الاعتناء بالضعفاء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن وبسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الناس من نفسٍ واحدة, وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، ولو شاء لجعل بني آدم كالشجر، كل شجرة لها جذع مستقل، ولكنه أراد ترابطهم وتعاونهم فيما بينهم, فلذلك خلقهم من نفسٍ واحدة , وجعلهم بمثابة الأسرة الواحدة, ولهذا بين سبحانه وتعالى ما يحصل من التنوع النسبي وغيره، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ [الحجرات:13].

تعاون المؤمنين فيما بينهم

وأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالخصوص بالتعاون فيما بينهم, فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:100-105].

مقتضى الترابط بين المؤمنين

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الترابط فيما بين المؤمنين؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ).

وأخرج الشيخان أيضاً في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه ).

وهذا يقتضي أن يستشعر المؤمن من ضرورات إيمانه، ومن واجب عقيدته عنايته بإخوانه والسعي لعونهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، والسعي لنفعهم جميعاً, فذلك من واجبات هذه العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.

ولذلك أخرج ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقى، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، فهذا أمر بأي نفع يستطيع الإنسان إيصاله إلى أي أخٍ له من المؤمنين، فليبادر إليه امتثالاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعملاً بدافع عقيدته التي تدعوه لتحقيق أخوته للمؤمنين.

وأولى المؤمنين بالعون والرعاية هم الضعفاء الذين يحتاجون إلى من يقوم بمصالحهم ومن يعتني بشئونهم، فالله سبحانه وتعالى إنما أصابهم بما أصابهم به امتحاناً لغيرهم، ممن قواهم، فمن آتاه الله عقلاً، وآتاه سمعاً وبصراً، وآتاه حركة وتصرفاً، وآتاه مالاً عليه أن يقوم بحق من حرمهم الله ذلك من الضعفاء، فإن الله إنما امتحنه بهم.

قصة الفقراء الثلاثة وامتحانهم

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم قصةً عجيبة حصلت لقومٍ سابقين في الأمم السابقة, فقد كان فيهم ثلاثة من الضعفة، أحدهم كان أعمى، والآخر كان أبرص، والآخر كان أقرع, وكانت الأمم السابقة لا ترحم أصحاب العاهات، ولا يقع بينها التكافل كما هو بين المسلمين, فكل من فيه عاهة أو آفة يفر منه الأقربون، ويبقى مرذولاً بين الناس, فكان هؤلاء يعيشون على حياة الضنك والمذلة والهوان، لا يرد عليهم أحد السلام ولا يخالطهم، ولا يطعمهم، ولا يسقيهم، ولا يكسوهم, فيبقون في بثهم وحزنهم وتعبهم يكدون على أنفسهم, فأراد الله جل جلاله امتحانهم وهو أعلم بمآلات الأمور، ولا يمكن أن يقع إلا ما شاءه لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].

فأرسل ملكاً إليهم لامتحانهم، فجاء إلى الأبرص فسأله عن حاجته وعن أمنيته من هذه الحياة، فقال: ( إن يرد الله علي جلدي ولوني فقد قذرني الناس )، معناه: عدني الناس من جنس القذر الذي يرمى في القمامة, ( فسأله عن أحب المال إليه فذكر أنه الإبل, فدعا الله فرد عليه جلده ولونه, وأعطاه ناقةً عشراء, وقال له: بارك الله لك فيها, فأنتجها فكان له وادٍ من الإبل ).

وجاء إلى الأقرع فسأله عن أمنيته من هذه الدنيا وأحب شيءٍ إليه, فقال: ( أن يرد الله علي شعري فقد قذرني الناس, فسأله عن أحب المال إليه فذكر البقر, فدعا الله فرد عليه شعره, وأعطاه بقرة مخاضاً, وقال له: بارك الله لك فيها, فأنتجها فكان له وادٍ من البقر ).

فجاء إلى الأعمى فسأله عن أمنيته وحاجته, فقال: ( أن يرد الله علي بصري فقد قذرني الناس, فسأله عن أحب المال إليه, فذكر الغنم, فدعا الله فرد عليه بصره, وأعطاه شاة فأنتجها فكان له وادٍ من الغنم, وقال له: بارك الله لك في هذا فأنتجها فكان له واد من الغنم ).

ثم أرسله الله لامتحانهم فجاء إلى الأول بالصورة التي كان عليها، في صورة رجل أبرص، في هيئة رثة، ووضع مسكنة، فملابسه لا تنبؤ بمكانة اجتماعية ولا اقتصادية، وظروفه تدل على أن الناس يقذرونه ولا يلتفتون إليه, فقال له: ( رجل مسكين ابتلاني الله بالبرص، لا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك, فأسألك بالذي شفاك من سقمك وأعطاك هذا المال أن تعطيني ما يعينني, فقال له: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر والحقوق كثيرة, فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه. فأجيح ماله فافتقر ثم عاد إليه البرص فعاد كما كان ).

ثم أتى إلى الأقرع فجاء له في صورته فقال له: ( رجل فقير ابتلاني الله بهذا القرع، ولا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي شفاك من قرعك وأغناك أن تعطيني ما يعينني, فقال له: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر والحقوق كثيرة, فقال له: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه. فأجيح ماله وعاد إليه القرع ).

فجاء إلى الأعمى في صورته فقال له: ( رجل ضرير فقير مسكين، قد ابتلاني الله بما ترى من العمى, لا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي رد عليك بصرك وأغناك شاة أتبلغ بها في أموري, فقال: إنني كنت رجلاً مثلك ضريراً، فرد الله علي بصري, وكنت فقيراً فأغناني الله، فلا تسألني اليوم بالله شيئاً إلا أعطيتك إياه، فخذ ما شئت، واترك ما شئت, فقال له: بارك الله لك في مالك وتركه ).

فهذا يدل على أن كل صاحب عاهة أو آفة أو مصيبة, إنما يبتلي الله به الآخرين ويمتحنهم به, فإذا رحموه تحققوا بصفة عظيمة هي صفة الرحمة.

وأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالخصوص بالتعاون فيما بينهم, فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:100-105].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الترابط فيما بين المؤمنين؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ).

وأخرج الشيخان أيضاً في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه ).

وهذا يقتضي أن يستشعر المؤمن من ضرورات إيمانه، ومن واجب عقيدته عنايته بإخوانه والسعي لعونهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، والسعي لنفعهم جميعاً, فذلك من واجبات هذه العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.

ولذلك أخرج ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقى، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، فهذا أمر بأي نفع يستطيع الإنسان إيصاله إلى أي أخٍ له من المؤمنين، فليبادر إليه امتثالاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعملاً بدافع عقيدته التي تدعوه لتحقيق أخوته للمؤمنين.

وأولى المؤمنين بالعون والرعاية هم الضعفاء الذين يحتاجون إلى من يقوم بمصالحهم ومن يعتني بشئونهم، فالله سبحانه وتعالى إنما أصابهم بما أصابهم به امتحاناً لغيرهم، ممن قواهم، فمن آتاه الله عقلاً، وآتاه سمعاً وبصراً، وآتاه حركة وتصرفاً، وآتاه مالاً عليه أن يقوم بحق من حرمهم الله ذلك من الضعفاء، فإن الله إنما امتحنه بهم.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم قصةً عجيبة حصلت لقومٍ سابقين في الأمم السابقة, فقد كان فيهم ثلاثة من الضعفة، أحدهم كان أعمى، والآخر كان أبرص، والآخر كان أقرع, وكانت الأمم السابقة لا ترحم أصحاب العاهات، ولا يقع بينها التكافل كما هو بين المسلمين, فكل من فيه عاهة أو آفة يفر منه الأقربون، ويبقى مرذولاً بين الناس, فكان هؤلاء يعيشون على حياة الضنك والمذلة والهوان، لا يرد عليهم أحد السلام ولا يخالطهم، ولا يطعمهم، ولا يسقيهم، ولا يكسوهم, فيبقون في بثهم وحزنهم وتعبهم يكدون على أنفسهم, فأراد الله جل جلاله امتحانهم وهو أعلم بمآلات الأمور، ولا يمكن أن يقع إلا ما شاءه لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].

فأرسل ملكاً إليهم لامتحانهم، فجاء إلى الأبرص فسأله عن حاجته وعن أمنيته من هذه الحياة، فقال: ( إن يرد الله علي جلدي ولوني فقد قذرني الناس )، معناه: عدني الناس من جنس القذر الذي يرمى في القمامة, ( فسأله عن أحب المال إليه فذكر أنه الإبل, فدعا الله فرد عليه جلده ولونه, وأعطاه ناقةً عشراء, وقال له: بارك الله لك فيها, فأنتجها فكان له وادٍ من الإبل ).

وجاء إلى الأقرع فسأله عن أمنيته من هذه الدنيا وأحب شيءٍ إليه, فقال: ( أن يرد الله علي شعري فقد قذرني الناس, فسأله عن أحب المال إليه فذكر البقر, فدعا الله فرد عليه شعره, وأعطاه بقرة مخاضاً, وقال له: بارك الله لك فيها, فأنتجها فكان له وادٍ من البقر ).

فجاء إلى الأعمى فسأله عن أمنيته وحاجته, فقال: ( أن يرد الله علي بصري فقد قذرني الناس, فسأله عن أحب المال إليه, فذكر الغنم, فدعا الله فرد عليه بصره, وأعطاه شاة فأنتجها فكان له وادٍ من الغنم, وقال له: بارك الله لك في هذا فأنتجها فكان له واد من الغنم ).

ثم أرسله الله لامتحانهم فجاء إلى الأول بالصورة التي كان عليها، في صورة رجل أبرص، في هيئة رثة، ووضع مسكنة، فملابسه لا تنبؤ بمكانة اجتماعية ولا اقتصادية، وظروفه تدل على أن الناس يقذرونه ولا يلتفتون إليه, فقال له: ( رجل مسكين ابتلاني الله بالبرص، لا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك, فأسألك بالذي شفاك من سقمك وأعطاك هذا المال أن تعطيني ما يعينني, فقال له: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر والحقوق كثيرة, فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه. فأجيح ماله فافتقر ثم عاد إليه البرص فعاد كما كان ).

ثم أتى إلى الأقرع فجاء له في صورته فقال له: ( رجل فقير ابتلاني الله بهذا القرع، ولا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي شفاك من قرعك وأغناك أن تعطيني ما يعينني, فقال له: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر والحقوق كثيرة, فقال له: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه. فأجيح ماله وعاد إليه القرع ).

فجاء إلى الأعمى في صورته فقال له: ( رجل ضرير فقير مسكين، قد ابتلاني الله بما ترى من العمى, لا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي رد عليك بصرك وأغناك شاة أتبلغ بها في أموري, فقال: إنني كنت رجلاً مثلك ضريراً، فرد الله علي بصري, وكنت فقيراً فأغناني الله، فلا تسألني اليوم بالله شيئاً إلا أعطيتك إياه، فخذ ما شئت، واترك ما شئت, فقال له: بارك الله لك في مالك وتركه ).

فهذا يدل على أن كل صاحب عاهة أو آفة أو مصيبة, إنما يبتلي الله به الآخرين ويمتحنهم به, فإذا رحموه تحققوا بصفة عظيمة هي صفة الرحمة.

صفة الرحمة الصفة التي كتبها الجبار على نفسه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وتسمى باسمين منها, فهو جل جلاله الرحمن الرحيم, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3].

ووصف بها محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128], ووصف بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم معه فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29].

رحمة جميع الخلائق

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لا يرحم لا يرحم ), وثبت كذلك في سنن الترمذي و ابن ماجه ومسند البزار ومسند أحمد ، وغيرها بأسانيد صحيحة في الحديث المسلسل بالأولية، أي: الذي تعود المحدثون على أن يحدثوا به بالإسناد، وهو أول حديث يحدثون به الطلاب.

وهذا التسلسل يقول فيه المحدث: حدثنا فلان وهو أول، أي وهو حديث سمعته منه, قال: حدثنا فلان وهو أول, إلى أن ينتهي التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة ، قال: حدثنا عمرو بن دينار ، قال: حدثنا أبو قابوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ), وهذه هي الرواية المشهورة في هذا الحديث.

وهناك روايتان أخريان: إحداهما: ( الراحمون يرحمهم الرحمن عز وجل، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ), وهي إثبات الثناء على الله تعالى.

والرواية الأخرى وهي الثالثة: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، بالرفع, يرحمُكم بالرفع، على أنه استئناف أو دعاء, معناها: ارحموا من في الأرض, ونسأل الله أن يرحمكم من في السماء، وحينئذٍ تكون جملة مستأنفة: يرحمكم من في السماء، مثلما تقول: أعطني كذا يرحمك الله, فهذا دعاء واستئناف.

أما رواية الجزم فإنها جواب للطلب، (ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء) مثلما تقول: قفا نبكي، معناه: إن تقفا نبكي, فالفعل مجزوم في جواب الطلب؛ لأنه مثل الأمر، وهو في قوة شرط، ومعناه: إن تقفا نبكي, كذلك هنا إن ترحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

ومن في الأرض هنا يشمل: البشر والدواب، وأنواع الخلائق, فالرحمة كتبها الجبار على نفسه جل جلاله, وهذا يقتضي معاملة الخلائق جميعاً بهذه الصفة.

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الثابت عنه: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ), حتى وأنت تذبح الشاة، وتريد أن تسلخها وتقطع أعضاءها، وتطبخها أو تشويها، لكن مع ذلك أنت مطالب بأن يكون ذبحك لها بالهيئة الحسنة التي بها رحمة بها, وكذلك الكافر الذي تقتله، أو من أصاب حداً من حدود الله, وأنت تريد إقامة حد الله عليه لا بد أن تعامله بهذه الرحمة: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، ومعنى (وليرح ذبيحته) أي: لا يبادر إلى السلخ قبل موتها حتى تخرج الروح من البدن، فما دامت فيها حركة، فمعنى ذلك أن الإحساس قائم، وأن الألم لا يزال، لكن إذا انتهت الحركة فلن يبقى فيها ألم بعد ذلك, وما ذلك إلا بدافع هذه الرحمة.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم حصيراً مسوداً، فنضح عليه الماء فقال: ( قد اسود هذا الحصير من طول ما لبس ).

رحمة الإنسان لنفسه

وكذلك لما رأى الرجل ثائر الرأس، شعثاً، نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً، وقال: ( ما بال أحدكم يدخل علي في صورة شيطان، فخرج الرجل وغسل رأسه وادهن فدخل عليه، فقال: أليس هذا خيراً مما كنت عليه ).

فرحمة الإنسان لنفسه مطلوبة، وأن تكون هيئته جميلة, والله تعالى يحب أن يرى آثار نعمة على عبده, فإذا آتاك الله ماءً تتنظف به فعليك أن تتنظف, وإذا آتاك هيئة حسنة من أي وجهٍ من الوجوه، فعليك أن يرى أثر نعمة الله عليك.

ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب إن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه, وبين صلى الله عليه وسلم بسنته الفعلية أيضاً آثار النعمة, فكان يلبس في الأعياد اللباس الجديد، ويأمر أن يلبس الرجل للجمعة خير ملابسه وأحسنها, كان يقول: ( خير ثيابكم البيض، صلوا فيها جمعكم، وكفنوا فيها موتاكم ), وأمر للجمعة بالاغتسال والادهان والتطيب من طيب بيته، وأمر للصلاة كلها بالسواك, قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ), وفي رواية ( عند كل وضوء ).

وهذا يقتضي أن يرحم الإنسان نفسه، وأن يؤدي حقها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص : ( إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآتِ كل ذي حق حقه ), فلذلك لا بد أن يكون الإنسان عدلاً في رحمته بنفسه, وأول ذلك أن يرحمها من عذاب الله, فإذا كان الإنسان يعرف أن جسمه على النار لا يقوى، فلا بد أن يلجمه بلجام التقوى, وإذا كان يعلم أن عينه ضعيفة لا تتحمل لهب نار الدنيا، فلا بد أن يكفها عن النظر إلى الحرام؛ لأنه موصل إلى لهب نار جهنم, وهكذا إذا كان الإنسان يحس أنه ضعيف، لا يستطيع حرب البشر ولا يقوى على قتالهم، فكيف يكلف نفسه حرب الله ورسوله بأكله للربا، أو مشاركته به بأي وجه من الوجوه, فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ[البقرة:279].

فلذلك لا بد أن يرحم الإنسان نفسه أن يرحم ضعفها وما هي إليه من الحاجة.

رحمة الإنسان لغيره من العباد

ثم بعد ذلك يرحم عباد الله جميعاً, وأن يتذكر أن الذي ابتلى المبتليين هو الذي أنعم عليه بالنعمة، وخصه بها من بينهم، ولو شاء لجعله مثلهم أو أردأ حالاً.

ولذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( انظروا في الدين إلى من فوقكم، وفي الدنيا إلى من دونكم، فذلك أجدر ألا تحتقروا نعمة الله عليكم )، وفي رواية ( ألا تزدروا نعمة الله عليكم ), فإذا كان الإنسان ينظر في الدين إلى من فوقه فذلك مقتضي المنافسة، الذي يقوم الليل، ويكثر ذكر الله، وقراءة القرآن ومجالس العلم، ويشغل نفسه عن المعصية بالكلية هذا فوقك في الدين، فحاول أن تلحق به وأن تنافسه, لكن في الدنيا لا تنظر إلى من فوقك أبداً، انظر إلى من دونك, فذلك أضمن ألا تزدري نعمة الله عليك.

وقد جاء هذا أيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أوصاني خليلي بثلاث )، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين منها: ( أن أوتر قبل أن أنام, وأن أنظر في الدنيا إلى من دوني, وأن أنظر في الدين إلى من فوقي ), فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة رضي الله عنه, وهذا يقتضي من الإنسان أن لا يزدري نعمة الله عليه، فإذا تذكر ضيق حاله أو فقره أو ضعفه أو عجزه ليتذكر منه دونه، وليمر بالمستشفى فيرى الذين يصرخون من الألم, ويرى الذين انكسرت أرجلهم وعلقت, ويرى الذين لا يستطيعون التقلب على الفراش إلا ومعهم من يقلبهم, ويرى الذين لا يستطيعون قضاء الحاجة إلا بجهاز, وهكذا فإنه لن يزدري نعمة الله عليه حينئذ.

ولهذا جاء رجل إلى الحسن البصري فشكا إليه الفقير، وذكر له أنه فقير معدم، فسأله الحسن فقال: ألك عينان؟ قال: نعم, قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، كل واحدة منهما خمسمائة دينار, فقال: ألف دينار، قال: ألك أذنان؟ قال: نعم قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، قال: ألف دينار، قال: عيناك مبصرتان؟ قال: نعم. قال: فما دية البصر؟ قال: دية كاملة، قال: ثلاثة آلاف دينار. قال: أذناك سامعتان؟ قال: نعم. قال: فما دية سمعك؟ قال: دية كاملة. قال: أربعة آلاف دينار, وهكذا بقية الجوارح أعد له ذلك حتى حصل على مالٍ كثير، ثمانية عشر ألف دينار في جوارحه فقط.

فإذا أدرك الإنسان ما أنعم الله عليه به من نعمة الإيمان, وهو يرى السادرين الذين لا يخطر أمر الآخرة على قلب أحد منهم, ومن نعمة خشية الله، وهو يرى العصاة المسرفين على أنفسهم، وهم يتقلبون فيما آتاهم الله من أمر الدنيا وما عجل لهم من متاعها, ورأى المرضى والمصابين بالعاهات والآفات، فإن ذلك جدير به هو أن يحمد نعمة الله عليه, وأن يرضى بما شرفه الله به عليه.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لا يرحم لا يرحم ), وثبت كذلك في سنن الترمذي و ابن ماجه ومسند البزار ومسند أحمد ، وغيرها بأسانيد صحيحة في الحديث المسلسل بالأولية، أي: الذي تعود المحدثون على أن يحدثوا به بالإسناد، وهو أول حديث يحدثون به الطلاب.

وهذا التسلسل يقول فيه المحدث: حدثنا فلان وهو أول، أي وهو حديث سمعته منه, قال: حدثنا فلان وهو أول, إلى أن ينتهي التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة ، قال: حدثنا عمرو بن دينار ، قال: حدثنا أبو قابوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ), وهذه هي الرواية المشهورة في هذا الحديث.

وهناك روايتان أخريان: إحداهما: ( الراحمون يرحمهم الرحمن عز وجل، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ), وهي إثبات الثناء على الله تعالى.

والرواية الأخرى وهي الثالثة: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، بالرفع, يرحمُكم بالرفع، على أنه استئناف أو دعاء, معناها: ارحموا من في الأرض, ونسأل الله أن يرحمكم من في السماء، وحينئذٍ تكون جملة مستأنفة: يرحمكم من في السماء، مثلما تقول: أعطني كذا يرحمك الله, فهذا دعاء واستئناف.

أما رواية الجزم فإنها جواب للطلب، (ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء) مثلما تقول: قفا نبكي، معناه: إن تقفا نبكي, فالفعل مجزوم في جواب الطلب؛ لأنه مثل الأمر، وهو في قوة شرط، ومعناه: إن تقفا نبكي, كذلك هنا إن ترحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

ومن في الأرض هنا يشمل: البشر والدواب، وأنواع الخلائق, فالرحمة كتبها الجبار على نفسه جل جلاله, وهذا يقتضي معاملة الخلائق جميعاً بهذه الصفة.

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الثابت عنه: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ), حتى وأنت تذبح الشاة، وتريد أن تسلخها وتقطع أعضاءها، وتطبخها أو تشويها، لكن مع ذلك أنت مطالب بأن يكون ذبحك لها بالهيئة الحسنة التي بها رحمة بها, وكذلك الكافر الذي تقتله، أو من أصاب حداً من حدود الله, وأنت تريد إقامة حد الله عليه لا بد أن تعامله بهذه الرحمة: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، ومعنى (وليرح ذبيحته) أي: لا يبادر إلى السلخ قبل موتها حتى تخرج الروح من البدن، فما دامت فيها حركة، فمعنى ذلك أن الإحساس قائم، وأن الألم لا يزال، لكن إذا انتهت الحركة فلن يبقى فيها ألم بعد ذلك, وما ذلك إلا بدافع هذه الرحمة.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم حصيراً مسوداً، فنضح عليه الماء فقال: ( قد اسود هذا الحصير من طول ما لبس ).

وكذلك لما رأى الرجل ثائر الرأس، شعثاً، نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً، وقال: ( ما بال أحدكم يدخل علي في صورة شيطان، فخرج الرجل وغسل رأسه وادهن فدخل عليه، فقال: أليس هذا خيراً مما كنت عليه ).

فرحمة الإنسان لنفسه مطلوبة، وأن تكون هيئته جميلة, والله تعالى يحب أن يرى آثار نعمة على عبده, فإذا آتاك الله ماءً تتنظف به فعليك أن تتنظف, وإذا آتاك هيئة حسنة من أي وجهٍ من الوجوه، فعليك أن يرى أثر نعمة الله عليك.

ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب إن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه, وبين صلى الله عليه وسلم بسنته الفعلية أيضاً آثار النعمة, فكان يلبس في الأعياد اللباس الجديد، ويأمر أن يلبس الرجل للجمعة خير ملابسه وأحسنها, كان يقول: ( خير ثيابكم البيض، صلوا فيها جمعكم، وكفنوا فيها موتاكم ), وأمر للجمعة بالاغتسال والادهان والتطيب من طيب بيته، وأمر للصلاة كلها بالسواك, قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ), وفي رواية ( عند كل وضوء ).

وهذا يقتضي أن يرحم الإنسان نفسه، وأن يؤدي حقها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص : ( إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآتِ كل ذي حق حقه ), فلذلك لا بد أن يكون الإنسان عدلاً في رحمته بنفسه, وأول ذلك أن يرحمها من عذاب الله, فإذا كان الإنسان يعرف أن جسمه على النار لا يقوى، فلا بد أن يلجمه بلجام التقوى, وإذا كان يعلم أن عينه ضعيفة لا تتحمل لهب نار الدنيا، فلا بد أن يكفها عن النظر إلى الحرام؛ لأنه موصل إلى لهب نار جهنم, وهكذا إذا كان الإنسان يحس أنه ضعيف، لا يستطيع حرب البشر ولا يقوى على قتالهم، فكيف يكلف نفسه حرب الله ورسوله بأكله للربا، أو مشاركته به بأي وجه من الوجوه, فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ[البقرة:279].

فلذلك لا بد أن يرحم الإنسان نفسه أن يرحم ضعفها وما هي إليه من الحاجة.

ثم بعد ذلك يرحم عباد الله جميعاً, وأن يتذكر أن الذي ابتلى المبتليين هو الذي أنعم عليه بالنعمة، وخصه بها من بينهم، ولو شاء لجعله مثلهم أو أردأ حالاً.

ولذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( انظروا في الدين إلى من فوقكم، وفي الدنيا إلى من دونكم، فذلك أجدر ألا تحتقروا نعمة الله عليكم )، وفي رواية ( ألا تزدروا نعمة الله عليكم ), فإذا كان الإنسان ينظر في الدين إلى من فوقه فذلك مقتضي المنافسة، الذي يقوم الليل، ويكثر ذكر الله، وقراءة القرآن ومجالس العلم، ويشغل نفسه عن المعصية بالكلية هذا فوقك في الدين، فحاول أن تلحق به وأن تنافسه, لكن في الدنيا لا تنظر إلى من فوقك أبداً، انظر إلى من دونك, فذلك أضمن ألا تزدري نعمة الله عليك.

وقد جاء هذا أيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أوصاني خليلي بثلاث )، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين منها: ( أن أوتر قبل أن أنام, وأن أنظر في الدنيا إلى من دوني, وأن أنظر في الدين إلى من فوقي ), فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة رضي الله عنه, وهذا يقتضي من الإنسان أن لا يزدري نعمة الله عليه، فإذا تذكر ضيق حاله أو فقره أو ضعفه أو عجزه ليتذكر منه دونه، وليمر بالمستشفى فيرى الذين يصرخون من الألم, ويرى الذين انكسرت أرجلهم وعلقت, ويرى الذين لا يستطيعون التقلب على الفراش إلا ومعهم من يقلبهم, ويرى الذين لا يستطيعون قضاء الحاجة إلا بجهاز, وهكذا فإنه لن يزدري نعمة الله عليه حينئذ.

ولهذا جاء رجل إلى الحسن البصري فشكا إليه الفقير، وذكر له أنه فقير معدم، فسأله الحسن فقال: ألك عينان؟ قال: نعم, قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، كل واحدة منهما خمسمائة دينار, فقال: ألف دينار، قال: ألك أذنان؟ قال: نعم قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، قال: ألف دينار، قال: عيناك مبصرتان؟ قال: نعم. قال: فما دية البصر؟ قال: دية كاملة، قال: ثلاثة آلاف دينار. قال: أذناك سامعتان؟ قال: نعم. قال: فما دية سمعك؟ قال: دية كاملة. قال: أربعة آلاف دينار, وهكذا بقية الجوارح أعد له ذلك حتى حصل على مالٍ كثير، ثمانية عشر ألف دينار في جوارحه فقط.

فإذا أدرك الإنسان ما أنعم الله عليه به من نعمة الإيمان, وهو يرى السادرين الذين لا يخطر أمر الآخرة على قلب أحد منهم, ومن نعمة خشية الله، وهو يرى العصاة المسرفين على أنفسهم، وهم يتقلبون فيما آتاهم الله من أمر الدنيا وما عجل لهم من متاعها, ورأى المرضى والمصابين بالعاهات والآفات، فإن ذلك جدير به هو أن يحمد نعمة الله عليه, وأن يرضى بما شرفه الله به عليه.

ثم بعد هذا لا شك أن الضعفاء متفاوتون في الحاجة إلى العناية وفي الحاجة إلى الرحمة, فأنت مطالب برحمتهم جميعاً, فالوالدان في حال ضعفهما وكبرهما، يقول الله في رحمتهما: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24], لا بد أن تخفض لهما جناح الذل، أن تكون ذليلاً أمامهما، لا ترفع عليهم صوتك ولا ترفع إليهما بصرك، ولا تتقدم بين يدي أمرهما، وإذا أمراك بشيءٍ بادرت إليه، وإذا نادياك وأنت قد رفعت رجلك لتخطو للأمام قلبت الخطوة إلى الوراء, فهذا هو البر بهم الذي أمر الله به, وهو خفض الجناح لهما من الذل ذل لهما, وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، لا بد أن ترحمهما بذلك.

فإذا كان الإنسان يغضب إذا واجهه والداه بكلام سيئ، أو كان يغضب إذا تصرفا في ماله, أو كان يغضب إذا آثر عليه بعض أولادهما, أو كان يغضب إذا رفعا إليه بعض حوائجهما، أو كان يضجر بضعفهما وعجزهما، أو كان لا يستطيع إمساك الشرب لهما، أو تنظيف ملابسهما، أو تنظيف فراشهما وتمهيده، أو القيام بخدمتهما، فهذا الإنسان غير بر بأبويه، ولم يمتثل بما أمره الله به بقوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[الإسراء:24].

وليتذكر حال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وهم يتمنون ذلك, ليتذكر اللقطاء الذين ليس لهم أب ولا أم, ليتذكر الذين مات آباؤهم وأمهاتهم، وفقدوا الرحمة في المجتمع, ليتذكر الذين عاشوا يتامى, ليتذكر حاله وهو ضعيف كيف كان أبواه يقومان بمصالحه ويسهران من أجل نومه, ويتعبان من أجل راحته, ويسعيان من أجل تعليمه ونصحه، ويدعوان الله له في سجودهما وفي كل أوقاتهما, ليتذكر أنه لا يستطيع مكافأتهما بأي وجه من الوجوه.

وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يحمل أمه في الطواف، وهو يقول: هل كافأتك؟ فقال له ابن عمر : لا، ولا زقيةً واحدة, ما كافأت زقيةً واحدة, والزقية: هي رفع الصوت عند الطلق، أي: عند الوضع, فما كافأت شيئاً من آلامها عندما وضعتك, ولا من آلامها عندما حملتك، فقد حملتك كرهاً ووضعتك كرهاً, وأنت لم تكافئها في مصة واحدة من ثديها, ولا في قيامها بأي مصلحة من مصالحك ومسح القذر عنك، وتربيتك وأنت صغير محتاج إليها, وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

مقتضى رحمة الوالدين

فلذلك لا بد من رحمة الوالدين رحمة شديدة, وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على بقائه معهما؛ وأن يشتاق إليهما كلما غاب عنهما؛ وأن يسعى لخدمتهما بكل وجه من الوجوه, وأن يبادر وينافس إخوته وأخواته في بر والديه حتى يكون أقرب الأولاد إلى والديه, وإذا كانا قد ماتا أو أحدهما؛ فلا بد أن يسعى لبرهما بعد الممات ببر أقاربهما، وذوي أرحامهما، وأصحابهما، وقرنائهما، وإيفاء ديونهما، وإنفاذ وصاياهما، والدعاء لهما ليلاً ونهاراً؛ فكل ذلك من برهما بعد الممات.

قصة أمية بن الأسكر مع ولديه

ولنتذكر ما حصل لـأمية بن الأسكر رضي الله عنه، وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف، وكان له ولدان أحدهما اسمه: كلاب وكان براً به شديد البر؛ وكان أمية قد كبر فتجاوز المائة، وقد أخذته الرعشة في الأطراف، فكان لا يمسك القدح على نفسه, بعد أن كان رجلاً شجاعاً، فعاد إلى الضعف والشيبة الذي لا ينتظر بعده صحة، ولا ينتظر بعده إلا الموت.

فجاء سعد بن أبي وقاص يسأل أهل الطائف الغزو، ويحض شبابهم على الخروج للغزو في سبيل الله إلى العراق، فخرج معه ولدا هذا الشيخ الكبير وتركاه على ضعفه، فلما خرجا إلى الجهاد في سبيل الله حزن عليهما حزناً شديداً، وقال أشعاراً في حزنه عليهما، ومنها قوله:

يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان

إن ما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلبا غير كذان

أو ما تريني لا أمضي إلى سفرٍ إلا معي واحد منكم أو اثنان

ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني

يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني

يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان

إذ يحمل الفرس الأحواء ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان

أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضانِ؟

انعق بضأنك في نجم تحفره من النواضع واحبسها بجندان

إن ترعى ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

والشعر يتناقله الناس فيحفظونه ويروونه, كما قال زهير بن أبي سلمى :

وإن الشعر ليس له مرد إذا ورد المياه به التجارُ

فوصل الشعر إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى المدينة, فلما سمع هذا الشعر رحم هذا الشيخ الكبير الفاني رحمة شديدة، وبكى رحمة له, فأرسل إلى سعد بن أبي وقاص في العراق أن يرسل إليه ولد هذا الرجل, فأرسله إليه، فجيء به إلى عمر في المدينة, فلما ذهب عمر إلى مكة صحبه معه، فجيء بأمية بن الأسكر شيخاً كبيراً، فأجلسه عمر إليه؛ فسأله عن بر كلاب به، فقال: كان يختار ناقة في إبلنا فيغسل ضرعها بيده ويغسل القدح ويحتلبها، ثم يأتي فيمسك علي القدح حتى أشرب نهمتي منه، أي: حاجتي, فأمر عمر كلاب ففعل ما كان يفعل، فأمسك عمر اللبن على الشيخ يشرب منه فلما ذاق طعمه فقال: حلب كلاب ورب الكعبة, فأمره عمر أن يصحبه وألا يفارقه حتى يدفنه.

قصة المرأة مع ولدها حين خرج للغزو

ونظير هذا أيضاً ما حصل للفرزدق الشاعر في أيام عبد الملك بن مروان ، فقد خرجت جيوش بني أمية في أيام عبد الملك وابنه الوليد ، وازدادت الرقعة وحصلت الفتوح, وخرج جيش إلى أقاصي أفغانستان الآن، وتسمى في ذلك الوقت بلاد الطالقان, وهذا الجيش يقوده رجل اسمه تميم بن زيد ، وهو من قادة جيوش بني أمية, فخرج به شاب وحيد أمه، وكانت أمه تحبه حباً شديداً, فما استطاعت أن تمنعه من الخروج للغزو في سبيل الله, ولكن ما إن فارقته حتى ضاقت عليها الدنيا بما رحبت, وأصبح فؤادها فارغاً شوقاً إلى ولدها ومحبةً له ورحمة له, فصارت تصل ليلها بنهارها بالبكاء, فذكر لها الفرزدق الشاعر، فجاءت إليه فذكرت أنها مستعيذة بنخوة أبيه غالب ، وقد كان أبوه صاحب مروءة لا يسأله أحد حاجته إلا أعطاه إياها, فكتب الفرزدق أبياتاً إلى تميم بن زيد يقول فيها:

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهرٍ ولا يعيا علي جوابها

فهب لي خنيساً واحتسب فيه منة لحوبة أم ما يسوغ شرابها

أتتني فعاذت يا تميم بـغالب وبالحفرة السافي عليها ترابها

فجاءت الأبيات إلى تميم ، فلما قرأها لم يدر هل المطلوب خنيس أو حبيش ، فبحث عن كل من في الجيش في من اسمه خنيس أو حبيش فسيره إلى الفرزدق .

القيام بمصالح الوالدين وتقديمهما على الأولاد

فلذلك لا بد من رحمة الوالدين، ولا بد من الحرص على القيام بمصلحتهما كلها, ونحن نعلم أن كثيراً من الشباب الآن يرون أن لدى الوالدين بعض الأخلاقيات التي لا يرضونها, وبعض التصرفات التي لم تعد مناسبة للمدنية, فربما ضجروا من بعض ذلك, لكن هذا منافٍ للرحمة التي أمر الله بها, فلا بد أن ينظر الولد إلى والده ووالدته على أنهما أقرب إليه أو مساويان لولديه, وليتذكر لو أن له ولداً صغيراً، هل كان سيتأثر بريقه أو بكلامه أو بضربه له على الوجه أو بعضه له.

لا شك أنه سيحبه حباً شديداً فيغتفر كل هذه الأمور, إذا بصق في وجهه كان ذلك سروراً بالنسبة إليه, وإذا ضايقه على فراشه كان ذلك سروراً لديه, وإذا أخذ بعض ما في جيبه كان ذلك سروراً لديه, فالوالدان أولى بهذه الرحمة من الأولاد، أو مساويان على الأقل: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ[النساء:11].

فلذلك لا بد من رحمة الوالدين رحمة شديدة, وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على بقائه معهما؛ وأن يشتاق إليهما كلما غاب عنهما؛ وأن يسعى لخدمتهما بكل وجه من الوجوه, وأن يبادر وينافس إخوته وأخواته في بر والديه حتى يكون أقرب الأولاد إلى والديه, وإذا كانا قد ماتا أو أحدهما؛ فلا بد أن يسعى لبرهما بعد الممات ببر أقاربهما، وذوي أرحامهما، وأصحابهما، وقرنائهما، وإيفاء ديونهما، وإنفاذ وصاياهما، والدعاء لهما ليلاً ونهاراً؛ فكل ذلك من برهما بعد الممات.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4001 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع