خطب ومحاضرات
أهمية العمل بالعلم
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فكان الحديث سابقاً عن المرحلة الأولى من مراحل الخطة الربانية لعمر الإنسان في هذه الحياة، وهي مرحلة العلم؛ أن يتعلم ما أمر الله بتعلمه، وإن شاء الله سيكون الحديث عن المرحلة الثانية، وهي مرحلة العمل، أي: أن يعمل الإنسان بما علمه واقتنع به، وهذه المرحلة لا تقل خطورةً عن سابقتها؛ لأن العلم كما سبق سلاح ذو حدين؛ إن لم يستعمله الإنسان ويعمل به كان حجةً عليه بين يدي الله عز وجل؛ ولذلك فإن الله تعالى يقيم الحجة على أهل النار بأمرين: الأمر الأول: العمر. والأمر الثاني: العلم.
فيقول تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]. (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) هذا الأمر، (وجاءكم النذير) هذا العلم من عند الله، فبهذين الأمرين تقوم الحجة على أعداء الله عز وجل، ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن ينتهز الفرصة في عمر العمل قبل انقضائه.
وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة عنه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: ( بادروا بالأعمال ستاً -فذكر منها-: طلوع الشمس من مغربها، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، وخروج المسيح الدجال.. ) إلى آخر الأشراط التي ذكرها في هذا الحديث.
وصح عنه كذلك في سنن الترمذي وأبي داود وغيرهما أنه قال: ( بادروا بالأعمال ستاً، فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فـالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ).
وقد أمر الله سبحانه تعالى بالمبادرة بالأعمال، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
ولذلك لابد أن يبادر الإنسان إلى العمل قبل أن يفوت الأوان.
والإنسان الآن في هذه الحياة بالإمكان أن يقول: لا إله إلا الله، وسيحال بينه وبينها فلا يستطيع أن يقولها، فعليه أن يبادر لذلك قبل أن يحال بينه وبين العمل، وهذه الحيلولة أنواع:
الموت والعجز والهرم
فمنها: الموت، وهو الذي يقطع طريق الأمل بالكلية كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخطا الذي سبق، وقد أخرجه البخاري في الصحيح.
ومنها: العجز، وهو ما يأخذه الله من قوى الإنسان، فيكون عاجزاً عما كان قادراً عليه، إما بأخذ سمعه أو بصره أو قواه.
ومنها كذلك الهرم، فمن عاش مات، ومن مات فات، وما كل ما هو آت آت، فالإنسان لا يمكن أن يمتع بعافيته أبد الآبدين، لابد أن يموت، أو أن يهرم، وحينئذٍ سيضعف عقله وتضعف قواه بالكلية، كما قال الحكيم:
يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكةً وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
فسواد الشعر هو أول عمامة من العمائم الثلاث، ثم (سحق مفوف) أي: الشمط الذي فيه اجتماع السواد والبياض، ثم بعد ذلك البياض الخالص (وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا) أي: أبيض.
الغفلة
ومن وسائل الحيلولة دون العمل: الغفلة، فالإنسان قد يبتليه الله سبحانه وتعالى بالغفلة عن منهج الله.
وكثير من المعرضين لا يدور أمر الآخرة في خلد أحد منهم، يعيش حياته يتصرف في أمور هذه الحياة الدنيا، ولكنه لا يستشعر اليوم الذي يؤتى به فيه، فيوقف بين يدي الملك الديان وتعرض عليه أعماله، ولا يدور أمر الآخرة في خلجه بوجه من الوجوه، ولا يستحضر يوم يموت ويحمل على الرقاب إلى قبره، ولا يستحضر تلك الضجعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( عندما حضر جنازةً فوضع الميت في لحده، فأشار بيده أن كفوا، ثم قال: أي إخواني أعدوا لمثل هذه الضجعة )، كثير من الناس لا يخطر أمر ذلك على خلجه أصلاً، ولا يفكر فيه، ويظن أنه سيبقى على حاله وهيئته، وأن الزمان غير متسارع، وأنه سيصل إلى مبتغاه في هذه الحياة، وهذا من غرور هذه الحياة الفانية.
الفراغ
ومن وسائل الشغل أيضاً: ما يعرض من الأعمال التي تحول دون الفراغ، ولهذا أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ). فالصحة وقتها محدد، ولكل جارحة أجل كأجل الإنسان، والفراغ كذلك من النوادر التي تقع في الزمان، فالإنسان تتراكم عليه الأشغال من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، فلذلك إذا وجد صحةً وفراغاً فهي نعمة عظيمة عليه أن ينتهزها قبل أن تفوت.
من صوارف الحج
ثم بعد ذلك من هذه الشواغل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الحج، فقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أراد الحج فليبادر؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتأتي الحاجة )، هذه صوارف تصرف عن الحج، وكذلك قال: ( حجوا قبل ألا تحجوا. قالوا: وما بال الحج يا رسول الله؟ قال: يجلس أعرابها على أذناب أوديتها -وفي رواية:- على أعقاب أوديتها، فلا يصل إلى البيت أحد ).
من صوارف الهجرة
ومثل ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم في الهجرة عندما أتاه رجل يبايعه على الهجرة بعد فتح مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها )، فقد انتهت الفرصة التي كانت متاحةً لأن يكون الإنسان من الرعيل الأول في الإسلام، وهم المهاجرون والأنصار بمجرد فتح مكة مضت الهجرة لأهلها، ( ولا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ).
ولذلك فإن وقت المؤمن في أوقات الأزمات والضوائق عندما يضعف الإسلام، ويضعف الإقبال عليه، وتضعف دعوة الإسلام، فرصة سانحة مواتية ليتقرب إلى الله بإعلاء كلمته ودعوته إلى سبيله قبل أن يفتح الله للإسلام بابه، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يعز هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ولا يمكن أن تستمر الضائقة بالإسلام وأهله، بل لا يمكن أن تأتي إلا امتحاناً وتمحيصاً لمدة محسوبة معدودة ثم تزول، ولذلك قال الله تعالى في نذارة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال في نذارة داود عليه السلام: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106]، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
والله عز وجل لا يخلف الميعاد، فلابد أن يتحقق ما وعد به، ولذلك فقد جعلها الله سنةً كونيةً لا تقبل التغيير، فقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، فما يأتي من الضائقات والمشكلات إنما هو امتحان وتمحيص، وسرعان ما يذهب ويزول، فإذا حصل شيء من ذلك فهي فرصة المسلم للتعبير عن ولائه لله، وصدقه مع الله، ودعوته إلى منهج الله، قبل أن يحصل الفتح، فإذا حصل الفتح لا يمكن أن يكون أجر الذين سبقوا الفتح وأنفقوا وجاهدوا من قبل الفتح كأجر الذين لحقوا من بعد، ولذلك قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـخالد بن الوليد حين خاصم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وعبد الرحمن هو خامس من أسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنفق من قبل الفتح وقاتل، فخاصمه خالد بن الوليد، وخالد أسلم في العام السابع بعد صلح الحديبية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فأولئك الذين تقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح مد أحدهم من الشعير أو من التمر يتصدق به خير من إنفاق مثل جبل أحد من الذهب فيما بعد الفتح، ولاحظوا هذا الربح الطائل.
والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى مساعدة أحد من خلقه، وإنما يبتلي عباده ويمتحنهم؛ ولذلك فأبرك الغزوات وأكثرها تأثيراً في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ليست غزوة بدر ولا أحد ولا الغزوات التي أريقت فيها الدماء، وبذلت فيها الأرواح، بل هي غزوة الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايعه أصحابه على الموت فيها أنزل الله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:18-19]. وهنا كانت جائزة الله كبيرةً فائقةً للتصور، بدايتها رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، فقد سبقت مغفرة الله سيئاتهم، فلا تقع سيئاتهم إلا مغفورةً، وسبقها رضوان الله. ثانيها: تجنيب الفسق بالكلية، إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، وقد رضي عنهم، فلا يمكن أن يكون فيهم فاسق. وثالثها: السكينة التي نزلت في قلوبهم، فلا يمكن أن يشك أحد منهم في أمر الإيمان بوجه من الوجوه، والسكينة إذا حلت في قلب مسلم لا يمكن أن يشك في أمر من أمور الدين.
وبعد ذلك الفتح الذي وعدهم الله الفتح القريب، والفتح الذي بعده، والفتح القريب: فتح خيبر، والفتح الذي بعده وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا [الفتح:21] وهي فتح مكة؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهوا من البيعة كما في حديث جابر في صحيح مسلم نظر إلينا فقال: ( أنتم خير أهل الأرض ).
وكذلك في الصحيحين: ( أنه صلى الله عليه وسلم أتاه عبد لـحاطب بن أبي بلتعة قد جوعه يشكوه إليه، فقال: يا رسول الله! والله ليلجن حاطب النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والذي نفس محمد بيده لا يلجن النار أحد بايع تحت الشجرة ).
إذاً دل هذا على أن الله سبحانه وتعالى إنما ينظر إلى القلوب، فإذا نجح الإنسان في امتحان القلب حتى لو لم يبذل جهداً مادياً، ولو لم يتعرض لأي خطر فقد نجح عند الله، ولذلك نجح هؤلاء بمجرد البيعة، فبمجرد أن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة نجحوا، فكانوا في أعلى درجات الإيمان، وأعلى درجات الرضا، فلذلك لابد أن يستشعر الإنسان ما يحصل من الصوارف التي تصرفه عن هذا العمل.
ومن هذه الصوارف: النوم مثلاً، وقد سبق في المخاطر التي هي محدقة بنا.
فتنة المال والأهل
ومنها كذلك المال والأهل، فهما فتنة تشغل الإنسان عن العمل، وقد جاء في الأثر: ( الولد مجبنة مبخلة )، أي: مدعاة للجبن عن الجهاد في سبيل الله، ومدعاة للبخل بالمال.
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه وأخرج ذلك البخاري تعليقاً في الصحيح أنه قال: تعلموا قبل أن تسودوا. وهذا معناه: أن الإنسان ينتظره كثير من الأعمال التي قد تشغله عن التعلم، وعن معالي الأمور، وعن العمل الصالح.
واختلف أهل الحديث في شرح قول عمر: (قبل أن تسودوا)، فقال طائفة منهم: قبل أن تسود لحاهم، أي: أن يتعلم الإنسان في شبابه وهو أمرد.
وقالت طائفة: المقصود بذلك قبل أن تزوجوا؛ لأن الإنسان إذا تزوج أصبح سيد بيت.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود: قبل أن تسودوا في المجتمع، فإن الإنسان إذا كان حليماً كبيراً سيكون سيداً في قومه أو في المجتمع الذي هو فيه؛ ولذلك قال: قبل أن تسودوا. وكل هذه الاحتمالات واردة، وعموماً فإن تفسير السلف للنصوص الواردة لا يقصد به حصر معانيها في معنىً واحد، بل إنما يقصد به المثال.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدةً جليلةً فيما يتعلق بتفسير السلف، قال: إن تفسيرهم مثاله مثال من سألك عن الخبز: ما هو؟ فرفعت له خبزةً فقلت: هذا الخبز، فإنه سيفهم معنى الخبز، لكنه أيضاً سيفهم أنك أنت لا تدعي أن ما في علم الله من الخبز محصور فيما رفعت، ولذلك إنما قالت عائشة رضي الله عنها في تفسير قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، قالت: المؤذن يقول: (إنني من المسلمين) حين يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، و(دعا إلى الله) حين قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، و(عمل صالحاً) حين قال: الله أكبر الله أكبر، فليس معنى هذا أن هذه الآية محصورة في المؤذنين، بل كل من دعا إلى الله بقول أو عمل أو قدوة حسنة فهو داخل في عموم الآية.
فمنها: الموت، وهو الذي يقطع طريق الأمل بالكلية كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخطا الذي سبق، وقد أخرجه البخاري في الصحيح.
ومنها: العجز، وهو ما يأخذه الله من قوى الإنسان، فيكون عاجزاً عما كان قادراً عليه، إما بأخذ سمعه أو بصره أو قواه.
ومنها كذلك الهرم، فمن عاش مات، ومن مات فات، وما كل ما هو آت آت، فالإنسان لا يمكن أن يمتع بعافيته أبد الآبدين، لابد أن يموت، أو أن يهرم، وحينئذٍ سيضعف عقله وتضعف قواه بالكلية، كما قال الحكيم:
يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكةً وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
فسواد الشعر هو أول عمامة من العمائم الثلاث، ثم (سحق مفوف) أي: الشمط الذي فيه اجتماع السواد والبياض، ثم بعد ذلك البياض الخالص (وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا) أي: أبيض.
ومن وسائل الحيلولة دون العمل: الغفلة، فالإنسان قد يبتليه الله سبحانه وتعالى بالغفلة عن منهج الله.
وكثير من المعرضين لا يدور أمر الآخرة في خلد أحد منهم، يعيش حياته يتصرف في أمور هذه الحياة الدنيا، ولكنه لا يستشعر اليوم الذي يؤتى به فيه، فيوقف بين يدي الملك الديان وتعرض عليه أعماله، ولا يدور أمر الآخرة في خلجه بوجه من الوجوه، ولا يستحضر يوم يموت ويحمل على الرقاب إلى قبره، ولا يستحضر تلك الضجعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( عندما حضر جنازةً فوضع الميت في لحده، فأشار بيده أن كفوا، ثم قال: أي إخواني أعدوا لمثل هذه الضجعة )، كثير من الناس لا يخطر أمر ذلك على خلجه أصلاً، ولا يفكر فيه، ويظن أنه سيبقى على حاله وهيئته، وأن الزمان غير متسارع، وأنه سيصل إلى مبتغاه في هذه الحياة، وهذا من غرور هذه الحياة الفانية.
ومن وسائل الشغل أيضاً: ما يعرض من الأعمال التي تحول دون الفراغ، ولهذا أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ). فالصحة وقتها محدد، ولكل جارحة أجل كأجل الإنسان، والفراغ كذلك من النوادر التي تقع في الزمان، فالإنسان تتراكم عليه الأشغال من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، فلذلك إذا وجد صحةً وفراغاً فهي نعمة عظيمة عليه أن ينتهزها قبل أن تفوت.
ثم بعد ذلك من هذه الشواغل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الحج، فقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أراد الحج فليبادر؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتأتي الحاجة )، هذه صوارف تصرف عن الحج، وكذلك قال: ( حجوا قبل ألا تحجوا. قالوا: وما بال الحج يا رسول الله؟ قال: يجلس أعرابها على أذناب أوديتها -وفي رواية:- على أعقاب أوديتها، فلا يصل إلى البيت أحد ).
ومثل ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم في الهجرة عندما أتاه رجل يبايعه على الهجرة بعد فتح مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها )، فقد انتهت الفرصة التي كانت متاحةً لأن يكون الإنسان من الرعيل الأول في الإسلام، وهم المهاجرون والأنصار بمجرد فتح مكة مضت الهجرة لأهلها، ( ولا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ).
ولذلك فإن وقت المؤمن في أوقات الأزمات والضوائق عندما يضعف الإسلام، ويضعف الإقبال عليه، وتضعف دعوة الإسلام، فرصة سانحة مواتية ليتقرب إلى الله بإعلاء كلمته ودعوته إلى سبيله قبل أن يفتح الله للإسلام بابه، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يعز هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ولا يمكن أن تستمر الضائقة بالإسلام وأهله، بل لا يمكن أن تأتي إلا امتحاناً وتمحيصاً لمدة محسوبة معدودة ثم تزول، ولذلك قال الله تعالى في نذارة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال في نذارة داود عليه السلام: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106]، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
والله عز وجل لا يخلف الميعاد، فلابد أن يتحقق ما وعد به، ولذلك فقد جعلها الله سنةً كونيةً لا تقبل التغيير، فقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، فما يأتي من الضائقات والمشكلات إنما هو امتحان وتمحيص، وسرعان ما يذهب ويزول، فإذا حصل شيء من ذلك فهي فرصة المسلم للتعبير عن ولائه لله، وصدقه مع الله، ودعوته إلى منهج الله، قبل أن يحصل الفتح، فإذا حصل الفتح لا يمكن أن يكون أجر الذين سبقوا الفتح وأنفقوا وجاهدوا من قبل الفتح كأجر الذين لحقوا من بعد، ولذلك قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـخالد بن الوليد حين خاصم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وعبد الرحمن هو خامس من أسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنفق من قبل الفتح وقاتل، فخاصمه خالد بن الوليد، وخالد أسلم في العام السابع بعد صلح الحديبية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فأولئك الذين تقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح مد أحدهم من الشعير أو من التمر يتصدق به خير من إنفاق مثل جبل أحد من الذهب فيما بعد الفتح، ولاحظوا هذا الربح الطائل.
والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى مساعدة أحد من خلقه، وإنما يبتلي عباده ويمتحنهم؛ ولذلك فأبرك الغزوات وأكثرها تأثيراً في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ليست غزوة بدر ولا أحد ولا الغزوات التي أريقت فيها الدماء، وبذلت فيها الأرواح، بل هي غزوة الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايعه أصحابه على الموت فيها أنزل الله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:18-19]. وهنا كانت جائزة الله كبيرةً فائقةً للتصور، بدايتها رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، فقد سبقت مغفرة الله سيئاتهم، فلا تقع سيئاتهم إلا مغفورةً، وسبقها رضوان الله. ثانيها: تجنيب الفسق بالكلية، إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، وقد رضي عنهم، فلا يمكن أن يكون فيهم فاسق. وثالثها: السكينة التي نزلت في قلوبهم، فلا يمكن أن يشك أحد منهم في أمر الإيمان بوجه من الوجوه، والسكينة إذا حلت في قلب مسلم لا يمكن أن يشك في أمر من أمور الدين.
وبعد ذلك الفتح الذي وعدهم الله الفتح القريب، والفتح الذي بعده، والفتح القريب: فتح خيبر، والفتح الذي بعده وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا [الفتح:21] وهي فتح مكة؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهوا من البيعة كما في حديث جابر في صحيح مسلم نظر إلينا فقال: ( أنتم خير أهل الأرض ).
وكذلك في الصحيحين: ( أنه صلى الله عليه وسلم أتاه عبد لـحاطب بن أبي بلتعة قد جوعه يشكوه إليه، فقال: يا رسول الله! والله ليلجن حاطب النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والذي نفس محمد بيده لا يلجن النار أحد بايع تحت الشجرة ).
إذاً دل هذا على أن الله سبحانه وتعالى إنما ينظر إلى القلوب، فإذا نجح الإنسان في امتحان القلب حتى لو لم يبذل جهداً مادياً، ولو لم يتعرض لأي خطر فقد نجح عند الله، ولذلك نجح هؤلاء بمجرد البيعة، فبمجرد أن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة نجحوا، فكانوا في أعلى درجات الإيمان، وأعلى درجات الرضا، فلذلك لابد أن يستشعر الإنسان ما يحصل من الصوارف التي تصرفه عن هذا العمل.
ومن هذه الصوارف: النوم مثلاً، وقد سبق في المخاطر التي هي محدقة بنا.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4060 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |