ماذا بعد رمضان [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فقد كنا في موسم من مواسم الخير، تنافس الناس فيه على حسب ما وفقوا له من الطاعات.

الفائزون في رمضان

ففاز في نهايته أقوام صرفوا أيامهم في الصيام، وقراءة القرآن، ولياليهم في القيام، والدعاء، والذكر، بادروا إلى المساجد فعمروها، وتعرفت عليهم الملائكة على أبواب المساجد، وكانوا من عتقاء الله من النار في الشهر الكريم، ففازوا فوزاً عظيماً بما أدركوا من هذا الشهر، وبما وفقوا له من الطاعات.

المقصرون في بداية رمضان المستغلون آخره

وكان في الحلبة أقوام آخرون فاتهم أن يسارعوا في أول الشهر، وأن يدركوا ما أدركه السابقون الأولون، ولكنهم عرفوا في النهاية أنهم غبنوا حين فاتهم ما فات من هذا الشهر الكريم، فحرصوا على إدراك بقيته، فكان لهم من التدارك في العشر الأواخر من رمضان ما كان لهم، وهؤلاء مقتصدون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

المقصرون في شهر رمضان الذين ندموا فعادوا في شهر شوال

وكان في هذا الشهر كذلك ظالمون لأنفسهم مقصرون، لم يستجيبوا للنداء عندما أغلقت أبواب النار وفتحت أبواب الجنة ونادى مناد الله: ( يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر )، فلم يكونوا من المبادرين السابقين الأولين المسارعين في الخيرات، ولم يكونوا من المقتصدين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، بل كانوا في مؤخرة الركب، ففات رمضان بالتسويف، وكل يوم يسوفون أنهم سيكونون من عباده، وسيكونون من فرسان هذه الليلة بالقيام والدعاء والذكر، وسيشهدون القيام في هذا المسجد أو في المسجد الآخر، حتى إذا انتهى الشهر ما راعهم إلا دخول شهر شوال، وقد أطلقت مردة الشياطين من تصفيدها، وجاء قرناء السوء وهبوا من غفلتهم ونومتهم، وأقبل موسم الشهوات بما فيه من الفتن والملذات، فحينئذ ندموا على ما فاتهم فيما مضى، فمن أريد به الخير منهم كان من المستفيدين من هذه العثرة، فهو في غاية الندم والحزن على فراق حبيب قد ذهب وفارق, يوشك أن لا يعود أبداً، فيا رب صائمه لم يصومه، ويا رب قائمه لم يقومه، فبذلك استعدوا لتكون سنتهم كلها رمضان، ولتكون أيامهم صلةً بالله سبحانه وتعالى وتقرباً منه، ولتكون لياليهم كذلك قربات إلى الله سبحانه وتعالى، وإصراراً بالطاعات، لم يكونوا من أهلها من قبل، فكانت تجربتهم جديدةً في الالتزام، كتجربة كثير من الذين حرموا في بداية الشباب هذا الالتزام فلم ينشئوا في طاعة الله، وإنما رأوا القطار قد انطلق، فرأوا كثيراً من الذين هم في أعمارهم ومن لداتهم قد سبقوهم إلى الالتزام فأصبحوا من عمار المساجد، ومن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وقد أصبحوا من الذين يوثق بهم على حداثة أسنانهم، وبداية أعمارهم، فأدركوا البعد الشاسع بينهم وبينهم، وحينئذ بدءوا في الالتزام على ضعف واستحياء، كحال النبتة التي تنبت في حميل السيل، فإنها تخرج صفراء ملتويةً ثم تقوى بعد ذلك، وهذا حال الإيمان حين تباشر بشاشته القلوب، فإنه يبدأ صاحبه بدايةً متواضعةً ضعيفةً، ثم لا يزال يقوى ويشتد، كالمثل الذي ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التوراة، فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

وهذا المثل العجيب إذا انتبهنا إليه في حال هذه الأمة رأينا أن الذين يتحملون المسئوليات, وأن رواحل الخير الذين يحملون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فيوصلونها إلى الناس هم أقل القليل من الناس، فالذين يتحملون مسئوليات الدين، ويهتمون بالشأن العام للمسلمين، ويهتمون بالدفاع عن هذا الدين، ويتذكرون قول حسان:

هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

فيهبون للدفاع عن بيضة هذا الدين، ويحمونه بأنفسهم وبما ملكوا، وبكل ما أوتوا من قوة، هؤلاء هم أقل القليل في الناس، لكن لا يمكن أن يقوم هؤلاء وحدهم بأمر الدين العام، بل يحتاجون إلى من يؤازرهم ويساندهم، فلذلك التف حولهم من الذين قصروا عن هذا المقام ولكنهم أحبوه؛ قوم آخرون هم أكثر من الطائفة الأولى، فهم محبون يبعثون مع من أحبوا يوم القيامة، وفي الأثر: ( أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى ما هو فيه وأصحابه في شهر رمضان، فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: أنت مع من أحببت ).

فأولئك يؤازرون ويساندون، ولا يستطيعون التقدم في المقارعة لكنهم يحمون الظهور، فهؤلاء مثالهم في هذه الآية مثال الزرع؛ فإنه يخرج السنبلة الأولى التي تحمل الحب وساقها ضعيف متعرج، لا يستطيع القيام بنفسه، فيؤازر بكثير من السنابل المحيطة به لا تحمل حباً وليس فيها نفع بارز, وإنما تحمل تبناً، لكنها ترد الضربات، وتحمل الرياح، وترد كثيراً من الطفيليات، التي إذا غشيت الزرع أفسدته، فهذه لا شك لها أجر ومشاركة عندما دافعت عن الحب المحمول وشاركت في الدفاع عنه، ولو على قدر جهدها وطاقتها، فلذلك قال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ [الفتح:29] أي: بذلك المؤازر، فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

المقصرون في شهر رمضان وفي غيره

وفي المقابل نجد آخرين من هؤلاء المقصرين خلطوا ليلهم بنهارهم فهم لا يبالون، فلا يخطر أمر الآخرة على خلج أحد منهم، فيظن أنه سيبقى على ما هو عليه، فأيامه في هذا الشهر مثل أيامه في الشهر الماضي والشهر الآتي، كلها إدبار عن الله سبحانه وتعالى، وإقبال على شأن هذه الدنيا وملذاتها وشهواتها، لا يقصر في شيء منها إلا ما عجز عنه أو حيل بينه وبينه بالقدر، ومنعه بالرزق، وهؤلاء لا يباليهم الله بالةً حين سلطهم على أنفسهم بالشر فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم، وقد اتخذوا أنفسهم عدواً لهم، فهم يصلون الليل بالنهار في معصية الله، والإعراض عنه والغفلة، وبذلك تتورم قلوبهم من المرض، فيكون فيها الداء العضال، الذي لا يمكن دواؤه، وإذا استفحل يختم على هذه القلوب بطابع النفاق، فلا يزالون في تردٍّ، وهم يرضون أن يعيشوا مع المتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلما لاح لهم بارق لمعصية الله أقبلوا إليه، وكلما سمعوا داعي شهوة استجابوا له، فتفيئهم الريح يميناً وشمالاً، وهؤلاء لا شك هم شرار الخلق، ولو كانوا من المسلمين، ولو كانوا من أبناء الصالحين، ولو كانوا من أبناء الملتزمين الخيرين، لكنهم إنما اختاروا لأنفسهم طريق البهائم والدواب، فسلكوا هذا الطريق، وبذلك ضيعوا أنفسهم، فمقامهم في الأصل أعلى من هذا عند الله، مقام هذا الجنس البشري أكبر وأعلى، فهو الذي خلقت من أجله هذه الحيوانات والخلائق التي في الأرض جميعاً، خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وقد خلق الله آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، فكل هذا التكريم والتعظيم لا ينبغي أن يقابل أبداً بالإعراض عن الله سبحانه وتعالى، والرب الكريم جل جلاله من عرفه عرف أن إقباله على العبد تشريف عظيم وتكريم جسيم، كيف يقبل الله على العبد فيعرض عنه العبد، أليس هذا غبناً ولؤماً مع الباري سبحانه وتعالى؟ فلذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم مما هو أقل من هذا من الإعراض عن الله، فذكر الالتفات في الصلاة، فقال: ( لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه ).

فلذلك نجد هؤلاء المدبرين عن الله سبحانه وتعالى، الذين لا يخطر على قلب أحد منهم لحظة من لحظات حياته الحقيقية، وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].

لا يخطر في قلبه لحظة عرضه على الله تعالى، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

ولا يخطر على قلبه لحظة أخذه لكتابه إما بيمينه وإما بشماله.

ولا يخطر على قلبه لحظة تمايز عندما يبيض الله وجوه المؤمنين فيسيرون في النور خمسمائة عام، ويسود وجوه أهل البدعة فيتخبطون في الظلام، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى في سورة الزمر: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60]، فالذين كذبوا على الله هم أهل الابتداع.

فهذه اللحظات الحاسمة من حياة الإنسان الحقيقية إذا لم تخطر على قلبه ولم تأخذ جزءاً من تفكيره، فاعلم أنه لا خير فيه بوجه من الوجوه، إذا كان الإنسان لا يستحضر أبداً لحظة السؤال في القبر، ولا لحظة العرض على الله، ولا لحظة وزن الأعمال، ولا لحظة أخذ الكتب باليمين أو بالشمال، ولا لحظة العبور على النار على الجسر على الصراط، إذا كان الإنسان لا يستحضر هذه اللحظات، ولا تدور في خلجه، ولا يفكر فيها، فاعلم أنه لا خير فيه أبداً، فهو من شر الدواب عند الله، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23].

ففاز في نهايته أقوام صرفوا أيامهم في الصيام، وقراءة القرآن، ولياليهم في القيام، والدعاء، والذكر، بادروا إلى المساجد فعمروها، وتعرفت عليهم الملائكة على أبواب المساجد، وكانوا من عتقاء الله من النار في الشهر الكريم، ففازوا فوزاً عظيماً بما أدركوا من هذا الشهر، وبما وفقوا له من الطاعات.

وكان في الحلبة أقوام آخرون فاتهم أن يسارعوا في أول الشهر، وأن يدركوا ما أدركه السابقون الأولون، ولكنهم عرفوا في النهاية أنهم غبنوا حين فاتهم ما فات من هذا الشهر الكريم، فحرصوا على إدراك بقيته، فكان لهم من التدارك في العشر الأواخر من رمضان ما كان لهم، وهؤلاء مقتصدون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع