دور العلماء في حياة الأمة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تكريم الله لأهل العلم ورفعة درجاتهم

أما بعد: فإن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وقد قال عن نفسه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فهو يختار من خلقه من يأتمنهم على ما شاء من وحيه، وقد ائتمن أنبياءه واصطفاهم وائتمنهم على العلم الذي جاءوا به من عنده فبلغوه وأدوه إلى أممهم، وقفا على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل خلافته في تبليغ الرسالات، وأداء الأمانة، وتعليم العلم، وإيصال الوحي إلى العلماء الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته في أمته، وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمنزلتهم فاستشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

وأخبر أنهم المؤهلون لفهم كلامه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].

وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم في هذا الدين، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان في صحيح البخاري أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

وقد أخرج البخاري أيضاً في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).

وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

وأخرج أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ).

وقد أخرج البخاري تعليقاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ).

ووصل ذلك من طرق صحاح في السنن وغيرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء -كما في صحيح البخاري - وإنه لا نبي بعدي ).

العلماء ساسة الأمة بعد الرسل

فهذه الأمة إنما يسوسها العلماء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم الساسة القادة الذين يتولون أمر الدين وأمر الدنيا، فقد كان أنبياء بني إسرائيل يحمون دينهم ويوجهون دنياهم كلما مات نبي بعث الله فيهم نبياً بعده، وهذه الأمة ليست فيها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أخرج لها المجددين، فتعهد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكذلك فإن أبا عمر أخرج في مقدمة التمهيد، وكذلك الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، وأنتم تعلمون أن من كان لديه شيء ثمين لا يمكن أن يودعه عند المفلسين، وإنما يختار له خيرة الناس، ويختار له أكفأ الناس وأصدقهم وآمنهم على وديعته، والله سبحانه وتعالى هو علام الغيوب، ولم يكن ليختار من يودعه هذا الوحي الذي هو أرفع شيء في الأرض وأعلاه إلا إذا كان كفؤاً لذلك وأهلاً لتلك الأمانة.

رفع الله لأهل العلم ووضعه لآخرين

وهذا الفضل العظيم الذي خص الله به الذين يعلمهم أمر دينهم ليس راجعاً إلى نسب ولا حسب، ولا مستوىً، بل يختار الله من كل جيل من يفضلهم بميراث الأنبياء، ويخصهم بالحظ الوافر منه، ولهذا فإن التابعين رضي الله عنهم اتفقوا على إمامة عطاء بن أبي رباح ، وكان أسود أشل أفطس أعرج، ومع ذلك كان يقتدي به التابعون جميعاً وبعض الصحابة، وكانوا يرجعون إلى فتواه في شأن الحج وغيره، وكان خلفاء بني أمية يأمرون كل من خرج في الحج أن لا يعدل عن قول عطاء بن أبي رباح ، وقد اشتهر الموالي في عصر التابعين ومن بعدهم بالإمامة في الدين، فكان منهم العلماء المبرزون، ففي مكة عطاء بن أبي رباح ، وفي المدينة نافع مولى ابن عمر ، وفي العراق سعيد بن جبير ، وكذلك اشتهر في أهل الحديث وحملته عدد كبير منهم، فالإمام البخاري هو من موالي بني جعف، وكذلك عدد كبير من أئمة الحديث، والقراء أيضاً، فالقراء السبعة خمسة منهم من الموالي، واثنان فقط من العرب وهما أبو عمرو بن العلاء و عبد الله بن عامر قارئ الشام، وكل من سواهما فهو من الموالي كـنافع قارئ المدينة، و عبد الله بن كثير قارئ مكة، و عاصم بن أبي النجود ، و الكسائي و حمزة وهم قراء الكوفة، فكل هؤلاء جميعاً من الموالي، وكذلك أئمة الاجتهاد، فالإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي كان مولىً لامرأة، ولكن الله شرفه بالعلم ورفع قدره، ولذلك ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لقي واليه على مكة في الطريق بين مكة والمدينة، فقال له: من وليت على أهل الحرم؟ فقال: فلان وهو مولىً لقريش، فقال: أوليته على حرم الله؟ فقال: إنه عالم بالفقه والفرائض، فقال عمر : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يرفع بهذا العلم أقواماً، ويضع به آخرين )، فهذا العلم يرفع الله به أقواماً، ويضع به آخرين، فليس الأمر راجعاً إلى نسب ولا حسب.

العلم لا يؤخذ بالوراثة

وقد كان الإمام مالك رحمه الله في مجلس علمه والناس يتنافسون على السماع منه وكان في ذلك الوقت يقال: من زينة الدنيا أن يقول الرجل: حدثنا مالك ، ويأتيه الناس من الأندلس ومن خراسان ومن أنحاء الأرض يضربون إليه آباط الإبل ليسمعوا منه ولو حديثاً واحداً، يأتيه الخلفاء والأمراء وأولادهم وخيرة الناس، وابنه يحيى يلعب بالحمام، فرآه مالك فتعجب من ذلك، فقال: سبحان الله! أبى الله أن يكون هذا الأمر بالوراثة، فهذا ابن مالك الذي نشأ في حجره وتربى بين يديه ومع ذلك هو معرض عن علمه، والناس يتنافسون عليه ويأتون من الأندلس ومن خراسان يزدحمون للسماع من مالك .

علاقة العلم بالعمل

وهذا العلم الشريف هو مسئولية عظيمة، فهو سلاح ذو حدين كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما أخرج عنه أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله، قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم فهمت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟

وكذلك روى عنه أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي، وهو ينادي بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله، فالعلم ليس مجرد المرويات ولا مجرد الفهم، بل هو نور قلبي يفهم به الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى خشية الله، فما لم يؤد إلى خشية الله، ولم يؤد إلى العمل الصالح والعبادة ليس بعلم، ولذلك قال أهل العلم: العلم مثل الشجرة، والعمل أي: العبادة مثل الثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها، وقد قال الشيخ محمد علي رحمة الله:

العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحري أن يذهبا

والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة

ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها

وهذه المسئولية العظيمة التي يتحملها من تولى حفظ هذا العلم ونقله إلى الناس تقتضي منه ألا يقول على الله بغير علم، فقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

أما بعد: فإن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وقد قال عن نفسه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فهو يختار من خلقه من يأتمنهم على ما شاء من وحيه، وقد ائتمن أنبياءه واصطفاهم وائتمنهم على العلم الذي جاءوا به من عنده فبلغوه وأدوه إلى أممهم، وقفا على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل خلافته في تبليغ الرسالات، وأداء الأمانة، وتعليم العلم، وإيصال الوحي إلى العلماء الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته في أمته، وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمنزلتهم فاستشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

وأخبر أنهم المؤهلون لفهم كلامه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].

وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم في هذا الدين، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان في صحيح البخاري أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

وقد أخرج البخاري أيضاً في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).

وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

وأخرج أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ).

وقد أخرج البخاري تعليقاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ).

ووصل ذلك من طرق صحاح في السنن وغيرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء -كما في صحيح البخاري - وإنه لا نبي بعدي ).

فهذه الأمة إنما يسوسها العلماء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم الساسة القادة الذين يتولون أمر الدين وأمر الدنيا، فقد كان أنبياء بني إسرائيل يحمون دينهم ويوجهون دنياهم كلما مات نبي بعث الله فيهم نبياً بعده، وهذه الأمة ليست فيها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أخرج لها المجددين، فتعهد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكذلك فإن أبا عمر أخرج في مقدمة التمهيد، وكذلك الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، وأنتم تعلمون أن من كان لديه شيء ثمين لا يمكن أن يودعه عند المفلسين، وإنما يختار له خيرة الناس، ويختار له أكفأ الناس وأصدقهم وآمنهم على وديعته، والله سبحانه وتعالى هو علام الغيوب، ولم يكن ليختار من يودعه هذا الوحي الذي هو أرفع شيء في الأرض وأعلاه إلا إذا كان كفؤاً لذلك وأهلاً لتلك الأمانة.

وهذا الفضل العظيم الذي خص الله به الذين يعلمهم أمر دينهم ليس راجعاً إلى نسب ولا حسب، ولا مستوىً، بل يختار الله من كل جيل من يفضلهم بميراث الأنبياء، ويخصهم بالحظ الوافر منه، ولهذا فإن التابعين رضي الله عنهم اتفقوا على إمامة عطاء بن أبي رباح ، وكان أسود أشل أفطس أعرج، ومع ذلك كان يقتدي به التابعون جميعاً وبعض الصحابة، وكانوا يرجعون إلى فتواه في شأن الحج وغيره، وكان خلفاء بني أمية يأمرون كل من خرج في الحج أن لا يعدل عن قول عطاء بن أبي رباح ، وقد اشتهر الموالي في عصر التابعين ومن بعدهم بالإمامة في الدين، فكان منهم العلماء المبرزون، ففي مكة عطاء بن أبي رباح ، وفي المدينة نافع مولى ابن عمر ، وفي العراق سعيد بن جبير ، وكذلك اشتهر في أهل الحديث وحملته عدد كبير منهم، فالإمام البخاري هو من موالي بني جعف، وكذلك عدد كبير من أئمة الحديث، والقراء أيضاً، فالقراء السبعة خمسة منهم من الموالي، واثنان فقط من العرب وهما أبو عمرو بن العلاء و عبد الله بن عامر قارئ الشام، وكل من سواهما فهو من الموالي كـنافع قارئ المدينة، و عبد الله بن كثير قارئ مكة، و عاصم بن أبي النجود ، و الكسائي و حمزة وهم قراء الكوفة، فكل هؤلاء جميعاً من الموالي، وكذلك أئمة الاجتهاد، فالإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي كان مولىً لامرأة، ولكن الله شرفه بالعلم ورفع قدره، ولذلك ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لقي واليه على مكة في الطريق بين مكة والمدينة، فقال له: من وليت على أهل الحرم؟ فقال: فلان وهو مولىً لقريش، فقال: أوليته على حرم الله؟ فقال: إنه عالم بالفقه والفرائض، فقال عمر : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يرفع بهذا العلم أقواماً، ويضع به آخرين )، فهذا العلم يرفع الله به أقواماً، ويضع به آخرين، فليس الأمر راجعاً إلى نسب ولا حسب.

وقد كان الإمام مالك رحمه الله في مجلس علمه والناس يتنافسون على السماع منه وكان في ذلك الوقت يقال: من زينة الدنيا أن يقول الرجل: حدثنا مالك ، ويأتيه الناس من الأندلس ومن خراسان ومن أنحاء الأرض يضربون إليه آباط الإبل ليسمعوا منه ولو حديثاً واحداً، يأتيه الخلفاء والأمراء وأولادهم وخيرة الناس، وابنه يحيى يلعب بالحمام، فرآه مالك فتعجب من ذلك، فقال: سبحان الله! أبى الله أن يكون هذا الأمر بالوراثة، فهذا ابن مالك الذي نشأ في حجره وتربى بين يديه ومع ذلك هو معرض عن علمه، والناس يتنافسون عليه ويأتون من الأندلس ومن خراسان يزدحمون للسماع من مالك .

وهذا العلم الشريف هو مسئولية عظيمة، فهو سلاح ذو حدين كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما أخرج عنه أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله، قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم فهمت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟

وكذلك روى عنه أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي، وهو ينادي بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله، فالعلم ليس مجرد المرويات ولا مجرد الفهم، بل هو نور قلبي يفهم به الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى خشية الله، فما لم يؤد إلى خشية الله، ولم يؤد إلى العمل الصالح والعبادة ليس بعلم، ولذلك قال أهل العلم: العلم مثل الشجرة، والعمل أي: العبادة مثل الثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها، وقد قال الشيخ محمد علي رحمة الله:

العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحري أن يذهبا

والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة

ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها

وهذه المسئولية العظيمة التي يتحملها من تولى حفظ هذا العلم ونقله إلى الناس تقتضي منه ألا يقول على الله بغير علم، فقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4839 استماع
بشائر النصر 4291 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4062 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3932 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع