خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تراث الأمة بين التنزيه والتشويه [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التراث مشتق من "الإرث" وهو حوز الإنسان لما كان يحوزه ويملكه غيره بعد موته أو جلائه وانقطاع خبره، وتراث الأمة مصطلح طارئ وهو يطلق على ما أنتجته عقولها مما له صلة بالمدنية والثقافة، فما له صلة بالمدنية كأدواتها؛ مثل: آلات الإنتاج والصناعة ونحو ذلك فهذا يعتبر من التراث، ومثل ذلك الملابس التي تميز شخصيتها وترمز لبعض الأمور فيها، والمراكب والمساكن ونحو ذلك من آثار المدنية؛ فكل هذا داخل في التراث، وكذلك يدخل فيه الإنتاج الثقافي، سواء كان علمياً أو أدبياً؛ فالاجتهادات العلمية في أمور الدنيا وأمور الدين وتطوير حياة الناس ومعاشهم كل ذلك داخل في التراث، وكذلك الإنتاج الأدبي والفني بمختلف أنواعه، كل ذلك يدخل في تعريف التراث.
ولا يدخل في تعريف التراث ما لم يكن من نتاج العقل البشري؛ كالوحي المنزل، فالقرآن والسنة اللذان أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم لا يدخلان في مفهوم التراث؛ لأنهما ليسا من إنتاج عقول هذه الأمة ولا من إنتاج عقول البشر عموماً، وإنما هما وحي منزل من عند الله سبحانه وتعالى، والوحي قسيم للعقل لا قسم منه؛ كما قال الغزالي رحمه الله: (الوحي عقل من الخارج والعقل وحي من الداخل) فكلاهما تنوير نور الله به البشر؛ فالعقل صبه الله في نطاق الإنسان وقال به؛ فبه يدرك ما يحيط به من حوله، ويختزن به تجاربه، ويتطلع به لمستقبله؛ فيجد تصوراً للمشكلات التي تعرض له وحلولاً لها، والوحي تنوير جاءه من الخارج وليس ناتجاً عن محيطه وبيئته وظرفه، فلا يتقيد بالضغوط الاجتماعية ولا بالضغوط السياسية ولا بالضغوط الاقتصادية؛ فهو متحرر من ذلك كله؛ ولذلك كان الوحي صدقاً صرفاً، ليس فيه مجال للمواربة بخلاف العقل؛ فإن العقول تتفاوت، وأهلها متفاوتون في مقتضياتها، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقل الناس عقلاً أرضاهم به.
وتراث كل أمة إنما يرتقي ويسمو باعتبار ما لها من الأثر، وقد حكم الله سبحانه وتعالى أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[آل عمران:110]، وقد اختلف أهل التفسير في متعلق الجار والمجرور في قوله: (للناس) فقالت طائفة: كنتم للناس خير أمة أخرجت، معناه: أن هذه الأمة هي خير للناس من جميع الأمم؛ فهي التي تخدم الناس جميعاً، طورت الحضارة كلها، طورت الطب، طورت الرياضيات، اكتشفت علم الجغرافيا، اكتشفت الدورة الدموية، وذلك الاكتشاف هو الذي على أساسه قام علم الطب والتشريح، اكتشفت صناعة الأدوية، وهذا الاكتشاف هو الذي قام عليه علم الصيدلة، وفي أرضها خيرات العالم وثرواته، منها انطلقت الثقافات كلها؛ وهذا كله خير للناس، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، وهي شاملة لمن كان من هذه الأمة ومن لم يكن منها.
القول الثاني في التفسير: أن الجار والمجرور متعلق بــ(أخرجت) معناه: أن الله جعل هذه الأمة خير أمة أخرجها للناس، فقد أخرج الله هذه الأمة للناس، ومعنى إخراجها للناس: أنها شاهدة على الناس؛ فهي وارثة للأمم قبلها جميعاً، وقد أخرجها الله لهذه الحكمة، فالشاهد لا يمكن أن يشهد على ما يأتي بعده؛ لأن الشهادة من شرطها العلم؛ كما قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وكما قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، وقد أخرج البيهقي بإسناد فيه رجلٌ ضعيف من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع )، فالشاهد لا يمكن أن يشهد بما لا علم له به؛ فلذلك لو كانت هذه الأمة في أيام نوح أو أيام إبراهيم أو موسى أو عيسى لما أمكنها أن تكون شهوداً على من يأتي بعدها من الأمم، وأهلها شهود الله يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، ومعنى "وسطاً" أي: خياراً عدولاً عند الله سبحانه وتعالى؛ وذلك يقتضي أن فاسق هذه الأمة وبطالها خير من رهبان وأحبار الأمم السابقة؛ لما له من المزية في الشهادة عليهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من نبي إلا يخاصمه قومه يوم القيامة، يقولون: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، حتى نوح يخاصمه قومه؛ فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته؛ فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لـنوح فيقولون: بلى، لبث فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً )؛ ولذلك أخرنا الله لهذه الشهادة، فنحن الآن شهود على كل ما يختلف فيه الناس في الملأ الأعلى يوم القيامة لأن الله قد قصه علينا في كتابنا، فنحن نؤمن به أبلغ وأشد من إيماننا بما شاهدناه بأعيننا؛ فلذلك نستطيع الشهادة به جزماً وقطعاً، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف هذه الأمة: ( نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا )، فنحن الآخرون من ناحية البعثة ومن ناحية التاريخ، السابقون يوم القيامة؛ فأول أمة يفصل بينها بين يدي الجبار جل جلاله هي هذه الأمة؛ فلذلك كانت خير أمة أخرجت للناس؛ لأن الله شرفها عليهم فجعل رسولها أفضل الرسل، وجعل كتابها أفضل الكتب، وجعل شرعها خير شرائع الدين، وجعل مدتها مديدة طويلة؛ لأنها لا ترثها أمة من الأمم، إنما يرثها الله جل جلاله؛ فالله تعالى هو الوارث الذي يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون جميعاً؛ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ[مريم:40]؛ فلا ترثها أمة من الأمم.
ومن المعلوم أن الحضارة بشقيها: المدنية والثقافية؛ إنما هي إنتاج لعقول البشر؛ فكل طائفة ارتقت وكل حضارة تقدمت فإنها تسعى لتطويرها، فإذا وصلت إلى نهايتها سلمتها لمن بعدها، ويبدأ تطوير ذلك الخلف أيضاً لما ورثه عن السلف، وهكذا؛ فكل الحضارات السابقة ورثتها هذه الأمة؛ لأن الله جعل أرزاق أهل الأرض وأقواتهم جميعاً في الأرض منذ الأيام الأربع الأول من خلق العالم، كما قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10]، فما يتنافس الناس فيه الآن وما يستخرجونه من خيرات الأرض لم يتجدد شيء منه بعد تلك الأيام الأربع الأول؛ فلذلك الزراعة أصلها إنما هو لبذور موجودة في الأرض، والنبات كله باق مستمر، إنما ينتقل من مكان إلى مكان وتطور عيناته بحسب تغيير الجينات وتغيير البيئة، وكذلك المعادن؛ فكلها في الأرض مستخرجة منها، وكذلك خيرات البحار كلها على هذا الأساس، والأنعام كذلك والبهائم؛ فقد أنزل الله لــآدم وحواء من الأنعام ثمانية أزواج، وهي أصول ذلك؛ فكل هذا قد كان قديماً، وإنما تطوره كل حضارة.. تتركه عند نهايتها لمن يليها.
وقد عرفت البشرية حضارات سادت ثم بادت، ومن أهمها من الحضارات المعروفة قديماً حضارة العمالقة في المشرق، وقد ورثتها حضارة البيزنطيين الرومان، ثم بعد الرومان جاء الإغريق، وفي وسط ذلك جاءت الحضارة القبطية الفرعونية، وجاءت حضارات أخرى في شتى أصقاع الأرض، ولكن الحضارة الإسلامية هي أوسع هذه الحضارات من ناحية المساحة، وهي أبلغها تأثيراً؛ لدخول شعوب متباينة فيها، والحضارات السابقة إنما كانت تختص بالأعراق والمدن، وهذه الحضارة ليست خاصة بعرق ولا بلد؛ ولذلك شملت القارات كلها، وسيزداد ذلك كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من بيت حجر ولا مدر إلا سيدخله هذا الدين، حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار )، وكذلك تميزت هذه الحضارة بطول مدتها؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في العام العاشر من الهجرة، ونحن الآن في العام التاسع والعشرين بعد أربعمائة وألف سنة من الهجرة، وما زالت هذه الأمة في أوج شبابها، وما زالت أنشطتها والنوادي تتجدد، ونادي الانعتاق وغيره من النوادي تجدد؛ مما يدل على أن هذه الأمة أمة شابة لا تهرم، ومما يدل على أن إنتاج عقولها متجدد دائماً؛ فما من عصر من العصور إلا ويحصل التميز لجانب من جوانب هذه الأمة.
وقد ذكرت مرة في برنامج إعلامي أننا رأينا في هذه الأمة أفذاذاً ونماذج الآن في عصرنا يمثلون تاريخها وتراثها؛ فرأينا المبرزين في الدراسات الإنسانية ورأينا المبرزين في الدراسات الشرعية، ورأينا المجاهدين الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداءً للأمة، ورأينا المثقفين الذين أتقنوا مختلف لغات العالم وحضاراته، ورأينا الأدباء والشعراء والمبدعين الذين لهم الأثر الكبير كذلك في مختلف أنحاء العالم، ورأينا الأطباء والمهندسين، ورأينا التجار، وما من نوع من أنواع النشاط إلا رأينا لأهله مثالاً الآن يربط واقع الأمة بماضيها إلا نوعاً واحداً، من تتوقعون هذا النوع؟ الحكام، نوع واحد لم نر منه الآن نماذج تربطنا بماضينا، ونحن نطالب الحكام بأن يخرج لنا منهم الآن وأفذاذاً يذكروننا بالخلفاء الراشدين وبـعمر بن عبد العزيز وبـالمهدي و الهادي و الرشيد وبـأبي يعقوب المنصور، وغيرهم من الأئمة الذين قادوا هذه الأمة وطوروا حضارتها، وإذا وجد النماذج في الحكام ستتكامل الصورة لديكم، وسيكون التاريخ واقعاً بين أيديكم ويكون التراث مصدقاً لنفسه؛ لأن الشاعر يقول:
إن غاب عنك أبو ابن لم يغب فلمن يبدو لنا إنما يبدو لنا غيبه
فنحن الآن إذا ذكرنا شيئاً من تاريخنا قد لا يصدقنا بعض الناس إذا رأوا ذلك الجانب متراجعاً لدينا، لكن إذا وجد نماذج حية تستطيع الإثبات فذلك كاف؛ ولهذا فإن الشيخ مصطفى السباعي رحمة الله عليه لما ناظر المستشرقين في إثبات حفظ السنة وكانوا ينكرون كون أبي هريرة رضي الله عنه يحفظ خمسة آلاف وسبعمائة وثلاثة وسبعين حديثاً سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظها، وينكرون أن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري يحفظ ما كان يحفظ بإسناده ومتنه، جادلهم الشيخ مصطفى السباعي فقال: هؤلاء مشايخنا الشناقطة يأتون يحفظون مثل هذا الذي تستغربون، وقد أثبت ذلك في كتابه المفيد الذي سماه "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" وقد طبع تسع عشرة طبعة إلى الآن، وهو من الكتب النافعة المهمة جداً في رد دعاوي المستشرقين وغيرهم من الذين يطعنون في السنة وتراث هذه الأمة.
إن تراث هذه الأمة تميز عن غيره من تراث الأمم السابقة بميزات متعددة.
ارتباط تراث الأمة المسلمة بالوحي
فأول هذه الميزات: ارتباطه بالوحي واستنارته به؛ فالآن إذا ذهبنا إلى تراث الأوروبيين أو غيرهم فإن فيه كثيراً من الأمور المفيدة النافعة للعالم، ولكنها غير مرتبطة بالوحي ولا لها جانب من التقديس، بينما نجد تراثنا نحن مرتبطاً بالوحي؛ إذا قال شاعر قصيدة وأراد أن تنتشر قصيدته وأن يرويها الناس وأن يهتموا بها سيجعل فيها إحالة إلى الكتاب أو إلى السنة أو يسرق فيها من شعر الماضين، وسامحوني في السرقة! فهذا المصطلح ليس مصطلحاً جنائياً، بل إن هذا المصطلح عند الأدباء قديم وفي علم البلاغة يسمونه "السرقات الشعرية"، كذلك إذا أراد المحاضر أن تكون محاضرته مقنعة فإنه يربطها بالوحي كتاباً وسنة، وإذا أراد الفقيه أن تكون فتواه مقنعة أو أراد القاضي أن يكون حكمه مقنعاً؛ فإنه يربطه بالدليل؛ فهذا إنتاج عقلي بشري، وهو داخل في التراث، لكنه مرتبط بالدليل؛ فتراث هذه الأمة ترتبط فيه الأرض بالسماء، وهذه ميزة تختص بها.
شمولية تراث الأمة الإسلامية لكل مناحي الحياة
كذلك من خصائص تراث هذه الأمة الشمول؛ فتراث هذه الأمة تراكمي منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا تحدثنا الآن عن أي جانب من جوانب التراث، تحدثنا مثلاً عن التضحيات في الجهاد في سبيل الله فسنبدأ من تضحيات المهاجرين الأولين وإيذائهم في الشعب وما يتعلق بذلك حتى نصل إلى زماننا، وإذا تحدثنا عن الفهم في الفتوى أو القضاء نبدأ بقضاء أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، ونستمر إلى وقتنا، وهكذا في فتاويهم؛ فهو تراكم يقتضي ذلك شموله وعمومه حتى يغطي المساحات كلها، وحتى يكون له أثر كبير في تلوين خريطة العالم، فهذا التراث تراث شامل بخلاف غيره؛ فتراث الأمم الأخرى قد يكون خادماً لبعض الجوانب التي تتميز فيها؛ فالحضارة الرومانية إذا سمعتموها الآن انطلقت أذهانكم إلى ما يتعلق بالمدنية والبنيان، والحضارة الإغريقية - التراث الإغريقي - إذا سمعتموه الآن انصرفت أذهانكم أيضاً إلى ما يتعلق بالمنطق الآرسطي ونحو ذلك.
وحضارة الآشوريين أو تراثهم إذا تحدث عنه الآن انطلقت أذهانكم إلى القانون وما يتعلق به، فالحضارات الأخرى تراثها غير شامل، وهذه الأمة تراثها شامل، مغط لجميع جوانب حياة البشرية واحتياجاتها.
الحفظ بالإسناد لتراث الأمة المسلمة
كذلك من ميزات تراث هذه الأمة الحفظ؛ فالأمم السابقة ليس لها أي إسناد، فهم لا يستطيعون أن يحدثوا الآن بأي سند متصل بينهم وبين عيسى بن مريم ، أو بينهم وبين موسى بن عمران أو بينهم وبين أي نبي من أنبيائهم، فالإسناد خاصية خص الله بها هذه الأمة المحمدية؛ ولذلك نحن الآن إذا تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لدينا إثباتاً وهو الإسناد: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان.. إلى أن نصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال أحمد بن حنبل : (إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أتصور أن يؤتى بي يوم القيامة مغلولاً؛ فيقال: يا أحمد! حدثت عن رسول الله بهذا الحديث، فمن أخبرك به؟ فأقول: حدثني به وكيع ، فيؤتى بـوكيع فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فأفك أنا ويغل وكيع ، فيقال: يا وكيع ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله، فمن أخبرك به؟ فيقول: سفيان الثوري ، فيؤتى بــالثوري فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك وكيع ويغل الثوري ، فيقال: يا سفيان ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن حدثك به؟ فيقول: منصور بن المعتمر ، فيؤتى بــمنصور فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك الثوري ويغل منصور ، فيقال: يا منصور ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: سليمان بن مهران الأعمش ، فيؤتى بـالأعمش فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك منصور ويغل الأعمش ، فيقال: يا سليمان ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أخبرك به؟ فيقول: إبراهيم النخعي فيؤتى بـإبراهيم فيقال: أحدثته فيقول: نعم، فيفك الأعمش ويغل إبراهيم النخعي ، فيقال: يا إبراهيم ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: علقمة ، فيؤتى بــعلقمة فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك إبراهيم ويغل علقمة ، فيقال: يا علقمة ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: عبد الله بن مسعود ، فيؤتى بـابن مسعود فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك علقمة ويغل ابن مسعود ، فيقال: يا عبد الله ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: سمعته منه، فينتهي)، فعندما يصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ينتهي الإسناد؛ ولذلك قال يحيى بن يحيى التيمي لـأبي زرعة عندما سمعه يحدث بحديث سمعه من مالك فقال: (عمن هذا الحديث يا يحيى ؟! قال: ليس زعزعة عن زوبعة، إنما هو عن مالك عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بينك وبين أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترفع الستر فتراه).
وأشهر قصص الماضين مثلاً تكلم عيسى في المهد؛ فقد جاءت به أمه تحمله في يوم مولده وقد ختم الله على لسانها ونذرت للرحمن صوماً، فحرم الله عليها كلام البشر، فاستقبلها الملأ من بني إسرائيل فقالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ[مريم:28-29]، وهو في حجرها يرتضع ثديها، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:28-29] فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه بالأرض ونظر إليهم وقال: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30-33]، فلم يستطع أحد منهم سماع كلامه وهربوا جميعاً إلى زكريا عليه السلام، فليس لهم إسناد في هذه الحادثة مع شهرتها، ومع أننا نحن نؤمن بها لأنها جاءتنا في كتابنا، لكن ليس للأمم السابقة إسناد في شيء من تراثها، ونحن الآن حتى الكتب غير النافعة وغير المفيدة لنا فيها أسانيد: كتاب "الأغاني" لـأبي الفرج الأصفهاني لنا فيه أسانيد، كتاب "العقد الفريد" لــابن عبد ربه عندنا فيه أسانيد، المؤلفات الأدبية وغيرها من المؤلفات لنا فيها أسانيد إلى مؤلفيها، وقد حرص الناس على الرواية حتى في الشعر، فذلك الشاعر البغدادي الذي قال البيت المشهور:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
يقول في ليلة واحدة أتاه فطرق بابه خمسة أشخاص؛ رجل من خراسان قال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت بخراسان؟ قال: أجل، فأتاه آخر من الأندلس، فقال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت بالأندلس؟ فقال: نعم، فأتاه آخر من اليمن فقال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت في اليمن؟ فقال: أجل، فأتاه آخر من النوبة، قال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت في النوبة؟ فقال: نعم، فأتاه آخر من فارس فقال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت بفارس؟ فقال: نعم، خمسة، كل واحد أتى من جهة نائية بعيدة يروون عنه بيتاً واحداً من شعره هو.
ولذلك تجدون الكتب الموثقة تبدأ بالأسانيد، فتكون العناية الشديدة في تثبيت هذا التراث، فالناس يحفظونه، بينما الأمم السابقة لا تحفظ كتبها المنزلة، أنتم الآن إذا سألتموني عن درس من مختصر خليل مثلاً، يقول: (شرط لصلاة طهارة حدث وخبث، وإن رعف قبلها ودام أخر لآخر الاختياري أو صلى أو فيها، وإن عيداً أو جنازة، وظن دوامه له أتمها إن لم يلطخه فرش مسجد وأومأ لخوف تأذيه أو تلطخ ثوبه لا جسده..) إلى آخره، هذه الألفاظ صعبة جداً، ويصعب فهمها، لكننا نحفظها مثل ما نحفظ القرآن، والأمم السابقة لا تحفظ إنجيلاً ولا توراة ولا زبوراً، ولا شيئاً من الكتب المنزلة، وهذا التراث محفوظ، نحن الآن نحفظه، حتى ما كان منه في الجاهلية.
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
نحفظها كما نحفظ الوحي المقدس المنزل.
مما يدل على أن تراث هذه الأمة محل ثقة، ويبقى أنه قابل للخلل من جهة أنه إنتاج بشري، لكن نسبته إلى أصحابه موثقة؛ ولذلك فإن المستشرقين عندما درسوا الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي، واعتنوا بإخراج هذه المخطوطات أحدثوا في التحقيق باباً جديداً لم يكن معروفاً في التحقيق، وهو إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ولم يكن المسلمون محتاجون إلى هذا؛ لأن الكتب مروية، ويرويها الناس، وانظروا إلى صحيح البخاري مثلاً؛ فرواه عنه في المرة الأخيرة التي قدم فيها إلى بغداد تسعون ألفاً، سمعوا منه الصحيح من أوله إلى آخره، وهكذا فهذه الكتب مروية؛ فنحن لا نحتاج إلى بحث في إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه؛ لأن الكتب مروية عندنا، إلا شيء نادر جداً في بعض الكتب التي فيها إشكالات سياسية، يخاف أصحابها أن يثبتوا أسماءهم عليها، أو فيها إشكالات فنية كذلك تقتضي منهم أن يتنكروا لها، أو أثارت زوبعة وخلافاً أو تضمنت أشعاراً فيها هجاء وطعن في الناس؛ يخاف أصحابها أن يستهدفوا إذا ذكرت أسماؤهم فيها، هذه التي تبقى مجهولة المؤلفين، أما ما سواها من الكتب فمعروفة المؤلفين، مروية بالأسانيد، وهذه ميزة مهمة من ميزات هذا التراث.
فأول هذه الميزات: ارتباطه بالوحي واستنارته به؛ فالآن إذا ذهبنا إلى تراث الأوروبيين أو غيرهم فإن فيه كثيراً من الأمور المفيدة النافعة للعالم، ولكنها غير مرتبطة بالوحي ولا لها جانب من التقديس، بينما نجد تراثنا نحن مرتبطاً بالوحي؛ إذا قال شاعر قصيدة وأراد أن تنتشر قصيدته وأن يرويها الناس وأن يهتموا بها سيجعل فيها إحالة إلى الكتاب أو إلى السنة أو يسرق فيها من شعر الماضين، وسامحوني في السرقة! فهذا المصطلح ليس مصطلحاً جنائياً، بل إن هذا المصطلح عند الأدباء قديم وفي علم البلاغة يسمونه "السرقات الشعرية"، كذلك إذا أراد المحاضر أن تكون محاضرته مقنعة فإنه يربطها بالوحي كتاباً وسنة، وإذا أراد الفقيه أن تكون فتواه مقنعة أو أراد القاضي أن يكون حكمه مقنعاً؛ فإنه يربطه بالدليل؛ فهذا إنتاج عقلي بشري، وهو داخل في التراث، لكنه مرتبط بالدليل؛ فتراث هذه الأمة ترتبط فيه الأرض بالسماء، وهذه ميزة تختص بها.
كذلك من خصائص تراث هذه الأمة الشمول؛ فتراث هذه الأمة تراكمي منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا تحدثنا الآن عن أي جانب من جوانب التراث، تحدثنا مثلاً عن التضحيات في الجهاد في سبيل الله فسنبدأ من تضحيات المهاجرين الأولين وإيذائهم في الشعب وما يتعلق بذلك حتى نصل إلى زماننا، وإذا تحدثنا عن الفهم في الفتوى أو القضاء نبدأ بقضاء أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، ونستمر إلى وقتنا، وهكذا في فتاويهم؛ فهو تراكم يقتضي ذلك شموله وعمومه حتى يغطي المساحات كلها، وحتى يكون له أثر كبير في تلوين خريطة العالم، فهذا التراث تراث شامل بخلاف غيره؛ فتراث الأمم الأخرى قد يكون خادماً لبعض الجوانب التي تتميز فيها؛ فالحضارة الرومانية إذا سمعتموها الآن انطلقت أذهانكم إلى ما يتعلق بالمدنية والبنيان، والحضارة الإغريقية - التراث الإغريقي - إذا سمعتموه الآن انصرفت أذهانكم أيضاً إلى ما يتعلق بالمنطق الآرسطي ونحو ذلك.
وحضارة الآشوريين أو تراثهم إذا تحدث عنه الآن انطلقت أذهانكم إلى القانون وما يتعلق به، فالحضارات الأخرى تراثها غير شامل، وهذه الأمة تراثها شامل، مغط لجميع جوانب حياة البشرية واحتياجاتها.