نصرة النبي عليه الصلاة والسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى نوه بشأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ورفع منزلته، وأعلى قدره، وهذا اليوم الذي أنتم فيه هو اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، في اليوم الثالث من شهر ربيع الأول، وهو يوافق هذا اليوم الذي أنتم فيه, قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، فنحن نشكر نعمة الله سبحانه وتعالى بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعنا في هذا البيت من بيوت الله، نتدارس شيئاً من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ونزداد حباً له، فقد شرط الله علينا حبه في الإيمان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، وقال لـعمر: ( حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).

ولا شك أن أهل الإيمان يتفاوتون فيه، ومن تفاوتهم فيه تفاوتهم في حب الله ورسوله، فمن كان أشد حباً لله ورسوله كان أقوى إيماناً؛ ولهذا أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب العبد لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ).

إن هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم له حق عظيم على أمته بالمحبة والنصرة والاتباع، فقد اختار الله لنا أفضل الرسل، وأرسله بخير شرائع الدين، وأنزل عليه أفضل الكتب، وختم به الرسالات من عند الله، فلا نبي بعده، وقد زكاه الله سبحانه وتعالى بكل أنواع التزكية، فزكى الله عقله، فقال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22]، وزكى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكى منطقه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وزكى خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وأثنى الله عليه ثناءً عطراً في كثير من آيات كتابه فقد قال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:1-18].

وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الفتح:1-3].

وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5].

وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].

وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين اتباعه وتحكيمه في أمره كله، فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

وقد دعا الله المؤمنين جميعاً إلى نصرته، فقد أخذ العهد بذلك على الأنبياء السابقين، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:81-82].

وقال تعالى في جوابه لـموسى عليه السلام لما أخذته وأصحابه الرجفة فقال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:155-157].

ودعا الله المؤمنين إلى نصرته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14].

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:38-41].

وقد نصره الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، فنصره في الدنيا فمكن له في الأرض، ونصره على من عاداه، فقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]. وقال تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].

فكل ذلك من نصرة الله له، كما أنه نصره يوم القيامة فوعده المقام المحمود، وقال تعالى: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79]، وهذا المقام المحمود لا ينبغي إلا لرجل واحد؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، خصه الله به من بين الثقلين: الإنس, والجن؛ تشريفاً له وتكريماً، وكل هذا يقتضي منا زيادة محبته، والحرص على اتباعه، والسعي في نصرته، وهذه أمور هي من الناحية النظرية مسلمة لدى الجميع، فما منكم أحد إلا وهو موقن أنه يجب عليه أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحبه حباً شديداً أحب مما يحب أهله ونفسه وماله، لكن نريد أن نصل إلى نقاط عملية نطبقها في واقعنا وحياتنا نزداد بها حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً له، ونزداد بها نصرةً له حتى نتمكن من هذه النصرة التي أخذ الله علينا العهد بها، فهي ناطقة علينا, ولا يستطيع أحد منا أن يتخلص منها إلا بعمله وما يقدم، هذه النقاط العملية:

أولها: أن تتطلع يا أخي! إلى ما جاءك به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عند الله.

فالمعرض عنه الذي يمضي عليه اليوم واليومان والأسبوع والشهر والسنة لا يزداد علماً مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك أنه عرضة للفتنة، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

لذلك لابد أن يخصص كل واحد منا يومياً جزءاً من وقته قل أو كثر لتعلم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تحقيقاً لهذه النصرة، وزيادةً لهذه المحبة، ولا شك أنكم جميعاً تتفاوتون في ذلك، فالمتفرغون لطلب العلم ما عليهم إلا أن يخلصوا لله سبحانه وتعالى فيما تفرغوا له، وأن يواصلوا مسيرتهم على الطريق، فموعدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحوض، والذين لا يتفرغون لذلك لابد أن يخصصوا جزءاً من أوقاتهم، فالموظفون والتجار وأصحاب الصنائع وأصحاب السيارات وغيرهم كل يخصص جزءاً من وقته يومياً لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان يستطيع مزاحمة العلماء بالركب فبها ونعمت, وذلك الفضل العظيم الذي لا يخيب صاحبه, ويقال لأصحابه: ( انطلقوا مغفوراً لكم )، والملائكة يحفونهم ويرتفعون إلى ربهم وهو أعلم، فيقول: ( أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم أو هم الرهط لا يشقى بهم جليسهم ).

وإن كان الإنسان لا يستطيع مزاحمة العلماء بالركب فعليه أن يجلس وقتاً من أوقاته يقرأ فيه كتاب الله، أو يقرأ في صحيح البخاري، أو يقرأ في صحيح مسلم، أو يقرأ في موطأ مالك، أو يقرأ في أي كتاب من كتب الحديث، أو يقرأ رياض الصالحين، أو يقرأ الأربعين النووية، فيزداد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جربت تجربة أظن أنها لا تخلف: أن كل من كان مؤمناً بالله ورسوله مصدقاً له إذا أخذ فراشه وأوى إلى النوم فقرأ ثلاثة أحاديث من رياض الصالحين فإنه يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام؛ لأنه يزداد محبةً له، وبذلك يتعلق به فيراه في المنام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي ).

كذلك الذي لا يستطيع قراءة الكتب عليه أن يسمع الأشرطة، فعليكم يا إخواني! أن تتنافسوا في اقتناء الأشرطة التي تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضلها ما كان فيه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشريط الذي يحوي كلامه لا شك أنه أفضل من سائر الأشرطة إلا ما كان يحوي كلام الله، وكذلك الكتاب الذي فيه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أفضل من غيره من الكتب التي فيها كلام الناس؛ ولذلك قال الترمذي رحمه الله لما ألف كتابه قال لطلبة العلم في بلده: من كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم.

فلذلك لابد يا إخواني! أن نحرص جميعاً على اقتناء كتب الحديث، وقراءتها، وأن يحصل لدينا في وقت إعراض الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به إقبال على سنته.

تعالوا يا إخواني! نتنافس الآن في القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم باقتناء الكتب التي فيها كلامه وتطبيق ذلك، فلم نزدد حباً له إلا إذا عرفناه، فالمحبة لها في الأصل خمسة أسباب:

السبب الأول: الحسن والجمال والكمال.

فمن كان حسن الصورة جميلاً لابد أن يكون محبوباً يحبه رائيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم أحاديثه وأوصافه فهو أحسن الناس صورة، كأن وجهه فلقة البدر، قال: ( أوتي يوسف شطر الحسن، وأوتيت الحسن كله )، لم يبق شيء يتمدح به في كمال الصورة والحسن ولا في القوة في الجسم إلا جمعه الله فيه، فالله صنعه على عينه، واصطفاه من خلقه، فكمله وجمله، وجمع فيه الحسن كله، فإذاً هذا سبب من أسباب المحبة.

السبب الثاني: هو حسن الخلق، فكل من هو حسن الخلق, متواضع للناس, رحيم بهم, محبوب لدى الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فإذا قرأتم في سنته وسيرته وجدتم الشيء العجيب، يقول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

يقول جابر بن عبد الله: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، ما سئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول ).

وقال ابن عباس: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

وقال للأعرابي يوم أوطاس حين ألجئوه إلى سمرة فتعلق بها رداؤه: ( إليكم عني، فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً ).

( وقد كان يقسم بينهم الغنائم فيعطي الرجل ما بين الجبلين من الإبل، ويعطي الرجل ما بين الجبلين من الغنم، ويعطي الرجل من الذهب حتى ما يقله -أي: حتى لا يستطيع حمله-، فيرجعون إلى ذويهم فيقولون: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ).

كذلك الشجاعة حدث ولا حرج عن شجاعته! ما عرف البشر أشجع منه قط، أنتم تعلمون أن علي بن أبي طالب مضرب المثل في الشجاعة، يقول: ( كنا إذا لقينا العدو اتقيناهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ).

كذلك ما يتعلق بالرحمة، يقول الله فيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، فما أحد من الناس أرحم بالناس منه، يصفه الله بهذه الرحمة ويشهد له بها، فقد قال الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، إنه الرحيم بالمؤمنين.

السبب الثالث من أسباب المحبة هو: الإحسان، فكل من أحسن إليك وأسدى إليك معروفاً، فإن كان طبعك كريماً لابد أن تحبه:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجب

كل من أحسن إليك إذا كنت كريماً لابد أن تكافئه بالمحبة، فهي أقل شيء من مقابل الجميل، وهل تعلمون أحداً أسدى إليكم من المعروف ما أسدى إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس؟ لا. فهو الذي هداكم الله به للإسلام، وقد كنتم ضلالاً أهل جاهلية، وهو الذي علمكم ما يرضي ربكم جل جلاله، وهو الذي قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح: ( ما يكون عندي من خير فلن ادخره عنكم)، وهو الذي بذل نفسه من أجل هداية الناس أجمعين، قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6], قال تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فقوله: (باخع نفسك) أي: مهلك نفسك (ألا يكونوا مؤمنين) لشدة ذلك عليك، إذاً ليس أحد من الناس أمنَّ علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أكثر إحساناً لدينا منه، فواضله وفضائله لا نعدها، وهذا سبب من أسباب المحبة.

السبب الرابع من أسباب المحبة هو: الرجاء.

فكل من ترجو منه خيراً ومعروفاً تتعلق به وتحبه؛ لأنك تريد منه خيراً كثيراً، وأنتم ترجون من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير والمعروف ما لا يمكن أن يوصف، فهو الذي ترجون جميعاً الدخول في شفاعته يوم القيامة في الشفاعة الكبرى في الموقف، وهو الذي ترجون أن تشربوا من حوضه بيده شربةً هنيئةً لا تظمئون بعدها أبداً، وهو الذي تسألون عنه في قبوركم: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ وهو الذي ترجون الدخول في شفاعته في دخول الجنة، فهو أول من يقرع حلقة باب الجنة فتفتح له أبواب الجنة الثمانية؛ فلذلك هذا الرجاء العظيم في خيره ومعروفه يقتضي محبته أيضاً وتعلق القلب به.

السبب الخامس من أسباب المحبة هو: الصلة والقرابة، فقريبك حتى لو لم يحسن إليك، ولو لم يكن جميلاً، ولو لم يكن حسن الخلق، ولو لم تكن ترجو منه شيئاً تحبه من أجل القرابة والصلة، ولذلك يقول الشاعر:

بلادي وإن جارت علي حبيبة وأهلي وإن ضنوا علي كرام

ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تنتسبون إليه جميعاً، فكل أنساب الدنيا منقطعة يوم القيامة بمجرد النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، والنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم باق يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [الإسراء:71]، تدعون به يوم القيامة فيقال لكم: يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! فيستجيب الصادقون من أهل السنة, فيقفون تحت لواء الحمد وهو بيده اليمنى يرفعه صلى الله عليه وسلم.

فهذه الأسباب الخمسة إذاً متحققة كلها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواحد منها وحده كاف لتحقيق المحبة.

لكن لا يمكن أن تحصل هذه المحبة إلا بالتعرف عليه؛ فلذلك لابد من مراجعة سنته ومدارستها، والبرنامج سهل في ذلك, فأنتم تعلمون أن كثيراً منكم -ولله الحمد- يسمعون أحاديث في المساجد في أدبار الصلاة من رياض الصالحين، أو من الترغيب والترهيب، أو من غير ذلك من الكتب، فاجعلوها عادةً في بيوتكم، وكل إنسان منكم إذا أوى إلى أهله بدل أن يجمعهم لأخبار الناس وما قالت الإذاعة وما قالت التلفزة يحدثهم بحديث يقرءونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هو لا يقرأ فليقرأ ولده أو بنته أو زوجته، وليتعاونوا على قراءة حديث في البيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينور لهم المجلس، ويربطهم به، ويحقق لهم محبته، وهذا أمر سهل جداً، فكما أصبح عادةً في المساجد نريد أن يصبح عادةً في البيوت، وأن يكون كل بيت مأهولاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ فيه في كل يوم وفي كل ليلة حديث على الأقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر ميسور سهل جداً، فالحمد لله الكتب مطبوعة ومشكولة -مضبوطة بالشكل- فبالإمكان أن تقرءوا، وأيضاً أغلب الأحاديث سهلة الفهم ميسرة، فكل الناس يفهمونها، وإذا لم تستوعب كل معانيها على الأقل فهمت بعضها فحصل لك النور والبركة من بعض ما فيها.

الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

الأمر الثاني الذي نريد تحقيقه من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية هو: حصول الغيرة عليه.

لا شك أن كل إنسان منكم يغار على قبيلته، فأنتم تعلمون لو أن أحداً من قبيلة من القبائل وهو رمز فيها، أو شيخ من شيوخها اعتدي عليه فضرب، أو هجاه الناس، فلا شك أن أفراد تلك القبيلة سيجيبون عنه ويدافعون عنه, ولو اعتقل أو حبس في دين فلا شك أن الجميع سيدفعون عنه ذلك الدين, لذلك لابد أن تحصل لدينا غيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولابد أن نؤثره على بني عمنا، ونؤثره على قبائلنا، فهو أحق بالأثرة وأحق بالتقديم منهم جميعاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، لابد أن نقدمه على الناس جميعاً.

وحصول هذه الغيرة يمكن أن يقاس في النفوس، فالإنسان إذا كان يرى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرمياً على الأرض فلا يأبه به ولا يرفعه فليست لديه غيرة، والإنسان إذا كان يسمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه ليست لديه غيرة، والإنسان إذا كان يسمع اعتداءً على سنته أو تقصيراً فيها أو نقصاً فلا يستشعر نقصاً ولا ضرراً ليست لديه غيرة، فلابد أن نحدث غيرةً في نفوسنا على النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي منا أن نستشعر أن هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الفرقان بين الحق والباطل؛ أرسله الله للتفريق بين الحق والباطل، كما قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213]، أي: يجتمع حقهم وباطلهم، مؤمنهم وكافرهم تحت سقف واحد، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].

وقال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

ففرق بهذا الرسول الكريم بين الحق والباطل، فهذا التفريق بسببه حصل العداء، وحصلت الحروب، فيوم بدر كان بين الأقارب حمزة بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة, وتعرفون أنهما يجتمعان في النسب, فحمزة أبوه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعتبة أبوه ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، فهذا النسب قريب جداً، وهم إنما اقتتلوا على أساس الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد فرق بينهم، فمن تبع الحق فإنه سعى لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ومن تبع الباطل فإنه سعى لنصرة إبليس وتمكين حزبه، وتعلمون الفرق بين الحزبين، ولذلك أنزل الله في الطائفتين يوم بدر: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الحج:19-23]، فرأيتم الفرق الشاسع بين الطائفتين، والبونة الكبيرة بينهما؛ لذلك لابد أن تعلموا أن حرب الحق والباطل مستمرة، فكل يوم من أيام الدنيا هو مثل يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين، وإنما تختلف الأيام باختلاف رجالها، كما قال أبو حيان في ذكر القاضي عياض وكتابه مشارق الأنوار يقول:

مشارق أنوار تبدت بسبتة ومن عجب تبد المشارق بالغرب

ومرعى خصيب في جديد ربوعها ألا فاعجبوا للخصب في موضع الجدب

فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لترب على ترب

كذلك كل يوم إنما يفضله رجاله، فأنتم تعرفون رجال بدر الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه، تذكرون عبيدة بن الحارث بن المطلب وقد بترت ساقه ودمه يسيل وهو ينتظر الموت، ويحمله صاحباه علي وحمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا وضع بين يديه قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

كذبتم وبيت الله نبذي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

ونمعنه حتى نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

فلذلك لابد أن يكون كل يوم من أيام الدنيا فيه تضحيات، وفيه رجال يريدون أن يصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويريدون أن يتقدموا إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون: وعجلت إليك ربي لترضى. يريدون أن يكونوا كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وما ذلك على الله بعزيز، فما نالوا ذلك بنسب ولا حسب وإنما نالوه بالعمل، والعمل ميسور قائم في كل زمان ومكان، وأصحاب التضحيات والبذل إنما يجازون من عند الله سبحانه وتعالى، ولا فرق بين أولهم وآخرهم إلا أن الأولين قد نالوا عوناً بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، والآخرين قد فاتهم ذلك العون، فأجرهم أكبر من هذا القبيل، ولذلك قال: ( للواحد منهم أجر خمسين. قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم؛ إنكم تجدون على الحق أعواناً, ولا يجدون على الحق أعواناً )، وكذلك خفف عنهم كثير مما كان على أولئك السابقين؛ فقد أخرج الترمذي في السنن من حديث نعيم بن حماد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان، من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى منهم بعشر ما أمر به نجا ).

فلابد يا إخواني! أن نحصل هذه الغيرة في نفوسنا، وأنت تكون جاهزةً لدينا، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لديهم هذه الغيرة، فدافعوا عنه بأنفسهم، وبذلوا أرواحهم في سبيل الدفاع عنه، ولذلك قال الشيخ غالي البصادي رحمة الله عليه:

وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس

تذكروا حالهم، فـحسان بن ثابت رضي الله عنه عندما بلغه هجاء أبي سفيان بن الحارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء

بأن سيوفنا تركتك عبداً وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركاً براً حنيفاً أمين الله شيمته الوفاء

فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

وعبد الله بن أنيس رضي الله عنه يقول في خالد بن سفيان الخزاعي:

أقول له والسيف يعجم رأسه أنا ابن أنيس فارساً غير قعدد

إذا حارب المختار أي منافق سبقت إليه باللسان وباليد

وكذلك زيد بن الدثنة رضي الله عنه لما أسر يوم بعث الرجيع فبيع بمكة هو وخبيب بن عدي, فتركوهما حتى انقضى الشهر الحرام فأخرجوهما من الحرم لقتلهما، فلما قرب زيد للقتل قال له أبو سفيان بن حرب: يا زيد! أتحب أنك بين أهلك وفي بيتك، وأن ابننا محمداً عندنا نقتله مكانك؟ فانتفض، وقال: والذي يحلف به زيد ما أحب لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تصيبه شوكة وأنني بين أهلي.

وخبيب بن عدي لما رفعوه للصلب والقتل سألهم أن يدعوه حتى يصلي ركعتين فصلاهما ثم قال: والله لولا أن تظنوا بي الجبن لزدت أي: لصليت ركعات أخر؛ لحبه للصلاة، وكان محباً لها حباً شديداً. ثم بعد ذلك قال: اللهم بلغ نبيك صلى الله عليه وسلم عنا السلام، وأنشأ يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

وكذلك ما فعل معاذ ومعوذ وعوف بني عفراء في يوم بدر عندما استبقوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قالوا: يا عم! إذا رأيت عمرو بن هشام فأرناه، قال: وما حاجتكم إليه؟ قالوا: سمعنا أنه نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نريد أن نقتله، فهؤلاء الشباب الثلاثة الصغار يستبقون أبا جهل يريدون أن يقتلوه؛ لأنه كان ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك نجد هذه الغيرة لدى المؤمنين يوم أحد، فهذه نسيبة تقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبيدها سيفان تدافع عنه بيمينها وشمالها، وهذا طلحة بن عبيد الله كان يرد النبل عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انخرق الترس، فجعل يده ترساً، فكان يرد بها السهام حتى شلت يمينه.

وهذا سعد بن أبي وقاص يقف بين يديه يرمي المشركين، وهو أول من رمى بالسهم في سبيل الله، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ارم فداك أبي وأمي، ويقول: بل نفسي فداك يا رسول الله ).

وهكذا نجد أبا عبيدة بن الجراح يقول له: ( نحري فداء نحرك يا رسول الله )، ولما ضربه ابن قمئة بالسيف فدخلت حلقة من المغفر في جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادوا انتزاعها فلم يستطيعوا، فانتزعها أبو عبيدة بن الجراح بأسنانه حتى سقطت ثنيتاه؛ فلقب ساقط الثنيتين.

وهكذا نجدهم جميعاً أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فقد نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأموالهم، خرج أبو بكر من ماله جميعاً في سبيل الله، وخرج عمر من شطر ماله في سبيل الله، وجهز عثمان ثلاثة آلاف جيش العسرة بسلاحها وظهرها وأزواجها وأقتابها ومياهها، وكل ما يحتاج إليه المجاهد كان خالصاً من مال عثمان بن عفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم )، فهذه الغيرة التي كانت لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي أدت منهم إلى التضحية في سبيل هذا الدين ونصره، وهي التي جعلت هذه الأمة تنتصر بين الأمم، وجعلت هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلم تبق أرض يمكن أن يصلوا إليها بأرجلهم ولا بركابهم إلا وصلوا إليها، حتى وصل عقبة بن نافع رضي الله عنه إلى ضفاف هذا البحر الذي أنتم عليه، فغرز رمحه في الماء، وعاهد الله أن لو كان يعلم أن وراء هذا البحر ذو نفس منفوسة لخاض البحر إليه حتى يبلغه دعوة الله، أو يموت دونه, فلو كان يعلم بوجود أمريكا لفتحها في ذلك الوقت.

وهذه الغيرة -للأسف- تعدم لدى كثير من الناس اليوم، وهي من تحقيق النصرة العملي، فلابد أن نحدثها في أنفسنا.

الأمر الثاني الذي نريد تحقيقه من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية هو: حصول الغيرة عليه.

لا شك أن كل إنسان منكم يغار على قبيلته، فأنتم تعلمون لو أن أحداً من قبيلة من القبائل وهو رمز فيها، أو شيخ من شيوخها اعتدي عليه فضرب، أو هجاه الناس، فلا شك أن أفراد تلك القبيلة سيجيبون عنه ويدافعون عنه, ولو اعتقل أو حبس في دين فلا شك أن الجميع سيدفعون عنه ذلك الدين, لذلك لابد أن تحصل لدينا غيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولابد أن نؤثره على بني عمنا، ونؤثره على قبائلنا، فهو أحق بالأثرة وأحق بالتقديم منهم جميعاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، لابد أن نقدمه على الناس جميعاً.

وحصول هذه الغيرة يمكن أن يقاس في النفوس، فالإنسان إذا كان يرى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرمياً على الأرض فلا يأبه به ولا يرفعه فليست لديه غيرة، والإنسان إذا كان يسمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه ليست لديه غيرة، والإنسان إذا كان يسمع اعتداءً على سنته أو تقصيراً فيها أو نقصاً فلا يستشعر نقصاً ولا ضرراً ليست لديه غيرة، فلابد أن نحدث غيرةً في نفوسنا على النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي منا أن نستشعر أن هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الفرقان بين الحق والباطل؛ أرسله الله للتفريق بين الحق والباطل، كما قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213]، أي: يجتمع حقهم وباطلهم، مؤمنهم وكافرهم تحت سقف واحد، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].

وقال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

ففرق بهذا الرسول الكريم بين الحق والباطل، فهذا التفريق بسببه حصل العداء، وحصلت الحروب، فيوم بدر كان بين الأقارب حمزة بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة, وتعرفون أنهما يجتمعان في النسب, فحمزة أبوه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعتبة أبوه ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، فهذا النسب قريب جداً، وهم إنما اقتتلوا على أساس الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد فرق بينهم، فمن تبع الحق فإنه سعى لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ومن تبع الباطل فإنه سعى لنصرة إبليس وتمكين حزبه، وتعلمون الفرق بين الحزبين، ولذلك أنزل الله في الطائفتين يوم بدر: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الحج:19-23]، فرأيتم الفرق الشاسع بين الطائفتين، والبونة الكبيرة بينهما؛ لذلك لابد أن تعلموا أن حرب الحق والباطل مستمرة، فكل يوم من أيام الدنيا هو مثل يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين، وإنما تختلف الأيام باختلاف رجالها، كما قال أبو حيان في ذكر القاضي عياض وكتابه مشارق الأنوار يقول:

مشارق أنوار تبدت بسبتة ومن عجب تبد المشارق بالغرب

ومرعى خصيب في جديد ربوعها ألا فاعجبوا للخصب في موضع الجدب

فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لترب على ترب

كذلك كل يوم إنما يفضله رجاله، فأنتم تعرفون رجال بدر الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه، تذكرون عبيدة بن الحارث بن المطلب وقد بترت ساقه ودمه يسيل وهو ينتظر الموت، ويحمله صاحباه علي وحمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا وضع بين يديه قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

كذبتم وبيت الله نبذي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

ونمعنه حتى نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

فلذلك لابد أن يكون كل يوم من أيام الدنيا فيه تضحيات، وفيه رجال يريدون أن يصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويريدون أن يتقدموا إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون: وعجلت إليك ربي لترضى. يريدون أن يكونوا كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وما ذلك على الله بعزيز، فما نالوا ذلك بنسب ولا حسب وإنما نالوه بالعمل، والعمل ميسور قائم في كل زمان ومكان، وأصحاب التضحيات والبذل إنما يجازون من عند الله سبحانه وتعالى، ولا فرق بين أولهم وآخرهم إلا أن الأولين قد نالوا عوناً بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، والآخرين قد فاتهم ذلك العون، فأجرهم أكبر من هذا القبيل، ولذلك قال: ( للواحد منهم أجر خمسين. قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم؛ إنكم تجدون على الحق أعواناً, ولا يجدون على الحق أعواناً )، وكذلك خفف عنهم كثير مما كان على أولئك السابقين؛ فقد أخرج الترمذي في السنن من حديث نعيم بن حماد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان، من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى منهم بعشر ما أمر به نجا ).

فلابد يا إخواني! أن نحصل هذه الغيرة في نفوسنا، وأنت تكون جاهزةً لدينا، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لديهم هذه الغيرة، فدافعوا عنه بأنفسهم، وبذلوا أرواحهم في سبيل الدفاع عنه، ولذلك قال الشيخ غالي البصادي رحمة الله عليه:

وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس

تذكروا حالهم، فـحسان بن ثابت رضي الله عنه عندما بلغه هجاء أبي سفيان بن الحارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء

بأن سيوفنا تركتك عبداً وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركاً براً حنيفاً أمين الله شيمته الوفاء

فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

وعبد الله بن أنيس رضي الله عنه يقول في خالد بن سفيان الخزاعي:

أقول له والسيف يعجم رأسه أنا ابن أنيس فارساً غير قعدد

إذا حارب المختار أي منافق سبقت إليه باللسان وباليد

وكذلك زيد بن الدثنة رضي الله عنه لما أسر يوم بعث الرجيع فبيع بمكة هو وخبيب بن عدي, فتركوهما حتى انقضى الشهر الحرام فأخرجوهما من الحرم لقتلهما، فلما قرب زيد للقتل قال له أبو سفيان بن حرب: يا زيد! أتحب أنك بين أهلك وفي بيتك، وأن ابننا محمداً عندنا نقتله مكانك؟ فانتفض، وقال: والذي يحلف به زيد ما أحب لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تصيبه شوكة وأنني بين أهلي.

وخبيب بن عدي لما رفعوه للصلب والقتل سألهم أن يدعوه حتى يصلي ركعتين فصلاهما ثم قال: والله لولا أن تظنوا بي الجبن لزدت أي: لصليت ركعات أخر؛ لحبه للصلاة، وكان محباً لها حباً شديداً. ثم بعد ذلك قال: اللهم بلغ نبيك صلى الله عليه وسلم عنا السلام، وأنشأ يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

وكذلك ما فعل معاذ ومعوذ وعوف بني عفراء في يوم بدر عندما استبقوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قالوا: يا عم! إذا رأيت عمرو بن هشام فأرناه، قال: وما حاجتكم إليه؟ قالوا: سمعنا أنه نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نريد أن نقتله، فهؤلاء الشباب الثلاثة الصغار يستبقون أبا جهل يريدون أن يقتلوه؛ لأنه كان ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك نجد هذه الغيرة لدى المؤمنين يوم أحد، فهذه نسيبة تقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبيدها سيفان تدافع عنه بيمينها وشمالها، وهذا طلحة بن عبيد الله كان يرد النبل عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انخرق الترس، فجعل يده ترساً، فكان يرد بها السهام حتى شلت يمينه.

وهذا سعد بن أبي وقاص يقف بين يديه يرمي المشركين، وهو أول من رمى بالسهم في سبيل الله، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ارم فداك أبي وأمي، ويقول: بل نفسي فداك يا رسول الله ).

وهكذا نجد أبا عبيدة بن الجراح يقول له: ( نحري فداء نحرك يا رسول الله )، ولما ضربه ابن قمئة بالسيف فدخلت حلقة من المغفر في جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادوا انتزاعها فلم يستطيعوا، فانتزعها أبو عبيدة بن الجراح بأسنانه حتى سقطت ثنيتاه؛ فلقب ساقط الثنيتين.

وهكذا نجدهم جميعاً أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فقد نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأموالهم، خرج أبو بكر من ماله جميعاً في سبيل الله، وخرج عمر من شطر ماله في سبيل الله، وجهز عثمان ثلاثة آلاف جيش العسرة بسلاحها وظهرها وأزواجها وأقتابها ومياهها، وكل ما يحتاج إليه المجاهد كان خالصاً من مال عثمان بن عفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم )، فهذه الغيرة التي كانت لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي أدت منهم إلى التضحية في سبيل هذا الدين ونصره، وهي التي جعلت هذه الأمة تنتصر بين الأمم، وجعلت هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلم تبق أرض يمكن أن يصلوا إليها بأرجلهم ولا بركابهم إلا وصلوا إليها، حتى وصل عقبة بن نافع رضي الله عنه إلى ضفاف هذا البحر الذي أنتم عليه، فغرز رمحه في الماء، وعاهد الله أن لو كان يعلم أن وراء هذا البحر ذو نفس منفوسة لخاض البحر إليه حتى يبلغه دعوة الله، أو يموت دونه, فلو كان يعلم بوجود أمريكا لفتحها في ذلك الوقت.

وهذه الغيرة -للأسف- تعدم لدى كثير من الناس اليوم، وهي من تحقيق النصرة العملي، فلابد أن نحدثها في أنفسنا.