منهجية السلف


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نحمد الله تعالى على ما من به من الهداية، ونسأله المزيد من فضله.

أما بعد: فإن كل سالك في طريق لا بد أن يعتاد في سيره على منهج محدد يتخذه حتى يصل إلى نهاية ذلك الطريق المقصود في سفره القاصد، وإن السالك في حيات هذه الدنيا التي هي منتهية لا محالة لا بد أن يحدد منهجاً يسير عليه في سلوكه لعلمه أن هذا الطريق منته إلى نهاية حتمية، وإن أهل الدنيا قد سلكوا مسالك متعددة، وهي متفاوتة طولاً وقصراً، ومتفاوتة كذلك استقامةً وتعرجاً، وإن أصوب المناهج وأرضاها وأحسنها وأعدلها لهو المنهج الذي أرسل الله به رسله عليهم الصلاة والسلام، وختمهم وقفا على آثارهم بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن المنهج الذي جاء به قد رضيه الله تعالى لعباده، ولم يرض لهم سواه، ولذلك لا يقبل الله تعالى من أحد سلوكاً على طريق إلى الله إلا إذا كان سالكاً على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله، وإن هذا من المسلمات لدى عموم الناس، لا يكاد يختلف فيه اثنان، ولكن موضع الخلاف ومحله هو تحديد ذلك المنهج الذي تركنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي سماه المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر، وأن على جنباته بنيات الطريق، وأبواباً مفتحةً عليها ستور، على كل باب منها داع يدعو إليه، ولذلك كان الخطر شديداً، وكان الطريق مما يصعب التمسك به والصبر عليه، ولا شك أن المؤثرات في سلوك المناهج متعددة، ومن أعظمها: ما يتعلق بالحضارات والقيم التي تسود، والأعراف التي تنتشر، وكذلك ما يتعلق بالأحكام التي توجه الناس وتقودهم، فلا شك أن منهاج الناس في أيام عزة الإسلام ورفعة رايته وقوته كانت أقرب إلى ما تركهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بكثير من مناهجهم في أيام التدني والانحطاط والضعف والمذلة، ولذلك قال الحكماء: الناس على دين ملوكهم، وقالوا: كما تكونوا يولى عليكم، قد روي ذلك أثراً عن بعض السلف الصالح، فبحسب حال الناس وبحسب ما يسود فيهم من الحضارة، وما يقتنعون به من الأعراف يتفاوت سلوكهم في المناهج، وتتأثر مناهجهم بذلك، فأصفى المناهج وأعدلها هو المنهج الذي ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عندما أعز الله دينه وأظهره على الدين كله، وقامت تلك الحقبة الزمنية التي ساد فيها العدل وانتشر، وعلت فيها كلمة الله في هذه الأرض في عصر الخلافة الراشدة، ولم يزل الأمر يتطور بحسب ما يتجدد من الحضارات وما ينقل، وبحسب انبهار الناس بالحضارات الأخرى التي ينفتحون عليها من خلال الترجمات، ومن خلال الاختلاط والاحتكاك بالأمم الأخرى، حتى وصل الأمر إلى قمته عندما سقطت آثار الخلافة الإسلامية وبقاياها في بداية القرن المنصرم.

ثم بعد ذلك نشأت هذه الصحوة المباركة التي تطالب بالعودة إلى ما كان عليه ذلك الصدر الأول، وإلى ذلك المنهج الذي سلكوه فأداهم إلى مرضات الله، وأوصلهم إلى محبته وطاعته، لا شك أن المنهج المسلوك في هذا الدين تتنوع عناصره بحسب عناصر الدين نفسه، وأنتم تعلمون أن عناصر الدين ثلاثة، هي: الإيمان، والإسلام، والإحسان، التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله، وتعلمون أن هذه العناصر الثلاثة متكاملة، وأن توزيعها بحسب عناصر ابن آدم نفسه في خلقه، فابن آدم مؤلف من ثلاثة عناصر هي: العقل، والبدن، والروح، وهذه العناصر الثلاثة على أساس تنوعها جاء تنوع عناصر الدين، فالإيمان لمصلحة العقل، والإسلام لمصلحة البدن، والإحسان لمصلحة الروح، وإذا غلا بعض الناس في بعض هذه الجوانب فإن ذلك لا بد أن يؤثر في الاتزان، ولا بد أن يؤدي إلى نتائج وخيمة، لما في الميل الدائم الذي هو مع حركة ومرور من الانحراف، فأنتم تعلمون أن العربة المستقيمة إذا سلكت خطاً وليكن مثلاً سكة حديد فإنها ستستمر عليها ما دامت معتدلةً في جوانبها، أما إذا كان أحد الجانبين أثقل من الآخر، أو كان أحدهما أرفع من الآخر فإن الانحراف سيكون وبالأخص مع سرعة السير وطول الطريق؛ ولذلك فإن هذه الأمة عرفت مناهج متعددة، سمي أقدمها بمنهج السلف الصالح، والسلف اسم يطلق على من سلف ومضى، ومنه الصالحون الذين رضيتهم هذه الأمة وشهدت لهم بالخير، ومنه قوم دون ذلك، والتفاوت الحاصل في سلوك طريقهم ناشئ عما ذكرناه من العوامل، فعصر الخلافة الراشدة وبالأخص في أيام أبي بكر و عمر وست سنوات من خلافة عثمان كان زمن اتفاق، لم يحصل فيه اختلاف بين المسلمين، وإنما نشأ الخلاف بعد مضي ست سنوات من خلافة عثمان ، أي: بعد مضي عشرين سنةً من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تمت العشرون ونشأت خلوف لم تترب كما تربى السابقون، وعاشت حياة الراحة والدعة، وتوقف كثير من الناس عما كانوا ربوا عليه من الجهاد والعمل الصالح والاستقامة، بدأ هؤلاء في سلوك مناهج بدأت في الانحراف، وكان الانحراف صغيراً قليلاً من بدايته، ولم يزل يتسع ويزداد حتى اتسع الخرق على الراقع، ولذلك كان الخوارج يمتحنون الناس، فيقولون: ما رأيك في أبي بكر و عمر و في عثمان ست سنين وفي علي قبل التحكيم؟ وهذا امتحانهم الذي يمتحنون الناس عليه بالاعتقاد.

وكذلك قال أحدهم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! ما بال الناس اتفقوا على أبي بكر و عمر واختلفوا عليك وعلى عثمان ؟ فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان ، واختلفوا علي وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأمثالك.

ما دام الناس على تربية صحيحة، وعلى منهج مستقيم لا يحصل الخلاف بينهم، وتستقيم الأمور وتأخذ مجراها المعتاد.

نلحظ أن حياة هذا الصدر الأول ومنهجهم الذي سلكوه ليس فيه ميل ولا انحراف، بل كان متزناً في مختلف جوانبه، عادلاً في تقسيم الوقت بين عناصره، فعناصر الدين كانت جميعاً يقام بها على وجهها الصحيح، ولننظر إلى حياة بعض النماذج من هذا الصدر الأول، فنجدهم في مجال الاعتقاد قدوةً يقتدى بهم، وفي مجال إصلاح القلوب وتربية النفوس قدوةً يقتدى بهم، وفي مجال العلم والتفكير والعقل قدوةً يقتدى بهم، وفي مجال إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله والدعوة إليه قدوةً يقتدى بهم، ولذلك لا نحتاج إذا أخذنا نموذجاً منهم أن نذهب إلى التخصصات المختلفة ونصنفه في خانة تخصص محدد، بل إنما نشأت هذه التخصصات في الخلوف اللاحقة، أما الصدر الأول فما عرفوا التخصص، ولذلك كان الشخص الواحد يقوم بمسئوليات مختلفة.

خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقائد الأعلى، وهو قائد الجيش الذي يرتب الناس في الصف، وهو القاضي الذي يحكم بين الناس، وهو المفتي الذي يفتي في النوازل، وهو المعلم الذي يدرس، وهو منظم حياة الناس البلدية المتعلقة بحياتهم المدنية، فهو الذي يغرس النخل بيده، ويوزع الأرض بين أهلها، حتى يوزع مياه السيول بين أهلها ويأمر رجلاً فيقف حتى يصل الماء إلى كعبه، ثم يأمر الرجل أن يرسل ما وراء ذلك من الماء، هو الذي يهتم بكل الأمور، ولذلك تجد هذا في الأحاديث المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه كانت الأمة تأتيه فتأخذ بيده حتى يقضي لها حاجتها، ويأتيه الأعرابي فيجذبه بثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله! مر لي بشيء من مال الله الذي تحت يدك، فيبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقضي له حاجته ).

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تبكي عند قبر: ( فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أمة الله! اتق الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلك! إنه رسول الله، فذهبت إليه فجاءت إلى بيته فلم تجد حارساً ولا بواباً، فخرج إليها وأزرار قميصه محلولة، فكلمته فقالت: يا رسول الله! إني تائبة فوالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ).

كان الباحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى عناء كبير، ولا إلى مواعيد، ولا إلى تقديم وثائق وأوراق، بل إذا أراد الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق باب إحدى حجره أو دخل عليه في المسجد، أو أتاه عند أي بيت من أصحابه حتى إنه يمكن أن يجده في بيوت أهل الذمة من اليهود الخاضعين لدين الله، فإنه كان يعود مرضاهم، ويزورهم في بيوتهم، أجاب دعوة أحدهم إلى خبز ناس -معناه: ناشف- وإهالة -معناه: زبدة- سنخة -معناه: متغيرة اللون.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقائد الأعلى، وهو قائد الجيش الذي يرتب الناس في الصف، وهو القاضي الذي يحكم بين الناس، وهو المفتي الذي يفتي في النوازل، وهو المعلم الذي يدرس، وهو منظم حياة الناس البلدية المتعلقة بحياتهم المدنية، فهو الذي يغرس النخل بيده، ويوزع الأرض بين أهلها، حتى يوزع مياه السيول بين أهلها ويأمر رجلاً فيقف حتى يصل الماء إلى كعبه، ثم يأمر الرجل أن يرسل ما وراء ذلك من الماء، هو الذي يهتم بكل الأمور، ولذلك تجد هذا في الأحاديث المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه كانت الأمة تأتيه فتأخذ بيده حتى يقضي لها حاجتها، ويأتيه الأعرابي فيجذبه بثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله! مر لي بشيء من مال الله الذي تحت يدك، فيبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقضي له حاجته ).

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تبكي عند قبر: ( فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أمة الله! اتق الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلك! إنه رسول الله، فذهبت إليه فجاءت إلى بيته فلم تجد حارساً ولا بواباً، فخرج إليها وأزرار قميصه محلولة، فكلمته فقالت: يا رسول الله! إني تائبة فوالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ).

كان الباحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى عناء كبير، ولا إلى مواعيد، ولا إلى تقديم وثائق وأوراق، بل إذا أراد الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق باب إحدى حجره أو دخل عليه في المسجد، أو أتاه عند أي بيت من أصحابه حتى إنه يمكن أن يجده في بيوت أهل الذمة من اليهود الخاضعين لدين الله، فإنه كان يعود مرضاهم، ويزورهم في بيوتهم، أجاب دعوة أحدهم إلى خبز ناس -معناه: ناشف- وإهالة -معناه: زبدة- سنخة -معناه: متغيرة اللون.

تعامل أبي بكر رضي الله عنه وخلقه

وهكذا نجد خليفته أبا بكر رضي الله عنه يزور عجائز الموالي، ويذهب في إصلاح الأمور، ويباشرها بيده، وينزل إلى الأسواق ويبيع فيها، ويخيط قميصه بيده، ولما حضرته الوفاة قال لـعائشة رضي الله عنها: انظري إلى هذا القميص فاغسلي عنه ما فيه، وكفنوني فيه، فقالت: إن عندنا جديداً، فقال: إنما هو للمهلة والتغير، وإن الحي أولى بالجديد. والمهلة هي الصديد الذي ينشأ من تغير البدن وانتفاخه.

وكذلك نجده عندما يأتيه رجل من الأعراب فيناديه ويقول: يا خليفة الله في أرضه! يقول: إني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بذلك راض، يكفيني أني خليفة رسول الله، لا أريد منصباً أعظم من هذا.

وكذلك نجده يقف على المنبر خطيباً فينادي الناس في المسجد، وهذا أعلى اجتماع وأعظمه بالنسبة للأمة الإسلامية، هو مكان اتخاذ القرارات هو منبر المسجد، يقف في الناس خطيباً وينادي أهل المسجد فيقول: أيها الناس! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم العامة عن تجارتي، فلو جعلتم لي رزقاً من بيت مالكم، يوجه هذا الطلب إلى جماعة المسجد، وجماعة مسجده التي تتحكم في راتب الخليفة الأعظم، الذي تغزو جيوشه كسرى وقيصر، وتصل إلى مشارف الهند، وهو مع ذلك يريد تحديد راتبه من جماعة المسجد من أمثالكم الآن.

حكم عمر رضي الله عنه وتواضعه

وكذلك نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة من بعده يلبس مرقعته، وينام بعد أن صلى الضحى، وبعد أن مر على الأسواق ومر على أطراف المدينة ينام تحت ظل نخلة وهو متوسد ذراعه، فيأتيه رجل من الفرس فيقف عند رأسه ويتأمل ويقول: أهذا هو عمر الذي تخضع له الجيوش في كل مكان؟ فيقولون: نعم، فيقول: عدلت فأمنت فنمت، لا يحتاج إلى حارس ولا إلى بواب، ولا يحتاج من يريده لحاجة أن يبحث عنه في مختلف الأماكن، نجده يلقي أموره كلها واستشاراته كلها على الناس في المسجد، هو الذي يصلي بهم في جميع الأوقات، حتى إن القوم الذين تمالئوا على اغتياله لم يبحثوا عنه في بيته، وما بحثوا عنه في القصور المشيدة، بحثوا عنه وقت صلاة الفجر في مقدمة المسجد، وطعن وهو يؤم الناس في الركعة الثانية من صلاة الفجر.

تفاني عثمان رضي الله عنه في تعليم وخدمة المسلمين

وهكذا نجد الخليفة من بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أخرج عنه مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أنه كان يأتي في الثلث الأخير من الليل الأخير فيرتفق في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، يجتمع الناس عليه يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل، وكان يجلس على باب المسجد يعلم الناس الوضوء، كما أخرج ذلك عنه البخاري و مسلم من حديث حمران مولاه، يعلم الناس الوضوء على باب المسجد، الذي يبحث عنه لا يذهب يسجل اسمه، ولا يقدم وثائقه وأوراقه، ولا يحتاج إلى انتظار الأيام العديدة، يأتي إلى باب المسجد يجده يعلم الناس الوضوء، يأتي إلى مؤخرة المسجد في الثلث الأخير من الليل يجده يعلم الناس القرآن.. وهكذا.

عدل علي رضي الله عنه وإنصافه

وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه نجده يسلك نفس الطريق، عندما تمالأ الخوارج على اغتياله لم يبحثوا عنه في القصور المشيدة، ولا وراء العساكر والجنود، إنما بحثوا عنه في آخر الليل في المسجد قبل أن يأتي المؤذن، فيجدونه في المسجد.

نجده يأتي إلى بيت مال المسلمين عند بداية السنة الهجرية التي تدخل فيها المداخيل، وتتم فيها الموازنة عندما تؤخذ الجزية من أهل الكتاب، ويجمع الفيء ويؤخذ الخراج على الأراضي المفتوحة، فيجتمع ذلك في بيت المال، فيقوم أمير المؤمنين بتوزيعه على الناس حتى لا يبقى في بيت المال درهم ولا دينار، ثم يقمه بردائه ويرش فيه من الماء ويصلي فيه ركعتين.

عندما كان الناس هكذا لم تكن الحياة معقدة، ولم تكن تحتاج إلى كثير من الروتين، وكان العدل سائداً فيها، وكل الناس على رضاً إلا من انحرف عن هذا المنهج فهو الذي يجد نزعة الغضب في نفسه، أما من كان مستقيماً على هذا المنهج الصحيح الذي لا يرضي الله سواه فلا يمكن أن يجد غضباً في نفسه؛ لأن جميع حقوقه قد أديت إليه، ولذلك قال علي رضي الله عنه للخوارج: إن لكم علينا ثلاثاً: أن لا نبدأكم بقتال، وأن لا نمنعكم مساجدنا ما صليتم إلى قبلتنا، وأن لا نمنعكم فيئاً من بيت مالنا، ما كانت أيديكم معنا. هذه الحقوق الثلاثة مؤداة حتى إلى الخوارج الذين خرجوا عليه وكفروه، ولما سئل عنهم قيل: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، هذا العدل الذي جعل أمير المؤمنين يصدر منه هذا القول هو أيضاً الذي حمل صاحبه عثمان بن عفان عندما كان محاصراً في الدار وقد قطع الناس عنه الإمدادات والماء وهو محصور لا يصل إليه من الماء في صيامه إلا ما تحمله أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وتوصله إليه، نجده يرتفع يوماً من شرفة داره فيطلع على الناس، فيخاطبه رجل فيقول: يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام بدعة، وهم يصلون أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم، فهذا تأدب بأدب القرآن الذي أدبنا الله به في كتابه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، هؤلاء القوم الذين شنئوه وقاتلوه وظلموه وحاصروه في الشهر الحرام في البلد الحرام، مع ذلك لم يحمله هذا على ألا يكون عدلاً في الحكم عليهم، وتوجيه الخطاب إليهم، بل كان في كل ذلك ملتزماً بهذا المنهج الصحيح.

وهكذا نجد خليفته أبا بكر رضي الله عنه يزور عجائز الموالي، ويذهب في إصلاح الأمور، ويباشرها بيده، وينزل إلى الأسواق ويبيع فيها، ويخيط قميصه بيده، ولما حضرته الوفاة قال لـعائشة رضي الله عنها: انظري إلى هذا القميص فاغسلي عنه ما فيه، وكفنوني فيه، فقالت: إن عندنا جديداً، فقال: إنما هو للمهلة والتغير، وإن الحي أولى بالجديد. والمهلة هي الصديد الذي ينشأ من تغير البدن وانتفاخه.

وكذلك نجده عندما يأتيه رجل من الأعراب فيناديه ويقول: يا خليفة الله في أرضه! يقول: إني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بذلك راض، يكفيني أني خليفة رسول الله، لا أريد منصباً أعظم من هذا.

وكذلك نجده يقف على المنبر خطيباً فينادي الناس في المسجد، وهذا أعلى اجتماع وأعظمه بالنسبة للأمة الإسلامية، هو مكان اتخاذ القرارات هو منبر المسجد، يقف في الناس خطيباً وينادي أهل المسجد فيقول: أيها الناس! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم العامة عن تجارتي، فلو جعلتم لي رزقاً من بيت مالكم، يوجه هذا الطلب إلى جماعة المسجد، وجماعة مسجده التي تتحكم في راتب الخليفة الأعظم، الذي تغزو جيوشه كسرى وقيصر، وتصل إلى مشارف الهند، وهو مع ذلك يريد تحديد راتبه من جماعة المسجد من أمثالكم الآن.

وكذلك نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة من بعده يلبس مرقعته، وينام بعد أن صلى الضحى، وبعد أن مر على الأسواق ومر على أطراف المدينة ينام تحت ظل نخلة وهو متوسد ذراعه، فيأتيه رجل من الفرس فيقف عند رأسه ويتأمل ويقول: أهذا هو عمر الذي تخضع له الجيوش في كل مكان؟ فيقولون: نعم، فيقول: عدلت فأمنت فنمت، لا يحتاج إلى حارس ولا إلى بواب، ولا يحتاج من يريده لحاجة أن يبحث عنه في مختلف الأماكن، نجده يلقي أموره كلها واستشاراته كلها على الناس في المسجد، هو الذي يصلي بهم في جميع الأوقات، حتى إن القوم الذين تمالئوا على اغتياله لم يبحثوا عنه في بيته، وما بحثوا عنه في القصور المشيدة، بحثوا عنه وقت صلاة الفجر في مقدمة المسجد، وطعن وهو يؤم الناس في الركعة الثانية من صلاة الفجر.

وهكذا نجد الخليفة من بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أخرج عنه مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أنه كان يأتي في الثلث الأخير من الليل الأخير فيرتفق في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، يجتمع الناس عليه يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل، وكان يجلس على باب المسجد يعلم الناس الوضوء، كما أخرج ذلك عنه البخاري و مسلم من حديث حمران مولاه، يعلم الناس الوضوء على باب المسجد، الذي يبحث عنه لا يذهب يسجل اسمه، ولا يقدم وثائقه وأوراقه، ولا يحتاج إلى انتظار الأيام العديدة، يأتي إلى باب المسجد يجده يعلم الناس الوضوء، يأتي إلى مؤخرة المسجد في الثلث الأخير من الليل يجده يعلم الناس القرآن.. وهكذا.

وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه نجده يسلك نفس الطريق، عندما تمالأ الخوارج على اغتياله لم يبحثوا عنه في القصور المشيدة، ولا وراء العساكر والجنود، إنما بحثوا عنه في آخر الليل في المسجد قبل أن يأتي المؤذن، فيجدونه في المسجد.

نجده يأتي إلى بيت مال المسلمين عند بداية السنة الهجرية التي تدخل فيها المداخيل، وتتم فيها الموازنة عندما تؤخذ الجزية من أهل الكتاب، ويجمع الفيء ويؤخذ الخراج على الأراضي المفتوحة، فيجتمع ذلك في بيت المال، فيقوم أمير المؤمنين بتوزيعه على الناس حتى لا يبقى في بيت المال درهم ولا دينار، ثم يقمه بردائه ويرش فيه من الماء ويصلي فيه ركعتين.

عندما كان الناس هكذا لم تكن الحياة معقدة، ولم تكن تحتاج إلى كثير من الروتين، وكان العدل سائداً فيها، وكل الناس على رضاً إلا من انحرف عن هذا المنهج فهو الذي يجد نزعة الغضب في نفسه، أما من كان مستقيماً على هذا المنهج الصحيح الذي لا يرضي الله سواه فلا يمكن أن يجد غضباً في نفسه؛ لأن جميع حقوقه قد أديت إليه، ولذلك قال علي رضي الله عنه للخوارج: إن لكم علينا ثلاثاً: أن لا نبدأكم بقتال، وأن لا نمنعكم مساجدنا ما صليتم إلى قبلتنا، وأن لا نمنعكم فيئاً من بيت مالنا، ما كانت أيديكم معنا. هذه الحقوق الثلاثة مؤداة حتى إلى الخوارج الذين خرجوا عليه وكفروه، ولما سئل عنهم قيل: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، هذا العدل الذي جعل أمير المؤمنين يصدر منه هذا القول هو أيضاً الذي حمل صاحبه عثمان بن عفان عندما كان محاصراً في الدار وقد قطع الناس عنه الإمدادات والماء وهو محصور لا يصل إليه من الماء في صيامه إلا ما تحمله أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وتوصله إليه، نجده يرتفع يوماً من شرفة داره فيطلع على الناس، فيخاطبه رجل فيقول: يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام بدعة، وهم يصلون أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم، فهذا تأدب بأدب القرآن الذي أدبنا الله به في كتابه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، هؤلاء القوم الذين شنئوه وقاتلوه وظلموه وحاصروه في الشهر الحرام في البلد الحرام، مع ذلك لم يحمله هذا على ألا يكون عدلاً في الحكم عليهم، وتوجيه الخطاب إليهم، بل كان في كل ذلك ملتزماً بهذا المنهج الصحيح.

نجد أن هذه الأمة بعد هذا العصر بدأت بالتدريج في الابتعاد شيئاً فشيئاً في جمهورها وأكثرها، ولكن الله تعهد بأن لا تنحرف هذه الأمة بكاملها، بل لا بد أن تبقى منها طائفة قائمةً على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله، كما ثبت ذلك وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ثمانية عشرة من أصحابه، لكن بدأ هذا الانحراف بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومن بداياته قضية التخصصات، فمثلاً عندما تقرءون في منظومة ابن عاشور في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك، تقولون: هل كان مالك غير مرضي في الاعتقاد والعمل؟ أو كان الجنيد غير مرضي في الاعتقاد والفقه؟ أو كان الأشعري غير مرضي في الفقه والعمل؟ يأتي هذا السؤال عابراً ولكنه لا يجد جواباً، لماذا لا يقول: في عقد مالك ، وفقه مالك ، وفي طريقة الإمام مالك مثلاً؟ أليس مالك مرضياً في كل ذلك؟ بلى، ولكن المشكلة هنا هي مشكلة التخصص، أن الناس عندما بدأت التخصصات، وانبهروا بالحضارات، رجعوا يطبقون هذا على أسلافهم، فنقلوا واقعهم الذي يعيشونه إلى ماضيهم الذي قد مر بسلام، وفهموا ماضيهم وتاريخهم من خلال نظرتهم الضيقة إلى واقعهم الذي يعيشونه، ينظرون من زاوية أنفسهم فيطبقون ذلك على من مضى، وهذا من جنس تفسير الرؤى والأحلام، فقد جاء رجل إلى محمد بن سيرين رحمه الله، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، ولا أتمارى في ذلك، ولكنني رأيته أسود، فقال ابن سيرين : إن السواد الذي رأيت في عينك أنت وليس في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله بمثابة من ينظر من نظارات سوداء، فكلما وقع عليه نظره سيكون أسود بالنسبة إليه، فبسبب ابتداع وقع هو فيه اختل ميزان نظره، فكان ينظر إلى الأشياء على أنها سوداء، لكن لو جاءت الصقالة إلى قلبه لرأى الأشياء على حقيقتها.

هكذا جاءت هذه التخصصات المتباينة، فانشغل بعض الناس في التركيز على مجال الاعتقاد فقط، وانشغل آخرون في التركيز على المجال العلمي الفكري فقط، وانشغل آخرون بالمجال العملي فقط، وقل من يجمع بين هذه الجوانب المختلفة في العصور المتأخرة، فلما رأى الناس ذلك ظنوا أنه من المستحيل أن يكون من سبق قد جمعوا كل هذه التخصصات، وما ذلك إلا لضيق باعهم؛ ولأنهم ما رأوا هذا في حياتهم، فظنوا أن السابقين لا يمكن أن يجمعوا بين هذه التخصصات المختلفة، والواقع خلاف ذلك، فالتعقيد الذي حصل، والشروط التي اشترطها كثير من الناس في تحصيل العلوم مثلاً، وهي جانب من هذه الجوانب لم تكن موجودةً، ولم يكن الناس بحاجة إليها، ولنأخذ علماً من هذه العلوم وهو علم التوحيد، هذا العلم أصبح كثير من الناس ينفرون منه، ويظنونه من العلوم المعقدة، ويتوقعون صعوبةً فيه ومزالق ومشكلات لا حصر لها، وما سبب ذلك إلا ما نشأ من التخصصات والتركيز على زاوية محددة، فالتوحيد له معنيان: معنىً أعم، ومعنىً أخص، أما المعنى الأعم فهو المشروط على كل مسلم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره، هذه الأمور التي يشترط على كل مسلم أن يؤمن بها إيماناً إجمالياً، ولا يشترط في ذلك التفصيل، لا يشترط أن يعد الشخص صفات الباري سبحانه وتعالى، ولا يشترط أن يعد ما يتصف به الأنبياء من الصفات، ولا يشترط أن يعد ما يتصف به الملائكة من الصفات، ولا يشترط أن يدرك رد الشبهات المتعلقة بالقدر، ولا يشترط أن يدرك تفاصيل أمور القيامة ومشاهدها، إنما يشترط الإيمان بذلك إجمالاً، ودليل ذلك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )، ولم يفصل له في هذه الأمور، ولم يكن يفصل ذلك لمن يدخل الإسلام في بداية عهده، بل ثبت في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت قتال، فقال: يا رسول الله! أسلم وأقاتل أو أقاتل فأسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً ).

هذا الرجل لم ينشغل بالتفاصيل في أركان الإيمان الستة، ولم يشتغل بعد صفات الباري سبحانه وتعالى وتتبعها، ولم يجلسه الرسول صلى الله عليه وسلم عن المواجهة وجعله في الصف حتى يعد له كل ما جاء به تفصيلاً، وإنما آمن إجمالاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق به وكفاه هذا، فدخل الجنة.

السبب الذي حمل الناس على تأويل بعض الصفات، وحصرها في عدد محدد هو: أنهم شق عليهم تتبعها وعدها، وطال عليهم ذلك وكثر، فشق عليهم ذلك، فبحثوا عن التسهيل والتقليل، فأعادوها إلى عدد محصور يحفظونه، وجعلوا الاعتقاد بذلك مادةً جافةً خارجةً عن طور الإيمانيات ومحبة الله تعالى، والاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل المقرب من الله، إلى أن تكون مادةً تحفظ يحفظها الأتقياء ويحفظها الأشقياء، يحفظها البررة كما يحفظها الفجرة، والواقع ليس كذلك، فهذه المادة ينبغي أن تسمى مادة الإيمان، وينبغي أن يتفاوت الناس فيها بحسب إيمانهم لا بحسب علمهم، بحسب قوة الإيمان يكون الاعتقاد صحيحاً، لا بحسب كثرة المعلومات، وكثرة النصوص التي يحفظها الشخص وكثرة مروياته؛ ولذلك نجد سلفنا الصالح الذين كتبوا في هذا المجال ألف كثير منهم الكتب تحت عنوان الإيمان، مثلاً تجدون كتاب الإيمان لـأبي خيثمة زهير بن حرب شيخ مسلم بن الحجاج ، وتجدون كتاب الإيمان لـأبي بكر بن أبي شيبة مؤلف المصنف شيخ البخاري و مسلم ، وتجدون أصول الإيمان لـأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وتلميذ سفيان بن عيينة ، وتجدون كتاب الإيمان للحافظ ابن منده ، تجدون كثيراً من هؤلاء السلف الذين ألفوا في هذا المجال يضعونها تحت باب الإيمان، ويدخلون فيها الرقائق والمواعظ، ونجد كثيراً منهم يكتب في ذلك مثل كتاب العظمة لـأبي الشيخ الأصفهاني ، ومثل كتاب الرؤية للإمام الدارقطني ، ومثل كتاب الأسماء والصفات للحافظ البيهقي وغير ذلك، تجدون هذه النصوص العقدية مربوطةً بالرقائق والأمور المقربة من الله سبحانه وتعالى، والتي تزيد في الإيمان ولا تزيد الصلف، ولا تجعل الشخص منفصماً في شخصيته، يقرأ هذه المادة ويحفظها على أنها نصوص جافة غير مؤثرة، فلا يتأثر بها بل يحفظها فقط، إذاً هذا هو الإطلاق الأول للتوحيد.