أرشيف المقالات

من البعثة إلى الهجرة (8)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الأغصان الندية
شرح الخلاصة البهية
في ترتيب أحداث السيرة النبوية
من البعثة إلى الهجرة (8)

19 - فأمَر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينئذٍ أصحابَه بالهجرة إلى المدينة، وأقام - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينتظر الإذن بالهجرة، وحبسَ معه أبا بكر وعليًّا - رضي الله عنهما.

الشرح:
رأى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - دار الهجرة في رؤيةٍ مناميَّة أرَاها الله إيَّاه؛ فكان ذلك وحيًا من الله، وإيذانًا له - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن يأمر أصحابه بالهجرة لبدء مرحلةٍ جديدة من الجهاد والدَّعوة في سبيل الله؛ عسى أن تكون أفضلَ من سابقتها.
 
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((قد أُرِيتُ دارَ هجرتكم؛ رأيت سبْخةً ذات نخلٍ بين لابَتيْن)) - وهما الحرَّتان - فهاجر مَن هاجر قبل المدينة، ورجع عامَّةُ مَن كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهَّز أبو بكرٍ قبل المدينة، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((على رِسْلك، فإنِّي أرجو أن يُؤْذن لي))، فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: ((نعم))، فحبس أبو بكرٍ نَفْسه على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِيَصْحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط أربعة أشهرٍ[1].
 
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((رأيتُ في المنام أني أُهاجر من مكَّة إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهب وَهْلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يَثْرب))[2].
 
بداية الرحلة إلى المدينة:
بدأ الصحابةُ - رضوان الله عليهم - في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنوَّرة، حيث علموا أن ذِكْر النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الرؤيا لهم، إذْنٌ منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالخروج[3]فخرجوا.
 
فكان أوَّل مَن خرج مصعب بن عميرٍ، وابن أمِّ مكتومٍ، وبلالٌ، وسعد، وعمَّار بن ياسرٍ، ثم خرج عمر بن الخطَّاب في عشرين من أصحاب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -[4].
 
وكان من أوائل المهاجرين أيضًا أبو سلمة - رضي الله عنه - وكان لخروجه قصَّةٌ عجيبة تحكيها السيدة أمُّ سلمة - رضي الله عنها - حيث تقول: لما أجمع أبو سلمة الخروجَ إلى المدينة، رحَّل لي بعيره، ثم حملَنِي عليه، وحمل معي ابني سلمة بنَ أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقودُ بي بعيرَه، فلما رأته رجالُ بني المُغيرَة بن عبدالله بن عمر بن مَخْزُوم، قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلَبْتَنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنَزَعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد، رهْط أبي سَلمَة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذْ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بنيَّ سَلمَة بينهم، حتَّى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المُغيرَة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
 
قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كلَّ غَدَاة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أُمْسِي، سنةً أو قريبًا منها، حتى مرَّ بي رجلٌ من بني عمِّي، أحدُ بني المُغيرَة، فرأى ما بي، فرَحِمَني، فقال لبني المُغِيرَة: ألا تُخْرجون هذه المسكينة! فرَّقْتُم بينها وبين زوجها وبين وَلدها! قالت: فقالوا لي: الحَقي بزوجك إن شئتِ، قالت: وردَّ بنو عبدالأسد إليَّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلتُ بَعيري، ثم أخذت ابني، فوضعتُه في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خَلْقِ الله، قالت: فقلت: أَتبلَّغ بمن لقيت حتى أقْدَم على زوجي؛ حتى إذا كنت بالتَّنْعيم، لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبدالدار؛ فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أميَّة؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا الله، وبُنَيَّ هذا، قال: والله ما لكِ من مَتْرك، فأخذ بخطام البعير، وانطلق معي يَهْوِى بي، فوالله ما صحبتُ رجلاً من العرب قطُّ، أرى أنه كان أكْرَمَ منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عَنِّي، حتى إذا نزلتَ استأخر ببعيري، فحطَّ عنه، ثم قيَّدَه في الشَّجرة، ثم تنحَّى إلى شجرةٍ، فاضْطَجع تحتها، فإذا دنا الرَّواح قام إلى بعيري فقَدَّمه فَرَحَلَه، ثم استأخر عَنِّي، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويتُ على بعيري أتى، فأخذ بخطامه، فقاده، حتى يَنْزل بي، فلم يزَلْ يصنع ذلك بي حتَّى أَقْدمَني المدينة، فلمَّا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بِقباء، قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة نازلاً بها - فادْخُلِيها على بركة الله، ثم انصرفَ راجعًا إلى مكَّة، قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهلَ بيتٍ في الإسلام أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمَة، وما رأيت صاحبًا قطُّ كان أكرم من عثمان بن طلحة[5].
 
وتأخَّر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحبس معه أبا بكر - كما تقدَّم - وعليًّا أيضًا؛ ليؤدِّي الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليس بمكَّة أحدٌ عنده شيء يُخشى عليه إلاَّ وضَعَه عنده؛ لِمَا يعلم من صِدْقه وأمانتِه - صلَّى الله عليه وسلَّم[6].
 
20 - واجتمعَتْ قريشٌ في دار النَّدوة للمُشاورة في أمر النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأجمعوا على قتله، فنَزَل جبريلُ - عليه السَّلام - بالوحي من عند الله، فأخبره بذلك، وأذن الله له بالهجرة، فهاجر.

الشرح:
يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].



[1] صحيح: أخرجه البخاري (3905) كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198.


[2] صحيح: أخرجه مسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.


[3] ولذلك تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها - في الحديث لما قال لهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُرِيتُ دارَ هِجْرَتِكُمْ...))؛ تقول: فهاجر من هاجر قبل المدينة.


[4] صحيح: أخرجه البخاري (3924، 3925)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه إلى المدينة.


[5] أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" 2/44، بسند متصل صرَّح فيه بالتحديث، قال: حدثني أبي إسحاق ابن يسار، عن سلمة بن عبدالله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدَّتِه أم سلمة به، وسلمة بن عبدالله، قال عنه ابن حجر في "التقريب": مقبول، ووثقه ابن حبان.


[6] "سيرة ابن هشام" 2/55.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢