خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
أهمية العلم والتعليم
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد سبق أن ذكرنا أن مهمات المسلم في عمره في الحياة الدنيا محصورة في أربع:
المهمة الأولى: تعلم ما أمر الله بتعلمه.
والمهمة الثانية: العمل بما تعلمه.
والمهمة الثالثة: الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به.
والمهمة الرابعة: الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله.
منزلة أهل العلم في كتاب الله
والمهمة الأولى من هذه المهمات هي تعلم ما أمر الله به، وهي مهمة نبيلة شريفة، جاء في أهميتها عدد كثير من النصوص الصحيحة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى عظم منزلة أهل العلم، وأشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
منزلة أهل العلم في السنة النبوية
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك منزلة أهل العلم في عددٍ كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يُفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله معطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تُنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أُرسلت به).
وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه)، وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وإلا عالماً أو متعلماً، وإن العالم ليستغفر له كل شيءٍ حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب علمٍ رضاً بما يصنع).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الاشتغال بهذا العلم ودرجة المشتغلين به، فإنه كان يُقدمهم في الصف وفي أمور الدين كلها، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وأخرج الشيخان في الصحيحين كذلك من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً)، وفي رواية: (سناً).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك تفاضل أصحابه في تحمل العلم، فقال: (أقضاكم علي، وأقرؤكم أبي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وقد أخرج ذلك الحاكم في المستدرك بإسنادٍ حسن، وأخرج الترمذي بعضه في السنن كذلك.
وبين صلى الله عليه وسلم أن الذين يتحملون هذا العلم هم شهداء الله في كل عصر وهم عدول ذلك العصر، فقد أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، وهذا الحديث صريح في أن الذين يتحملون هذا العلم ويحملونه ويؤدونه إلى الناس هم أمناء الله على وحيه، وهو خير ما في الأرض، ولا يمكن أن يجعله الله بدار هوان، ولا أن يأتمن عليه المفلسين، فالله يختار له من يشاء من كل عصر، والذين يأتمنهم عليه، فذلك دليل على أن الله قد اختارهم لذلك، وقد قال تعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، وقال: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهذا يدلنا على أهمية الاشتغال بالعلم والعناية به.
والمهمة الأولى من هذه المهمات هي تعلم ما أمر الله به، وهي مهمة نبيلة شريفة، جاء في أهميتها عدد كثير من النصوص الصحيحة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى عظم منزلة أهل العلم، وأشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك منزلة أهل العلم في عددٍ كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يُفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله معطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تُنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أُرسلت به).
وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه)، وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وإلا عالماً أو متعلماً، وإن العالم ليستغفر له كل شيءٍ حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب علمٍ رضاً بما يصنع).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الاشتغال بهذا العلم ودرجة المشتغلين به، فإنه كان يُقدمهم في الصف وفي أمور الدين كلها، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وأخرج الشيخان في الصحيحين كذلك من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً)، وفي رواية: (سناً).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك تفاضل أصحابه في تحمل العلم، فقال: (أقضاكم علي، وأقرؤكم أبي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وقد أخرج ذلك الحاكم في المستدرك بإسنادٍ حسن، وأخرج الترمذي بعضه في السنن كذلك.
وبين صلى الله عليه وسلم أن الذين يتحملون هذا العلم هم شهداء الله في كل عصر وهم عدول ذلك العصر، فقد أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، وهذا الحديث صريح في أن الذين يتحملون هذا العلم ويحملونه ويؤدونه إلى الناس هم أمناء الله على وحيه، وهو خير ما في الأرض، ولا يمكن أن يجعله الله بدار هوان، ولا أن يأتمن عليه المفلسين، فالله يختار له من يشاء من كل عصر، والذين يأتمنهم عليه، فذلك دليل على أن الله قد اختارهم لذلك، وقد قال تعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، وقال: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهذا يدلنا على أهمية الاشتغال بالعلم والعناية به.
ومن مهمات الإنسان في هذه الحياة أن يخصص جزءاً كبيراً من وقته لتعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، فإن الإعراض عنه كفر أو مؤدٍ إلى الكفر، فالله تعالى يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
وقد نص أهل العلم على أن الإعراض عن تعلم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم رد على الله عز وجل، فمعناه أن الإنسان قد أرسل الله إليه الهداية فامتنع من قبولها وردها على الله، وهذا ما نعاه الله على ثمود إذ قال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، وهذا سبب لتعجيل عذاب الله، فلا يمكن أن يُقبل من المجتمع المسلم أن يكون فيه بعض الشرائح وبعض الفئات التي لا يعنيها هذا العلم، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم غير مرسل إليها، بل لابد أن يُقبل الجميع على تعلم ما أمر الله به، وأن يأخذوا حظهم مما أرسل الله لهم به أفضل الرسل، وأنزل به إليهم أفضل الكتب، ولا يمكن أن يترك أحد نصيبه من هدى غيره، فهو ميراث الأنبياء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وقال: (إنما ورثنا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر)، و(العلماء ورثة الأنبياء) كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في عددٍ من الأحاديث الصحيحة.
فهذا العلم إذاً هو ميراث الأنبياء، ولا يمكن أن يترك أحد نصيبه منه لغيره، فلابد أن يأخذ بحظه منه.
وإذا عرفنا أهميته ولزومه ووجوبه على كل إنسان كان لزاماً علينا بعد ذلك أن نتعرف إلى شروط طلبه وأركان طلبه ثم إلى طرق الحصول عليه وإلى أقسامه وأنواعه.
أما شروط طلب العلم فقد نص أهل العلم على سبعة منها.
التغرب في طلب العلم
الشرط الأول: التغرب في طلبه، أي: أن يخرج الإنسان من بيئته ووطنه لطلب العلم، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى حُبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، وأن موسى عليه السلام كذلك ما نال هذا العلم حتى قال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60].
وقد عُرف في تاريخ هذه الأمة ما سُمي بالرحلة في طلب العلم، فقد ابتدأه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديثٍ واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديثٍ واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديثٍ واحد.
وجاء بعدهم التابعون، وقد اشتهرت رحلاتهم في طلب الحديث وفي طلب العلم، وكذلك أتباعهم من بعدهم، والذين رحلوا هم الذين جمعوا علم هذه الأمة وأحرزوه ودونوه، ولذلك فإن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: "ما بقيت قرية من قرى الدنيا يُذكر فيها الحديث إلا دخلناها"، وكثير من رحلتهما كانا فيه يمشيان على أرجلهما، وليس لهما ما يركبانه، وكذلك مكي بن إبراهيم شيخ البخاري يقول: (كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يُحتاج إليّ لكتبت عن أكثر).
وكذلك البخاري نفسه؛ فقد تربى يتيماً فقيراً وعمي بصره وهو في الرابعة من عمره، لكن أمه كانت ذات همة عالية فكانت تجتهد في الدعاء أن يرد الله إليه بصره، فأجاب الله دعوتها فاستيقظ من نومه في صباح يومٍ فإذا هو مبصر، فنذرته لله عز وجل لما رد الله عليه بصره أن يتخصص في طلب العلم، وألا تأخذ شيئاً من وقته على علم الحديث، ومن ذلك الوقت من الخامسة من عمره وهو مشتغل بطلب الحديث إلى أن لقي الله، بعد أن طاف الدنيا كلها في طلب الحديث، وحفظ سبعمائة ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عددٍ كبير من الشيوخ من مختلف الأمصار.
ومن عجائب صبره في الطلب أن خرج من العراق على رجليه مسافراً يقصد عبد الرزاق بن همام الصنعاني باليمن، فلما بلغ مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فقطع رحلته وكر راجعاً، فلما وصل إلى العراق إلى البصرة قيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق، فكر راجعاً أيضاً حتى وصل إلى مكة، فأتاه من نعى له عبد الرزاق، مع أن أحاديث عبد الرزاق كلها عند البخاري بنزول، أي: أخذها من تلامذته، وأحمد بن حنبل وغيرهم من تلامذة عبد الرزاق، لكن علو رتبة الإسناد مطلوب، ولذلك فإنه رحمه الله ليلة موته وهي ليلة عيد الفطر سأل الله سبحانه وتعالى أن يقبضه غير مضيعٍ، فقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت بعد أن طاف آفاق الدنيا في طلب الحديث وجمعه.
وكذلك كان عدد كبير من الأئمة الذين يُذكرون في هذا الشأن، فإنهم تبعوا في رحلاتهم العلمية التي جابوا فيها أمصار العالم وجمعوا فيها أطراف هذا العلم، وتبوأوا بذلك منازلهم العالية في هذه الأمة، والإنسان ما دام بين أهله وذويه لابد أن يشتغل بأمور دنياه، ولابد أن يضيع كثير من وقته دون أن يحس له بطعمٍ للانشغال بالروتين المعتاد.
ولا شك أن من كانوا في السجون في مدرسة الشرطة، قد أحسوا أن الوقت فيه امتداد وطول، والأوقات التي كانت تضيع استطاعوا استغلالها، فأحسوا بطول النهار وطول الليل، وهذا ما يحس به الغريب إذا خرج من بيئته ووطنه ولا يحس به الإنسان ما دام بين أهله، ولذلك قال الشاعر:
الأهل والجهل ساكنان في بلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني
تواضع طالب العلم لمن يأخذ عنه
الشرط الثاني من شروط طلب العلم: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه، فالذي يؤخذ عنه هذا العلم لم ينله إلا بعد عناء وجهد، ولا يمكن أن يضيعه فيعطيه لمن لا يحترمه، ولذلك فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]؟ فأتى بصيغة الاستفهام: هل أتبعك؟ ولم يأت بصيغة القرار: سأتبعك، ثم قال: (على أن تعلمنِ) وهنا جعل نفسه طالباً مع أنه أفضل من الخضر، (مما علمت رشدا) أي: بعض ما علمت، ومن تبعيضية.
وكذلك فإن جبريل عليه السلام لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أمور الدين جاء في هيئة حسنةٍ مرضية، فجاء نظيف الجسم نظيف الثياب كما في حديث عمر في وصفه: (بينما نحن جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه).
ومن آداب طلب العلم في تواضع الطالب مع شيخه ألا يخاطبه من بعيد، فجبريل اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه عن كثب، وليكون وعاء لكل ما يصدر منه، ولذلك جلس مقابل وجهه واقترب إليه ليسمع كل ذلك بتلهف، وهذا تشريع لنا نحنُ في حال الطلب أن يتعود الإنسان على الاقتراب، وقد كان الناس يزدحمون على الشيوخ في الزمان الأول، فكان لـمالك ثلاثة مستملين يزدحم الناس حوله ليسمعوا منه، والقارئ يقرأ بين يديه، وعند منتهى صوت القارئ مستملٍ يرفع صوته بما يسمع، وعند منقطع صوت ذلك مستملٍ آخر، فإذا انقطع آخر الصوت يسمعه هو الآخر فيصيح به.
ولذلك جاء جبريل بهذه الصورة الأنيقة وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه تأليفاً وانتفاعاً ليصل إليه كل ما قاله، ولئلا يفوته شيء مما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من مقاصد أهل العلم في الطلب، وقديماً يذكره أهل الأدب كما قال الشاعر:
وإن نطقت ليلى فكلي مسامع
وكما قال العلامة عبد الله بن محمد بن محمد سالم لما أرسل ولده إلى الشيخ معي ليتعلم منه النحو يقول فيه:
لمع الهمام اللوذعي الألمعي سر واجمعن علومه في مجمعِ
وكن الوعاء لما يفوه به معي لا تُفلتنك كلمة من في معي
ولقد بعثت إليكم ريحانة لي في تشممها المنى ولمن معي
فالتواضع لمن يأخذ الإنسان عنه معين لاستخراج ما عنده، فالشيخ لم يكن ليرحل إليه في طلب العلم، وليؤخذ منه العلم إلا بعد أن ينصب هو ويتعب، وكما قال الشخصبي رحمه الله:
ما ابيض وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوده شحوب المطلبِ
ورع طالب العلم
والشرط الثالث من هذه الشروط: الورع، وهو اتقاء المحرمات والمكروهات والشبهات، فالمعصية لها ظُلمة في القلب، وبغض في الناس، فصاحب المعصية مظلم القلب يصعب عليه الفهم، ولذلك كان كثير من أهل العلم يستعينون على فهم العويصات بالذكر، وكثير من أهل العلم كانوا إذا استغلقت عليهم مسألة يجلس أحدهم فيكثر ذكر الله ويقول: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيفهمونها بذلك، والله سبحانه وتعالى أرشد إلى هذا فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ[الكهف:24].
ولذلك لابد أن يتورع الطالب عن المحرمات والمكروهات والمشتبهات ليكون وعاءً لهذا العلم الشريف، ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: (أتيت مالكاً وقد حفظت الموطأ بمكة، فجلست في طرف الحلقة، فلما انفضت الحلقة بقيت في مجلسه، فنظر إليّ ودعاني فتعرف إليّ وقال: يا بني! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئاً من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية).
وكذلك يروى عنه أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني أن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وكثيراً ما تكون المعصية سبباً لذهاب نور العلم، وسبباً لذهاب المحفوظات التي يحفظها الإنسان، فكثير من المحفوظات تذهب بها المعاصي، وقد ثبت أن رجلاً أسلم في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحفظ القرآن كاملاً وكان يقرأ به في المدينة، ثم تنصر، فهرب إلى الروم، فلقيه رجل من المسلمين هنالك، فسأله عما معه من القرآن، قال: ما بقي معي منه إلا هذه الآية: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، آية واحدة بقيت حُجة عليه من القرآن الذي حفظه بكامله، فطُمس من صدره، ولم يبق منه إلا هذه الآية: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، ولذلك لابد لطلاب العلم من التورع الزائد حتى لا ينفر هذا العلم من صدورهم.
الجوع والتقلل من المباحات في وقت الطلب
الشرط الرابع من هذه الشروط: الجوع في وقت الطلب، والمقصود بذلك التقلل من المباحات، فالإنسان إذا كان مشغولاً بالشهوات المباحة وتتبعها، كل ما اشتهاه اشتراه، فسينشغل بما ينشغل فيه الناس، ولا يمكن أن يأتي بأمرٍ خارق غير معتاد.
ولذلك يقول أهل الإرادة في تعريف القادة: من ولد ميلاداً عادياً وعاش حياة عادية سيموت موتاً عادياً، ومعناه أنه في المقابل من عاش معاشاً غير معتاد لدى الناس، وأتعب نفسه وغير الروتين السائد، فسيكون موته غير عادي بالنسبة لمن هم في مستواه، فلابد أن يترك أثراً، ولابد أن يكون له ذكر، وقديماً قالوا: البطنة تذهب الفطنة، فإذا اشتغلت أجهزة البدن بالمآكل والمشارب فسيؤثر ذلك على فهم الإنسان وعلى حفظه، ويؤدي به إلى الإخلاد إلى الرائحة وإلى النعاس والنوم، وقد قال الشافعي رحمه الله: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن الشيباني، فأكثر العقلاء والعلماء كانوا من أهل النحافة إذ لم يكونوا يشتغلون كثيراً بالمآكل والمشارب.
المخاطرة في طلب العلم
والشرط الخامس من هذه الشروط: المخاطرة، أي: أن تهون على الإنسان نفسه في طلب العلم حتى يخاطر في سبيل الوصول إليه، ودليل ذلك أن موسى عليه السلام ما نال العلم حتى ركب البحر في سفينة مخروقة، وهذه المخاطرة تدل على قيمة المطلوب عند الإنسان، فالذي يدرك قيمة اللؤلؤ يغوص في أعماق البحر من أجل الوصول إليه، والذي يدرك قيمة العلم هو الذي يخاطر من أجل الوصول إليه، أما من لا يدرك قيمة هذا العلم فإنه لا يساوي عنده هذه البضائع النفيسة الثمينة، ومن أجل ذلك لا يخاطر في طلبه.
مخالفة الهوى في طلب العلم
الشرط السادس: أن يعصي الإنسان هواه في طلب العلم، فالهوى يدعو الإنسان دائماً إلى الإخلاد إلى الرائحة وإلى مخالطة الناس وإلى الإكثار من القال والقيل الذي يشتغل به الناس، وكل هذه الأمور منافية لحفظ العلم وجمعه، ولذلك قال الشاعر:
قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصبرا
لا يدرك العلم بطال ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا
فالذي يخالط الناس لابد أن يذهب الكثير من وقته، ولابد أن ينشغل بما هم مشغولون به، فاهتماماته وأولوياته هي ما يغرق فيه الناس، ومن هنا لابد لطالب العلم من التجرد في الطلب، وقد قال ابن عيينة رحمه الله: إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.
العمل بالعلم
الشرط السابع من هذه الشروط: العمل به، أي: أن يعمل الإنسان به، فالعلم بمثابة الشجرة، والعمل بمثابة الثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها، يقول العلامة محمد علي رحمه الله:
العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحري أن يذهبا
والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة
ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها
وإذا لم يعمل الإنسان بعمله كان حُجة عليه، فهو سلاح ذو حدين.
الشرط الأول: التغرب في طلبه، أي: أن يخرج الإنسان من بيئته ووطنه لطلب العلم، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى حُبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، وأن موسى عليه السلام كذلك ما نال هذا العلم حتى قال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60].
وقد عُرف في تاريخ هذه الأمة ما سُمي بالرحلة في طلب العلم، فقد ابتدأه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديثٍ واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديثٍ واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديثٍ واحد.
وجاء بعدهم التابعون، وقد اشتهرت رحلاتهم في طلب الحديث وفي طلب العلم، وكذلك أتباعهم من بعدهم، والذين رحلوا هم الذين جمعوا علم هذه الأمة وأحرزوه ودونوه، ولذلك فإن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: "ما بقيت قرية من قرى الدنيا يُذكر فيها الحديث إلا دخلناها"، وكثير من رحلتهما كانا فيه يمشيان على أرجلهما، وليس لهما ما يركبانه، وكذلك مكي بن إبراهيم شيخ البخاري يقول: (كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يُحتاج إليّ لكتبت عن أكثر).
وكذلك البخاري نفسه؛ فقد تربى يتيماً فقيراً وعمي بصره وهو في الرابعة من عمره، لكن أمه كانت ذات همة عالية فكانت تجتهد في الدعاء أن يرد الله إليه بصره، فأجاب الله دعوتها فاستيقظ من نومه في صباح يومٍ فإذا هو مبصر، فنذرته لله عز وجل لما رد الله عليه بصره أن يتخصص في طلب العلم، وألا تأخذ شيئاً من وقته على علم الحديث، ومن ذلك الوقت من الخامسة من عمره وهو مشتغل بطلب الحديث إلى أن لقي الله، بعد أن طاف الدنيا كلها في طلب الحديث، وحفظ سبعمائة ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عددٍ كبير من الشيوخ من مختلف الأمصار.
ومن عجائب صبره في الطلب أن خرج من العراق على رجليه مسافراً يقصد عبد الرزاق بن همام الصنعاني باليمن، فلما بلغ مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فقطع رحلته وكر راجعاً، فلما وصل إلى العراق إلى البصرة قيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق، فكر راجعاً أيضاً حتى وصل إلى مكة، فأتاه من نعى له عبد الرزاق، مع أن أحاديث عبد الرزاق كلها عند البخاري بنزول، أي: أخذها من تلامذته، وأحمد بن حنبل وغيرهم من تلامذة عبد الرزاق، لكن علو رتبة الإسناد مطلوب، ولذلك فإنه رحمه الله ليلة موته وهي ليلة عيد الفطر سأل الله سبحانه وتعالى أن يقبضه غير مضيعٍ، فقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت بعد أن طاف آفاق الدنيا في طلب الحديث وجمعه.
وكذلك كان عدد كبير من الأئمة الذين يُذكرون في هذا الشأن، فإنهم تبعوا في رحلاتهم العلمية التي جابوا فيها أمصار العالم وجمعوا فيها أطراف هذا العلم، وتبوأوا بذلك منازلهم العالية في هذه الأمة، والإنسان ما دام بين أهله وذويه لابد أن يشتغل بأمور دنياه، ولابد أن يضيع كثير من وقته دون أن يحس له بطعمٍ للانشغال بالروتين المعتاد.
ولا شك أن من كانوا في السجون في مدرسة الشرطة، قد أحسوا أن الوقت فيه امتداد وطول، والأوقات التي كانت تضيع استطاعوا استغلالها، فأحسوا بطول النهار وطول الليل، وهذا ما يحس به الغريب إذا خرج من بيئته ووطنه ولا يحس به الإنسان ما دام بين أهله، ولذلك قال الشاعر:
الأهل والجهل ساكنان في بلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني
الشرط الثاني من شروط طلب العلم: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه، فالذي يؤخذ عنه هذا العلم لم ينله إلا بعد عناء وجهد، ولا يمكن أن يضيعه فيعطيه لمن لا يحترمه، ولذلك فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]؟ فأتى بصيغة الاستفهام: هل أتبعك؟ ولم يأت بصيغة القرار: سأتبعك، ثم قال: (على أن تعلمنِ) وهنا جعل نفسه طالباً مع أنه أفضل من الخضر، (مما علمت رشدا) أي: بعض ما علمت، ومن تبعيضية.
وكذلك فإن جبريل عليه السلام لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أمور الدين جاء في هيئة حسنةٍ مرضية، فجاء نظيف الجسم نظيف الثياب كما في حديث عمر في وصفه: (بينما نحن جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه).
ومن آداب طلب العلم في تواضع الطالب مع شيخه ألا يخاطبه من بعيد، فجبريل اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه عن كثب، وليكون وعاء لكل ما يصدر منه، ولذلك جلس مقابل وجهه واقترب إليه ليسمع كل ذلك بتلهف، وهذا تشريع لنا نحنُ في حال الطلب أن يتعود الإنسان على الاقتراب، وقد كان الناس يزدحمون على الشيوخ في الزمان الأول، فكان لـمالك ثلاثة مستملين يزدحم الناس حوله ليسمعوا منه، والقارئ يقرأ بين يديه، وعند منتهى صوت القارئ مستملٍ يرفع صوته بما يسمع، وعند منقطع صوت ذلك مستملٍ آخر، فإذا انقطع آخر الصوت يسمعه هو الآخر فيصيح به.
ولذلك جاء جبريل بهذه الصورة الأنيقة وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه تأليفاً وانتفاعاً ليصل إليه كل ما قاله، ولئلا يفوته شيء مما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من مقاصد أهل العلم في الطلب، وقديماً يذكره أهل الأدب كما قال الشاعر:
وإن نطقت ليلى فكلي مسامع
وكما قال العلامة عبد الله بن محمد بن محمد سالم لما أرسل ولده إلى الشيخ معي ليتعلم منه النحو يقول فيه:
لمع الهمام اللوذعي الألمعي سر واجمعن علومه في مجمعِ
وكن الوعاء لما يفوه به معي لا تُفلتنك كلمة من في معي
ولقد بعثت إليكم ريحانة لي في تشممها المنى ولمن معي
فالتواضع لمن يأخذ الإنسان عنه معين لاستخراج ما عنده، فالشيخ لم يكن ليرحل إليه في طلب العلم، وليؤخذ منه العلم إلا بعد أن ينصب هو ويتعب، وكما قال الشخصبي رحمه الله:
ما ابيض وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوده شحوب المطلبِ
والشرط الثالث من هذه الشروط: الورع، وهو اتقاء المحرمات والمكروهات والشبهات، فالمعصية لها ظُلمة في القلب، وبغض في الناس، فصاحب المعصية مظلم القلب يصعب عليه الفهم، ولذلك كان كثير من أهل العلم يستعينون على فهم العويصات بالذكر، وكثير من أهل العلم كانوا إذا استغلقت عليهم مسألة يجلس أحدهم فيكثر ذكر الله ويقول: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيفهمونها بذلك، والله سبحانه وتعالى أرشد إلى هذا فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ[الكهف:24].
ولذلك لابد أن يتورع الطالب عن المحرمات والمكروهات والمشتبهات ليكون وعاءً لهذا العلم الشريف، ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: (أتيت مالكاً وقد حفظت الموطأ بمكة، فجلست في طرف الحلقة، فلما انفضت الحلقة بقيت في مجلسه، فنظر إليّ ودعاني فتعرف إليّ وقال: يا بني! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئاً من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية).
وكذلك يروى عنه أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني أن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وكثيراً ما تكون المعصية سبباً لذهاب نور العلم، وسبباً لذهاب المحفوظات التي يحفظها الإنسان، فكثير من المحفوظات تذهب بها المعاصي، وقد ثبت أن رجلاً أسلم في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحفظ القرآن كاملاً وكان يقرأ به في المدينة، ثم تنصر، فهرب إلى الروم، فلقيه رجل من المسلمين هنالك، فسأله عما معه من القرآن، قال: ما بقي معي منه إلا هذه الآية: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، آية واحدة بقيت حُجة عليه من القرآن الذي حفظه بكامله، فطُمس من صدره، ولم يبق منه إلا هذه الآية: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، ولذلك لابد لطلاب العلم من التورع الزائد حتى لا ينفر هذا العلم من صدورهم.