ماذا بعد الحج


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم حجاج بيت الله الحرام!

السلام عليكم يا وفد الله -سبحانه وتعالى- وضيوفه من خلقه، السلام عليكم يا من قضيتم مناسككم، وأنتم تستعدون للأوبة المقبولة إن شاء الله تعالى، وتسألون الله الرجوع القادم إلى هذا المكان بشغف.

السلام عليكم وأنتم في وادي منى المبارك الذي كان فيه أبوكم إبراهيم ، وكان فيه بعد ذلك نبيكم المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم، وىىرَّ فيه سبعون نبياً من أنبياء الله.

السلام عليكم في هذا الشهر المبارك، وفي هذا العيد الميمون، الذي هو عيد خامسة الدعائم.

لقد وفق الله سبحانه وتعالى من وفق لأداء شعائر الحج، وأداء هذه المناسك العظيمة، وقد رأيتم مناسككم، وكان أنبياء الله يسألون الله أن يريهم مناسكهم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:127-128].

قد وفق الله سبحانه وتعالى من وفق منكم، فبذل مالاً نفيساً ووقتاً ثميناً، وجزءاً لا بأس به من قوة جسمه ومن راحته، وبذل كذلك الغربة وتحمل أعباء السفر حتى أجاب دعوة الله سبحانه وتعالى، وهي لا شك مناسك محمودة، لكن ماذا بعدها؟

ماذا بعد الحج؟

هذا السؤال ينبغي أن يكون ماثلاً أمامنا جميعاً.

تذكر الطريق إلى الله

على كل إنسان منا أن يتذكر أنه سائر في طريقه إلى الله، وقد سار في هذه الرحلة المذكرة بالموت والانتقال إلى الدار الآخرة، وشاهد آثار الأنبياء، ورأى البيت العتيق الذي كان يصلي إليه وهو في مغارب الأرض، ورأى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، ورأى هذه الأماكن المشرفة التي يقرأ التنويه بها في كتاب الله، فلقد كنتم تقرءون في القرآن قول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97]؛ فوصلتم إلى البيت العتيق ورأيتموه، وكنتم تقرءون في القرآن قول الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:1-3]، فإذا هو أمامكم ترونه عياناً بياناً، وكنتم تقرءون في القرآن كذلك التنويه بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فرأيتم الدار والإيمان بأعينكم، كنتم تتمنون الوصول إلى هذه الأماكن فوصلتم إليها وهي لا شك نعمة عظيمة؛ لكنها ليست نهاية المشوار ولا نهاية الطريق؛ فأمامكم درب طويل، لا بد أن تفكروا فيه.

التفكر بالعقبات في الطريق إلى الله

إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال: ما انتفعت بشيء ما انتفعت بكلمة سمعتها من شيخ كبير أتاني وأنا ...، فقال لي: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر ... فكروا في هذه الكلمة: يا بني إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر ...، وقد قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد:11-12]، عقبات كبيرة في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى.

فطريق الجنة محفوف بالمكاره، قليل من الناس من حصلت لديه إرادة للتوبة، قليل من الناس من تاب وأناب، قليل من الناس التائبين من صدق في توبته، قليل من التائبين الصادقين من استطاع الاستقامة والاستمرار، قليل من الذين استقاموا من برز ووصل إلى الدرجات العلى، وأنتم جميعاً من ذوي الهمم العالية حيث قطعتم المسافات الشاسعة، وما رضيتم إلا بأقدس بقعة على وجه الكرة الأرضية التي تسكنونها، وما رضيتم إلا باتباع أفضل خلق الله، وأفضل من مشى على هذه الأرض؛ فلذلك أصبحتم من ذوي الهمم العالية، فلا بد ألا ترضوا باليسير.

إحداث التوبة النصوح

لا بد من الآن أن نحدث توبة نصوحة تجب ما قبلها، وهذه التوبة أمرنا الله بها جميعاً رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً؛ فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، أي تبقوا في الفلاح، شرط فيها الله سبحانه وتعالى أن تكون نصوحاً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]، فما معنى التوبة النصوح؟

إن التوبة معناها: الندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والسعي للخروج مما تلبس به فيما لا يرضي الله، والعزيمة المؤكدة ألا يعود إلى ذلك الذي عصى الله به مدة حياته، هذا أمر كبير وشاق، ولكنه سهل على من يسره الله عليه؛ فتعالوا بنا نحدث توبة نصوحة صادقة، تعالوا بنا في هذه الليلة العظيمة التي هي آخر ليالي الحج، ويمكن أن تكون آخر ليالي العمر، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الذين عاشوا إلى البارحة قد ماتوا في هذا اليوم، وأصبحوا من أهل الآخرة: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، وقدموا إلى ما قدموا، وفي كل يوم يذهب أضعافهم بعثاً إلى الله جل جلاله، فتعالوا بنا نحدث توبة نصوحاً، ولا بد أن يتذكر كل إنسان منا أنه فرط كثيراً في جنب الله، فرط في تعلم ما أمر الله بتعلمه، فرط في العمل بما تعلمه؛ وهناك أوقات كثيرة أنعم الله بها علينا ذهبت سدىً في غير طائل، وستعاد وترد: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]؛ فسنجدها جميعاً بين أيدينا، تعالوا بنا نمحو تلك الآثار السيئة التي علقت بالقلوب، وتلك الأدران الخبيثة التي لبست على البصائر، وتلك العيوب الشنيعة التي أحدثت ظلمة في الوجوه وقسوة في القلوب وجموداً في الدموع؛ فكل ذلك من آثار المعصية، لا أحد منا إلا وهو يتذكر أنه مقصر مفرط، ولا أحد منا إلا وهو يعلم أن عليه أن ينافس العابدين الزاهدين الذين يشغلون أوقاتهم بطاعة الله وعبادته.

إنكم جميعاً ترغبون بالقرب من الله سبحانه وتعالى، وترغبون بجوار محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا ترضون أن يكون أحد أدنى منكم باباً من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة يوم القيامة؛ لكن ذلك لا ينال إلا بالعمل والتضحية، والأمر ميسور والمجال مفتوح أمام المتسابقين الآن؛ فقد ناداكم ربكم جل جلاله إلى هذا السباق الذي لا تغني فيه الوساطة ولا الرشوة، ولا النسب ولا الحسب ولا الشهادة، لا يغني فيه إلا التقوى، قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، وناداكم جل جلاله بقوله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وبقوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وبقوله: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21].

فالآن وقت السباق، وتذكروا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تشد فيه الأحزمة، وهو الوقت الذي تتأهب فيه النفوس لمرضاة الله، فمن غفر له في حجته فقد فتح صفحةً جديدةً في التعامل مع الله جل جلاله؛ فلتبدأها يا عبد الله بخير، حاول أن تكون صفحة جديدة خيراً من الصفحة الماضية، حاول أن يكون عمرك الجديد الذي بدأته بعد رجعة عمراً مفيداً منجياً لك من عذاب الله، تذكروا قول الله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24]، تذكروا أن الذين ينجون يؤتون كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويفوزون فوزاً عظيماً يفرحون به فرحاً شديداً؛ فقد قال الله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:103-105].

استعدوا للتوبة النصوح؛ وليتذكر كل إنسان منا أنه أودع هذه الجوارح، وأودع هذه النفس، وأودع هذا العقل السليم، وأودع هذا البدن الصحيح المستقيم؛ فكلها نعم من عند الله وقد أنفقها في غير ما خلقت من أجله، تذكروا أن الأرض تضج إلى الله من معصية أهلها فوقها، وأنها هينة على الله بكل ما حوت إذا عصاه أهلها، ما أهون الأرض وأهلها جميعاً على الله إذا عصوه، تذكروا ما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار )، وفي رواية: ( قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه.

إن الله جل جلاله أهل لأن يهاب، وأهل لأن يرجى له الوقار، وقد قال نوح لقومه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً [نوح:13]، فالله أهل لأن يخاف منه، وأهل لأن يرجى، وأهل لأن يتذكر الإنسان عرضه عليه ووقوفه بين يديه.

إن علينا يا إخواني أن نعقد العزم ونحن هنا في هذا المكان المقدس الطاهر بالنية الصادقة ألا نعود إلى معصية الله ما عشنا.

تلمس آثار النفاق والتخلص منها

وعلينا أن نحاول أن نتلمس آثار النفاق وصفاته فينا، وأن نتخلص منها ما استطعنا؛ فالنفاق باقٍ في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهو أخفى من دبيب النمل في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالنفاق ينقسم إلى قسمين:

إلى نفاق عقدي، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان ويبطن الكفر، وإلى نفاق عملي: وهو أن يخلف الإنسان الله تعالى ما عاهده عليه، فقد عاهدكم الله عهداً مؤكداً، أكده في التوراة والإنجيل والقرآن، وأنتم تقرءونه جميعاً؛ لكن يا رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، ويا رب قارئ له وهو لا يظن أنه معني به، ويا رب قارئ له وهو لا يرفع به رأساً ولا يهتم به، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، والناس في هذه البيعة ينقسمون إلى قسمين: إلى صادقين ومنافقين؛ فالصادقون: هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].

إن كثيراً منا تمر به الأوقات التي يتعظ فيها، ويلين قلبه ويريد الخروج من معصيته، ولكن هناك الكثير ممن لا يتوب إلى الله، بل يجد نفسه ضعيفاً أمام الشهوة أو ضعيفاً أمام الشبهة، أو يأتي من الأوقات ما ينسى به عزائمه وعهوده، فيتراجع عما عقده على نفسه من العهود وقد أكدها تأكيداً بليغاً.

التفكر بالموت والعمل قبل حلوله

إن كثيراً من الشباب من ينتظر اللحظة التي يكون فيها من الصالحين الكبار، ومن أولياء الله المخلصين الصادقين، وكثير هم أولئك الذين كانوا يقولون: إذا بلغت عشرين سنة فسأكون من أولياء الله الكبار، ثم يأتي التسويف وطول الأمل فيقول: إذا بلغت خمساً وعشرين، ثم يأتي التسويف والأمل فيقول: إذا بلغت ثلاثين، ثم يأتي الموت فيقطع ذلك، وقد قال الحكيم:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا

يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا

سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

إنه حق لا محالة، وإننا نعلم أننا سائرون في ذلك الطريق، ورحم الله امرأً تذكر في نهاية رحلته نهايتها الحقيقية، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحج قبل موته بمدة يسيرة؛ فلما خرج من مكة وقف على جبل في شمالها يسمى ضجنان، فقال: لا إله إلا الله وحده، كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، وكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان؛ إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تجد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بدّ من ورده يوماً كما وردوا

فالذي أتى عمر بن الخطاب وأخذه أليس جديراً بنا أن نخافه؟ فقد قال زياد الأعجم في مرثيته للمغيرة بن المهلب بن أبي صفرة :

لله در منية فاتت به فلقد نراه يرد غرب الجامح

فنحن جميعاً ينتظرنا هذا الموت، ونحن على موعد مجهول معه، لكننا نعلم أنه آتٍ لا محالة، فعلينا أن نصدق في توبتنا، وأن نستغل فرصتنا بالرجوع من حجتنا.

الحرص على أن يكون من أهل الصلاح

وعلينا أن نكون من الصالحين، وقد يتساءل بعض الناس فيقول: كيف نكون من الصالحين؟ لا بد أن يرسم كل واحد منا خطة لنفسه يصل بها إلى رضوان الله عز وجل، ولا بد أن نجعل رضوان الله نصب أعيننا، ولا بد أن نجعله أعظم اهتماماتنا، وأن نحرص عليه؛ فإذا رضي الله عنكم فوالله لا يضركم ما فاتكم من شأن هذه الدنيا، وإذا لم يرضَ الله عنكم فوالله لا ينفعكم ما أحرزتم منها وحصلتم عليه.

فرضوان الله لا يعوضه شيء، ولا يمكن أن يسد شيء مسده، وإذا فقد فتعويضه مستحيل؛ فلذلك لا بد يا إخواني من أن نحرص على تحقيق رضوان الله، والله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، ومن صدق معه وأتاه مطمئناً راجياً راغباً، فإن الله سيرضى عنه؛ ولذلك قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

سبحان ربنا! ما أكرمه وأحلمه! إنه يناديكم جميعاً نداءً كريماً؛ فيقول جل جلاله وهو الغني عنكم وعما كسبتم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فقولوا جميعاً: لبيك ربنا وسعديك، لأنه نادانا هذا النداء الكريم، وهو أهل لأن يجاب نداؤه، ثم دعانا إليه فقال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:54-56]، فهذا الموقف عجيب جداً، وعظنا الله به، إذا حشر الناس وعرضوا على الله جل جلاله فسيندم جميعهم، فالمحسن يندم على ألا يكون زاد، والمسيء يندم على هضم إساءته: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ [الزمر:56].

التفكر في عظمة الله وكبريائه للبعد عن المعصية

أنتم الآن تعرفون كبرياء الله وعظمة الله وجلاله، لكن لا يدرك الإنسان كنه ذلك وحقيقته إلا عند العرض على الله جل جلاله، عندما ( يقبض الجبار السموات السبع والأرضين السبع بيمينه فيهزهن ويقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ) هذا الموقف يدرك به الناس جميعاً عظمة الباري وجلاله جل جلاله، فإذا حصل ذلك تنبه الإنسان إلى ما فرط في جنب الله؛ فيقول: ما كان ينبغي أن أعصي من هذا سلطانه، ومن هذا جبروته وكبرياؤه، ما كان ينبغي أن أفرط في العلاقة به، ما كان ينبغي أن أقصر في طاعته، عندما يرى الملائكة الضخام الجسام، وهم سجد لله جل جلاله وركّع، يخافونه خوفاً شديداً، إذا تكلم الجبار جل جلاله ملئت قلوبهم بالرعب؛ فإذا فزع عن قلوبهم: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] جل جلاله.

إذا رأى الإنسان يوم القيامة جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح؛ ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقد وصفه الله بهذه الأوصاف المعتبرة في كتابه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5-6] (ذو مرة) أي: ذو قوة، و(شديد القوى) أي: ذو قوى مع ذلك، قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]؛ فكل هذا إذا رآه الإنسان أدرك عظمة الباري جل جلاله وكبرياءه؛ فإذا كان جبريل هو عبد واحد من عباده، وهو يطيع كل أوامره وما عصى له أمراً قط، ولا خافه في أي مخالفة، ولا خطر على قلبه أي معصية، ولا حصلت منه نظرة ولا سماع ولا تفكير بأن يخالف أمر الله؛ بل كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وهم كذلك يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]؛ فكيف بنا نحن وأجسامنا وأجسادنا ضعيفة، لا نقوى على عقاب الله جل جلاله، إذا عرفنا أن ملائكة الله الكرام يعيشون الطاعة في كل الليالي والأيام لا يفترون، كما ورد في الحديث: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، إذا أدركنا هذا، وعرفنا أن السموات السبع وكل سماء سمكها خمسمائة عام للحجر الجلد الضخم الهاوي، هذا عرض السماء الواحدة فقط خمسمائة عام للحجر الهاوي، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، والسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي كدراهم نثرتها في ترس، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والله جل جلاله هو الكبير سبحانه وتعالى، الله أكبر! لا إله إلا الله حقاً حقاً تعبداً ورقاً.

إذا عرفنا جلال الله جل جلاله فلا بد أن نتعظ كيف يعصيه العاصي، وكيف يتجاسر على مخالفة أمره، جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم! إن نفسي لا تطاوعني على ترك المعاصي، فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج إليه من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه، فقال: كيف أخرج من نعمته وأنا من نعمته، خلقي من نعمته؟ قال: إنك للئيم إذا أخذت نعمته ورزقه فاستعنت به على معصيته، فأنت ما عرفت له نعمته عليك. قال: زدني يرحمك الله قال: إذا أردت أن تعصي الله، فاخرج من أرضه وسمائه ثم ودعه، فإذا خرجت فاعصه، قال: إلى أين أخرج يرحمك الله؟! كيف أخرج من أرضه وسمائه، قال: إنك لجريء إذا بارزته بالمعصية وأنت ضيف عنده في بيته وتحت سلطانه، قال: زدني يرحمك الله، قال: إذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان لا يراك فيه فاعصه، فقال: كيف أجده ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما فيه وعره، ولا بحر ما في قعره.. يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، كيف أختفي من علمه؟! قال: كيف إذاً تبارزه بالمعصية وهو يراك ولا يشغله عنك شاغل؟ قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31]، فنظره إليك كنظره إلى أي فرد من أفراد عباده، ونظره إلى الآخرين كنظره إلى الأولين جل جلاله، يعلم ما في قلوب الجميع من عباده، لا تختلط عليه لغاتهم ولا تفكيرهم، ولا ما يدور في بطونهم من أرزاقهم، دبر شئون هذا العالم كلها، ولم يأخذ ذلك شيئاً من علمه ولا من قدرته، ولا من إرادته، لم يشغله عن أي شيء جل جلاله، إنها العظمة والجلال والكمال الذي لا حصر له ولا نهاية، إن الجبار جل جلاله أهل لأن يطاع، وأهل لأن يخاف منه، وأهل لأن يلتمس رضاه.

الحرص على امتلاء القلب بمحبة الله وخشيته

حاول يا أخي أن تملأ قلبك بمحبته وخشيته، وإذا حصل لك ذلك فذلك مقتضٍ منك للعمل بما تعلمت، فنحن نعلم أن كثيراً من عباد الله بما فيهم عوام المسلمين يعرفون أكثر المحرمات وأكثر الواجبات؛ فلو سألت أي إنسان في الشارع، عن حكم أكل الربا سيقول: حرام، وإذا سألته عن حكم أكل الغيبة يقول: حرام، وإذا سألته عن حكم النظر إلى الأجنبية، يقول: حرام، وإذا سألته عن حكم الكذب؟ يقول: حرام، ولكن يمارس الناس ذلك، وإذا سألت أي امرأة عن حكم الاختلاط بالأجانب، ومماستهم، تقول: حرام، لكنها تفعل ذلك؛ لأن هذه المعلومات حبست في العقول ولن تصل إلى العاطفة، ونحن نحتاج الآن في رجوعنا من رحلتنا الميمونة المباركة أن نقوم بعملية نسخ، أنتم تعرفون أن الهاتف الجوال، له ذاكرتان، ذاكرة للشريحة وذاكرة للجهاز، ولديه قابلة لنسخ المعلومات المسجلة على إحدى الذاكرتين يمكن أن تنسخ إلى الأخرى، كذلك الإنسان له ذاكرتان: ذاكرة العقل التي تختزن معلوماته، وذاكرة العاطفة التي هي محل المحبة والكراهة؛ فعلى الإنسان إذا كان صادقاً أن يحول قناعاته إلى عاطفته؛ فما كان مأموراً به أحبه حباً شديداً، وتعلق به تعلقاً بالغاً، وما كان منهياً عنه كرهه كراهة شديدة، فيفر منه كما يفر من الأسد، إذا حصل ذلك فسيكون فعلاً من الطائعين، وسيكون من عباد الله المتقين، لن ينجو من مكايد الشيطان، ولم ينج من مكايد النفس الأمارة بالسوء؛ لكن يبقى كل ذلك بمثابة الطيف الذي يرى في المنام، أو الطائف الذي يأتي من الهواء؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (إذا مسهم طيْف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، فالطيف: ما يُرى في المنام، والطائف: ما يأتي من نسيم الهواء، وهو الشيء الخفيف اليسير، ثم يتوب المسلم ويبادر ويندم؛ بل ربما كان ما يقع فيه من الزلل داعياً له إلى الازدياد من الخير، فكثير من عباد الله ...

... على الله.

وهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ورفع في الدارين منزلتها، عندما خرجت إلى غزوة الجمل، ندمت ندماً شديداً، فحدثت لديها توبة ذاقت طعمها، فأعتقت عشرات الأرقاء من أجل تكفير هذا الفعل وحجت عدداً من المرات، واعتمرت مرات كثيرة من أجل تكفير ذلك، فأهل الإيمان والصدق وإحسان المعاملة مع الله، إذا فرط أحدهم -ولو كان التفريط يسيراً- دعاه ذلك إلى الإكثار من الطاعة؛ لأنه لا يعلم هل تقبل له طاعة أم لا؟ وكان عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك يقول: لو علمت أن الله قد قبل مني سجدة واحدة لكان ذلك أحب إلي من الدنيا وما فيها، سجدة واحدة، وهذا ما لا يخافه كثير منا؛ فالغافلون عن الله يستشعرون كثيراً مما قدموه من الطاعات والعبادات فيستعظمونه ويعجبون به وهذا غرور، تذكروا قول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

وقد ( سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، قالت: أهو الذي يسرق ويزني وهو يخاف الله؟ قال: لا؛ بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه )، قال تعالى عنهم: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].

على كل إنسان منا أن يتذكر أنه سائر في طريقه إلى الله، وقد سار في هذه الرحلة المذكرة بالموت والانتقال إلى الدار الآخرة، وشاهد آثار الأنبياء، ورأى البيت العتيق الذي كان يصلي إليه وهو في مغارب الأرض، ورأى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، ورأى هذه الأماكن المشرفة التي يقرأ التنويه بها في كتاب الله، فلقد كنتم تقرءون في القرآن قول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97]؛ فوصلتم إلى البيت العتيق ورأيتموه، وكنتم تقرءون في القرآن قول الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:1-3]، فإذا هو أمامكم ترونه عياناً بياناً، وكنتم تقرءون في القرآن كذلك التنويه بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فرأيتم الدار والإيمان بأعينكم، كنتم تتمنون الوصول إلى هذه الأماكن فوصلتم إليها وهي لا شك نعمة عظيمة؛ لكنها ليست نهاية المشوار ولا نهاية الطريق؛ فأمامكم درب طويل، لا بد أن تفكروا فيه.

إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال: ما انتفعت بشيء ما انتفعت بكلمة سمعتها من شيخ كبير أتاني وأنا ...، فقال لي: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر ... فكروا في هذه الكلمة: يا بني إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر ...، وقد قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد:11-12]، عقبات كبيرة في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى.

فطريق الجنة محفوف بالمكاره، قليل من الناس من حصلت لديه إرادة للتوبة، قليل من الناس من تاب وأناب، قليل من الناس التائبين من صدق في توبته، قليل من التائبين الصادقين من استطاع الاستقامة والاستمرار، قليل من الذين استقاموا من برز ووصل إلى الدرجات العلى، وأنتم جميعاً من ذوي الهمم العالية حيث قطعتم المسافات الشاسعة، وما رضيتم إلا بأقدس بقعة على وجه الكرة الأرضية التي تسكنونها، وما رضيتم إلا باتباع أفضل خلق الله، وأفضل من مشى على هذه الأرض؛ فلذلك أصبحتم من ذوي الهمم العالية، فلا بد ألا ترضوا باليسير.

لا بد من الآن أن نحدث توبة نصوحة تجب ما قبلها، وهذه التوبة أمرنا الله بها جميعاً رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً؛ فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، أي تبقوا في الفلاح، شرط فيها الله سبحانه وتعالى أن تكون نصوحاً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]، فما معنى التوبة النصوح؟

إن التوبة معناها: الندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والسعي للخروج مما تلبس به فيما لا يرضي الله، والعزيمة المؤكدة ألا يعود إلى ذلك الذي عصى الله به مدة حياته، هذا أمر كبير وشاق، ولكنه سهل على من يسره الله عليه؛ فتعالوا بنا نحدث توبة نصوحة صادقة، تعالوا بنا في هذه الليلة العظيمة التي هي آخر ليالي الحج، ويمكن أن تكون آخر ليالي العمر، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الذين عاشوا إلى البارحة قد ماتوا في هذا اليوم، وأصبحوا من أهل الآخرة: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، وقدموا إلى ما قدموا، وفي كل يوم يذهب أضعافهم بعثاً إلى الله جل جلاله، فتعالوا بنا نحدث توبة نصوحاً، ولا بد أن يتذكر كل إنسان منا أنه فرط كثيراً في جنب الله، فرط في تعلم ما أمر الله بتعلمه، فرط في العمل بما تعلمه؛ وهناك أوقات كثيرة أنعم الله بها علينا ذهبت سدىً في غير طائل، وستعاد وترد: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]؛ فسنجدها جميعاً بين أيدينا، تعالوا بنا نمحو تلك الآثار السيئة التي علقت بالقلوب، وتلك الأدران الخبيثة التي لبست على البصائر، وتلك العيوب الشنيعة التي أحدثت ظلمة في الوجوه وقسوة في القلوب وجموداً في الدموع؛ فكل ذلك من آثار المعصية، لا أحد منا إلا وهو يتذكر أنه مقصر مفرط، ولا أحد منا إلا وهو يعلم أن عليه أن ينافس العابدين الزاهدين الذين يشغلون أوقاتهم بطاعة الله وعبادته.

إنكم جميعاً ترغبون بالقرب من الله سبحانه وتعالى، وترغبون بجوار محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا ترضون أن يكون أحد أدنى منكم باباً من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة يوم القيامة؛ لكن ذلك لا ينال إلا بالعمل والتضحية، والأمر ميسور والمجال مفتوح أمام المتسابقين الآن؛ فقد ناداكم ربكم جل جلاله إلى هذا السباق الذي لا تغني فيه الوساطة ولا الرشوة، ولا النسب ولا الحسب ولا الشهادة، لا يغني فيه إلا التقوى، قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، وناداكم جل جلاله بقوله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وبقوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وبقوله: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21].

فالآن وقت السباق، وتذكروا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تشد فيه الأحزمة، وهو الوقت الذي تتأهب فيه النفوس لمرضاة الله، فمن غفر له في حجته فقد فتح صفحةً جديدةً في التعامل مع الله جل جلاله؛ فلتبدأها يا عبد الله بخير، حاول أن تكون صفحة جديدة خيراً من الصفحة الماضية، حاول أن يكون عمرك الجديد الذي بدأته بعد رجعة عمراً مفيداً منجياً لك من عذاب الله، تذكروا قول الله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24]، تذكروا أن الذين ينجون يؤتون كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويفوزون فوزاً عظيماً يفرحون به فرحاً شديداً؛ فقد قال الله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:103-105].

استعدوا للتوبة النصوح؛ وليتذكر كل إنسان منا أنه أودع هذه الجوارح، وأودع هذه النفس، وأودع هذا العقل السليم، وأودع هذا البدن الصحيح المستقيم؛ فكلها نعم من عند الله وقد أنفقها في غير ما خلقت من أجله، تذكروا أن الأرض تضج إلى الله من معصية أهلها فوقها، وأنها هينة على الله بكل ما حوت إذا عصاه أهلها، ما أهون الأرض وأهلها جميعاً على الله إذا عصوه، تذكروا ما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار )، وفي رواية: ( قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه.

إن الله جل جلاله أهل لأن يهاب، وأهل لأن يرجى له الوقار، وقد قال نوح لقومه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً [نوح:13]، فالله أهل لأن يخاف منه، وأهل لأن يرجى، وأهل لأن يتذكر الإنسان عرضه عليه ووقوفه بين يديه.

إن علينا يا إخواني أن نعقد العزم ونحن هنا في هذا المكان المقدس الطاهر بالنية الصادقة ألا نعود إلى معصية الله ما عشنا.

وعلينا أن نحاول أن نتلمس آثار النفاق وصفاته فينا، وأن نتخلص منها ما استطعنا؛ فالنفاق باقٍ في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهو أخفى من دبيب النمل في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالنفاق ينقسم إلى قسمين:

إلى نفاق عقدي، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان ويبطن الكفر، وإلى نفاق عملي: وهو أن يخلف الإنسان الله تعالى ما عاهده عليه، فقد عاهدكم الله عهداً مؤكداً، أكده في التوراة والإنجيل والقرآن، وأنتم تقرءونه جميعاً؛ لكن يا رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، ويا رب قارئ له وهو لا يظن أنه معني به، ويا رب قارئ له وهو لا يرفع به رأساً ولا يهتم به، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، والناس في هذه البيعة ينقسمون إلى قسمين: إلى صادقين ومنافقين؛ فالصادقون: هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].

إن كثيراً منا تمر به الأوقات التي يتعظ فيها، ويلين قلبه ويريد الخروج من معصيته، ولكن هناك الكثير ممن لا يتوب إلى الله، بل يجد نفسه ضعيفاً أمام الشهوة أو ضعيفاً أمام الشبهة، أو يأتي من الأوقات ما ينسى به عزائمه وعهوده، فيتراجع عما عقده على نفسه من العهود وقد أكدها تأكيداً بليغاً.

إن كثيراً من الشباب من ينتظر اللحظة التي يكون فيها من الصالحين الكبار، ومن أولياء الله المخلصين الصادقين، وكثير هم أولئك الذين كانوا يقولون: إذا بلغت عشرين سنة فسأكون من أولياء الله الكبار، ثم يأتي التسويف وطول الأمل فيقول: إذا بلغت خمساً وعشرين، ثم يأتي التسويف والأمل فيقول: إذا بلغت ثلاثين، ثم يأتي الموت فيقطع ذلك، وقد قال الحكيم:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا

يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا

سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

إنه حق لا محالة، وإننا نعلم أننا سائرون في ذلك الطريق، ورحم الله امرأً تذكر في نهاية رحلته نهايتها الحقيقية، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحج قبل موته بمدة يسيرة؛ فلما خرج من مكة وقف على جبل في شمالها يسمى ضجنان، فقال: لا إله إلا الله وحده، كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، وكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان؛ إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تجد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بدّ من ورده يوماً كما وردوا

فالذي أتى عمر بن الخطاب وأخذه أليس جديراً بنا أن نخافه؟ فقد قال زياد الأعجم في مرثيته للمغيرة بن المهلب بن أبي صفرة :

لله در منية فاتت به فلقد نراه يرد غرب الجامح

فنحن جميعاً ينتظرنا هذا الموت، ونحن على موعد مجهول معه، لكننا نعلم أنه آتٍ لا محالة، فعلينا أن نصدق في توبتنا، وأن نستغل فرصتنا بالرجوع من حجتنا.

وعلينا أن نكون من الصالحين، وقد يتساءل بعض الناس فيقول: كيف نكون من الصالحين؟ لا بد أن يرسم كل واحد منا خطة لنفسه يصل بها إلى رضوان الله عز وجل، ولا بد أن نجعل رضوان الله نصب أعيننا، ولا بد أن نجعله أعظم اهتماماتنا، وأن نحرص عليه؛ فإذا رضي الله عنكم فوالله لا يضركم ما فاتكم من شأن هذه الدنيا، وإذا لم يرضَ الله عنكم فوالله لا ينفعكم ما أحرزتم منها وحصلتم عليه.

فرضوان الله لا يعوضه شيء، ولا يمكن أن يسد شيء مسده، وإذا فقد فتعويضه مستحيل؛ فلذلك لا بد يا إخواني من أن نحرص على تحقيق رضوان الله، والله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، ومن صدق معه وأتاه مطمئناً راجياً راغباً، فإن الله سيرضى عنه؛ ولذلك قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

سبحان ربنا! ما أكرمه وأحلمه! إنه يناديكم جميعاً نداءً كريماً؛ فيقول جل جلاله وهو الغني عنكم وعما كسبتم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فقولوا جميعاً: لبيك ربنا وسعديك، لأنه نادانا هذا النداء الكريم، وهو أهل لأن يجاب نداؤه، ثم دعانا إليه فقال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:54-56]، فهذا الموقف عجيب جداً، وعظنا الله به، إذا حشر الناس وعرضوا على الله جل جلاله فسيندم جميعهم، فالمحسن يندم على ألا يكون زاد، والمسيء يندم على هضم إساءته: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ [الزمر:56].

أنتم الآن تعرفون كبرياء الله وعظمة الله وجلاله، لكن لا يدرك الإنسان كنه ذلك وحقيقته إلا عند العرض على الله جل جلاله، عندما ( يقبض الجبار السموات السبع والأرضين السبع بيمينه فيهزهن ويقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ) هذا الموقف يدرك به الناس جميعاً عظمة الباري وجلاله جل جلاله، فإذا حصل ذلك تنبه الإنسان إلى ما فرط في جنب الله؛ فيقول: ما كان ينبغي أن أعصي من هذا سلطانه، ومن هذا جبروته وكبرياؤه، ما كان ينبغي أن أفرط في العلاقة به، ما كان ينبغي أن أقصر في طاعته، عندما يرى الملائكة الضخام الجسام، وهم سجد لله جل جلاله وركّع، يخافونه خوفاً شديداً، إذا تكلم الجبار جل جلاله ملئت قلوبهم بالرعب؛ فإذا فزع عن قلوبهم: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] جل جلاله.

إذا رأى الإنسان يوم القيامة جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح؛ ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقد وصفه الله بهذه الأوصاف المعتبرة في كتابه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5-6] (ذو مرة) أي: ذو قوة، و(شديد القوى) أي: ذو قوى مع ذلك، قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]؛ فكل هذا إذا رآه الإنسان أدرك عظمة الباري جل جلاله وكبرياءه؛ فإذا كان جبريل هو عبد واحد من عباده، وهو يطيع كل أوامره وما عصى له أمراً قط، ولا خافه في أي مخالفة، ولا خطر على قلبه أي معصية، ولا حصلت منه نظرة ولا سماع ولا تفكير بأن يخالف أمر الله؛ بل كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وهم كذلك يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]؛ فكيف بنا نحن وأجسامنا وأجسادنا ضعيفة، لا نقوى على عقاب الله جل جلاله، إذا عرفنا أن ملائكة الله الكرام يعيشون الطاعة في كل الليالي والأيام لا يفترون، كما ورد في الحديث: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، إذا أدركنا هذا، وعرفنا أن السموات السبع وكل سماء سمكها خمسمائة عام للحجر الجلد الضخم الهاوي، هذا عرض السماء الواحدة فقط خمسمائة عام للحجر الهاوي، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، والسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي كدراهم نثرتها في ترس، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والله جل جلاله هو الكبير سبحانه وتعالى، الله أكبر! لا إله إلا الله حقاً حقاً تعبداً ورقاً.

إذا عرفنا جلال الله جل جلاله فلا بد أن نتعظ كيف يعصيه العاصي، وكيف يتجاسر على مخالفة أمره، جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم! إن نفسي لا تطاوعني على ترك المعاصي، فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج إليه من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه، فقال: كيف أخرج من نعمته وأنا من نعمته، خلقي من نعمته؟ قال: إنك للئيم إذا أخذت نعمته ورزقه فاستعنت به على معصيته، فأنت ما عرفت له نعمته عليك. قال: زدني يرحمك الله قال: إذا أردت أن تعصي الله، فاخرج من أرضه وسمائه ثم ودعه، فإذا خرجت فاعصه، قال: إلى أين أخرج يرحمك الله؟! كيف أخرج من أرضه وسمائه، قال: إنك لجريء إذا بارزته بالمعصية وأنت ضيف عنده في بيته وتحت سلطانه، قال: زدني يرحمك الله، قال: إذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان لا يراك فيه فاعصه، فقال: كيف أجده ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما فيه وعره، ولا بحر ما في قعره.. يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، كيف أختفي من علمه؟! قال: كيف إذاً تبارزه بالمعصية وهو يراك ولا يشغله عنك شاغل؟ قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31]، فنظره إليك كنظره إلى أي فرد من أفراد عباده، ونظره إلى الآخرين كنظره إلى الأولين جل جلاله، يعلم ما في قلوب الجميع من عباده، لا تختلط عليه لغاتهم ولا تفكيرهم، ولا ما يدور في بطونهم من أرزاقهم، دبر شئون هذا العالم كلها، ولم يأخذ ذلك شيئاً من علمه ولا من قدرته، ولا من إرادته، لم يشغله عن أي شيء جل جلاله، إنها العظمة والجلال والكمال الذي لا حصر له ولا نهاية، إن الجبار جل جلاله أهل لأن يطاع، وأهل لأن يخاف منه، وأهل لأن يلتمس رضاه.

حاول يا أخي أن تملأ قلبك بمحبته وخشيته، وإذا حصل لك ذلك فذلك مقتضٍ منك للعمل بما تعلمت، فنحن نعلم أن كثيراً من عباد الله بما فيهم عوام المسلمين يعرفون أكثر المحرمات وأكثر الواجبات؛ فلو سألت أي إنسان في الشارع، عن حكم أكل الربا سيقول: حرام، وإذا سألته عن حكم أكل الغيبة يقول: حرام، وإذا سألته عن حكم النظر إلى الأجنبية، يقول: حرام، وإذا سألته عن حكم الكذب؟ يقول: حرام، ولكن يمارس الناس ذلك، وإذا سألت أي امرأة عن حكم الاختلاط بالأجانب، ومماستهم، تقول: حرام، لكنها تفعل ذلك؛ لأن هذه المعلومات حبست في العقول ولن تصل إلى العاطفة، ونحن نحتاج الآن في رجوعنا من رحلتنا الميمونة المباركة أن نقوم بعملية نسخ، أنتم تعرفون أن الهاتف الجوال، له ذاكرتان، ذاكرة للشريحة وذاكرة للجهاز، ولديه قابلة لنسخ المعلومات المسجلة على إحدى الذاكرتين يمكن أن تنسخ إلى الأخرى، كذلك الإنسان له ذاكرتان: ذاكرة العقل التي تختزن معلوماته، وذاكرة العاطفة التي هي محل المحبة والكراهة؛ فعلى الإنسان إذا كان صادقاً أن يحول قناعاته إلى عاطفته؛ فما كان مأموراً به أحبه حباً شديداً، وتعلق به تعلقاً بالغاً، وما كان منهياً عنه كرهه كراهة شديدة، فيفر منه كما يفر من الأسد، إذا حصل ذلك فسيكون فعلاً من الطائعين، وسيكون من عباد الله المتقين، لن ينجو من مكايد الشيطان، ولم ينج من مكايد النفس الأمارة بالسوء؛ لكن يبقى كل ذلك بمثابة الطيف الذي يرى في المنام، أو الطائف الذي يأتي من الهواء؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (إذا مسهم طيْف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، فالطيف: ما يُرى في المنام، والطائف: ما يأتي من نسيم الهواء، وهو الشيء الخفيف اليسير، ثم يتوب المسلم ويبادر ويندم؛ بل ربما كان ما يقع فيه من الزلل داعياً له إلى الازدياد من الخير، فكثير من عباد الله ...

... على الله.

وهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ورفع في الدارين منزلتها، عندما خرجت إلى غزوة الجمل، ندمت ندماً شديداً، فحدثت لديها توبة ذاقت طعمها، فأعتقت عشرات الأرقاء من أجل تكفير هذا الفعل وحجت عدداً من المرات، واعتمرت مرات كثيرة من أجل تكفير ذلك، فأهل الإيمان والصدق وإحسان المعاملة مع الله، إذا فرط أحدهم -ولو كان التفريط يسيراً- دعاه ذلك إلى الإكثار من الطاعة؛ لأنه لا يعلم هل تقبل له طاعة أم لا؟ وكان عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك يقول: لو علمت أن الله قد قبل مني سجدة واحدة لكان ذلك أحب إلي من الدنيا وما فيها، سجدة واحدة، وهذا ما لا يخافه كثير منا؛ فالغافلون عن الله يستشعرون كثيراً مما قدموه من الطاعات والعبادات فيستعظمونه ويعجبون به وهذا غرور، تذكروا قول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

وقد ( سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، قالت: أهو الذي يسرق ويزني وهو يخاف الله؟ قال: لا؛ بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه )، قال تعالى عنهم: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].