مكانة المدينة المنورة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

مرحباً بكم يا ضيوف الرحمن! يا حجاج بيت الله الكريم! مرحباً بكم في دار الهجرة في مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرحباً بكم في مهبط الوحي، ودار الإيمان.

إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليكم بنعمة عظيمة، وجمع لكم شرف الزمان والمكان، فأنتم الآن في الأيام العشر من ذي الحجة، وهي أشرف أيام السنة، وقد صح في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ).

فهذه الأيام محبوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو يحب العمل الصالح فيها مما يقتضي تضعيفه له وزيادته ونماءه وبركته، ومما يقتضي كذلك كثرة قبوله من العاملين؛ لأن الله سبحانه وتعالى غني عن عبادة العابدين، وهو لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، لكن المواسم التي يختارها الله للعمل الصالح تكون فرصة للقبول، فيختار الله فيها لقبول عمل من يختارهم، والذين يختارون لهذا العمل لا تأتي لوائحهم بالتأشيرات الرسمية؛ بل إنما يؤشر لهم رب العزة سبحانه وتعالى، فهو الذي يدعوهم ليباهي بهم ملائكته، فيجمعهم في هذه البقاع المقدسة, وفي هذا الزمان المقدس ليغفر لهم، ويباهي بهم ملائكته, وليستجيب دعواتهم، ويحقق آمالهم، فهذه فرصة عظيمة إذاً، وبالأخص إذا علم الإنسان أن هذه الأيام قد أقسم الله بها في كتابه، وجمهور أهل التفسير أنها المقصودة بقول الله تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، فجمهور المفسرين من الصحابة والتابعين على أن الليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهي في هذا الشهر الحرام الذي هو من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وهذه الأشهر الحرم عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، وأعظمها عشر ذي الحجة، وفيها يومان عظيمان هما: يوم عرفة, ويوم النحر، فهما أعظم أيام السنة، فيوم عرفة لا يمر على إبليس في السنة يوم أخزى منه في يوم عرفة؛ لكثرة ما يرى من المغفور لهم، والذين لم يستطع التأثير عليهم، ويوم العيد هو يوم الحج الأكبر عند جمهور أهل العلم؛ لأن معظم أعمال الحج تكون فيه، وفيهما تتم عشر ذي الحجة.

وذهب بعض العلماء أن فضل العشر غير مقتصر على الحجاج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيام يوم عرفة: ( أحتسب على الله في صيام يوم عرفة أن يكفر ذنوب سنتين ) أي: أن يكفر ذنوب السنة الماضية, والسنة القادمة، قال أهل العلم: هذا يقتضي أيضاً نجاة الإنسان في السنة القادمة؛ لأنه وعد بمغفرة ذنوبه في السنة القادمة، ولا يتم ذلك إلا إذا عاش السنة القادمة، وإذا عاشها فيكون هذا ضماناً لطول العمر الذي يحتاج الناس إليه، وإذا لم يعشها فإنه لم يوفق في الغالب لصيام يوم عرفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر يجتهد بالطاعات، ويكفي إرشاده لذلك؛ فقد أرشد المؤمنين إلى الإكثار من الطاعات في هذه الأيام، وبين أن أجر ذلك أعظم عند الله سبحانه وتعالى من أجر الاجتهاد في غيرها, وبالأخص إذا اجتمع مع ذلك شرف المكان.

وهذا المكان الذي أنتم فيه هو المكان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى قبل خلق السموات والأرض؛ ليكون مهد هذه الدولة الإسلامية، ومهبط الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الهواء الذي تتنفسون فيه هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس فيه، وهو الذي كان ينزل فيه جبريل من السماء وله ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وهو الذي كان يسير فيه الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو مكان المغفرة والرحمة، فهذا المكان اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون بلداً طيباً آمناً، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله سمى المدينة طابة )، فالمدينة سماها الله طابة، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة، وأطلق الله عليها اسم المدينة في كتابه كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ( أمرت بقرية أكالة للقرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة )، ومعنى كونها أكالةً للقرى: أن مال القرى الأخرى عندما تفتح ينقل إلى هذا البلد فينفق في سبيل الله, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتفتحن عليكم كنوز كسرى وقيصر فتنفق في سبيل الله ).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فضلها في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة عنه:

منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها بضعفي ما دعا به إبراهيم لمكة ).

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ).

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، واجعل مع البركة بركتين ).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صح عنه في وصفها قوله: ( المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها ).

وصح عنه كذلك أنه قال: ( ما خرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه ).

وصح عنه كذلك أنه قال: ( من كاد لأهل المدينة أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ).

وفي الحديث الآخر: ( ما كاد أحد لأهل المدينة إلا انصاع كما ينصاع الملح في الماء ).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( تفتح العراق فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح اليمن فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )، ومعنى (يبسون): أي: يضلون في سيرهم، وهذا بيان لعلم من أعلام النبوة، ودليل من أدلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح هذه البلدان، وانتقال كثير من الذين يطلبون الرفاهية من المدينة إلى البلدان المفتوحة الجديدة.

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: ( لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).

وفي حديث ابن عمر: ( أن مولاة له استأذنته في الخروج من المدينة إلى العراق فقال: أي لكاع اصبري؛ فلقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفس محمد بيده! لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذلك: ( من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).

وفي حديث أبي ذر في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).

وفي حديث أبي سعيد الخدري كذلك: ( أن رجلاً استأذنه في أيام الحرة في الذهاب من المدينة, وذكر عياله ودينه وغلاء السعر في المدينة, فقال: لا آمرك بذلك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بين الفضل المختص ببعض المواضع في المدينة ومنها بعض مساجدها.

فهذا المسجد النبوي الشريف هو البقعة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون عاصمة العالم، فاختارها مهبطاً للوحي، ومسكناً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، فهذا المكان هو الذي عاش فيه في حياته، ومنه يبعث، وهو أول من تنشق عنه الأرض، فأول من تنشق عنه الأرض من الموتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذا المسجد فقال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى )، ومعنى قوله: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) أي: لا تشد الرحال إلى مسجد لقصد فضله والتعبد فيه إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، ولا يقتضي ذلك النهي عن شد الرحال مطلقاً، فالإنسان مأذون له في شد الرحال في التجارات, ومأمور بها في الغزو في سبيل الله، وفي طلب العلم، وغير ذلك.

مضاعفة أجر الصلاة فيه

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين كذلك أن أجر الصلاة في هذا المسجد أعظم من أجر صلاة في غيره، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام )، وهذا الحديث في الصحيحين، والفضلية هنا غير محصورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل)، وهي أفعل تفضيل تدل على الزيادة؛ لكن لا تقتضي حصراً، فيمكن أن تكون صلاة بعض الناس أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، واستثناؤه للمسجد الحرام يمكن أن يكون استثناءً من مطلق المساجد، ويمكن أن يكون استثناءً من هذا التضعيف المخصوص، فيمكن أن يكون المعنى: فهي أفضل منه بأقل من ذلك، أو يكون المعنى فهي مساوية لها، أو يكون المعنى فالصلاة في المسجد الحرام أفضل، وكل ذلك قد قيل به.

المسجد النبوي مكان التعليم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

ثم إن هذا المسجد بالخصوص أيضاً جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصمة الإسلام، فقد كان مكان التعليم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تكن له مدرسة، ولا مكان اجتماع يعلم الناس فيه إلا هذا المسجد، فإذا نزل إليه وحي من ربه أو حصل أمر في المسلمين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: الصلاة جامعة، فيصعد المنبر فيعلمهم ما أوحي إليه، ولذلك فقد كان يعلمهم كل أمورهم على المنبر، فقد صلى عليه مرتفعاً ليرى الناس صلاته وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

المسجد النبوي مكان عقد الألوية الحربية والتدريب

وكذلك فقد كان هذا المسجد مكان عقد الألوية والجيوش، فهو عاصمة الإسلام العسكرية الحربية، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الألوية لجيوشه وسراياه وبعوثه من هذا المسجد، وأحيا ذلك خلفاؤه من بعده، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما بعث الجيوش إلى الشام عقد عشرة ألوية للشام في المسجد، وعقد فيه كذلك ألوية العراق.

وقد كان كذلك مكان التدريب العسكري، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للأحباش في أن يرموا فيه بحرابهم، وفي حديث عائشة: ( أنها اشتهت أن تنظر إليهم، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المسجد وكانت تنظر من بين كتفه وعنقه، فلما أطالت قال: أشبعت؟ أشبعت؟ ) أي: هل اكتفيت من النظر إلى لعب الأحباش بحرابهم؟

المسجد النبوي مكان القضاء وإقامة الحدود

وكذلك فقد كان عاصمة الإسلام في إقامة الحدود والقضاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن له محكمة إلا هذا المسجد الذي ترونه، فقد كان يقضي بين الناس بين جدران هذا المسجد، وكان صلى الله عليه وسلم يحكم في أمور الناس كلها من هذا المكان المشرف، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها وكانت حجرتها في الجانب الغربي من المسجد وهي الآن في وسطه في توسعة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقالت: ( جاء خصم فاختصموا عند باب حجرتي، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم وقال: إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو فليدعه ).

المسجد النبوي محطة إعلام المسلمين

وكذلك فقد كان هذا المسجد أيضاً محطة الإعلام للمسلمين، فهو وسيلة الإعلام الوحيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعلن منه قراراته وأنباءه وأحكامه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد إنكار أمر يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا )، وإذا أراد الحض على أمر حض عليه من فوق منبره على أعواد منبره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكذلك خلفاؤه من بعده كانوا يعلنون الأحكام والأقضية فوق المنبر، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال يوماً على المنبر: ألا إن الأسيفع -أسيفع جهينة- قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سابق الحاج فادان معرضاً، فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص.

المسجد النبوي مكان المستشفى في دولة الإسلام

وقد كان المسجد كذلك مكان المستشفى في دولة الإسلام في هذه المدينة العظيمة، فقد أقام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءً لـأبي عمرو سعد بن معاذ رضي الله عنه لما جرح يوم الأحزاب، وقد أصابه سهم في أكحله، والأكحل: عرق في الذراع، فأقام له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد أو خباءً في المسجد كان يعوده فيه، وقد سأل الله ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة حين نقضوا العهد، ففتح الله بني قريظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكنه من رقابهم، فحكم فيهم سعد بحكم الله من فوق سبع سموات، قال: انظروا من جرت عليه الموسى فاقتلوه، وجعل ذريتهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين.

المسجد النبوي محل بيت المال

وكذلك فإن المسجد كان محل بيت المال، وعاصمة الاقتصاد في الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط فيه البسط في مؤخرته ويوضع فيه الستار، فيأتي الناس بصدقاتهم ويضعونها على البسط، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالبسط فتبسط في الثلاث الأخيرة من رمضان، ويكلف من أصحابه من يحرس الصدقات، فإذا صلى صلاة الفجر يوم العيد جلس إليها فوزع صدقات الفطر، ثم ذهب إلى المصلى فصلى صلاة العيد.

المسجد النبوي مكان السجن

وكذلك فقد كان المسجد مكان السجن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال الحنفي، وهو من بني حنيفة من بني بكر بن وائل، وكان سيد اليمامة، فأوتي به أسيراً جاءت به خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رءوفاً فأراد لهذا السيد الإسلام، وأن يكون ذا مكانة في المسلمين، فربطه في المسجد في سارية من سواريه، فمر عليه في طريقه إلى الصلاة فقال: ( يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تمنن علي مننت على شاكر ) فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الحرة واغتسل وجاء فأعلن إسلامه، ثم هجم على قريش ملبياً.

وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جيء بـسفانة بنت حاتم الطائي - وأبوها حاتم بن عبد الله الطائي المشهور بالجود- حبسها في المسجد مع السبي، فمر بها في طريقه إلى الصلاة فقالت له: ( يا محمد! مات الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منَّ الله عليك، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعائها، فسألها: من والدك؟ فقالت: حاتم بن عبد الله الطائي، فقال: ومن وافدك؟ فقالت: عدي بن حاتم، فقال: آلفار من الله ورسوله؟! فمن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت وحسن إسلامها، ثم خرجت ضعينة في إثر أخيها عدي بن حاتم إلى الشام حتى جاءت به مسلماً فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ).

كذلك فإن أبا لبابة رضي الله عنه لما أعلن لليهود سراً من أسرار المسلمين في غزوة بني قريظة تاب إلى الله فربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأنتم ترونها الآن في الروضة، وقد كتب عليها سارية التوبة، فهذه السارية هي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه، ونذر ألا يفك أسره حتى يتوب الله عليه، فتاب الله عليه، وأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا تعرفون مكانة هذا المسجد في الإسلام وأهميته، وتعرفون كذلك أن المساجد ذات أمر عظيم لدى المسلمين، وأنها منطلق الإسلام ومحل الهداية فيه، فلا يمكن أن تهجر بحال من الأحوال، ومن هجرها فقد تعرض لسوء الخاتمة، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهم -أي: في المكان الذي ينادى بهن فيه- فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف ).

ومن هنا يعلم أن مدة بقائنا في هذا الظرف الزماني والمكاني المقدس المشرف تقتضي منا أن نرجع بدروس عظيمة في ديننا، ومنها: أن يزداد اهتمامنا بالمساجد عنايةً وعمارةً، وإجابةً لنداء الله إذا سمعناه، وهذا هو أقل درس نأخذه من المسجد النبوي, ونحن نرى حرص الرجال والنساء وجميع الأجناس على كل صلاة فيه، وأن يشهدوا تكبيرة الإحرام، فعلينا أن نستصحب هذا الحرص مدة أعمارنا، وأن نحرص على أن نصلي في مساجد الله، وأن نعمرها، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة:18].

الروضة الشريفة في المسجد النبوي ومكانتها

كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوه ببعض الأمكنة في هذا المسجد، ومنها: الروضة المشرفة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، فهذا تنويه بموضعين من المسجد أحدهما الروضة المشرفة، وقد اختلف أهل العلم في حدودها، فذهب إمامنا مالك رحمه الله إلى أن الروضة هي مقدم المسجد جميعاً؛ ما كان يمين المنبر وما كان شماله، ودليله على ذلك: أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شرق المسجد وفي غربه، ففي شرق المسجد بيت حفصة وبيت عائشة، وفي غربه بيت أم سلمة وسودة، فهذا يقتضي أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم في جانبي المسجد في شرقه وغربه، وعلى هذا فالروضة ما بين المنبر وبيت النبي صلى الله عليه وسلم, والبيت مفرد أضيف إليه صلى الله عليه وسلم، والمفرد إذا أضيف إلى العلم أو إلى الضمير أو إلى المعرفة يعم، مثل قول الله تعالى: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ [الأحزاب:50]، ومثل قول الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

فجلدها يقصد به: جلودها، وعلى هذا فتفسير مالك رحمه الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري -أي: ما بين جميع بيوتي ومنبري- روضة من رياض الجنة ).

وذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك مختصة بالجهة الشرقية أي: ما كان عن يسار المنبر بينه وبين البيت أي: بيت عائشة الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعموماً فهذه الروضة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها روضة من رياض الجنة، والروضة: المكان الممرع أي: الكثير المرعى والخصب، وقد اختلف أهل العلم في معنى كون هذه الروضة من الجنة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن هذه البقعة بذاتها توضع في الجنة فتكون منها، ويكفي هذا تشريفاً وتعظيماً.

القول الثاني: أن المعنى أنها حلقة ذكر إلى أن تقوم الساعة، لا تخلو من حلق الذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر )، فحلق الذكر هي من رياض الجنة، وهذه الروضة من رياض الجنة دائماً؛ لما فيها من الذكر والتعليم.

القول الثالث: أن المقصود أنها قبر لرجل من أهل الجنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار )، والمقصود بأنه من أهل الجنة ممن يأتي بعد انقضاء الوحي هو المسيح ابن مريم عليه السلام، فعلى هذا قالت طائفة من أهل العلم: سيكون ذلك المكان المشرف مدفناً للمسيح ابن مريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( روضة من رياض الجنة )، والقبر روضة من رياض الجنة، والمقصود بأنه من أهل الجنة في آخر الزمان هو المسيح ابن مريم عليه السلام، وعموماً هذه الأقوال الثلاثة كلها تقتضي شرف هذا المكان.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتنون بهذه الروضة، وكذلك التابعون من بعدهم، ففي حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما: ( أن أم المؤمنين عائشة كانت تستأمره إذا خرج الناس من المسجد بعد صلاة الظهر فتدخل فتصلي عند سارية هنالك، وقد أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الظهر انفتل إليها وصلى عندها ركعتين )، وهذه السارية كتب عليها اليوم سارية عائشة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عندها ركعتين بعد صلاة الظهر، وقد حافظت على ذلك عائشة أم المؤمنين، وكذلك عروة بن الزبير بعدها.

منبر النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته

كذلك فإن هذا المنبر الذي ترونه سيوضع على حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة, كما أخبر بذلك في قوله: ( ومنبري على حوضي )، وهذا تنويه بالموضع الثاني من مواضع المسجد.

وكذلك فإنه قال: ( ومنبري على ترعة من ترع الجنة )، ومعنى ذلك: أن هذا المنبر سيوضع على نهر من أنهار الجنة يوم القيامة، وهذا النهر هو الكوثر، فلا منافاة بين النصين، فالكوثر ترعة من ترع الجنة، أي: نهر من أنهارها، وهو حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأنقى حلاوةً من العسل، وكيزانه بعدد نجوم السماء، وعرضه ما بين أذرح وبصرى، لا يظمأ من شرب منه أبداً، ويرد الناس إليه متفاوتين عند خروجهم من الساهرة، ويطرد عنه أقوام قد غيروا وبدلوا فيعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمارات أمته فيقول: ( يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً ).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن نوعين من أنواع الناس يطردون عن هذا الحوض كما تطرد غرائب الإبل, وهما:

النوع الأول: أهل التغيير والتبديل، الذين ابتدعوا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والنوع الثاني: أنصار الظلمة وأعوانهم، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس، ويكذبون في الحديث -وفي رواية: ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها- فمن صدقهم في كذبهم، أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض )، فأولئك يطردون عن الحوض يوم القيامة كما تطرد غرائب الإبل، نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا يزيدكم إيماناً ويقيناً، فهذا المنبر الذي ترونه سيوضع على الحوض الذي ستردونه جميعاً، وهذا ربط للدنيا بالآخرة، وربط لحياتكم هذه بحياتكم الأخرى؛ لتتقنوا أعمالكم، وتتزودوا من الأعمال الصالحة قبل فوات الأوان.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين كذلك أن أجر الصلاة في هذا المسجد أعظم من أجر صلاة في غيره، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام )، وهذا الحديث في الصحيحين، والفضلية هنا غير محصورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل)، وهي أفعل تفضيل تدل على الزيادة؛ لكن لا تقتضي حصراً، فيمكن أن تكون صلاة بعض الناس أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، واستثناؤه للمسجد الحرام يمكن أن يكون استثناءً من مطلق المساجد، ويمكن أن يكون استثناءً من هذا التضعيف المخصوص، فيمكن أن يكون المعنى: فهي أفضل منه بأقل من ذلك، أو يكون المعنى فهي مساوية لها، أو يكون المعنى فالصلاة في المسجد الحرام أفضل، وكل ذلك قد قيل به.

ثم إن هذا المسجد بالخصوص أيضاً جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصمة الإسلام، فقد كان مكان التعليم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تكن له مدرسة، ولا مكان اجتماع يعلم الناس فيه إلا هذا المسجد، فإذا نزل إليه وحي من ربه أو حصل أمر في المسلمين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: الصلاة جامعة، فيصعد المنبر فيعلمهم ما أوحي إليه، ولذلك فقد كان يعلمهم كل أمورهم على المنبر، فقد صلى عليه مرتفعاً ليرى الناس صلاته وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

وكذلك فقد كان هذا المسجد مكان عقد الألوية والجيوش، فهو عاصمة الإسلام العسكرية الحربية، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الألوية لجيوشه وسراياه وبعوثه من هذا المسجد، وأحيا ذلك خلفاؤه من بعده، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما بعث الجيوش إلى الشام عقد عشرة ألوية للشام في المسجد، وعقد فيه كذلك ألوية العراق.

وقد كان كذلك مكان التدريب العسكري، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للأحباش في أن يرموا فيه بحرابهم، وفي حديث عائشة: ( أنها اشتهت أن تنظر إليهم، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المسجد وكانت تنظر من بين كتفه وعنقه، فلما أطالت قال: أشبعت؟ أشبعت؟ ) أي: هل اكتفيت من النظر إلى لعب الأحباش بحرابهم؟

وكذلك فقد كان عاصمة الإسلام في إقامة الحدود والقضاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن له محكمة إلا هذا المسجد الذي ترونه، فقد كان يقضي بين الناس بين جدران هذا المسجد، وكان صلى الله عليه وسلم يحكم في أمور الناس كلها من هذا المكان المشرف، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها وكانت حجرتها في الجانب الغربي من المسجد وهي الآن في وسطه في توسعة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقالت: ( جاء خصم فاختصموا عند باب حجرتي، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم وقال: إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو فليدعه ).

وكذلك فقد كان هذا المسجد أيضاً محطة الإعلام للمسلمين، فهو وسيلة الإعلام الوحيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعلن منه قراراته وأنباءه وأحكامه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد إنكار أمر يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا )، وإذا أراد الحض على أمر حض عليه من فوق منبره على أعواد منبره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكذلك خلفاؤه من بعده كانوا يعلنون الأحكام والأقضية فوق المنبر، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال يوماً على المنبر: ألا إن الأسيفع -أسيفع جهينة- قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سابق الحاج فادان معرضاً، فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص.

وقد كان المسجد كذلك مكان المستشفى في دولة الإسلام في هذه المدينة العظيمة، فقد أقام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءً لـأبي عمرو سعد بن معاذ رضي الله عنه لما جرح يوم الأحزاب، وقد أصابه سهم في أكحله، والأكحل: عرق في الذراع، فأقام له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد أو خباءً في المسجد كان يعوده فيه، وقد سأل الله ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة حين نقضوا العهد، ففتح الله بني قريظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكنه من رقابهم، فحكم فيهم سعد بحكم الله من فوق سبع سموات، قال: انظروا من جرت عليه الموسى فاقتلوه، وجعل ذريتهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين.

وكذلك فإن المسجد كان محل بيت المال، وعاصمة الاقتصاد في الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط فيه البسط في مؤخرته ويوضع فيه الستار، فيأتي الناس بصدقاتهم ويضعونها على البسط، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالبسط فتبسط في الثلاث الأخيرة من رمضان، ويكلف من أصحابه من يحرس الصدقات، فإذا صلى صلاة الفجر يوم العيد جلس إليها فوزع صدقات الفطر، ثم ذهب إلى المصلى فصلى صلاة العيد.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4839 استماع
بشائر النصر 4290 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4062 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3932 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع