دروس الحج يوم النحر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

... فلذلك لا ترضوا عباد الله أن تتركوا حظكم من هذه الشعيرة العظيمة, واعلموا أن الشيطان حريص، وهو يحب أن تتركوا شيئاً من أركان دينكم، ويحب للناس أن يؤدوا بعض الدين وأن يتركوا بعضا, وفي ذلك رد على الله سبحانه وتعالى، وقد رضي بذلك اليهود عليهم لعائن الله حين تحققوا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحققوا رسالته فقالوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:150]، ولذلك رد الله عليهم بقوله: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ[آل عمران:72-73], وكذلك رد عليهم بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85], فاجتهدوا رحمني الله وإياكم بإكمال الشعائر والعناية بها جميعاً.

واعلموا أن الحج خامس الأركان، فمن الذي يتقن الشهادتين, ولم يتقن الصلاة, ولم يتقن الصيام, ولم يتقن الزكاة, كيف يتقن الحج؟

الجهة التي يرمى منها الجمرة وحكم تأخيرها

ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الجمرة التي ترمى هذا اليوم وهي الجمرة التي تعداها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجاوزها ثم عاد إليها فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, فإذا رماها الإنسان من غير الجهة التي ترمى بها، وهي الجهة التي بينك وبينها الجدار، بينك وبينها الحائط، هذه الجهة هي التي ترمى منها الجمرة, إذا كان بينك وبينها أشخاص فاصبر حتى تصل إليها, اصبر ولا ترمِ من بعيد حتى تصل ولا يكون بينك وبين الجمرة إلا الجدار، أو قليل من الناس لا يريدوا الرمي, فإذا وصلت إليها فارمها ولا ضرر بالتأخير, فالليل مختلف فيه هل هو أداء أو قضاء.

فكثير من أهل العلم يرى أن الليل وقت أداء وحتى لو كان قضاء، فالراجح أنه لا يلزم الدم بالتأخير له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس وأهل السقاية وأذن لرعاة الإبل في أن يجمعوا الرمي.

وأيضاً فإن الدم إنما يلزم بترك الواجب، ومن رمى في وقت القضاء لم يترك، فحديث ابن عباس الذي أخرجه مالك في الموطأ عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( من ترك نسكاً فليهرق دماً )، إنما فيه الترك، فمن أدى النسك في وقت القضاء فلا يلزمه الدم, فلذلك أَدوا نسككم رحمكم الله ولا تضيعوا فرص هذا اليوم فهو الأخير من الأيام العشر التي ما من أيام في السنة أحب إلى الله العمل الصالح فيهن من هذه الأيام، ولم يبقَ من هذه الأيام إلا ساعات معدودة, فاجتهدوا في ذكر الله وتلاوة القرآن، وتذكروا أن بقية هذا اليوم هو مثل بقية العمر، وقد قال أحد العلماء:

بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمنِ

يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

فتذكروا أن بقية هذا اليوم هو مثل الخاتمة, فأحسنوا خواتمكم, واجتهدوا في إتقان بقية هذا اليوم؛ ليكون ختاماً حسنا لبقية الأيام العشر.

حكم من فاته المبيت بمزدلفة وشك في رميه

بالنسبة لمن توهم مكاناً من مزدلفة فبات فيه وصلى فيه، ثم تبين أنه ليس في مزدلفة فقد حصل الواجب ولا يلزمه شيء، لا يلزمه الدم ولا غيره, وكذلك من حبس في الزحام، فإن ابن القاسم ذكر في المدونة: أن من حبس ليلة العيد فلم ينزل بمزدلفة من أجل الزحام فإنه لا دم عليه, فلذلك لو أصبح الإنسان في عرفات أو في الطريق بينها وبين مزدلفة ولم يستطيع الوصول إلى مزدلفة في الليل فلا دم عليه, وكذلك من رمى الجمرة من الأعلى إذا تحقق أن الحصى يسقط في الأسفل في الحوض فإن رميه صحيح, فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى من فوق ناقته, وهذا دليل على جواز الرمي من الأعلى.

وبالنسبة لمن رمى رمياً لم يتأكد من وصولها, هو رمى من الجهة الأخرى مثلاً! أو رمى من بعيد ثم تحلل فلا يلزمه فدية ولا دم, لكن عليه أن يعيد هذا الرمي سواءً في هذا المساء أو في الليل، وليس عليه دم, وهنا أذكر إلى أن التحلل الأصغر يحصل بأمرين من أمور هذا اليوم, فأمور العيد أربعه أعمال الحج اليوم أربعة:

ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الجمرة التي ترمى هذا اليوم وهي الجمرة التي تعداها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجاوزها ثم عاد إليها فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, فإذا رماها الإنسان من غير الجهة التي ترمى بها، وهي الجهة التي بينك وبينها الجدار، بينك وبينها الحائط، هذه الجهة هي التي ترمى منها الجمرة, إذا كان بينك وبينها أشخاص فاصبر حتى تصل إليها, اصبر ولا ترمِ من بعيد حتى تصل ولا يكون بينك وبين الجمرة إلا الجدار، أو قليل من الناس لا يريدوا الرمي, فإذا وصلت إليها فارمها ولا ضرر بالتأخير, فالليل مختلف فيه هل هو أداء أو قضاء.

فكثير من أهل العلم يرى أن الليل وقت أداء وحتى لو كان قضاء، فالراجح أنه لا يلزم الدم بالتأخير له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس وأهل السقاية وأذن لرعاة الإبل في أن يجمعوا الرمي.

وأيضاً فإن الدم إنما يلزم بترك الواجب، ومن رمى في وقت القضاء لم يترك، فحديث ابن عباس الذي أخرجه مالك في الموطأ عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( من ترك نسكاً فليهرق دماً )، إنما فيه الترك، فمن أدى النسك في وقت القضاء فلا يلزمه الدم, فلذلك أَدوا نسككم رحمكم الله ولا تضيعوا فرص هذا اليوم فهو الأخير من الأيام العشر التي ما من أيام في السنة أحب إلى الله العمل الصالح فيهن من هذه الأيام، ولم يبقَ من هذه الأيام إلا ساعات معدودة, فاجتهدوا في ذكر الله وتلاوة القرآن، وتذكروا أن بقية هذا اليوم هو مثل بقية العمر، وقد قال أحد العلماء:

بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمنِ

يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

فتذكروا أن بقية هذا اليوم هو مثل الخاتمة, فأحسنوا خواتمكم, واجتهدوا في إتقان بقية هذا اليوم؛ ليكون ختاماً حسنا لبقية الأيام العشر.

بالنسبة لمن توهم مكاناً من مزدلفة فبات فيه وصلى فيه، ثم تبين أنه ليس في مزدلفة فقد حصل الواجب ولا يلزمه شيء، لا يلزمه الدم ولا غيره, وكذلك من حبس في الزحام، فإن ابن القاسم ذكر في المدونة: أن من حبس ليلة العيد فلم ينزل بمزدلفة من أجل الزحام فإنه لا دم عليه, فلذلك لو أصبح الإنسان في عرفات أو في الطريق بينها وبين مزدلفة ولم يستطيع الوصول إلى مزدلفة في الليل فلا دم عليه, وكذلك من رمى الجمرة من الأعلى إذا تحقق أن الحصى يسقط في الأسفل في الحوض فإن رميه صحيح, فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى من فوق ناقته, وهذا دليل على جواز الرمي من الأعلى.

وبالنسبة لمن رمى رمياً لم يتأكد من وصولها, هو رمى من الجهة الأخرى مثلاً! أو رمى من بعيد ثم تحلل فلا يلزمه فدية ولا دم, لكن عليه أن يعيد هذا الرمي سواءً في هذا المساء أو في الليل، وليس عليه دم, وهنا أذكر إلى أن التحلل الأصغر يحصل بأمرين من أمور هذا اليوم, فأمور العيد أربعه أعمال الحج اليوم أربعة:

الأول: رمي الجمرة العقبة. والثاني: نحر الهدي أو ذبحه. الثالث: الحلق أو التقصير. والرابع: طواف الإفاضة.

فهذه أربعة أعمال هي أعمال هذا اليوم, ومن فعل منها اثنين فقد تحلل, إذا رمى الجمرة وحلق فقد تحلل, وإذا رمى الجمرة ونحر أو ذبح فقد تحلل, وإذا رمى الجمرة وطاف طواف الإفاضة فقد تحلل, لكن التحلل بغير طواف الإفاضة تحلل أصغر يمتنع معه النساء والصيد, وأما التحلل الأكبر فهو إذا طاف طواف الإفاضة، فإنه إذا طاف وتحلل التحلل الأكبر حل له كل شيء كان ممنوعاً عليه.

وهذا ركن ركنه متسع، فيجوز تأخيره ما لم ينتهِ شهر ذي الحجة، ولا يلزم من ذلك الدم, ومن كان متمتعاً، أو كان من أهل مكة الذين أحرموا منها فإنه بقي عليهم السعي أيضاً بعد طواف الإفاضة, وكذلك من كانت ذات مانع من النساء فلم تطهر، فإنها إذا طهرت واغتسلت طافت طواف الإفاضة، وسعت بعده سعي الحج, ولا يجب في الحج إلا سعي واحد, السعي بين الصفاء والمروة إنما يكون في الحج مرة واحدة, المفرد والقارن يؤديه بعد طواف القدوم, والمتمتع ومن كان من أهل مكة يؤديه بعد طواف الإفاضة.

ومثل ذلك المرهق وهو الذي جاء في وقت متأخر فشهد عرفة, ولم يستطيع أداء الطواف أي: طواف القدوم قبل عرفة، فإنه يؤخر سعيه ويؤديه بعد طواف الإفاضة, وكذلك بقي واجبان من واجبات الحج التي تجبر بالدم، ألا وهي المبيت هنا، ألا وهما المبيت هنا في هذه الليالي, فالليلة يجب مبيتها في منى, والمقصود بالمبيت أكثر الليل، أي: حوالي أربع ساعات من الليل، من وسطه، لا بد من المبيت هنا في منى وذلك واجب.

حدود منى

فالمبيت هذه الليالي بمنى, والمقصود بمنى حدودها كلها، فهي من جمرة العقبة إلى نهاية الوادي إلى جهة وادي محسر فلا يجوز المبيت خلف جمرة العقبة من جهة مكة, كما لا يجوز المبيت في وادي محسر، ولا في ما وراءه، أي: في حدود مزدلفة، فوادي محسر ووادي النار الذي أهلك الله فيه أبرهة وجنوده وهو مابين حدود منىً وحدود مزدلفة ، وهو الذي ينبغي الإسراع فيه، فمنىً إذاً هي ما بين هذين الواديين: وادي العقبة الذي حدوده الجمرة، ووادي محسر الذي هو بين منى و مزدلفة.

قدر المبيت بمنى وحكمه

والمبيت الواجب هو أربع ساعات من الليل، والأفضل أن تكون من وسطه فيجوز للإنسان أن يخرج بحوائجه أول الليل وفي آخره, لكن بشرط أن يكون قادراً على الرجوع على رجليه؛ لأن السيارات كثيراً ما تحصر عن دخول منى في الليل, فإذا أراد الإنسان مثلاً أن يطوف طواف الإفاضة, فإن كان ضعيفاً لا يستطيع المشي فلا يخرج في الليل, وإن كان قادراً على المشي فلا حرج أن يخرج أول الليل ويطوف طواف الإفاضة ويعود على رجليه إذا حبست سيارته فيدخل منى, وهذا المبيت لا يلزم فيه النوم، فيجوز للإنسان إذا لم يكن له مقر أن يسير على الأرصفة أربع ساعات من الليل وبذلك يتم المبيت الواجب بمنى.

حكم رمي الجمار وكيفية رميها وما يستحب في الرمي

أما الواجب الثاني: فهو رمي الجمار، وذلك في يومين على كل أحد وفي اليوم الثالث على من لم يتعجل, والجمار التي يجب رميها في الأيام القابلة هي الجمار الثلاث: الجمرة الصغرى، والوسطى، والكبرى, وطريقة رميها أن يبدأ الإنسان بالصغرى شرطاً ثم بالوسطى بعدها ثم بالكبرى أي: جمرة العقبة التي رميتم اليوم, وترتيبها شرط مثل ترتيب الصلوات.

وهذا الرمي كل حصاة منه واجب يجبر بالدم، وهو كله واجباً واحد يجبر بالدم أيضا, والأفضل أن يصل الإنسان إلى الجمرة الصغرى فيحاول أن يستقبل القبلة, وليقف عند الجدار مباشرة ليس بينه وبينه من يرد رمية، ويرمي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, ثم ينفتل عنها قليلاً وراءها، ويقف للدعاء طويلاً قدر هذَّ سورة البقرة, والأفضل في هذا البكاء, فإن لم يستطيع البكاء فليتباكى, ثم ليسر بالسكينة والوقار إلى الجمرة الوسطى, ويستقبل القبلة أيضاً, ويحاول الاقتراب من الجدار حتى ما يكون بينه وبينه أحد, ثم يرمي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, ثم إذا انتهى منها تياسر قليلاً أيضاً للدعاء، وأطال الدعاء والبكاء قدر هذَّ سورة البقرة إن استطاع, ثم يمشي إلى الجمرة الكبرى التي رميتم اليوم, ولا بد أن يتعداها الإنسان ويأتيها من الجهة الغربية فإنها لا ترمى إلا من تلك الجهة.

ولذلك تلاحظون أن الجمرتين الصغرى والوسطى وضع عليهما سور دائري، دائرة كاملة, ويمكن أن يرميا من كل جانب, أما الجمرة الكبرى وهي جمرة العقبة فالسور الذي عليها نصف دائرة فقط, والجهة التي فيها العمود لا ترمى منها الجمرة, إذا لم يكن بينك وبين العمود الجدار فاعلم أن رميك غير صحيح, ويرميها الإنسان بسبع حصيات أيضاً يكبر مع كل حصاة, ثم بعد ذلك ينفتل ولا دعاء عليه ويرجع إلى المخيم, فإذا أكمل من ذلك يومين غداً وبعد غد فقد كمل حجه إن كان متعجلا, لكن التعجل من شرطه أن يخرج من حدود منى قبل غروب الشمس؛ لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] , فأتى بـ (في) التي هي حرف جر للظرفية, ومعنى ذلك أن التعجل لا بد أن يكون في داخل اليومين, أما إذا غربت الشمس على الإنسان وهو في منى قبل أن يتعدى جمرة العقبة فإنه لا يحل له التعجل؛ بل يجب عليه مبيت الليلة الثالثة ويجب عليه رمي اليوم الثالث.

وإذا أكمل الإنسان ذلك فإن كان متعجلاً فلا تحصيب عليه, وإن كان متأخراً فيندب له عند المالكية أن ينزل بالمحصب محصب بني كنانة، وهو المسجد الكبير الذي عند أمانة العاصمة المقدسة بوادي الأبطح دون مقابر مكة, فينزل هنالك ويصلي أربع صلوات وهي الظهر، والعصر, والمغرب والعشاء.

وقت الرمي وحكم من فاته بعض الرمي

ومن المعلوم أن الرمي في الأيام القابلة يبدأ وقته من الزوال، والأفضل أن يبدأ فيه الإنسان قبل الصلاة إن كان مطيقاً قادرا, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالرمي قبل صلاة الظهر, ويستمر وقته بالاختيار إلى غروب الشمس, والليل مختلف فيه هل هو أداء أو قضاء، واليوم اللاحق قضاء قطعاً, فكل يوم يقضي فيه الإنسان عمل الماضي إذا لم يتقنه، وإن بقي على الإنسان حصاة واحدة من أية جمرة من الجمرات فليبدأ بالقضاء قبل الأداء.

مثلاً! إذا بقيت عليك حصاة من رمي اليوم ولم تتذكرها إلا في الغد في وقت الرمي، فابدأ بتلك الحصاة التي هي قضاء عند جمرة العقبة، ثم اذهب إلى الجمار الأخرى فرتبها على ترتيبها, فالقضاء في هذا مقدم على الأداء.

إذا استقر الإنسان بمحصب بني كنانة وصلى فيه الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، فليذهب حينئذٍ إلى مستقره في مكة ، وإن كان من أهل المدينة فالأفضل له تسريع الأوبة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الوداع في تلك الليلة ثم عاد إلى المدينة وقال: ( لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث ), فأعطى فرصة ثلاث ليال للمهاجرين أن يقيموا بـمكة, ومن المعلوم أن المهاجرين قد باعوا مكة لله سبحانه وتعالى، فلا يحل لهم المقام فيها أي: إقامة أربعة أيام صحاح بلياليهن لا يحل لهم هذا, ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم في مدة مقامه بمكة في أيام الفتح، وقد أقام فيها سبعة عشر يوماً كان يقصر الصلاة ولم يتمها؛ لأنه مهاجري لا يحل له المقام بمكة, فإنما استقر فيها لتهيئة الجيوش للغزو، ولتثبيت أركان الإسلام في مكة.

وقت إحلال العمرة بعد أعمال الحج ومكان الإحلال

ثم إذا كمل حج الإنسان وغربت الشمس من اليوم الأخير من أيام الرمي، وهو اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة, إذا غربت الشمس من ذلك اليوم وانتهت أعمال الحج بالكلية, فحينئذٍ بقي الوقت مفتوحاً للعمرة، لا يحل للإنسان أن يحرم بالعمرة قبل أن تغرب الشمس من اليوم الثالث عشر من أيام شهر ذي الحجة، وهو اليوم الثالث والأخير من أيام التشريق أي: أيام الرمي غداً وبعد غد والذي بعده.

فإذا غربت الشمس يجوز للإنسان أن يحرم في عمرة عن نفسه أو عمن شاء من أهله, لكن لا بد أن يذهب إلى الحل فيحرم منه؛ لأن كل نسكٍ لا بد أن يجمع فيه بين الحل والحرم، فالحج تحرم فيه من مكة؛ لأنك ستقف فيه بعرفة وهي خارج حدود الحرم.

أما العمرة فكل أفعالها بداخل الحرم فلا بد أن تخرج للحل، وأفضل الحل الجعرانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها في عمرته في ذي القعدة بعد غزوة حنين.

وبعدها التنعيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يحرم بعائشة من التنعيم, ثم بعد ذلك عرفة ؛ لأنها أفضل مناطق الحل, ثم بعد ذلك ما شاء الإنسان من الحل, ومن المعلوم أن الحل هو ما وراء الحرم.

بيان حدود الحرم

وحدود الحرم متفاوت بتفاوت الطرق، فأقربها التنعيم إلى جهة المدينة فهو سبعة كيلو فقط من الحرم، وأبعدها البوابة التي إلى جهة جدة أي: آخر الحديبية، فهي اثنان وعشرون كيلو فهذا أبعد شي من الحرم, ودون ذلك مناطق متفاوتة فمنها ثمانية عشر كيلو من الجعرانة, وتسعة كيلو من عرفة وغير ذلك، فهذه هي حدود الحرم.

وقد كان إبراهيم عليه السلام حددها, ثم جددها بعد ذلك قريش في الجاهلية, ثم جددت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدداً من كبار السن من قريش أن يجددوها، وأمر عليه الحويطب بن عبد العزى فجددوها أنصاب الحرم, ولم تزل الدول المتعاقبة تجددها, وقد كتبت اليوم على اللوحات، ووضع عليها الأميال المميزة لها فهذه هي حدود الحرم.

وقد ذكر فقهاء المالكية أن من علامة حدود الحرم أن السيل الحل يقف دونه, كما قال خليل رحمه الله: ويقف سيل الحل دونه أي: إذا جاء السيل من الحل لا يدخل الحرم, أما سيل الحرم فيندفع إلى الحل, ولذلك يقول أحد الفقهاء:

إن رمت للحرم المكي معرفة فاسمع وكن واعياً قولي وما أصف

واعلم بأن سيول الحل قاطبةً إذا جرت نحوه من دونه تقف

فلذلك تقف سيول الحل كلها دون الدخول في الحرم.

أركان العمرة وواجباتها ومندوباتها

ثم ينبغي أن نعرف أن العمرة لها ثلاثة أركان هي الإحرام من الحل, ثم بعده الطواف الذي هو مثل طواف القدوم, ثم بعده السعي من الصفا والمروة.

أما واجباتها فهي: الحلق أو التقصير بعد نهاية الإحرام، بالإضافة إلى خلع المخيط، ويندب لها ما يندب للحج من التنظف والاغتسال، فهذا هو عمل العمرة لا يتجاوز هذا, وإن ترك الإنسان حلق العمرة أو تقصيرها، أو حلق الحج أو تقصيره حتى رجع إلى مكة فليأخذ من شعره حينئذٍ ولا يلزمه الدم إلا بالرجوع إلى بلده الذي جاء منه, إذا رجع إلى بلده الذي جاء منه ولم يقصر ولم يحلق لزمه الدم بترك هذا الواجب, وإلا فإن رجع إلى المدينة أو إلى جدة فتذكر أنه لم يحلق أو لم يقصر، فليبادر إلى ذلك وليفعل وهو مجزئ عنه.

وينبغي أن نعلم أن التقصير هو أخذ جميع الشعر من قرب أصوله، هذا مذهب المالكية، أن التقصير هو أخذ جميع الشعر لقرب أصوله، ذلك أن يأخذ الإنسان بالماكينة جميع الشعر على رقم اثنين مثلاً! أو رقم صفر فهذا أخذ جميع الشعر من قرب أصوله، أما ما زاد على ذلك بأن يأخذ بالمقص مثلاً، أو نحو هذا فلا يسمى ذلك تقصيراً؛ لأنه ليس أخذاً لجميع الرأس، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27], فقد عطف قوله (مقصرين) على قوله (محلقين رءوسكم) وإن كان مفعول مقصرين محذوفاً إلا أنه يدل عليه مفعول محلقين، فدل ذلك على أن المقصود تقصير جميع الرءوس لا تقصير بعضها فقط, إذاً هذا هو الباقي علينا إن شاء الله تعالى من أعمالنا هنا.

حكم من لم يسأل عما يجهله من الدين

لكن جدير بنا ونحن في هذا السياق، نرى حرص كل إنسان منا على طلب العلم وحضور الذكرى والدروس, ونرى كذلك الحرص على إجابة الأسئلة أن نتذكر أن طلب العلم واجب وأنه مطلوب في كل مكان, فحرصكم الآن على السؤال عما يعنيكم من أمور دينكم لا ينبغي أن يكون مقصوراً على الحج, بل لا بد لكل من عرض له عارض من أمر الدين أو الدنيا لا يعرف حكمه أن يبادر إلى سؤال أهل الذكر عنه فقد قال الله تعالى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43], وهذا السؤال نصف العلم، وهو واجب يأثم الإنسان بتركه؛ لأن الله تعالى وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36], وتعرفون أن الأخضري رحمه الله قال في مقدمته: ولا يحل له أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه, ويسأل العلماء، فيجب على الإنسان إذا جهل أمراً من أمور الدين أن يبادر للسؤال عنه فإن تعلمه بادر للعمل به.

ثم كذلك علينا عباد الله أن نحرص على سماع الذكرى، فإن كثيراً منا يظن أن الذكرى إنما يطالب سماعها في الحج ونحوه من المواسم، وإذا كان في بيته وحوله مسجد من مساجد الله تقام فيه الدروس، والعبر والمواعظ فلا يشهدها ولا يحضرها، وهذا غلط كبير ونقص عظيم في أمور الدين، فعلى الإنسان أن يتجاوزه وأن يتوب إلى الله منه.

فالمبيت هذه الليالي بمنى, والمقصود بمنى حدودها كلها، فهي من جمرة العقبة إلى نهاية الوادي إلى جهة وادي محسر فلا يجوز المبيت خلف جمرة العقبة من جهة مكة, كما لا يجوز المبيت في وادي محسر، ولا في ما وراءه، أي: في حدود مزدلفة، فوادي محسر ووادي النار الذي أهلك الله فيه أبرهة وجنوده وهو مابين حدود منىً وحدود مزدلفة ، وهو الذي ينبغي الإسراع فيه، فمنىً إذاً هي ما بين هذين الواديين: وادي العقبة الذي حدوده الجمرة، ووادي محسر الذي هو بين منى و مزدلفة.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع