العفاف في حياتنا


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله تعالى العفاف والغنى، وذلك يدل على أهمية هذه المسألة، فإن ما سأله ربه لا يمكن إلا أن يكون من خير ما يسأل، فقد اختار الله له ووفقه له، وبذلك يعلم أن على كل مؤمن أن يسأل الله ما كان يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والعفاف خلق كريم يحتاج الإنسان إلى التحلي به؛ لأن حسن الخلق هو أقرب ما يقرب إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، وقد جاء أنه أول ما يوضع في الميزان، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم أنه سبب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً ).

فعلى الإنسان أن يحاول التحلي بصفات المؤمنين وأخلاقهم، وأن يحرص على الازدياد منها، وهذا الخلق لا يمكن أن يتحلى به الإنسان إلا بأمرين: أحدهما: أمر نظري، أي: بأن يتعلمه.

والثاني: أمر تطبيقي بأن يأطر نفسه عليه أطراً، وأن يعودها عليه تعويداً، فسنبدأ إن شاء الله تعالى بالإطار النظري لهذا الخلق، فأقول:

إن أهل العلم قسموا العفاف إلى ستة أقسام بحسب متعلقه من البدن:

المقصود بعفاف القلب

فالقسم الأول: عفاف القلب، والمقصود به غنى النفس، أي: أن يكون الإنسان مستغنياً بما آتاه الله تعالى، وذلك من تمام الإيمان؛ لأن الإنسان إذا علم أن الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، تعلق بما عند الله وزهد فيما عند الناس، وبذلك يكون عفيف القلب؛ لأن قلبه ذو جهة واحدة، مرتبط بالله وحده ولا علاقة له بمن دونه، ولا يهتم بما لدى الآخرين، وهو يتذكر دائماً قول الله تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[يونس:107]، ويتذكر قوله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، فيعلم أن جميع الخير هو من عند الله سبحانه وتعالى يخص به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وقد كتب لكل إنسان حظه ونصيبه من هذه الحياة، كما أنك لم تشاور في خلقتك، وقد أخرجك الله من العدم إلى الوجود، كذلك لم تشاور في رزقك، فقد خصص الله لك مخصصاً يتناسب مع عمرك، فأنت جاهل لعمرك؛ لقدره وأطواره وأحواله، ولا يمكن لك أن تعرف ما يتناسب معك، والله تعالى عالم بذلك فخصص لك مخصصا ًيتناسب مع عمرك.

فالرزق مع العمر إذا انتهى أحدهم انتهى الثاني، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا[هود:6]، فذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر، ومن هنا على الإنسان أن يعلم أن بذل الأسباب إنما هو عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله، لكنه لا يغير شيئاً من قدر الله، ومن هنا فهو يتعالج ويتداوى من أجل طلب الشفاء، لكنه لا يعلم أن الشفاء مكتوب، ويعلم أن الله قد كتب له ما هو كائن، إن كان سيشفى من هذا المرض فقد كتب ذلك له، وإن كان لن يشفى منه فلا يمكن أن ينفعه علاج.

وكذلك في طلبه للدنيا يعلم أن نصيبه منها قد كتب، وأنه إذا بذل كل الأسباب لا يمكن أن يزيد في نصيبه شيئاً، وإذا لم يبذل أي سبب فسيصل إليه نصيبه إلى مكانه الذي هو فيه.

ومن هنا قال الحكيم:

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

وكما قال الآخر:

باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما

تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

وكما قال ابن زريق الأندلسي رحمه الله:

والله قد قسم الأرزاق بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه

والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه

فكل ذلك مكتوب.

ثمرة عفاف القلب

إذا راجع الإنسان هذه العقيدة ورسخها في نفسه، فإنه سيرغب فيما عند الله ويهتم به، ويزهد فيما عند غيره؛ لأن الآخرين جميعاً لو اجتمعوا على أن يوصلوا إليه نفعاً، لما استطاعوا إلا ما كتب الله له، ولو اجتمعوا جميعاً على أن يوصلوا إليه ضراً، لم يوصلوا إليه إلا ما كتب الله عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهم: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

ومن هنا لا بد أن يحدد الإنسان علاقته بربه، وأن يعلم أن عبوديته تقتضي منه اللجأ إلى الله في كل أوقاته، وتعلق القلب به، والرغبة فيما عنده، والأنس به في كل الأحيان، فإذا فقدت شيئاً من الدنيا، كأن فقدت حبيبا ًمن أهلها، أو فاتك مصلحة من مصالحها، أو فاتك أي شيء مما ترغب فيه مما فيها، فإن الله حي لا يموت، وهو الباقي وحده، وفيه خلف عن كل هالك.

وكذلك إذا سدت دونك الأبواب وأغلقت فباب الملك الديان مفتوح، وهو ( يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل )، ويتعرف إلى عباده بالنعماء قبل المسألة، ويجيبهم إذا سألوه، ويعطيهم أكثر مما تتعلق به أفئدتهم، فإذا راجعت نفسك تذكرت أن الله تعالى أعطاك كثيرا ًمن الخير لم تسأله إياه قبل أن تسأله، ثم بعد ذلك استجاب لك الدعاء، فأعطاك ما سألته في كثير من المواقف، ثم بعد ذلك أعطاك مالم يخطر على بالك ولم تكن لتصل إليه مسألتك، وكل ذلك من كرمه وجوده، وقد عودك على هذا الإحسان، فعليك أن تحسن العلاقة به، وأن تحسن الظن به؛ ولذلك يقول الحكيم:

حسن الظن بمن عودك كل إحسان وقوى أودك

إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غدك

وقد دخل عبد الله بن المبارك رحمه الله على هارون الرشيد يوماً من الأيام فوجده مهموماً، فسأله الرشيد أن يعظه، وأن يذكره بالله، وكان بيده كأس ماء يريد أن يشرب منه، فقال: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب بارك الله لك فيها، فشرب، فقال: لو منعت إخراجها فحيل بينك وبين أن تبولها بكم تشتري ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: إن ملكاً قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة جميعه بولة لا يستحق أن يحرص عليه أحد، قال: صدقت فبكى هارون بكاء شديداً؛ لأنه تذكر أنه قد أفنى كثيراً من أوقاته في تدبير أمور الملك والحرص عليه، وقد أفنى كثيرا ًمن الليالي بالهم والغم بشأن هذا الملك، وهو مكتوب قد حسم.

فلما رأى اتعاظه وانكساره قال: يا أمير المؤمنين! ما نصيبك من رحمة الله في هذه الدنيا؟ قال: أوفر نصيب، فأنا أمير المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختارني الله بالإيمان والعلم والتقوى، ورزقني من صالح المال والولد، فذكر أنواع نعمة الله التي لا يستطيع إحصاءها، قال: هذا نصيبك من جزء واحد من رحمة واحدة في الدنيا، فكيف بنصيبك من تسع وتسعين رحمة في الآخرة.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة )، فلذلك لا بد أن يحسن الإنسان ظنه بالله تعالى، وإذا راجع الإنسان هذه العقيدة، وأنس بالله في كل أوقاته، فإنه إذا سدت الأبواب وأغلقت تذكر باب الملك الديان، واتصل به، وإذا قاطعه الناس حسن ذلك لديه؛ لأنه في مقابل ذلك يقبل على الله كما قال الحكيم:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

فإذا صحح الإنسان هذا الاعتقاد فسيكون سعيداً في كل أوقاته سعادة عجيبة، وبذلك فإنه ( إذا مسته الضراء صبر فكان خيراً له، وإذا مسته السراء شكر فكان خيراً له )، فهو بين حالين لا يمكن أن يصيبه في الدنيا إلا سراء أو ضراء، وهو يعلم أنهما من عند الله، فيرحب بكل ما جاء من عند الله، فإن كان سراء شكرها لله، وإن كان ضراء صبرها لله، وهو يعلم أنه وحده الذي يستطيع جلب السراء، وهو وحده الذي يستطيع دفع الضراء، وبهذا ينظر إلى الخلائق كنظرته إلى النمل وكل الحشرات، فيعلم أنها ما لم تسلط عليه، فلا يمكن أن تصل إليه بضرر، وأنها لا تستحق أكثر من قدرها، فأنت ترى النملة تمشي، وترى الذبابة تطير ولا تولها أكثر من قدرها، فكذلك الخلائق جميعاً لا يملك أحد منهم لأحد نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74].

مشاهدة فضل الله ونعمه على عباده

وإذا عرفت ذلك فأنت في سعادة عجيبة، وإقبال على الله سبحانه وتعالى، وطلب لخيره ومشاهدة لما يقسمه، فأنت في كل وقت تشاهد من قسمة الله سبحانه وتعالى ومن خيره وفضله ما لا يمكن إحصاؤه ولا عدله.

فانظر إلى عدد الخلائق على وجه هذه الأرض من البشر فقط الذين تعرفهم، الآن حوالي خمسة مليارات من البشر فطرهم جميعاً، ونفخ فيهم الروح، وأعطاهم السمع والبصر والأفئدة، وأعطاهم الأيدي والأرجل، وأعطاهم اللباس حين لم يستر أبدانهم بالشعر، كسائر الدواب والبهائم أعطاهم اللباس يستره عن أشعة الشمس.

وأنعم عليهم بالإيواء والإطعام والشراب، وجميع هؤلاء رزقهم على الله جميعاً، يقسمه بينهم وكل ذلك ( لا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )، وهذا عدم ليس شيئاً، وانظر كذلك إلى ما لا تعرفه من الخلائق عرفت بالتخمين قدر الإنس، فكم قدر الجن؟! وكم مضى من الإنس وكم سيأتي ؟ أيضاً إذا عرفت ذلك فما هو الملكوت، وهذا في عالم الملك الذي نشاهده، فكيف عالم الملكوت، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

وهناك خلائق كثيرة لا تعرف أسماءها ولا ألوانها ولا أجناسها ولا لماذا خلقت، وكلها يدبر عليها الملك الديان، وتذكرك لهذا نفي للغفلة عنك؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أقبل على النوم، واضطجع على فراشه: ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم مما لا كافي له ولا مؤوي ).

وهذه عجيبة يقر بها الإنسان لله تعالى، ويعلم أن غير الله لا يستطيع أن يوصل أي جزء منها إليه، ولا يستطيع أن يمنعه أي جزء قد كتبه الله له، وبذلك يأنس في كل الأحيان ويسر بكل الأمور.

وأذكر درساً تعلمناه من شيخ كبير السن من العلماء، وهو الشيخ محمد يبرأ البيه رحمة الله عليه، فإنا زرناه في وقت الضحى وهو أصم لا يسمع، وإنما يكتب له في الهواء فيتفاهم مع الشخص بالكتابة في الهواء، فكتبت له أن من الأجهزة أجهزة سمعية توضع على الأذن فيسمع بها الإنسان، فأجابني فقال: ما كتمه عني ربي لا أحب أن أسمعه، ومعنى ذلك أنه راضٍ بما قدر الله له، وما كتم عنه وهو الأصوات، فإنه لا يحب أن يتطلع إلى سماعه، ويعلم أنه لا يمكن أن يسمعه أصلاً؛ لأن ربه قد كتمه عنه، فهذا النوع من الرضا إذا حصل للإنسان فهو سعيد مسرور، ولذلك تجدون أهل العبادة وإن كانوا ضعاف الأبدان، وإن كانوا كبار السن في رخاء وسعادة عجيبة وراحة بال، بينما تجدون المقبلين على الدنيا، والراغبين في زهرتها، والمتطاولين فيها إذا حصل أي إشكال، أو أي نقص، مثلاً: ارتفع مؤشر الأسهم أو انخفض، أو تأخرت الباخرة، أو ازداد سعر البنزين، أو نقصت القوة الشرائية للزبون، أو حصل أي إشكال ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، كأنما تمسك قلوبهم فتعصر لأتفه الأسباب وأخفها؛ لأنهم ربطوا مصيرهم ومآلهم وأوقاتهم بأمر هذه الدنيا وأسبابها الفانية، بينما أهل الله سبحانه وتعالى ينظرون إلى هذه الدنيا إلى أنها نقطة صغيرة جداً في عالم ملكوت الله سبحانه وتعالى.

فالسموات السبع والأرضون السبع كدراهم في ترس إذا قيست إلى الكرسي، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، وبهذا يعلم سعة ملك الله سبحانه وتعالى وتدبيره، وأنه لا يمكن أن يفوته فائت، وأن أمر كل شيء إليه، وتدبير كل شيء عليه، لا تسقط ورقة من أية شجرة من شجر الهند الملتف إلا وقد علمها وكتبها، ولا تقطر قطرة من المطر في البلدان الاستوائية في أدغال إفريقيا إلا وفي إرادة ملك أمره الله أن يوصلها إلى مكانها؛ ولهذا قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59].

وقد كنا يوماً من الأيام في مدينة فريجينيا فقطعنا النهر إلى واشنطن، وصعدنا فالخازوك الذي إذا وقف فيه الإنسان دار به، ويرى بالمنظار جميع أنحاء واشنطن، وهو قريب جداً من البيت الأبيض ومن قبة الكونجرس، فإذا البرامج الترويجية التي يروج لها الأمريكان أنهم يمتلكون أكبر قدرة تجسسية في العالم، وأنهم يملكون منظومة من تسعة وأربعين قمراً صناعياً تجسسياً تغطي الكرة الأرضية كلها، فسألت زميلاً لي: هل تصدق هذا الذي قالوا لي ؟ قال: كيف لا أصدقه وهو بارز العيان، وسنذهب بعد قليل إلى محطة الفضاء وفيها تغطية كل ذلك، قلت: هذه الأشجار التي تراها في البيت الأبيض هل يعرفون عدد أوراقها؟ ففي شهر الربيع تتلون الأشجار في أمريكا فتسقط أوراقها، وتتلون بألوان مختلفة في أمريكا كلها، فهل يعرفون عدد هذه الأوراق التي تتساقط الآن في البيت الأبيض؟ قال: لا، قلت: هون عليك إذا جهلوا هذا الذي في البيت الأبيض، فكيف يعرفون الذي في البيت الأسود، والذي في أماكن أخرى.

إن الإنسان إذا عرف هذه الأمور هانت عليه أسباب أهل الدنيا، قلت له: إذا كانوا لا يعرفون ما في البيت الأبيض من أوراق الشجر التي تتساقط، فهم لا يعرفون أعدادها ولا أعمارها ولا بدائلها، فكيف يعرفون ما في الدنيا كلها!

والغريب أنه بعد ذلك بأيام خرج متهور أمريكي في طائرة يتعلم فيها السياقة فأنزلها في البيت الأبيض، دون أن ترصد ولا أن تكتشف بالأقمار الصناعية ولا بالرادارات.

معرفة سعة علم الله وقدرته وضعف البشر

وبهذا يعلم أن الخلائق جميعاً لا يتكل عليهم، ولا يعتمد عليهم فالرب الكريم هو الذي لا يفوته فائت، وعلمه محيط بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً، وكل ذلك بتدبيره وقدرته، لا ينبط ورقة حتى يأذن لها، ولا تتحرك بهواء حتى يأذن لها بالتحرك به، ولا تسقط إلا إذا أذن لها، ويعلم الله تعالى قدر ما يصل إليها من الماء الذي تشربه الشجرة، وقدر ما يصل إليها من الأكسجين الذي تشربه الشجرة، فحضها مقسوم مكتوب.

ومثل ذلك في نفسك، فتغذيتك التي كتب الله لك ليست لك، بل أنت مشروك فيها، وقد قسمها الله تعالى فجعل بها أرزاق أنواع من الخلائق لا تعرفها، فشعرك كل شعرة منه تشاركك في التغذية، ولها نصيبها المعلوم في علم الله وهو مكتوب، وعضلاتك كل عضلة منها بل أنسجتك كل ذرة منها، كل خلية من هذه الأنسجة، وكل نواة من كل خلية قد كتب الله لها رزقها يصل إليها مما تتغذى به، وقد قسم الله مما تتغذى به لأنواع أخرى من الخلائق فمنها مثلاً القمل من أين رزقه ؟ من أرزاق البشر، والبق من أين رزقه ؟ من أرزاق البشر، بل إن كثيراً من البهائم والهوام أرزاقها هي من رجيع البشر، فكل ذلك من قسمة الله تعالى وتدبيره، وبهذا يهون عليك الأمر، وترى ما أنت مشارك في تيسيره من الكون كما أنت غائب عنه.

إنك تتعب في تحصيل الرزق قبل أن تأكله، لكن إذا مضغته وابتلعته زال تدبيرك، ولم تكن لك أية مشاركة فيما سيمر به من المراحل، وسيمر بمراحل أكثر من المراحل التي مر بها قبل أن تبتلعه، فإنه قبل أن تبتلعه قد مر بحفر الأرض وجعل البذر فيها، وسقيها ورعايتها وتنقيتها، ورعاية النبات بعد ذلك حتى يتم ويسود، ثم بعد ذلك في حصاده، ثم بعد ذلك في دراسة، ثم بعد ذلك في حصده وغربلته، ثم بعد ذلك في إنضاجه، ثم بعد ذلك في أكله مراحل معدودة، لكن بعد الأكل سيمر بمراحل لا عد لها، فإنه في المعدة تنتابه أنواع كثيرة جداً من الإنزيمات التي بها يمر بمراحل كثيرة جداً قبل أن يتجاوز المعدة، ثم يتجاوزها وقد قسم إلى أنواع: منه السوائل التي تذهب في جهة، ومنه ما يغذي الدم، ومنه ما يغذي العظام، ومنه ما يغذي اللون، ومنه ما يغذي البصر، ومنه ما يغذي الدماء، ومنه ما يغذي الشعر، وكل ذلك حتى الأظافر لها نصيبها منه، فما يغذي الأظافر يختلف عما يغذي البشرة، وما يصلح اللون يختلف عما يتعلق بالشعر، وما يقوي الجسم ما يزيد الشحم، وما يزيد اللحم، وما يزيد الكريات الحمراء في الدم ما يزيد الكريات البيضاء فيه، وكل هذه الأمور قد قسمها الله وكتبها وأنت غير مشارك فيها، ليس لك فيها أي اشتراك، ولا تستطيع ملاحظتها، فإذا كان الأمر كذلك، فاجعل ما أنت مشارك في تدبيره من هذا الكون كالذي أنت غائب عنه لا علم لك به؛ وبالتالي يسهل عليك الأمر فيكون قلبك عفيفاً عن هذه الدنيا، لا يتعلق بها؛ لأن القلب أضيق من أن يحمل الكثير، فإما أن يمتلئ بالاهتمام بأمر الآخرة، وإما أن يمتلئ بالاهتمام بأمر الدنيا، وانظر إلى البعد الشاسع بين الحالين، فإن من امتلأ قلبه بالدنيا فقد امتلأ بالعفن والوسخ والقيح والصديد والدم والأقذار، ومن امتلأ قلبه بمحبة الآخرة والتعلق بما عند الله سبحانه وتعالى فقد امتلأ بالنور، والبون شاسع والفرق كبير من الطائفتين، ولهذا قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:18-20] وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20].

كون العفاف في الدنيا مقتض للحرص على الآخرة

فالدنيا ضرة الآخرة وهما ضدان، فإما أن تؤثر هذه، وإما أن تؤثر الأخرى؛ فلذلك عفافك عن الدنيا يقتضي بالضرورة حرصك على الآخرة، وحرصك على النجاة من عذاب الله، وحرصك على نعيمه والقرب إليه، وإذا كانت الدنيا في يدك لا في قلبك فقد تعففت عنها، فزال عنك ما فيها من الأوساخ والأقذار، وانتفعت بما فيها من النفع فجعلتها مطية للدار الآخرة، وصرفتها في وجهها الصحيح.

وكثير من الناس يظن أن ما نقوله يقتضي منا الابتعاد عن الدنيا، والزهد فيها وتركها بالكلية، وهذا غير صحيح.

فالصحيح هو نفض يد القلب عن الدنيا، وأن تكون يد البدن مشغولة بها لا تتعلق بها بقلبك ولا تحبها، ولكن تصرف فيها لأنك مأمور. وقاعدة الأسباب هي أن التوكل عليها شرك، وأن تركها معصية، فالتوكل على الأسباب شرك بالله وترك الأسباب معصية لله، فلا بد أن تباشر الأسباب وأن تعمل بها؛ لأن الله أمرك بإعمالها لكن لا أن تتوكل عليها، وأن تعلم أنها لا تغير شيئاً من قضاء الله ولا قدره، ولا يمكن أن يكون لها تأثير في أي شيء إلا ما كتب الله سبحانه وتعالى وقدر.

فالقسم الأول: عفاف القلب، والمقصود به غنى النفس، أي: أن يكون الإنسان مستغنياً بما آتاه الله تعالى، وذلك من تمام الإيمان؛ لأن الإنسان إذا علم أن الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، تعلق بما عند الله وزهد فيما عند الناس، وبذلك يكون عفيف القلب؛ لأن قلبه ذو جهة واحدة، مرتبط بالله وحده ولا علاقة له بمن دونه، ولا يهتم بما لدى الآخرين، وهو يتذكر دائماً قول الله تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[يونس:107]، ويتذكر قوله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، فيعلم أن جميع الخير هو من عند الله سبحانه وتعالى يخص به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وقد كتب لكل إنسان حظه ونصيبه من هذه الحياة، كما أنك لم تشاور في خلقتك، وقد أخرجك الله من العدم إلى الوجود، كذلك لم تشاور في رزقك، فقد خصص الله لك مخصصاً يتناسب مع عمرك، فأنت جاهل لعمرك؛ لقدره وأطواره وأحواله، ولا يمكن لك أن تعرف ما يتناسب معك، والله تعالى عالم بذلك فخصص لك مخصصا ًيتناسب مع عمرك.

فالرزق مع العمر إذا انتهى أحدهم انتهى الثاني، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا[هود:6]، فذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر، ومن هنا على الإنسان أن يعلم أن بذل الأسباب إنما هو عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله، لكنه لا يغير شيئاً من قدر الله، ومن هنا فهو يتعالج ويتداوى من أجل طلب الشفاء، لكنه لا يعلم أن الشفاء مكتوب، ويعلم أن الله قد كتب له ما هو كائن، إن كان سيشفى من هذا المرض فقد كتب ذلك له، وإن كان لن يشفى منه فلا يمكن أن ينفعه علاج.

وكذلك في طلبه للدنيا يعلم أن نصيبه منها قد كتب، وأنه إذا بذل كل الأسباب لا يمكن أن يزيد في نصيبه شيئاً، وإذا لم يبذل أي سبب فسيصل إليه نصيبه إلى مكانه الذي هو فيه.

ومن هنا قال الحكيم:

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

وكما قال الآخر:

باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما

تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

وكما قال ابن زريق الأندلسي رحمه الله:

والله قد قسم الأرزاق بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه

والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه

فكل ذلك مكتوب.

إذا راجع الإنسان هذه العقيدة ورسخها في نفسه، فإنه سيرغب فيما عند الله ويهتم به، ويزهد فيما عند غيره؛ لأن الآخرين جميعاً لو اجتمعوا على أن يوصلوا إليه نفعاً، لما استطاعوا إلا ما كتب الله له، ولو اجتمعوا جميعاً على أن يوصلوا إليه ضراً، لم يوصلوا إليه إلا ما كتب الله عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهم: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

ومن هنا لا بد أن يحدد الإنسان علاقته بربه، وأن يعلم أن عبوديته تقتضي منه اللجأ إلى الله في كل أوقاته، وتعلق القلب به، والرغبة فيما عنده، والأنس به في كل الأحيان، فإذا فقدت شيئاً من الدنيا، كأن فقدت حبيبا ًمن أهلها، أو فاتك مصلحة من مصالحها، أو فاتك أي شيء مما ترغب فيه مما فيها، فإن الله حي لا يموت، وهو الباقي وحده، وفيه خلف عن كل هالك.

وكذلك إذا سدت دونك الأبواب وأغلقت فباب الملك الديان مفتوح، وهو ( يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل )، ويتعرف إلى عباده بالنعماء قبل المسألة، ويجيبهم إذا سألوه، ويعطيهم أكثر مما تتعلق به أفئدتهم، فإذا راجعت نفسك تذكرت أن الله تعالى أعطاك كثيرا ًمن الخير لم تسأله إياه قبل أن تسأله، ثم بعد ذلك استجاب لك الدعاء، فأعطاك ما سألته في كثير من المواقف، ثم بعد ذلك أعطاك مالم يخطر على بالك ولم تكن لتصل إليه مسألتك، وكل ذلك من كرمه وجوده، وقد عودك على هذا الإحسان، فعليك أن تحسن العلاقة به، وأن تحسن الظن به؛ ولذلك يقول الحكيم:

حسن الظن بمن عودك كل إحسان وقوى أودك

إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غدك

وقد دخل عبد الله بن المبارك رحمه الله على هارون الرشيد يوماً من الأيام فوجده مهموماً، فسأله الرشيد أن يعظه، وأن يذكره بالله، وكان بيده كأس ماء يريد أن يشرب منه، فقال: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب بارك الله لك فيها، فشرب، فقال: لو منعت إخراجها فحيل بينك وبين أن تبولها بكم تشتري ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: إن ملكاً قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة جميعه بولة لا يستحق أن يحرص عليه أحد، قال: صدقت فبكى هارون بكاء شديداً؛ لأنه تذكر أنه قد أفنى كثيراً من أوقاته في تدبير أمور الملك والحرص عليه، وقد أفنى كثيرا ًمن الليالي بالهم والغم بشأن هذا الملك، وهو مكتوب قد حسم.

فلما رأى اتعاظه وانكساره قال: يا أمير المؤمنين! ما نصيبك من رحمة الله في هذه الدنيا؟ قال: أوفر نصيب، فأنا أمير المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختارني الله بالإيمان والعلم والتقوى، ورزقني من صالح المال والولد، فذكر أنواع نعمة الله التي لا يستطيع إحصاءها، قال: هذا نصيبك من جزء واحد من رحمة واحدة في الدنيا، فكيف بنصيبك من تسع وتسعين رحمة في الآخرة.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة )، فلذلك لا بد أن يحسن الإنسان ظنه بالله تعالى، وإذا راجع الإنسان هذه العقيدة، وأنس بالله في كل أوقاته، فإنه إذا سدت الأبواب وأغلقت تذكر باب الملك الديان، واتصل به، وإذا قاطعه الناس حسن ذلك لديه؛ لأنه في مقابل ذلك يقبل على الله كما قال الحكيم:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

فإذا صحح الإنسان هذا الاعتقاد فسيكون سعيداً في كل أوقاته سعادة عجيبة، وبذلك فإنه ( إذا مسته الضراء صبر فكان خيراً له، وإذا مسته السراء شكر فكان خيراً له )، فهو بين حالين لا يمكن أن يصيبه في الدنيا إلا سراء أو ضراء، وهو يعلم أنهما من عند الله، فيرحب بكل ما جاء من عند الله، فإن كان سراء شكرها لله، وإن كان ضراء صبرها لله، وهو يعلم أنه وحده الذي يستطيع جلب السراء، وهو وحده الذي يستطيع دفع الضراء، وبهذا ينظر إلى الخلائق كنظرته إلى النمل وكل الحشرات، فيعلم أنها ما لم تسلط عليه، فلا يمكن أن تصل إليه بضرر، وأنها لا تستحق أكثر من قدرها، فأنت ترى النملة تمشي، وترى الذبابة تطير ولا تولها أكثر من قدرها، فكذلك الخلائق جميعاً لا يملك أحد منهم لأحد نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74].

وإذا عرفت ذلك فأنت في سعادة عجيبة، وإقبال على الله سبحانه وتعالى، وطلب لخيره ومشاهدة لما يقسمه، فأنت في كل وقت تشاهد من قسمة الله سبحانه وتعالى ومن خيره وفضله ما لا يمكن إحصاؤه ولا عدله.

فانظر إلى عدد الخلائق على وجه هذه الأرض من البشر فقط الذين تعرفهم، الآن حوالي خمسة مليارات من البشر فطرهم جميعاً، ونفخ فيهم الروح، وأعطاهم السمع والبصر والأفئدة، وأعطاهم الأيدي والأرجل، وأعطاهم اللباس حين لم يستر أبدانهم بالشعر، كسائر الدواب والبهائم أعطاهم اللباس يستره عن أشعة الشمس.

وأنعم عليهم بالإيواء والإطعام والشراب، وجميع هؤلاء رزقهم على الله جميعاً، يقسمه بينهم وكل ذلك ( لا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )، وهذا عدم ليس شيئاً، وانظر كذلك إلى ما لا تعرفه من الخلائق عرفت بالتخمين قدر الإنس، فكم قدر الجن؟! وكم مضى من الإنس وكم سيأتي ؟ أيضاً إذا عرفت ذلك فما هو الملكوت، وهذا في عالم الملك الذي نشاهده، فكيف عالم الملكوت، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

وهناك خلائق كثيرة لا تعرف أسماءها ولا ألوانها ولا أجناسها ولا لماذا خلقت، وكلها يدبر عليها الملك الديان، وتذكرك لهذا نفي للغفلة عنك؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أقبل على النوم، واضطجع على فراشه: ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم مما لا كافي له ولا مؤوي ).

وهذه عجيبة يقر بها الإنسان لله تعالى، ويعلم أن غير الله لا يستطيع أن يوصل أي جزء منها إليه، ولا يستطيع أن يمنعه أي جزء قد كتبه الله له، وبذلك يأنس في كل الأحيان ويسر بكل الأمور.

وأذكر درساً تعلمناه من شيخ كبير السن من العلماء، وهو الشيخ محمد يبرأ البيه رحمة الله عليه، فإنا زرناه في وقت الضحى وهو أصم لا يسمع، وإنما يكتب له في الهواء فيتفاهم مع الشخص بالكتابة في الهواء، فكتبت له أن من الأجهزة أجهزة سمعية توضع على الأذن فيسمع بها الإنسان، فأجابني فقال: ما كتمه عني ربي لا أحب أن أسمعه، ومعنى ذلك أنه راضٍ بما قدر الله له، وما كتم عنه وهو الأصوات، فإنه لا يحب أن يتطلع إلى سماعه، ويعلم أنه لا يمكن أن يسمعه أصلاً؛ لأن ربه قد كتمه عنه، فهذا النوع من الرضا إذا حصل للإنسان فهو سعيد مسرور، ولذلك تجدون أهل العبادة وإن كانوا ضعاف الأبدان، وإن كانوا كبار السن في رخاء وسعادة عجيبة وراحة بال، بينما تجدون المقبلين على الدنيا، والراغبين في زهرتها، والمتطاولين فيها إذا حصل أي إشكال، أو أي نقص، مثلاً: ارتفع مؤشر الأسهم أو انخفض، أو تأخرت الباخرة، أو ازداد سعر البنزين، أو نقصت القوة الشرائية للزبون، أو حصل أي إشكال ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، كأنما تمسك قلوبهم فتعصر لأتفه الأسباب وأخفها؛ لأنهم ربطوا مصيرهم ومآلهم وأوقاتهم بأمر هذه الدنيا وأسبابها الفانية، بينما أهل الله سبحانه وتعالى ينظرون إلى هذه الدنيا إلى أنها نقطة صغيرة جداً في عالم ملكوت الله سبحانه وتعالى.

فالسموات السبع والأرضون السبع كدراهم في ترس إذا قيست إلى الكرسي، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، وبهذا يعلم سعة ملك الله سبحانه وتعالى وتدبيره، وأنه لا يمكن أن يفوته فائت، وأن أمر كل شيء إليه، وتدبير كل شيء عليه، لا تسقط ورقة من أية شجرة من شجر الهند الملتف إلا وقد علمها وكتبها، ولا تقطر قطرة من المطر في البلدان الاستوائية في أدغال إفريقيا إلا وفي إرادة ملك أمره الله أن يوصلها إلى مكانها؛ ولهذا قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59].

وقد كنا يوماً من الأيام في مدينة فريجينيا فقطعنا النهر إلى واشنطن، وصعدنا فالخازوك الذي إذا وقف فيه الإنسان دار به، ويرى بالمنظار جميع أنحاء واشنطن، وهو قريب جداً من البيت الأبيض ومن قبة الكونجرس، فإذا البرامج الترويجية التي يروج لها الأمريكان أنهم يمتلكون أكبر قدرة تجسسية في العالم، وأنهم يملكون منظومة من تسعة وأربعين قمراً صناعياً تجسسياً تغطي الكرة الأرضية كلها، فسألت زميلاً لي: هل تصدق هذا الذي قالوا لي ؟ قال: كيف لا أصدقه وهو بارز العيان، وسنذهب بعد قليل إلى محطة الفضاء وفيها تغطية كل ذلك، قلت: هذه الأشجار التي تراها في البيت الأبيض هل يعرفون عدد أوراقها؟ ففي شهر الربيع تتلون الأشجار في أمريكا فتسقط أوراقها، وتتلون بألوان مختلفة في أمريكا كلها، فهل يعرفون عدد هذه الأوراق التي تتساقط الآن في البيت الأبيض؟ قال: لا، قلت: هون عليك إذا جهلوا هذا الذي في البيت الأبيض، فكيف يعرفون الذي في البيت الأسود، والذي في أماكن أخرى.

إن الإنسان إذا عرف هذه الأمور هانت عليه أسباب أهل الدنيا، قلت له: إذا كانوا لا يعرفون ما في البيت الأبيض من أوراق الشجر التي تتساقط، فهم لا يعرفون أعدادها ولا أعمارها ولا بدائلها، فكيف يعرفون ما في الدنيا كلها!

والغريب أنه بعد ذلك بأيام خرج متهور أمريكي في طائرة يتعلم فيها السياقة فأنزلها في البيت الأبيض، دون أن ترصد ولا أن تكتشف بالأقمار الصناعية ولا بالرادارات.

وبهذا يعلم أن الخلائق جميعاً لا يتكل عليهم، ولا يعتمد عليهم فالرب الكريم هو الذي لا يفوته فائت، وعلمه محيط بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً، وكل ذلك بتدبيره وقدرته، لا ينبط ورقة حتى يأذن لها، ولا تتحرك بهواء حتى يأذن لها بالتحرك به، ولا تسقط إلا إذا أذن لها، ويعلم الله تعالى قدر ما يصل إليها من الماء الذي تشربه الشجرة، وقدر ما يصل إليها من الأكسجين الذي تشربه الشجرة، فحضها مقسوم مكتوب.

ومثل ذلك في نفسك، فتغذيتك التي كتب الله لك ليست لك، بل أنت مشروك فيها، وقد قسمها الله تعالى فجعل بها أرزاق أنواع من الخلائق لا تعرفها، فشعرك كل شعرة منه تشاركك في التغذية، ولها نصيبها المعلوم في علم الله وهو مكتوب، وعضلاتك كل عضلة منها بل أنسجتك كل ذرة منها، كل خلية من هذه الأنسجة، وكل نواة من كل خلية قد كتب الله لها رزقها يصل إليها مما تتغذى به، وقد قسم الله مما تتغذى به لأنواع أخرى من الخلائق فمنها مثلاً القمل من أين رزقه ؟ من أرزاق البشر، والبق من أين رزقه ؟ من أرزاق البشر، بل إن كثيراً من البهائم والهوام أرزاقها هي من رجيع البشر، فكل ذلك من قسمة الله تعالى وتدبيره، وبهذا يهون عليك الأمر، وترى ما أنت مشارك في تيسيره من الكون كما أنت غائب عنه.

إنك تتعب في تحصيل الرزق قبل أن تأكله، لكن إذا مضغته وابتلعته زال تدبيرك، ولم تكن لك أية مشاركة فيما سيمر به من المراحل، وسيمر بمراحل أكثر من المراحل التي مر بها قبل أن تبتلعه، فإنه قبل أن تبتلعه قد مر بحفر الأرض وجعل البذر فيها، وسقيها ورعايتها وتنقيتها، ورعاية النبات بعد ذلك حتى يتم ويسود، ثم بعد ذلك في حصاده، ثم بعد ذلك في دراسة، ثم بعد ذلك في حصده وغربلته، ثم بعد ذلك في إنضاجه، ثم بعد ذلك في أكله مراحل معدودة، لكن بعد الأكل سيمر بمراحل لا عد لها، فإنه في المعدة تنتابه أنواع كثيرة جداً من الإنزيمات التي بها يمر بمراحل كثيرة جداً قبل أن يتجاوز المعدة، ثم يتجاوزها وقد قسم إلى أنواع: منه السوائل التي تذهب في جهة، ومنه ما يغذي الدم، ومنه ما يغذي العظام، ومنه ما يغذي اللون، ومنه ما يغذي البصر، ومنه ما يغذي الدماء، ومنه ما يغذي الشعر، وكل ذلك حتى الأظافر لها نصيبها منه، فما يغذي الأظافر يختلف عما يغذي البشرة، وما يصلح اللون يختلف عما يتعلق بالشعر، وما يقوي الجسم ما يزيد الشحم، وما يزيد اللحم، وما يزيد الكريات الحمراء في الدم ما يزيد الكريات البيضاء فيه، وكل هذه الأمور قد قسمها الله وكتبها وأنت غير مشارك فيها، ليس لك فيها أي اشتراك، ولا تستطيع ملاحظتها، فإذا كان الأمر كذلك، فاجعل ما أنت مشارك في تدبيره من هذا الكون كالذي أنت غائب عنه لا علم لك به؛ وبالتالي يسهل عليك الأمر فيكون قلبك عفيفاً عن هذه الدنيا، لا يتعلق بها؛ لأن القلب أضيق من أن يحمل الكثير، فإما أن يمتلئ بالاهتمام بأمر الآخرة، وإما أن يمتلئ بالاهتمام بأمر الدنيا، وانظر إلى البعد الشاسع بين الحالين، فإن من امتلأ قلبه بالدنيا فقد امتلأ بالعفن والوسخ والقيح والصديد والدم والأقذار، ومن امتلأ قلبه بمحبة الآخرة والتعلق بما عند الله سبحانه وتعالى فقد امتلأ بالنور، والبون شاسع والفرق كبير من الطائفتين، ولهذا قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:18-20] وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20].

فالدنيا ضرة الآخرة وهما ضدان، فإما أن تؤثر هذه، وإما أن تؤثر الأخرى؛ فلذلك عفافك عن الدنيا يقتضي بالضرورة حرصك على الآخرة، وحرصك على النجاة من عذاب الله، وحرصك على نعيمه والقرب إليه، وإذا كانت الدنيا في يدك لا في قلبك فقد تعففت عنها، فزال عنك ما فيها من الأوساخ والأقذار، وانتفعت بما فيها من النفع فجعلتها مطية للدار الآخرة، وصرفتها في وجهها الصحيح.

وكثير من الناس يظن أن ما نقوله يقتضي منا الابتعاد عن الدنيا، والزهد فيها وتركها بالكلية، وهذا غير صحيح.

فالصحيح هو نفض يد القلب عن الدنيا، وأن تكون يد البدن مشغولة بها لا تتعلق بها بقلبك ولا تحبها، ولكن تصرف فيها لأنك مأمور. وقاعدة الأسباب هي أن التوكل عليها شرك، وأن تركها معصية، فالتوكل على الأسباب شرك بالله وترك الأسباب معصية لله، فلا بد أن تباشر الأسباب وأن تعمل بها؛ لأن الله أمرك بإعمالها لكن لا أن تتوكل عليها، وأن تعلم أنها لا تغير شيئاً من قضاء الله ولا قدره، ولا يمكن أن يكون لها تأثير في أي شيء إلا ما كتب الله سبحانه وتعالى وقدر.