عقيدة السلف [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد اختار من الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار له من الأتباع أصحابه الذين شرفهم الله بصحبته والاجتماع معه، مؤمنين به على الوجه المتعارف، فرباهم صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من عند الله؛ فكانوا خير قرون هذه الأمة، وبعدهم التابعون الذين صحبوهم وتعلموا علمهم ورأوا عملهم؛ فكانوا أشبه الناس بهم، ثم بعدهم أتباع التابعين، الذين سلكوا طريقة التابعين أيضاً؛ فكانوا مثلاً يقتدى بهم، وأسوة صالحة لمن يأتي بعدهم، وهي القرون المزكاة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل.

فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم ).

إن هؤلاء كانوا قدوة هذه الأمة وأسوتها، وقد سبقوها إلى كل خير، ونالوا فضل الصحبة؛ فلا يمكن أن يلحق بهم من سواهم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فهم أولى الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقربهم سابقة في الإسلام، وأكثرهم بلاءً فيه، وهم كذلك الذين أحرزوا فضل ثناء الله عليهم في كتابه؛ فقد قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100]، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:18]، وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:8-10]، وقال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[الحديد:10].

فقد شرفهم الله تعالى بهذا الفضل الجزيل العظيم، ورفع منزلتهم وقدرهم، وأمر من بعدهم بالدعاء لهم والترحم عليهم، وجعل أجور اللاحقين في كفة حسناتهم وميزانهم؛ لأنهم الذين بلغوا الدين وحملوه إلى الآفاق وجاهدوا في سبيله، ونصروا الله ورسوله، وأدوا الحق الذي عليهم؛ كما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لكثير منهم؛ ( فقد وقف على شهداء أحد قبل موته بثمانية أيام، فقال: إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه )، وقال في الأنصار عند ذكره لهم: ( واستوصوا بالأنصار خيراً، فإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم )، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، كل ذلك يدلنا على فضل سلف هذه الأمة الصالح، وأن الخير كله هو ما سبقوا إليه وما بدءوا به؛ فلا يمكن أن يكون خير في هذه الأمة إلا ما سبق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون وأتباع التابعين.

ثم إن ما كانوا عليه هو الذي زكاه الله ورسوله؛ فهو إذاً طريق الحق، فلا طريق لنا لمعرفة الحق إلا الوحي، فالوحي المنزل وحدة هو المعصوم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما كانوا عليه هو الوحي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم به من عند الله تعالى نقياً صافياً، وتركهم عليه عند موته؛ فقال: ( تركتكم على مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك )، فلذلك كانوا على الحق، فلا يمكن أن تجتمع قلوبهم إلا عليه، ضحوا في سبيله بأرواحهم وأعمارهم وأموالهم، وقد قال أحد شعراء هذه البلاد وهو الشيخ غالي البصادي رحمه الله:

وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس

ضحوا بنفوسهم في سبيل الله، ونقلوا هذا الدين إلى كل مكان، ولم يتركوا مكاناً من الأرض يستطيعون الوصول إليه إلا أوصلوا إليه هذا الدين؛ فلذلك لا يمكن أن يرغب عما كانوا عليه إلا من سفه نفسه، فهم الأسوة والقدوة الصالحة في كل ما سلكوه عقيدة وعبادة ومعاملة وسلوكاً وخلقاً وتضحية وجهاداً، كل ذلك من منهجهم هو طريق الحق المرضي، الذي لا يمكن أن يعدل عنه إلا من فتن في دينه.

فمن هنا كان لزاماً علينا معاشر المؤمنين أن نبحث عن منهجهم وسبيلهم، وأن نتعلم اعتقادهم وعبادتهم ومعاملتهم وعملهم، وأن نحرص أن نقتدي بهم؛ فهم القدوة الصالحة والأسوة الحسنه، وعلينا عباد الله أن نتذكر أنهم هم أصحاب فهم هذا القرآن وبيانه؛ ففيهم نزل وعنهم أخذ، ولذلك لا يمكن أن يفهم القرآن فهماً أصوب ولا أصدق من فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتباعهم وأتباع أتباعهم.

كذلك فإن الله زكى عقيدتهم في كتابه؛ فقال تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا[البقرة:137]، وهذه تزكية من رب العزة والجلال لاعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ[البقرة:137]، أي: في خلافات.

فلذلك علينا إخواني! أن نتدارس ما كانوا عليه من الاعتقاد، وأن نأخذ به وأن لا نعدل عن رأيهم؛ فإن الله تعالى أنزل فيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، وقد صح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها؛ فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً). وكذلك فقد وقف رضي الله عنه على قوم في المسجد لهم آمر يأمرهم بأعداد من الذكر، فقال لهم حذيفة : (يا هؤلاء! لقد جئتم جرماً، أو لقد فقتم أصحاب محمد علماً). ولهذا كان مالك رحمه الله يقول: (إن الله تعالى قد أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً، فإن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها). وقد سمع مالك رحمه الله رجلاً من الخوارج يسب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال: (يا هذا! أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا، قال: أفأنت من الأنصار الذين آووا ونصروا؟ قال: لا، قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان؛ فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ[الحشر:10]، وأنت تلعنهم).

فلذلك علينا أن نتدارس ما كانوا عليه من الاعتقاد، وأن نتدارس ما كانوا عليه من العبادة وما كانوا عليه من المعاملة، وما كانوا عليه من الخلق، وما كانوا عليه من التضحية، وما كانوا عليه من الجهاد والدعوة، وأن نحرص على أن نقتدي بهم؛ فهم القدوة الصالحة والأسوة، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن فتنته). وسبيلهم وسننهم وهديهم كله بيان لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال أهل الحديث: (ربى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى ابن مسعود رضي الله عنه علقمة فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى إبراهيم النخعي الأعمش فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى الأعمش منصور بن المعتمر فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى منصور بن المعتمر سفيان الثوري فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى سفيان الثوري وكيع بن الجراح فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى وكيع بن الجراح أحمد بن حنبل فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى أحمد بن حنبل أبا داود سليمان بن الأشعث ، فكان مثله في هديه ودله وسلوكه).

إنه توارث عجيب للهدي والسلوك والسمت، ينبغي أن لا ينقطع في هذه الأمة، وأن يحرص كل إنسان على أن يلتحق بأولئك؛ فالتشبه بهم فلاح كما قال الحكيم:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

تثبيت القلوب بحكايات وأخبار السلف

كذلك فإن مجرد تدارس أخبارهم وحكاياتهم وسيرهم مما يثبت الله به قلوب عباده، ومما يعين على الاستمرار على الثبات على دين الحق، ومما يعينك كذلك على التضحية والبذل في سبيل الله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: (سير الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده). ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].

إن ما كان عليه أولئك من الاعتقاد كان يزيد حباً لله تعالى، وحباً لرسوله صلى الله عليه وسلم وحباً لدينه، وكان يدفع للتضحية والجهاد في سبيل الله، وكان يدفع إلى إيثار الآخرة على الدنيا، وكان يدفع إلى إيثار الإنسان إخوانه في الله على نفسه في عاجل أمور الدنيا، وكان يدفع كذلك إلى قيام الليل وصيام النفل، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن، وكان يدفع إلى المبادرة إلى الطاعات وإجابة نداء الله تعالى، وكان يدفع إلى شهود الصلوات بالمساجد وإجابة المنادي، وكان يدفع كذلك إلى تعلم العلم النافع وروايته والمبادرة إلى العمل به، كل ذلك من فوائد تعلمنا لما كان عليه سلفنا الصالح، وهو أيضاً وفاء لنا وشرف؛ فأية أمة مبتورة ليس لها تاريخ ولا صلة لها بأسلافها، لا يمكن أن تبرز الزعامات، ولا أن تنتج القادة المجددين.

حاجة الأمة لمراجعة تاريخ السلف

فلذلك لا بد أن ترجع هذه الأمة إلى تدارس تاريخها وأمجادها؛ فهي والله أيام عطرة عند الله تعالى، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعليت فيها كلمة الله، وجوهد فيها في سبيل الله، ونصر فيها الحق، وحصلت فيها العدالة الاجتماعية بين الناس، وتفيأ الناس ظلال القرآن وأمنوا بأمن الله تعالى، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ فلذلك أنتجت جيلاً ما عرفت الأرض جيلاً أفضل منه، ولا أكمل ولا أحسن خَلْقاً ولا خُلُقاً، ما عرفت هذه الأرض أياماً كانت أعدل ولا أقوم ولا أصوب من تلك الأيام التي جاء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الناس لدعوته وسلكوا منهجه وطريقه، لكن هذا الطريق يصعب السلوك عليه، فلا يناله إلا الأقوياء، إلا ذوو الهمم العالية؛ وقد قال أبو العلاء المعري :

أرى العنقاء تكبر أن تصاد فعاند من تطيق له عناداً

فلذلك تحتاج هذه الملة وهذه المحجة إلى من كان من أهل الهمم العالية، الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا، والذين يستطيعون التضحية والبذل، وهم الذين يستطيعون سلوك طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فمن لا يتحمل الجوع ولا السهر ولا العطش ولا الظمأ، لا يمكن أن يسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولا يستطيع أن يسلك طريق أصحابه الذين وصفهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بما أخرج البخاري في الصحيح بقوله: (والله لأني أول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني عن الإسلام؛ خبت إذاً وضل سعيي).

إن هذا الأمر شاق، وقد جعل الله تعالى عليه النكبات والعراقيل التي تصرف من لا يقتضي الله خدمتهم للدين؛ فقد تعهد الله المأفوكين عن طريق الحق؛ فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، إن من عدل عن طريق الصحابة والتابعين وأتباع التابعين في الاعتقاد لا بد أن يتردد في الوحل والفتنة، ولا بد أن يعيش كثيراً من الخلافات التي لا تطمئن إليها النفوس، ولا بد أن يبقى دائماً عرضة للرجوع والتذبذب؛ ولذلك قال الفخر الرازي رحمه الله بعد توبته ورجوعه عن منهج الكلام:

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله عند موته. (لقد درست عقائد العالم؛ فما تركت ملة ولا نحلة إلا درستها، وها أنا اليوم أموت على عقائد عجائز نيسابور) أي: ما كان عليه السلف السابق؛ فلهذا نحتاج يا إخواني إلى مدارسة ما كانوا عليه من الاعتقاد، وأن نعلم أنه الحق الذي لا تكلف فيه ولا إشكال، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فطرة ومنهجاً.

كذلك فإن مجرد تدارس أخبارهم وحكاياتهم وسيرهم مما يثبت الله به قلوب عباده، ومما يعين على الاستمرار على الثبات على دين الحق، ومما يعينك كذلك على التضحية والبذل في سبيل الله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: (سير الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده). ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].

إن ما كان عليه أولئك من الاعتقاد كان يزيد حباً لله تعالى، وحباً لرسوله صلى الله عليه وسلم وحباً لدينه، وكان يدفع للتضحية والجهاد في سبيل الله، وكان يدفع إلى إيثار الآخرة على الدنيا، وكان يدفع إلى إيثار الإنسان إخوانه في الله على نفسه في عاجل أمور الدنيا، وكان يدفع كذلك إلى قيام الليل وصيام النفل، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن، وكان يدفع إلى المبادرة إلى الطاعات وإجابة نداء الله تعالى، وكان يدفع إلى شهود الصلوات بالمساجد وإجابة المنادي، وكان يدفع كذلك إلى تعلم العلم النافع وروايته والمبادرة إلى العمل به، كل ذلك من فوائد تعلمنا لما كان عليه سلفنا الصالح، وهو أيضاً وفاء لنا وشرف؛ فأية أمة مبتورة ليس لها تاريخ ولا صلة لها بأسلافها، لا يمكن أن تبرز الزعامات، ولا أن تنتج القادة المجددين.