مصدر عزة المسلم [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله فطر الإنسان على حب العزة، فهو يسعى للوصول إليها بشتى الطرق وبكل الوسائل، لكن هذه العزة لها أسباب موصلة إليها، ولا تنال بدونها، وكثير من الناس يبحث عنها في غير محلها، ويطلبها في غير متطلبها، فجمهور الطالبين للعزة يبغونها في أمور الدنيا الفانية، بما فيها من سلطان ووسائل قوة عاتية، ولما فيها كذلك من ملك وكثرة وثروة، وغير ذلك، وهذه كلها ليست أسباباً للعزة، وقد بين الله ذلك في كتابه نصاً بقوله: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا [النساء:139].

سبيل نيل العزة

فالعزة كلها لله سبحانه وتعالى، وإنما ينال المخلوق العزة بالاتصال بالخالق سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده، ولهذا قال الله تعالى: وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فالمنافقون كانوا يظنون أن الفقراء من المهاجرين الذين ليس لهم وطن ولا مال، وليسوا في ديارهم وقد أخرجهم أحب الناس إليهم وأولاهم بهم، ليس لهم حق في العزة، ولذلك قالوا في غزوة بني المصطلق: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فيظنون أن هؤلاء الفقراء الذين امتدحهم الله بالفقر، وأثنى عليهم في كتابه ليس لهم ملجأ وليست لهم عزة، ولا يمكن إلا أن يُخرجوا من هذه المدينة بعزة المنافقين، الذين لهم المال والأولاد والمكانة الاجتماعية، لكن الله سبحانه وتعالى بدد هذا الرأي ورد زاعميه وأبطله بالكلية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من المهاجرين وقد خيّره الله بين أن يكون نبياً ملكاً وأن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وكان يسكن في حجرٍ لو قام الرجل للامست يده سقفها، وينام على حصير يؤثر في جنبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا استيقظ إذا أثر العيدان في أضلعه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويمكث ثلاثة أشهر تباعاً لا توقد في بيوته نار، ويجتمع على عداوته أهل الأرض جميعاً، فيرد الله كيدهم في نحورهم، ولا ينالون منه أي نيل، وينال هو ما كتبه الله له وما تعهد له به من النصرة والتمكين.

إن رأي المنافقين رأي داحض، وقد عبروا عنه في عدة مواقف، فعندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بين لابتي المدينة، وهم نفر قليل لا يتجاوزون ألفاً وخمسمائة رجل، وليس لهم أي مدد خارجي، وقد جاءهم الكفار من أهل جزيرة العرب من المشركين من فوقهم، وجاء اليهود من أسفل منهم، ووصف الله ذلك الموقف بالوصف العظيم؛ إذ قال: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، عبر المنافقون عن هذا الموقف فقالوا فيما حكى الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، فقالوا: يزعم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، فلم تمض ست سنوات حتى فتح الله كنوز كسرى وقيصر على أولئك الفقراء المحصورين في المدينة، وأنفقت في سبيل الله، فعلم أن زعم المنافقين داحض باطل، وأن ما كانوا يتوقعونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لن يعودوا أبداً، ولن تكون لهم أية دولة في هذه الأرض، هو الزعم الباطل وهو ظن السوء، وقد عبروا عن ذلك أيضاً في موقعة أخرى عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو اليهود في خيبر، وقد جمع اليهود كل قواهم، وناصرهم مشركو العرب، ونصارى الشام، واجتمع عليهم من المال والكراع والسلاح فوق ما كانوا يتوقعون، وملئوا حصونهم بأنواع الأزواد والتجارات، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في ألف وخمسمائة ومقابل وهو يركب حماراً، فقال المنافقون: أتظنون أن محمداً يعود إليكم، تالله لن يعود إليكم بعد عامه هذا، وليقتلنهم اليهود قتل عادٍ وإرم، فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]، وقد بين الله هذا الظن فيما حكى عنه في قوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12].

عزة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقد كتب الله العزة لرسله أجمعين، وقفّى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتب له العزة، وكتب المذلة والصغار على كل من خالف أمره، ونصره بالرعب مسيرة شهر وترك ذلك النصر لأتباعه، إن هذه العزة التي يبغيها الناس ويلتمسونها، إنما تبتغى بالتذلل إلى الله سبحانه وتعالى، والخضوع بين يديه، وبأداء عبادته على وفق ما شرع، وباتباع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، ولذلك فلا شك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب القبول في الناس لأولئك الفقراء المساكين الذين لا يملكون شيئاً، وليس لهم ناصر.

فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها اليوم يود أي إنسان منهم لو رأى ثوباً قد لبسه بلال بن رباح ، أو عمار بن ياسر ، بمجرد رؤية شيءٍ قد لامست تلك الأجساد الطاهرة يفرح المؤمنون؛ لأن الله كتب في قلوبهم المحبة لأولئك الناصرين لله ورسوله، الذين جعل الله لهم العزة الباقية الخالدة، وما تشهدونه في قلوبكم من محبة أولئك النفر لا يساوي شيئاً مما أعد الله لهم من العزة في الدار الآخرة، فقد ذكروا في الملأ الأعلى قبل أن يذكروا في الملأ الأدنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي به جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).

إن هذه العزة التي نشهدها في قلوبنا لأولئك النفر الذين ضحوا وبذلوا في سبيل الله، ولو كانت تضحيتهم قليلة يسيرة فلا يمكن أن تقارن بشيءٍ مما يأتي من بعد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، مجرد مد من الشعير ينفقه أحد أولئك الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل الله ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، لو أنفق أحد ممن يأتي بعدهم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ ذلك المد عند الله، فميزان الله ليس مثل موازين أهل الدنيا الذين ينظرون إلى الماديات الفانية، وينظرون إلى الغنائم الفائدة، كما قال أحد المنافقين: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، عندما جاء رجل من الأنصار لا يملك إلا مداً من شعير، جاء يحمله في طرف ثوبه، فقال المنافقون: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، فالله سبحانه وتعالى هو الغني، وإذا أمر عباده بالإنفاق فإنما ذلك ليقدموا لأنفسهم، وهو الذي يضاعف لمن يشاء، وقد بين مثلاً غريباً في المضاعفة في الحبة الواحدة تزرع في الأرض، فتخرج منها سنبلة في كل سنبلة سبعمائة حبة، وتزداد السنابل إلى أن تصل إلى سبعمائة سنبلة وهكذا، فهذا التضعيف هو مثال فقط يفهم به تضعيف الله سبحانه وتعالى لأعمال من ارتضى خدمتهم وعبادتهم.

إن الله سبحانه وتعالى غني عن كل ما يقدمه عباده: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فكل ما يقدمه العباد من الطاعات لا يحتاج الله إليه في شيء من نصرته، فقد قال في كتابه في ذلك: وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، ولهذا فإن الناس لا يثابون على قدر الغلاء والبلاء، وإنما يثابون على قدر ما وقر في القلوب من الإيمان واستقر فيها من التقوى، وأبرك غزوة وأكثرها أثراً هي غزوة الحديبية التي لم يقع فيها قتال ولم يُنفق فيها كثير مال، ولا استشهد فيها أحد في سبيل الله، لكن علم الله من قلوب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم الصدق والتقوى، فأنزل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فهم يسيرون على الأرض قد غفرت ذنوبهم، لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، ولن يلج أحد بايع تحت الشجرة النار، ولذلك قال: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:18-19]، فأولئك القوم علم الله من قلوبهم الصدق والإخلاص، فعجل لهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، وعجّل لهم الفتح والتمكين؛ لأنهم تبايعوا مع الله عز وجل فأربح الله بيعتهم، وعندما انتهت البيعة قال جابر : نظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم خير أهل الأرض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ).

فقد عاشوا بهذه العزة، من عاش فوق الأرض، يسير على قدميه وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويعلم أنه لا يحجب عن الله حتى ولو زنى ولو سرق ولو شرب الخمر، فلا يقع ذنبه إلا مغفوراً، إنها العزة التي ما فوقها عزة، إن أولئك القوم أدركوا أن ما يتنافس فيه الناس من شأن هذه الدنيا فانٍ لا بقاء له، فلذلك بايعوا على الموت، علموا أن الذي يستحق أن يتنافس فيه هو الخالد الباقي الذي لا انقطاع له، إن الإنسان لو نال ملك شداد بن عاد على هذه الأرض، وعاش ما عاش نوح عليها لا بد أن يكون مصيره إلى الزوال، ولا بد كذلك لو قدر بقاؤه مدة طويلة كإبليس أن يمل البقاء، فهذه الدنيا مملولة وكل ما فيها من الملذات منقطع.

أما نعيم الجنة فإنه لا يزول ولا ينقطع، ولا يظل شيء مما فيها : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فلا يملون شيئاً مما فيها بحال من الأحوال، ولا ينقطع شيء من ملذاتها، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها، تستمر ولو جاء بعدها مليارات الملذات، كل ملذة تبقى ردفاً للأخرى دون انقطاع، فلا ينقطع شيء من نعيمها.

التصور الصحيح لسبيل العزة

إن أولئك القوم حين صدقوا بهذا، وشربته قلوبهم وكتب الله الإيمان في قلوبهم، عرفوا أن ما يتنافس الناس فيه لا يساوي شيئاً، وأن الذي ينشغلون به هم الذين ينشغلون بالتوافه الفانية، فرأواهم على قدر هممهم، فمن كان همه مقصوراً على هذه الحياة الدنيا وزخارفها الفانية، فإن همته نازلة ضعيفة، إنما يهتم بالحضيض المملول الزائل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يعرف قيمة ما يتنافس الناس عليه في الدنيا، فلينظر إلى القمامات فسيجد نماذج كل ما يتنافس الناس عليه، يتنافس الناس على المباني الشاهقة وستحطم بعد سنوات قليلة، وتجد حطامها في القمامات، ويتنافسون على الملابس الوثيرة والفرش الجميلة، وستجد بقاياها مرمية في القمامات، يتنافسون على المآكل والمشارب وغير ذلك، وستجد آثارها مرمية في القمامات، يتنافسون على السيارات أو الطائرات أو غير ذلك وستجد بقاياها مرمية في القمامات، كل الدنيا هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً إلا وضعه)، لهذا احتجنا إلى أن نراجع قليلاً هذا الأصل من أصول التصور، وهو أصل مبتغى العزة من أين تطلب؟ وما هي وسيلة الوصول إليها؟

إن الإنسان أول ما ينبغي أن يتصوره أنه عبد مملوك لله، وأنه موظف في مهمة محددة وأن عليه الرقابة التي لا يفوتها شيء، لا يمكن أن يخفي شيئاً من شئون نفسه عن الله، وأن له أمداً محدداً ووقتاً محدداً، إذا لم يؤدّ فيه المهمة فلا يمكنه أن يتداركها أبداً، إذا عرف الإنسان هذا عرف أنه هنا ما جاء إلى هذه الحياة الدنيا ليعيش أبداً سرمداً، ولا جاءها ليبقى أبد الآبدين، ولا جاءها لتكون داره الباقية، إنما جاءها ليجعلها زاداً يتزود به في رحلته إلى الدار الآخرة، ومن هنا سيحرص على ما هنالك وعلى ما أمامه، وسيعامل هذه الدنيا معاملته لشجرة يقيل تحتها في سفره ينتظر زوال الشمس أو دلوكها، ليخرج في سفره الطويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، فالدنيا هكذا مثل ظل الشجرة، يستظل تحته الإنسان ليقيه حر الهاجرة، لكنه وهو مسافر لا يمكن أن يركن إليه، ويستقر فيه، بل لا بد أن يقطع المسافة في الوقت المحدد.

فالعزة كلها لله سبحانه وتعالى، وإنما ينال المخلوق العزة بالاتصال بالخالق سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده، ولهذا قال الله تعالى: وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فالمنافقون كانوا يظنون أن الفقراء من المهاجرين الذين ليس لهم وطن ولا مال، وليسوا في ديارهم وقد أخرجهم أحب الناس إليهم وأولاهم بهم، ليس لهم حق في العزة، ولذلك قالوا في غزوة بني المصطلق: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فيظنون أن هؤلاء الفقراء الذين امتدحهم الله بالفقر، وأثنى عليهم في كتابه ليس لهم ملجأ وليست لهم عزة، ولا يمكن إلا أن يُخرجوا من هذه المدينة بعزة المنافقين، الذين لهم المال والأولاد والمكانة الاجتماعية، لكن الله سبحانه وتعالى بدد هذا الرأي ورد زاعميه وأبطله بالكلية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من المهاجرين وقد خيّره الله بين أن يكون نبياً ملكاً وأن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وكان يسكن في حجرٍ لو قام الرجل للامست يده سقفها، وينام على حصير يؤثر في جنبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا استيقظ إذا أثر العيدان في أضلعه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويمكث ثلاثة أشهر تباعاً لا توقد في بيوته نار، ويجتمع على عداوته أهل الأرض جميعاً، فيرد الله كيدهم في نحورهم، ولا ينالون منه أي نيل، وينال هو ما كتبه الله له وما تعهد له به من النصرة والتمكين.

إن رأي المنافقين رأي داحض، وقد عبروا عنه في عدة مواقف، فعندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بين لابتي المدينة، وهم نفر قليل لا يتجاوزون ألفاً وخمسمائة رجل، وليس لهم أي مدد خارجي، وقد جاءهم الكفار من أهل جزيرة العرب من المشركين من فوقهم، وجاء اليهود من أسفل منهم، ووصف الله ذلك الموقف بالوصف العظيم؛ إذ قال: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، عبر المنافقون عن هذا الموقف فقالوا فيما حكى الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، فقالوا: يزعم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، فلم تمض ست سنوات حتى فتح الله كنوز كسرى وقيصر على أولئك الفقراء المحصورين في المدينة، وأنفقت في سبيل الله، فعلم أن زعم المنافقين داحض باطل، وأن ما كانوا يتوقعونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لن يعودوا أبداً، ولن تكون لهم أية دولة في هذه الأرض، هو الزعم الباطل وهو ظن السوء، وقد عبروا عن ذلك أيضاً في موقعة أخرى عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو اليهود في خيبر، وقد جمع اليهود كل قواهم، وناصرهم مشركو العرب، ونصارى الشام، واجتمع عليهم من المال والكراع والسلاح فوق ما كانوا يتوقعون، وملئوا حصونهم بأنواع الأزواد والتجارات، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في ألف وخمسمائة ومقابل وهو يركب حماراً، فقال المنافقون: أتظنون أن محمداً يعود إليكم، تالله لن يعود إليكم بعد عامه هذا، وليقتلنهم اليهود قتل عادٍ وإرم، فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]، وقد بين الله هذا الظن فيما حكى عنه في قوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12].

فقد كتب الله العزة لرسله أجمعين، وقفّى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتب له العزة، وكتب المذلة والصغار على كل من خالف أمره، ونصره بالرعب مسيرة شهر وترك ذلك النصر لأتباعه، إن هذه العزة التي يبغيها الناس ويلتمسونها، إنما تبتغى بالتذلل إلى الله سبحانه وتعالى، والخضوع بين يديه، وبأداء عبادته على وفق ما شرع، وباتباع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، ولذلك فلا شك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب القبول في الناس لأولئك الفقراء المساكين الذين لا يملكون شيئاً، وليس لهم ناصر.

فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها اليوم يود أي إنسان منهم لو رأى ثوباً قد لبسه بلال بن رباح ، أو عمار بن ياسر ، بمجرد رؤية شيءٍ قد لامست تلك الأجساد الطاهرة يفرح المؤمنون؛ لأن الله كتب في قلوبهم المحبة لأولئك الناصرين لله ورسوله، الذين جعل الله لهم العزة الباقية الخالدة، وما تشهدونه في قلوبكم من محبة أولئك النفر لا يساوي شيئاً مما أعد الله لهم من العزة في الدار الآخرة، فقد ذكروا في الملأ الأعلى قبل أن يذكروا في الملأ الأدنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي به جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).

إن هذه العزة التي نشهدها في قلوبنا لأولئك النفر الذين ضحوا وبذلوا في سبيل الله، ولو كانت تضحيتهم قليلة يسيرة فلا يمكن أن تقارن بشيءٍ مما يأتي من بعد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، مجرد مد من الشعير ينفقه أحد أولئك الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل الله ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، لو أنفق أحد ممن يأتي بعدهم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ ذلك المد عند الله، فميزان الله ليس مثل موازين أهل الدنيا الذين ينظرون إلى الماديات الفانية، وينظرون إلى الغنائم الفائدة، كما قال أحد المنافقين: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، عندما جاء رجل من الأنصار لا يملك إلا مداً من شعير، جاء يحمله في طرف ثوبه، فقال المنافقون: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، فالله سبحانه وتعالى هو الغني، وإذا أمر عباده بالإنفاق فإنما ذلك ليقدموا لأنفسهم، وهو الذي يضاعف لمن يشاء، وقد بين مثلاً غريباً في المضاعفة في الحبة الواحدة تزرع في الأرض، فتخرج منها سنبلة في كل سنبلة سبعمائة حبة، وتزداد السنابل إلى أن تصل إلى سبعمائة سنبلة وهكذا، فهذا التضعيف هو مثال فقط يفهم به تضعيف الله سبحانه وتعالى لأعمال من ارتضى خدمتهم وعبادتهم.

إن الله سبحانه وتعالى غني عن كل ما يقدمه عباده: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فكل ما يقدمه العباد من الطاعات لا يحتاج الله إليه في شيء من نصرته، فقد قال في كتابه في ذلك: وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، ولهذا فإن الناس لا يثابون على قدر الغلاء والبلاء، وإنما يثابون على قدر ما وقر في القلوب من الإيمان واستقر فيها من التقوى، وأبرك غزوة وأكثرها أثراً هي غزوة الحديبية التي لم يقع فيها قتال ولم يُنفق فيها كثير مال، ولا استشهد فيها أحد في سبيل الله، لكن علم الله من قلوب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم الصدق والتقوى، فأنزل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فهم يسيرون على الأرض قد غفرت ذنوبهم، لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، ولن يلج أحد بايع تحت الشجرة النار، ولذلك قال: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:18-19]، فأولئك القوم علم الله من قلوبهم الصدق والإخلاص، فعجل لهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، وعجّل لهم الفتح والتمكين؛ لأنهم تبايعوا مع الله عز وجل فأربح الله بيعتهم، وعندما انتهت البيعة قال جابر : نظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم خير أهل الأرض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ).

فقد عاشوا بهذه العزة، من عاش فوق الأرض، يسير على قدميه وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويعلم أنه لا يحجب عن الله حتى ولو زنى ولو سرق ولو شرب الخمر، فلا يقع ذنبه إلا مغفوراً، إنها العزة التي ما فوقها عزة، إن أولئك القوم أدركوا أن ما يتنافس فيه الناس من شأن هذه الدنيا فانٍ لا بقاء له، فلذلك بايعوا على الموت، علموا أن الذي يستحق أن يتنافس فيه هو الخالد الباقي الذي لا انقطاع له، إن الإنسان لو نال ملك شداد بن عاد على هذه الأرض، وعاش ما عاش نوح عليها لا بد أن يكون مصيره إلى الزوال، ولا بد كذلك لو قدر بقاؤه مدة طويلة كإبليس أن يمل البقاء، فهذه الدنيا مملولة وكل ما فيها من الملذات منقطع.

أما نعيم الجنة فإنه لا يزول ولا ينقطع، ولا يظل شيء مما فيها : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فلا يملون شيئاً مما فيها بحال من الأحوال، ولا ينقطع شيء من ملذاتها، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها، تستمر ولو جاء بعدها مليارات الملذات، كل ملذة تبقى ردفاً للأخرى دون انقطاع، فلا ينقطع شيء من نعيمها.

إن أولئك القوم حين صدقوا بهذا، وشربته قلوبهم وكتب الله الإيمان في قلوبهم، عرفوا أن ما يتنافس الناس فيه لا يساوي شيئاً، وأن الذي ينشغلون به هم الذين ينشغلون بالتوافه الفانية، فرأواهم على قدر هممهم، فمن كان همه مقصوراً على هذه الحياة الدنيا وزخارفها الفانية، فإن همته نازلة ضعيفة، إنما يهتم بالحضيض المملول الزائل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يعرف قيمة ما يتنافس الناس عليه في الدنيا، فلينظر إلى القمامات فسيجد نماذج كل ما يتنافس الناس عليه، يتنافس الناس على المباني الشاهقة وستحطم بعد سنوات قليلة، وتجد حطامها في القمامات، ويتنافسون على الملابس الوثيرة والفرش الجميلة، وستجد بقاياها مرمية في القمامات، يتنافسون على المآكل والمشارب وغير ذلك، وستجد آثارها مرمية في القمامات، يتنافسون على السيارات أو الطائرات أو غير ذلك وستجد بقاياها مرمية في القمامات، كل الدنيا هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً إلا وضعه)، لهذا احتجنا إلى أن نراجع قليلاً هذا الأصل من أصول التصور، وهو أصل مبتغى العزة من أين تطلب؟ وما هي وسيلة الوصول إليها؟

إن الإنسان أول ما ينبغي أن يتصوره أنه عبد مملوك لله، وأنه موظف في مهمة محددة وأن عليه الرقابة التي لا يفوتها شيء، لا يمكن أن يخفي شيئاً من شئون نفسه عن الله، وأن له أمداً محدداً ووقتاً محدداً، إذا لم يؤدّ فيه المهمة فلا يمكنه أن يتداركها أبداً، إذا عرف الإنسان هذا عرف أنه هنا ما جاء إلى هذه الحياة الدنيا ليعيش أبداً سرمداً، ولا جاءها ليبقى أبد الآبدين، ولا جاءها لتكون داره الباقية، إنما جاءها ليجعلها زاداً يتزود به في رحلته إلى الدار الآخرة، ومن هنا سيحرص على ما هنالك وعلى ما أمامه، وسيعامل هذه الدنيا معاملته لشجرة يقيل تحتها في سفره ينتظر زوال الشمس أو دلوكها، ليخرج في سفره الطويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، فالدنيا هكذا مثل ظل الشجرة، يستظل تحته الإنسان ليقيه حر الهاجرة، لكنه وهو مسافر لا يمكن أن يركن إليه، ويستقر فيه، بل لا بد أن يقطع المسافة في الوقت المحدد.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع