الإسلام منهج حياة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى, شرف هذا النوع البشري بأنواع التشريف, فخلق آدم بيمينه, ونفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, وجعله خليفته في الأرض, وكرم ذريته كذلك بأنواع التكريم, فقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70], ومن هذا التكريم الذي شرفه الله به بني آدم, تشريفهم بالدين, فقد رضي الله لهم الدين منهجاً، ينظم علاقاتهم فيما بينهم وعلاقاتهم بربهم, ويكفل لهم كل مصالحهم, ويحقق لهم كل آمالهم, وكل ما يريدونه مما فيه خير لهم, عندما اهبط الله آدم و حواء إلى هذه الأرض, بدأ المجتمع البشري من ذلك الوقت الحياة على هذه الأرض, فجاءه من التشريع ما يتناسب مع الطور الناشئ, حيث كان كل الاحتياجات يستورد من خارج الأرض, كما قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[الأعراف:26].

وكلما تطورت هذه البشرية, أنزل الله عليها من الدين ما يتناسب مع الطور التي تمر به, حتى خاضت جميع التجارب واستكملت جميع أدوارها وأطوارها, فبعث إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، الذي كان كل الأديان إعداداً له, فجاء بهذا الدين الكامل، الذي تميز عن غيره من الأديان بكثير من الميزات والخصائص, من بينها:

من خصائص الشريعة الإسلامية

أن الأديان السابقة إنما كانت تصلح لمدة زمنية محددة في علم الله لا تصلح لما سواها, ولا يمكن أن تتعداها, ومن أمثلة ذلك أنه في زمان آدم, أباح الله نكاح الأخوات لاستمرار الجنس البشري, ولو استمر التشريع كذلك, لحصل من المضار ما هو معروف لديكم.

جاء محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين على فترة من الرسل، واقتراب من الساعة وجهالة من الناس, ففتح الله به أعيناً عميا, وآذاناً صما, وقلوباً غلفا, وجعل الله هذا الدين الذي آتاه, هو الدين الحقيقي عند الله, قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19], وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمدٍ بيده! لا يسمع بي من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي, إلا كبه الله على وجهه في النار ), وقال لـعمر بن الخطاب حين رأى ورقة من التوراة: ( أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب , فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي ).

كمال الشريعة الإسلامية وشموليتها

جاء هذا الدين كاملاً من كل جوانبه, متماسكاً, شاملاً لحاجات البشر؛ لأنه تشريع الحكيم الخبير, أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14], فلو وكل التشريع إلى اجتهادات الناس أو أهوائهم, لكان يحتاج إلى التغيير والتعديل في كل يوم, كما تسمعون في تعديل القوانين الوضعية, فتسمعون المرسوم رقم كذا المنظم لكذا, المعدل بالمرسوم رقم كذا بتاريخ كذا وهكذا, وذلك أن البشر لا يعرفون مصالحهم, يمكن أن يظهر للإنسان بعض مصالحه الآنية المؤقتة, ولكنه سرعان ما تتغير اجتهاداته, ويعلم أن ما كان يظنه مصلحةً له هو عين الخطأ في حقه, وهو المفسدة, وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم, فينقض الإنسان عزيمته, ويغير اجتهاده ورأيه في كل وقت, وكم من إنسان منكم اليوم لو راجع نفسه ورجع إلى تاريخه قبل سنةٍ من الآن، لرأى أن ما كان يفكر فيه أنه مصالح له، قد تغير كثير منه, وأصبح يعده في لائحة المفاسد, هذا يدلنا على أن البشر لا يمكن أن يوكل إليهم التشريع, بل لا بد أن يكون التشريع من عند العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية, ولا يفوته شيء من أخبار الناس, من أجل هذا لم يكل الله الناس إلى اجتهادهم وأهوائهم, بل شرع لهم الشرائع, وأنزل بها الوحي المعصوم, وجعل هذه الشرائع تتناسب مع الأطوار التي تمر به البشرية, فجاء هذا التشريع الذي سماه الله الإسلام متكاملاً يشمل جميع جوانب الحياة, فمنه ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم, ومنه ما ينظم علاقاتهم بربهم, ومنه ما يبين الأصول العقدية التي على أساسها ينبني العمل كله, ومنه كذلك ما يهذب الأخلاق, ومنه ما يكفل مصالح الدنيا, ويجعلها منصبة في بوتقة مصالح الآخرة.

اختصاص الله الشريعة الإسلامية بالحفظ من التبديل والتحريف

إن هذا التكامل في هذا الدين هو عامل البقاء والاستمرار, حيث جعل الله سبحانه وتعالى قواعد الدين مرنة، قابلة للتطويع في كل زمان ومكان, وجعل خصائص هذا الدين عظيمة، من أعظمها: حفظ رسالته, فهذا الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم, اختص من بين الكتب السابقة بحفظ الله له من التغيير والتبديل, فلا يمكن أن يبدله ملك، ولا راهب ولا عالم ولا أن يغير فيه حكماً واحدا, بل هو محفوظ من ذلك عند الله تولى الله حفظه بنفسه, ولم يكل حفظه إلى العباد, وقال فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

أما الرسائل السابقة, فقد كانت كتبها توكل إلى حفظ البشر, كما قال تعالى: َيحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44], فالكتب السابقة استحفظها الناس, وهذا الكتاب تولى الله حفظه بنفسه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

الحكمة من إنزال القرآن مفرقاً

كذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزله بالتدريج منجماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، بخلاف الكتب السابقة، فكانت تنزل دفعة واحدة على أصحابها, فـموسى أوتي التوراة مكتوبة بالألواح, و عيسى أنزل عليه الإنجيل في الصحف, و داود كذلك سلم إليه الزبور في الصحف, أما هذا القرآن فأنزل على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاثٍ وعشرون سنة, وبين الله حكمة ذلك في قوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:106-108], وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32] , وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33].

من خصائص الشريعة أن معجزة نبيهم ليست مادية

وكذلك من هذه الخصائص: أن الله جعل معجزات الرسل السابقين معجزات مادية لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها، أو نقلت إليه تواترا، كناقة صالح , وعصا موسى , ميلاد عيسى من غير أبٍ, وإبرائه للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, هذه الأمور لو رأتها البشرية جميعاً لآمنت بها, ولكنها لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو نقلت إليه تواترا.

ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ), فخصه الله سبحانه وتعالى, بأن جعل معجزته ليست ماديةً كالمعجزات السابقة، بل هي هذا القرآن الباقي المحفوظ الذي يحفظ في الصدور, ويبقى بين الناس يتناقله الأجيال, فهو معجزة تقوم به الحجة, تحدى الله به الثقلين الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله.

مراعاة الشريعة الإسلامية لمصالح الناس

كذلك من ميزات هذا الشرع المطهر, أن الله سبحانه وتعالى, راعى فيه مصالح مختلف الشرائح, فما من شريحة من شرائح سكان الأرض, إلا وقد روعيت مصلحتها في هذا التشريع, ومن ذلك عقد الروابط بين البشر, وتحقيق الصلات بينهم, فإنه ما من شريعة من شرائع الإسلام إلا روعي فيها ذلك.

فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, هي أم الدعائم, هي المبدأ العقدي الذي على أساسه يتم توحيد البشرية, حين تستجيب لهذا المبدأ، ولذلك فالناس جميعاً مدعوون إلى هذا المبدأ، ومن استجاب منهم كان أمة الإجابة, ومن لم يستجب كان من أمة الدعوة.

ثم الأصل الثاني: الصلاة التي يجتمع فيها المستجيبون, فيأتون المساجد فيصفون صفاً واحدا, يستقبلون بيتاً واحداً, ويأتمون بإمام واحد, ويستوي في الصف غنيهم وفقيرهم, وكبيرهم, وصغيرهم, وصحيحهم, وسقيمهم, وبذلك يحققون الإخاء فيما بينهما.

الحكمة من مشروعية الزكاة والصوم والحج

وثالثة الدعائم: الزكاة، التي أصل مشروعيتها تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس, وحتى يحس الأغنياء بمسؤوليتهم عن الفقراء, وحتى لا يستشعر الفقراء انقطاعهم عن المجتمع، وعدم حاجة المجتمع إليهم, فالمجتمع كله متكافل, فالغني محتاج إلى من يأخذ عنه صدقته ويأخذ عنه زكاته, والفقير كذلك محتاج إلى من يواسيه, فيقع التكافل بين الطائفتين.

وكذلك رابعة الدعائم: وهي صيام شهر رمضان، فإن من حكم مشروعية الصيام إحساس الأغنياء كذلك بمرارة الحرمان, حتى يحنوا ويرحموا الفقراء, ولذلك قال حاتم الطائي :

لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت ألا أمنع الدهر جائعا

وكذلك الدعيمة الخامسة: وهي حج البيت الحرام، فإنها مؤتمر عام للمسلمين يجتمعون فيه من مختلف أصقاع الأرض, يلبسون زياً موحداً, ويهلون بتلبية موحدة, ويؤدون مناسك موحدة, في وقت موحد, وبذلك تتآلف القلوب, ويطلع بعضهم على أحوال بعض, ويعلموا أن هذا الدين ليس مختصاً بشريحة واحدةٍ ولا بمجتمعٍ واحد, ولذلك فإن الطائفة المدعية التي ظهرت في أمريكا في القرن الماضي, وادعى صاحبها أن الإسلام مختص بالسود فقط, وأن كل أبيض دخل الإسلام يجب ذبحه, عندما ذهب قائدها إلى الحج، فرأى المسلمين من مختلف أصقاع الأرض تراجع عن هذه النحلة, ودعا إلى ما يسمى بأمة الإسلام, وجعلها مفتوحة أمام البيض والسود, بينما كانت فكرتهم الأولى أن الإسلام يختص بالسود فقط، وأن أي أبيض دخل الإسلام يجب ذبحه.

مشروعية الولاء والبراء

فهذه الدعائم نظر فيها إلى تحقيق الإخاء والتآلف والترابط بين المجتمع إيجاباً وسلبا, فلذلك جعل الله الأصل العقدي هو المفرق المميز بين الناس, قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ[التوبة:23-24].

فجعل الله هذا الأصل العقدي فرقاناً بين الحق والباطل يميز بين الناس, وجعل تفاوت الناس في الولاء والبراء على أساس تحقيق ما دونه من الأصول, فما من أحدٍ دون ذلك إذا حقق الأصل العقدي، إلا ويحب على قدر ما فيه من محبة الله واتباع دينه, ويبغض كذلك على قدر ما فيه من بغض الله وعداوته, ولهذا يجتمع في الفاسق الولاء والبراء, فيوالى على أساس ما معه من الدين، ويعادى على أساس ما معه من الفسق, وأما الكافر والمنافق فليس لهما إلا العداء, وأما المؤمن الكامل الإيمان فليس له إلا الولاء, فهذا الأساس العقدي هو المنطلق فيما يتعلق بالصلات بين الناس, ولهذا فإن ما سواه من أسس الاتصال بين البشر يعود إليه، فإن كل الأسس منقطعة يوم القيامة إلا هذا الأساس وحده, ولذلك قال الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101], وقال في وصف أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47], فأخوتهم الدنيوية المذكورة في قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10], تستمر كذلك يوم القيامة، فهم إخوان في الدنيا إخوان يوم القيامة, بخلاف كل الأُخُوّات الأخرى القائمة على غير أساس الدين، فإنها منقطعة مردودة على أصحابها لا يمكن أن تستمر.

منهج الحياة للفرد في الدين

إن تفصيل أسس هذا الدين حتى يعلم أنه منهج للحياة فعلاً, يمكن أن يسار فيه على منهجين أو على طريقتين: الأولى طريقة مختصة بالفرد، والأخرى طريقة مختصة بالمجتمع.

أما الطريقة المختصة بالفرد، فإن كل إنسانٍ بالإمكان أن يعد أربعاً وعشرين ساعة عمراً كاملاً, فليبدأ عندما يستيقظ فلينظر ماذا خاطبه الشارع به في أول يقضته, فإن الإسلام لم يهمل وقتاً واحداً من أوقاته من خطاب, ولهذا قال المواق رحمه الله في كتابه: سنن المهتدين, حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها؛ إذ ما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد، وأمر أكيد, فكيف تقضي فيه حق غيره وأنت لم تؤدِّ حق الله فيه؟

عندما يستيقظ الإنسان فيرى صداع المنذر أول ما يطلع الفجر, يتذكر نعمة الله عليه بإعادته إلى هذه الحياة, وخطاب الله له أن يبدأ بذكر الله حياته من جديد, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فيقول: ( الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور, الحمد لله أمات وأحيا, الحمد لله الذي يحي الموتى، وهو على كل شيء قدير ), ويذكر الله سبحانه وتعالى, ثم يأتي بعد ذلك الاستعداد لصلاة الفجر, وهي أول الواجبات اليومية, ومن استعداداتها ما بين الشارع أحكامه, ولذلك جاء يهودي إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقال: إن نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة، أي: دخول الخلاء, فقال: ( أجل، علمنا أن لا نستقبل القبلة ببول ولا غائط, وأن نستنجي بثلاثة أحجار ), فلم يترك شيئاً إلا علمنا إياه, وبذلك نعلم أن هذا المنهج يأتي على صغير الأمر وكبيره, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, لـمعاذ حين أرسله إلى اليمن : ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره ), فكبيره أركان الدين وفرائضه, وصغيره ما دون ذلك من السنن والمندوبات التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها, ومثل ذلك من كبيره الازدجار عن المحرمات, كالكبائر والفواحش, وترك ما دونها من الصغائر كاللمم والمكروهات وخلاف أولى, فكل ذلك داخل في قوله: ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره ).

ترتيب الشرع لوقت الفرد فيما يقضيه

ولذلك إذا تجاوز الإنسان صلاة الفجر في حياته, فلينظر إلى الخطاب الموجه إليه, وهو أن يصرف هذا العمر الذي أوتيه في الحق, والحق إما حسنة للمعاد أو درهم للمعاش, إما حسنة للمعاد يجدها أمامه يوم القيامة, وإما درهم للمعاش ينتفع به في حياته, وكل ذلك رتبه الشارع، ونظمه تنظيماً دقيقاً يعرف فيه المسلم الفرق بين دائرتين: دائرة الحلال ودائرة الحرام, وإذا عرف الفرق بينهما عرف أن دائرة الحلال هي دائرة الإذن، وأن دائرة الحرام هي دائرة الحضر, ففيها كل مفسدة عليه، سواء كانت تلك المفسدة في الدين أو في الدنيا، أو كانت مفسدة باطنية قلبيه, وإذا عرف دائرة الحلال عرف كذلك أنها إما أن تحقق له المصلحتين معاً، الدينية والدنيوية, أو أن تحقق له إحداهما, ولا بد، كما قال ابن عباس : (إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خيرٍ يقدمك إليه, أم إلى شرٍ يصرفك عنه), فلا بد أن يعلم الإنسان حينئذٍ إذا جاءه الخطاب من عند الله سبحانه وتعالى, أنه منادىً إلى خيرٍ يقدمه الله إليه, أو إلى شرٍ يصرف عنه بالنهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278], ويأتي بعدها أمر أو نهي في القرآن كله.

حكمة مشروعية الصلاة

كذلك ما بعد هذا يفصل الوقت كله بالواجبات وما بينها من السنن والمندوبات، ألا ترون أن الفرائض الخمسة مثلاً: تقطع اليوم كله لئلا يغفل الإنسان عن بارئه سبحانه وتعالى, وليجدد العهد به في كل الأوقات, ولذلك قال أهل العلم: من حكم مشروعية الصلاة تجديد ذكر الله في الأوقات, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ), فذكر الله من أجله شرع كثير من الأحكام لإقامته, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ), فنحن محتاجون إلى إقامة ذكر الله, فلهذا ذكرنا الله بعبادته بسماعنا لصوت المؤذن ينادي في الأوقات كلها: الله أكبر الله أكبر, فيذكرنا هذا بربنا سبحانه وتعالى, فنذكره ونجيب داعيه عندما ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح.

أحكام الشرع منوطة بمصالح العباد

وهكذا في تفصيلات أمور حياة الفرد, فإذا عرض بين يدي الإنسان أي شيء، لا بد أن يعلم أن لله فيه حكم، إما أن يكون مأموراً به أو أن يكون منهياً عنه, وما عليه إلا أن يتعلم حكم الله فيجد الأمور كلها ملونة مفصلة, بينما هو مأذون له فيه، وما هو ممنوع عليه محظور, وليعلم الإنسان حينئذٍ إذا تعلم حكم الله في أمور ما حظره الله عليه، إنما حظر من أجل مصلحته هو, وما أوجب الله عليه إنما أوجب عليه من أجل مصلحته هو, فإن الله سبحانه وتعالى لا ينتفع من خلقه بشيء: ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبغوا نفعي فتنفعوني ), فالمنتفع هو العبد الذي يعمل, ولذلك فالضرر الحاصل بالمعصية, إنما يحيق بصاحبه فقط، وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

ولهذا قال الله تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ), فالتشريع إنما يراد به مصلحة بني آدم, ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الأحكام مقيدة بعدم الاضطرار، فكلما حضر أمراً وحرمه يقول بعده، يستثني بعده أمر الضرورة، كقوله تعالى بعد أن ذكر المحرمات من المطعومات في سورة الأنعام: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145], وبعد أن ذكر المحرمات كذلك من المأكولات في سورة المائدة قال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119], وكذلك في سورة الأنعام بعد أن ذكر المحرمات من المأكولات في قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ[الأنعام:145], قال بعدها: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145], وقال كذلك: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119].

مدار الأحكام بين العزائم والرخص

وجعل الشرع في حق الإنسان محفوفاً بجدارين: أحدهما: جدار العزيمة, والأخرى: جدار الرخصة, فما بينهما هو الشرع, فإذا سمعتم خلافاً بين أهل العلم في تحديد مسألة، هل هي من باب المباحات أومن باب المحظورات؟ فاعلموا أن النظر اختلف إلى هاذين الجدارين، فبعضهم نظر إلى جهة العزيمة فشدد في الحكم, وبعضهم نظر إلى جهة الرخصة فتساهل في الحكم, ولذلك لا يخلو الحكم الشرعي من أن يخرج من بين هذين الجدارين، فإما أن يكون داخلاً في العزائم, وما أن يكون داخلاً في الرخص.

ثم إذا رجعنا إلى مراجعة الإنسان لهذا المنهاج بخاصة نفسه، فليعلم أن تهذيب خلقه هو أساس نفي كل الشرور عنه، فإن الإنسان لا يمكن أن يقدس ولا أن يطهر، ولا أن يستحق الجنان العالية, إلا إذا تطهر من أدران الرذيلة في هذه الحياة الدنيا, ولا يتم له ذلك إلا بمتابعة منهج الله سبحانه وتعالى الذي شرع له وبين, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ).

منهج حياة المجتمع في الدين

ثم أن نذهب إلى المنهج العام للاجتماع الذي يشمل المجتمع كله, فإن للشارع نوعين من أنوع التكاليف: النوع الأول: مختص بالأعيان، وهو الذي يسمى في الاصطلاح الفقهي: بالفرائض العينية والسنن العينية، والمندوبات العينية.

والقسم الثاني: هو المختص بالمجتمع، وهو الذي يسمى في الفقه: بفروض الكفايات وسنن الكفايات ومندوبات الكفايات, فالفروض تكون عينية وتكون كفائية, والسنن تكون عينية وتكون كفائية, والمندوبات كذلك تكون عينية وتكون كفائية, فالفرائض والسنن والمندوبات العينية, هي داخلة في المنهاج الأول الفرضي الذي سبق بيانه, والفرائض والسنن والمندوبات الكفائية هي داخلة في المنهج الثاني المختص بالمجتمع, ولهذا فإن حياة المجتمع كلها مربوطة بهذا التشريع, فقد بين الله سبحانه وتعالى ما يقتضي سلامة المجتمع في الدين، وفي العقل، وفي النفس، وفي العرض، وفي المال، وفي النسب, وهذه ضروريات البشر الست, فهذه الضروريات حماها الشارع بأنواع الحمايات, فإذا نظرتم إلى حدود الله عز وجل من الزواجر والجوابر، فستجدونها أنها حماية لهذه الأصول الستة.

الحكمة من إقامة الحدود وتطبيقها

فحد الردة -أجارني الله وإياكم- حماية للدين, وحد الخمر حماية للعقل, وحد القصاص حماية للنفس, وحد القذف حماية للعرض, وحد السرقة حماية للمال, وحد الزنا حماية للنسب.

فالحدود تحتاج إليها البشرية جمعاء حاجة عظيمة, ولذلك فالذين يستنكرون إقامة الحدود ويرونها مخالفة لحقوق الإنسان، إنما ينظرون إلى الفرد الذي سيقام عليه الحد وحده, ولا ينظرون إلى حال المجتمع بكامله، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحاجة في الحدود ليست حاجة فردية, وإنما هي حاجة جماعية للناس, فقال صلى الله عليه وسلم: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً )، معناه أن يمطروا أسبوعاً كاملاً.

فهذه الحدود يدرأ بها الله سبحانه وتعالى عن هذه الأصول التي تحتاج إليها البشرية، ولا يمكن أن تستقيم أمورها بدونها, فلهذا لا يمكن الحفاظ على الدين إلا إذا حقق حد الردة, ولا يمكن الحفاظ على النفس إلا بحد القصاص, ولا يمكن الحفاظ كذلك على العقل إلا بحد الشرب, ولا يمكن الحفاظ على العرض إلا بحد القذف, ولا يمكن الحفاظ على المال إلا بحد السرقة, ولا يمكن الحفاظ على النسب إلا بحد الزنا, وإذا أهمل شيء من هذه الحدود, تضررت البشرية تضرراً شاملا, وفشا فيها من أنواع الأوبئة والأضرار الشيء الكثير, ولذلك أخرج ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح, وكذلك أحمد في المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قومٍ فأعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الأمراض والأوجاع التي لم تكن فيمن مضوا في أسلافهم, ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة, ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم, ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا, وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).

ثمرة تطبيق الأحكام الشرعية

إن هذه الأحكام الشرعية يرفع الله بها البأس عن الناس, ويحقق بها الرخاء في الأرض, والبشرية تحتاج إليها في كل شئونها, ألا ترون أنه عندما يباح الربا بين الناس ستنتشر بينهم الضغائن والبغضاء حتى يعتدي الأخ على أخيه, وحتى يتنازع أفراد الأسرة الواحدة عندما تترسخ الأمور المادية في النفوس, إن النظرة المادية التي ترسخت في مجتمعنا اليوم، إنما ترسخت بسبب انتشار الربا, ولهذا لم يعد لدى الناس من القيم إلا ما كان قيمة مادية واضحة بين الناس, فلو أن إنساناً وقف على الملأ الآن فأعلن ردته على الإسلام، فلن يهتم أحد من الناس بذلك، ولن يقيم عليه حداً ولن يضربه, لكنه لو خرج إنسان من بين الحاضرين فسرق مائة أوقية لأحدٍ، فإن الناس جميعاً سيتكالبون عليه يقولون: سارق سارق, لماذا؟ هل السرقة أعظم من الردة؟ لا ليست السرقة أعظم من الردة، ولكن الناس لم يعودوا يزنوا إلا بميزان المادة, ولذلك فإن دوائر التصور الإسلامي لدى الفرد، تركت فيه العلمانية شرخاً عظيما, ومن أعظم ذلك الشرخ عدم التمييز بين دائرة الحلال والحرام في تصور المسلم, فإذا عرضت على المسلم نازلة أو مسألة لم يتوقف حتى يعلم حكم الله فيها, وإن كان عالماً بالحكم فـقل أن يتوقف عند حدود الله.

قصة الشيخ مختار بن بؤنة مع الشيخ عبد الله الحاج

ألا ترون أن الناس إنما يبحثون عن تحقيق المصالح الدنيوية المادية العاجلة في شئونهم ولا يبحثون بعد ذلك هل مصير هذا إلى النار أو إلى الجنة, هل هو ممن يوضع في كفة الحسنات أو في كفة السيئات يوم القيامة؟ إن أسلافنا كانوا يفكرون قبل الإقدام على عملٍ بهذا التفكير, ولذلك فإن المختار بن بونا رحمه الله كان يستعمل الدخان, وقد حاول عدد من طلابه إقناعه بتركه فلم يقتنع, وكان سيدي عبد الله الحاج إبراهيم رحمه الله من الأذكياء النبهاء, فأراد أن يثني الشيخ المختار عن شرب الدخان، فأهدى إليه هدية جزلة، وأرسل معه طالباً له مؤدبا, فقال: إذا حان وقت الظهيرة فقال الشيخ: فاقترب إليه وتتلطف به واسأله هل التدخين يوم القيامة في كفة الحسنات أم في كفة السيئات؟

فذهب الطالب وأدى ما أمره به سيدي عبد الله ، فلما جلس المختار تحت ظل الشجرة في وقت الظهيرة اقترب إليه الطالب وتلطف به، ثم سأله فقال: أرأيت هذا التدخين أيكون يوم القيامة في كفة الحسنات أم في كفة السيئات؟

فقال: ليس السؤال لك إنما هو لسيدي عبد الله وأخبره أنه في كفة السيئات، ورمى ما معه من الدخان وتخلص منه, إن أهل الإيمان إذا جاءهم نذير من عند الله تعالى أو جاءتهم موعظة من عنده تراجعوا، وعرفوا أن ذلك الخطاب إنما هو لمصلحتهم, فما أحوجنا إلى مثل هذا اليوم.

تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الأحكام

ما أحوجنا إلى أن يتحقق فينا تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على هذا الإسلام منهجاً كاملاً في حياتهم, فإنه دخل عليه رجلاً من أصحابه وفي يده خاتم من ذهب، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة مغضب وقال: ( أيسرك أن لك به جمرة من نار يوم القيامة، فخلعه الرجل ورمى به، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس، قيل للرجل: خذ خاتمك فبعه فانتفع به، فقال: والله لا أنتفع به، وقد خرجت منه لله عز وجل ), ما أحوجنا إلى تحقيق هذا المنهج في حياتنا كلها.

فإذا رجع الإنسان إلى نفسه سيجد أن الذي بقي من آثار هذا المنهج لدى الناس هو بعض المعاملات مع الله فقط في الغالب, أما المعاملات مع الناس فقلما يرجع الناس فيها إلى المنهج الإسلامي الكامل.

فساد المجتمع بفساد منهجه الإسلامي

نجد الإنسان إذا كتب الله له أن يصلي ذهب فصلى صلاته, وإذا كتب له صيام صام, لكن مع ذلك نجده يأكل الربا, ومن المؤسف أنه يكون هو المؤذن أو الإمام الذي يصلي بالناس، ومع ذلك يعقد الصفقات الربوية, إن الذي تدعو إليه وتصلي له هو الذي حرم عليك الربا ونهاك عنه, وهو الذي حرم عليك الغيبة, وهو الذي حرم عليك أكل مال الناس بالباطل, وهو الذي حرم عليك كل المحرمات, وهذه الصلاة التي تفعلها هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي أردت بها إقامة ذكر الله, وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

إن هذا المجتمع لا يصلحه إلا هذا المنهج المتكامل الذي رضي له بارئه وخالقه, ولذلك قال مالك رحمه الله: (إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها), فلا يمكن أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها, وتذكروا قول العلامة بابا بن شيخ سيدي رحمه الله:

فما كفى أولنا أليس يكفي الآخر كن للإله ناصــــــراً وأنكر المناكر

وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائر ولا تعد نافعاً سوى هو أو ظائر

واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائراً فما كفى أولنا أليس يكفي الآخــــــــــر

فهو كافٍ لا محالة أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36], فعلى المسلم أن يراجع هذا المنهج في حياته هو وأن يتخذ منه أصلاً في كل شئونه, وعلى المجتمع كذلك أن يراجعه في شئونه فمن المؤسف أن يكون المجتمع ينتسب إلى الإسلام ويريد أن يحقق الإسلام في نفسه, ويريد أن يبعث تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, ومع ذلك يتحاكم الناس فيه إلى أعرافٍ وعاداتٍ هي مخالفة لشرع الله، مخالفة لما جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله, إن الذين يقدمون هذه العادات والأعراف والتقاليد على أمر النبي صلى الله عليه وسلم, معرضون لسخط الله كما قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

أن الأديان السابقة إنما كانت تصلح لمدة زمنية محددة في علم الله لا تصلح لما سواها, ولا يمكن أن تتعداها, ومن أمثلة ذلك أنه في زمان آدم, أباح الله نكاح الأخوات لاستمرار الجنس البشري, ولو استمر التشريع كذلك, لحصل من المضار ما هو معروف لديكم.

جاء محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين على فترة من الرسل، واقتراب من الساعة وجهالة من الناس, ففتح الله به أعيناً عميا, وآذاناً صما, وقلوباً غلفا, وجعل الله هذا الدين الذي آتاه, هو الدين الحقيقي عند الله, قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19], وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمدٍ بيده! لا يسمع بي من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي, إلا كبه الله على وجهه في النار ), وقال لـعمر بن الخطاب حين رأى ورقة من التوراة: ( أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب , فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي ).

جاء هذا الدين كاملاً من كل جوانبه, متماسكاً, شاملاً لحاجات البشر؛ لأنه تشريع الحكيم الخبير, أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14], فلو وكل التشريع إلى اجتهادات الناس أو أهوائهم, لكان يحتاج إلى التغيير والتعديل في كل يوم, كما تسمعون في تعديل القوانين الوضعية, فتسمعون المرسوم رقم كذا المنظم لكذا, المعدل بالمرسوم رقم كذا بتاريخ كذا وهكذا, وذلك أن البشر لا يعرفون مصالحهم, يمكن أن يظهر للإنسان بعض مصالحه الآنية المؤقتة, ولكنه سرعان ما تتغير اجتهاداته, ويعلم أن ما كان يظنه مصلحةً له هو عين الخطأ في حقه, وهو المفسدة, وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم, فينقض الإنسان عزيمته, ويغير اجتهاده ورأيه في كل وقت, وكم من إنسان منكم اليوم لو راجع نفسه ورجع إلى تاريخه قبل سنةٍ من الآن، لرأى أن ما كان يفكر فيه أنه مصالح له، قد تغير كثير منه, وأصبح يعده في لائحة المفاسد, هذا يدلنا على أن البشر لا يمكن أن يوكل إليهم التشريع, بل لا بد أن يكون التشريع من عند العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية, ولا يفوته شيء من أخبار الناس, من أجل هذا لم يكل الله الناس إلى اجتهادهم وأهوائهم, بل شرع لهم الشرائع, وأنزل بها الوحي المعصوم, وجعل هذه الشرائع تتناسب مع الأطوار التي تمر به البشرية, فجاء هذا التشريع الذي سماه الله الإسلام متكاملاً يشمل جميع جوانب الحياة, فمنه ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم, ومنه ما ينظم علاقاتهم بربهم, ومنه ما يبين الأصول العقدية التي على أساسها ينبني العمل كله, ومنه كذلك ما يهذب الأخلاق, ومنه ما يكفل مصالح الدنيا, ويجعلها منصبة في بوتقة مصالح الآخرة.