأمة أن الله اجتباها، من قبلها كان الاجتباء مختصاً بالأنبياء؛ ولذلك قال الله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122]، (( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ )) فكان هذا اختياراً للنبوة، وكل الأنبياء الذين جاء فيهم ذكر الاجتباء في القرآن فهم من الرسل، وهذه الأمة جاء فيها الاجتباء العام في قول الله تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]، فخص الله هذه الأمة بما خص به الرسل من قبل، وهذا من فضل هذه الأمة، فقد شرفها الله بأنواع التشريف، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] )، فخاطب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما خاطب به الرسل، فالرسل قال لهم: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله لها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172].

نزول الوحي على حواء والاختلاف في رسالتها

وأنزل الوحي على حواء أيضاً، لكن اختلف في رسالتها، أو نبوتها، فإن كثيراً من أهل العلم يرون أن النبوة تختص بالرجال دون النساء، ويرون أن ذلك من الخصائص التي بها مُيز الرجال، فمنها الرسالة والنبوة، أو الرسالة دون النبوة، ومنها الإمامة العظمى، ومنها كذلك إمامة الصلاة في حق الرجال، ومنها كذلك الأذان، ومنها القضاء، إما على الإطلاق، أو على الخلاف، فعند ابن جرير الطبري: يصح قضاء المرأة مطلقاً، وعند الحنفية: في الأمر الذي تشهد فيه فقط، ولا يصح قضاؤها في الأمر الذي لا تشهد فيه، كالحدود، والقصاص، والأنساب، وغير ذلك، فالأمر الذي تشهد فيه النساء - وهو الأمر المالي أو ما يؤول إلى المال- عند الحنفية يمكن أن تكون قاضية فيه، وعند جمهور أهل العلم لا يمكن أن تكون المرأة قاضية مطلقاً، والأذان يستثنى منه الإقامة، فتجوز للنساء، وهي من سنتهن، لكن تقيم المرأة سراً، كما قال خليل رحمه الله: (وإن أقامت المرأة سراً فحسن) (حسن) أي: سنة.

وقد اختلف أهل العلم في حواء عليها السلام، في رسالتها، أو نبوتها، أو ولايتها، وهذا الخلاف نظيره الخلاف في مريم ابنة عمران، فلم تذكر أنثى باسمها الصريح في القرآن إلا مريم وحدها، لم تذكر حواء باسمها، ولم تسمَّ امرأة فرعون، ولم تسمَّ أية امرأة أخرى إلا مريم بنت عمران، فجاءت تسميتها في القرآن ثلاثين مرة، جاء اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم يرد فيه اسم أنثى غير مريم وحدها، فقالت طائفة من أهل العلم: هي أيضاً تتصف بصفة الرسالة والنبوة، وقد جاء ما يدل على ذلك في مواضع من القرآن فيها ذكر خطابها، ومكالمة الملك لها، ومجادلتها للملك، وجاء التصريح بأنه روح القدس: رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، وروح القدس هو جبريل، وإذا كلم إنساناً، فهذا دليل على أنه موحىً إليه، وذلك دليل على النبوة

الاختلاف في نبوة لقمان والخضر وذي القرنين

وكذلك الخلاف في لقمان، وذي القرنين، و الخضر، هؤلاء الثلاثة من الرجال أيضاً اختلف فيهم، في نبوتهم، ورسالتهم، وقد قال السيوطي رحمه الله:

واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول

لقمان ذي القرنين حوا مريم والوقف في الجميع رأي المعظم

ذكر القرآن للرسل وأولهم

ثم أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم هو نوح عليه السلام، وقد كان عمره الرسالي طويلاً، فقد مكث في النذارة ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأنزل الله عليه الوحي، وقد جاء بيان بعض الوحي الذي أنزل إليه بالقرآن، فبين الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وكذلك أمره بصناعة السفينة، وأمره بجعل الخلائق فيها، والعلامة التي جعل الله له لبدء الطوفان، إذا فار التنور، وبعد ذلك تتابع الرسل، في كل أمة نذير، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، وهذه النذارة لا تختص بلغة من اللغات، ولا بشعب من الشعوب، ولكن أغلب الرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن، أو جاء التحدث عنهم في السنة، كانوا في المنطقة المركزية في الأرض، وهي جزيرة العرب، وبلاد الشام، ومصر، وبلاد العراق، فهذه المنطقة هي مركز الأرض ووسطها، وكل الرسل السابقين الذين جاء لهم ذكر أو قصص كانوا في هذه المنطقة، إما أن يكونوا في جزيرة العرب، كآدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل، أو أن يكونوا في الشام كأغلب الرسل من ذرية إبراهيم، أو أن يكونوا في مصر كيوسف، ومن بعده من بني إسرائيل إلى موسى، أو أن يكونوا في العراق كبداية أمر إبراهيم، وكيونس بن متى، عليهم السلام، فهذه المنطقة هي المركزية في العالم، وهي التي جاء التحدث عن ذكر الرسالات فيها، ولا يقتضي ذلك أن المناطق الأخرى ليس فيها رسل لله، لكن يقتضي أن حاجتنا نحن في التاريخ إنما هي إلى أولئك الذين بعثوا في هذه المنطقة؛ ولذلك لم يقص علينا في القرآن أسماء كل الرسل، بل ورد منهم خمسة وعشرون اسماً في القرآن فقط، وهذا يقتضي أن الذي نحتاج إليه هو ما كان مسمىً في القرآن، وما سوى ذلك قد لا نحتاج إليه في حياتنا، ولو جهلناه لما توقف على ذلك نقص في ديننا، ولا في دنيانا؛ فلهذا لم يبين لنا، ولو توقف عليه نقص في الدين أو في الدنيا لجاء الخبر به صريحاً؛ لأن كل ما نحتاج إليه جاء التصريح به بالوحي.

تكميل الوحي للبشر

فالوحي هو عبارة عن تكميل للبشر، فالإنسان أعطاه الله وسائل للإدراك، منها: السمع، والبصر، والحواس التي يدرك بها الحسيات، ومنها: العقل الذي يدرك به المعنويات، ومنها الروح التي يدرك بها الوجدانيات، كاللذة، والألم، والرضا، والغضب، هذه أمور لا تدرك بالحس، ولا تدرك بالعقل، وإنما تدرك بالروح؛ ولذلك تدركها البهائم، فالبقرة إذا وطئت في النار تألمت، وهكذا إذا عطشت ذهبت إلى الماء، فهذا أمر وجداني يحس به الكائن الحي في نفسه.

وبعد ذلك يأتي الوحي تكميلاً للنقص الحاصل لدى البشر؛ لأن البشر عقولهم، وحواسهم، وأرواحهم، نقطة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، فنحن سبقنا العدم، وسيأتي بعدنا العدم؛ فلذلك لا يمكن أن تفهم عقولنا القديم، ولا أن تفهم الباقي، العقل دائماً يبحث عن النهايات والبدايات؛ لأنه هو له بداية ونهاية، إذا فكرتم في نعيم الجنة، فستجدون أن العقول تفكر: إلى متى هذا؟! كأنه سيمل، والواقع أنه ليس كذلك؛ فأهل الجنة لا يملون شيئاً من نعيمهم، وإذا فكرتم أيضاً في عذاب النار تجدون العقل يبحث عن النهاية، والواقع أنه - نعوذ بالله - ليس فيه نهاية؛ فلهذا لا يدرك العقل البدايات ولا النهايات؛ لأنها أمور هو غير مفطور عليها، فهو بمثابة الماء إذا صب في هذه العلبة أخذ شكلها، وكان على مقاسها، فكذلك العقل صب في قالبنا نحن، ونحن وجدنا بعد عدم، وسنعود عدماً بعد وجود، فكذلك صارت عقولنا مصبوبة على هذا الشكل، لا تدرك إلا ما كان قبله عدم وبعده عدم؛ فاحتجنا إذاً إلى مقوٍّ خارجي؛ فكان الوحي؛ ولهذا قال الإمام الغزالي: (العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج)، فالجميع هبة من عند الله وتنويرٌ للإنسان، فالعقل بمثابة وحي من الداخل، يدرك به الإنسان مصالحه ومفاسده، ويفكر في الأمور، فيراها بعين البصيرة، والوحي عقل من الخارج؛ لأنه تتميم للعقل، وقد جاء من الخارج، فجاء من عند الله سبحانه وتعالى، وهو من علمه.

وهذه الكلمات التشريعية منها الكتب المنزلة التي يجب الإيمان أنها من كلام الله، وهذه منها الكتب الأربعة التي جاء ذكرها في القرآن، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومنها صحف موسى، وصحف إبراهيم، وغير ذلك من الصحف التي أنزلت على الأنبياء، وقد ختم هذا النوع من الكلمات بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا نبي بعده، فانقطع الوحي من السماء إلى الأرض، لا يمكن أن يأتي أي شيء من هذا الكلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفاه الله والوحي أشد ما يكون تتابعاً.

وظاهرة هذا الوحي ظاهرة عجيبة جداً، ففيها من الإعجاز للبشر وحتى للخلائق الأخرى أشياء عجيبة جداً، فقد سبق أن الملائكة وهم الأقوياء الأشداء لا يتحملون سماع كلام الله جل جلاله، سواء منهم من كان في السماء الدنيا، أو في السماء التي فوقها، أو في السماء التي فوقها، أو فوق السماوات بمسافات شاسعة، لا يتحملون سماع ذلك الكلام الجليل، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، والبشر يقويهم الله تقوية لسماع كلامه، من أراد منهم تقويته لذلك؛ ولذلك يختار الرسل من أشد الخلائق في أجسامهم وقواهم، وما منهم أحد إلا وهو أقوى من أهل زمانه جميعاً، يقوون بثلاثة أنواع من أنواع القوة: القوة الأولى: قوة جسمية، تشمل قوة البدن، وقوة السمع، وقوة البصر، وقوة الحركة، وقوة جميع الأجهزة البدنية.

والقوة الثانية: قوة في العقل، والفهم، والاتعاظ، تقتضي من الإنسان أيضاً تمام الشخصية بحيث يثق بنفسه، وبفهمه، وباستيعابه، وبقوته.

والقوة الثالثة: قوة روحية تقتضي اتصالاً بالله سبحانه وتعالى وربانية، وانقطاعاً عن الخلائق، وعدم تعلق قلب بأي أحد من الناس.

وهذه القوى الثلاثة قوى الله بها أنبياءه؛ فاستطاعوا أن يتحملوا الوحي، وأن يفهموه، وأن يؤدوه كما أنزل عليهم.

وهذه الظاهرة - التي هي ظاهرة الوحي - كما ذكرنا- تتأثر بها البهائم وحتى الجبال، كما قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، وعندما سأل موسى ربه أن يراه قال: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، فصار الجبل دكاً من جلال الله جل جلاله؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي وهو يركب دابة لم تستطع أن تتحمله، إلا القصواء وحدها، وهي ناقته، وكان إذا نزل عليه الوحي لا يحمله من الدواب سواها، فإذا نزل الوحي وقفت واستقرت أرجلها مكانها، ولم تستطع الحركة، وكفت عن المضغ والاسترجاع، فتقف حتى ينتهي الوحي، ويحس البشر كذلك الذين لا يوحى إليهم عند نزول الوحي وحضرته إحساساً عجيباً، ويتأثرون تأثراً بالغاً؛ فقد ثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه - وكان من أشداء الأنصار- قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسند ركبته إلى فخذي، فأنزل عليه الوحي، فكأنما ارفضت فخذي) من شدة الوحي، ركبة النبي صلى الله عليه وسلم تمس فخذه هو، فلما نزل الوحي على النبي كأنما تشظت فخذه من شدة الوحي، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه الوحي، يسمع مثل أزيز النحل، وكان أبو بكر ربما سمع عند النبي مثل غلي المِرجل، أصوات يسمعونها، وهم لا يفهمونها، ولا يدركون مأخذها، وهي الوحي، من شدته.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر عند نزوله تأثراً بالغاً، فقد أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه؛ فأنزل الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة:16] )، (كان مما يحرك شفتيه) أي: كثيراً ما يحرك شفتيه،(كان يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه) أي: كثيراً ما يحرك شفتيه، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، ومنه قول الشاعر:

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم

(لمما نضرب الكبش ضربة) الكبش: قائد الكتيبة، و (لمما نضربه)؛ أي: كثيراً ما نضربه.

وكذلك في صحيح مسلم في حديث الرؤى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مما يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، كان إذا سلم من صلاة الفجر مما يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، أي: كثيراً ما يقول ذلك، يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، فتارة يفسر الرؤيا، وتارة يعرض عنها، فقال له رجل: ( يا رسول الله، رأيت كأن رأسي قطع فتدحرج فتبعته، فقال: لا تقصص علي ألاعيب الشيطان بك )، فبين أن هذا ليس رؤيا، وإنما هو حلم من الشيطان.

وهذه الشدة التي كان يعالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي تتمثل أيضاً ببعض المظاهر التي تظهر عليه - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- عند نزول الوحي، فمنها آثار جسمية عليه، كما قال: ( شيبتني هود وأخواتها )، أخواتها؛ أي: السور التي هي مثل هود جاء فيها أمره بالاستقامة: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، فقد جاء ذلك في سورة هود، فشيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة هذا الأمر الذي أمر به: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:112-113]، فأدى ذلك به إلى حزن شديد عند نزول هذا النوع من الأوامر، وكذلك تأثر آخر وقتي يقع عند نزول الوحي، كما صح في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه، أنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجعته - أو قفوله- من الطائف نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، فأحرم منها، فجاء رجل وعليه جبة مضمخة بطيب، فقال: ( يا رسول الله، أحرمت بعمرة وعلي هذه الجبة، فمرني: ماذا أصنع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم )، ثم دعاني عمر، فقال: انظر إليه، فإنه يوحى إليه الآن، فإذا هو قد اربد وجهه وتحدر منه العرق، وإذا هو يغط غطاً شديداً، ( فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فأمره أن ينزع عنه الجبة، وأن يغسل الطيب، وأمره ببقية ما يلزمه )، فـيعلى بن أمية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه، وهذا الوحي الذي نزل في ذلك الوقت ليس من القرآن، إنما هو فتوى لذلك السائل فيما يصنع، فنزل عليه الوحي بمن هو متضمخ بطيب، فقد سبق محظور الإحرامِ الإحرامَ ماذا يصنع؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى تلك الشدة التي اربد منها وجهه - أي: تغير لونه وصار إلى الغبرة - وكذلك غط غطاً شديداً من شدة الهول، كأنه يحمل عبئاً ثقيلاً.

وظاهرة هذا الوحي إلى الأرض بدأت بهبوط آدم و حواء عليهما السلام، فقد كان الوحي يأتي آدم بالرسالة، وهو محل إجماع، فقد أجمع المسلمون على أن آدم كان يوحى إليه؛ ولذلك فهو رسول من رسل الله، وقد جاء التصريح بذلك في بعض الأحاديث التي فيها ذكر أن آدم أرسل إليه يوم الجمعة، وفيها كذلك - من أدلتها- ذكر الاجتباء، فقد جاء في القرآن، وقد قال ابن عباس: إن الاجتباء كان من خصائص الرسل في الأمم السابقة حتى أنزل على هذه الأمة جملة، فمن خصائص هذه الأمة أن الله اجتباها، من قبلها كان الاجتباء مختصاً بالأنبياء؛ ولذلك قال الله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122]، (( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ )) فكان هذا اختياراً للنبوة، وكل الأنبياء الذين جاء فيهم ذكر الاجتباء في القرآن فهم من الرسل، وهذه الأمة جاء فيها الاجتباء العام في قول الله تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]، فخص الله هذه الأمة بما خص به الرسل من قبل، وهذا من فضل هذه الأمة، فقد شرفها الله بأنواع التشريف، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] )، فخاطب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما خاطب به الرسل، فالرسل قال لهم: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله لها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172].

وأنزل الوحي على حواء أيضاً، لكن اختلف في رسالتها، أو نبوتها، فإن كثيراً من أهل العلم يرون أن النبوة تختص بالرجال دون النساء، ويرون أن ذلك من الخصائص التي بها مُيز الرجال، فمنها الرسالة والنبوة، أو الرسالة دون النبوة، ومنها الإمامة العظمى، ومنها كذلك إمامة الصلاة في حق الرجال، ومنها كذلك الأذان، ومنها القضاء، إما على الإطلاق، أو على الخلاف، فعند ابن جرير الطبري: يصح قضاء المرأة مطلقاً، وعند الحنفية: في الأمر الذي تشهد فيه فقط، ولا يصح قضاؤها في الأمر الذي لا تشهد فيه، كالحدود، والقصاص، والأنساب، وغير ذلك، فالأمر الذي تشهد فيه النساء - وهو الأمر المالي أو ما يؤول إلى المال- عند الحنفية يمكن أن تكون قاضية فيه، وعند جمهور أهل العلم لا يمكن أن تكون المرأة قاضية مطلقاً، والأذان يستثنى منه الإقامة، فتجوز للنساء، وهي من سنتهن، لكن تقيم المرأة سراً، كما قال خليل رحمه الله: (وإن أقامت المرأة سراً فحسن) (حسن) أي: سنة.

وقد اختلف أهل العلم في حواء عليها السلام، في رسالتها، أو نبوتها، أو ولايتها، وهذا الخلاف نظيره الخلاف في مريم ابنة عمران، فلم تذكر أنثى باسمها الصريح في القرآن إلا مريم وحدها، لم تذكر حواء باسمها، ولم تسمَّ امرأة فرعون، ولم تسمَّ أية امرأة أخرى إلا مريم بنت عمران، فجاءت تسميتها في القرآن ثلاثين مرة، جاء اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم يرد فيه اسم أنثى غير مريم وحدها، فقالت طائفة من أهل العلم: هي أيضاً تتصف بصفة الرسالة والنبوة، وقد جاء ما يدل على ذلك في مواضع من القرآن فيها ذكر خطابها، ومكالمة الملك لها، ومجادلتها للملك، وجاء التصريح بأنه روح القدس: رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، وروح القدس هو جبريل، وإذا كلم إنساناً، فهذا دليل على أنه موحىً إليه، وذلك دليل على النبوة




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع