الإسلام عقيدة وشريعة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله عز وجل قد أرسل الرسل إلى خلقه لإقامة الحجة عليهم, وأخبر عما أرسلهم به بقوله جل من قائل: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48], وفي صحيح البخاري معلقاً عن عبد لله بن العباس رضي الله عنهما أنه فسر هذه الآية فقال: شرعةً ومنهاجاً، سبيلاً وسنةً.

فالسبيل: هو الشريعة ومعناه: الأحكام التي تنظم علاقات العباد مع ربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم.

والسنة: هي العقيدة التي يؤمنون بها ولا تتعلق بالعمل الظاهري. وهذا المصطلح كان شائعاً في صدر الإسلام, وقد دأب المؤلفون الأوائل على تسمية العقيدة بالسنة, ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى لما سئل عن مالك و ابن عيينة قال: إن مالكاً إمام في السنة والحديث، وإن ابن عيينة إمام في الحديث. فـمالك إمام في السنة والحديث معناه إمام في العقيدة وفي الحديث, و ابن عيينة إمام في الحديث, ولكن لعل بعض أمور العقيدة وتفاصيلها قد لا يكون متخصصاً فيها, ولذلك ألف كثير من المؤلفين كتباً بعناوين السنة، منهم عبد الله بن الإمام أحمد ألف كتابه: السنة, جمع فيها بعض الآيات والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفاصيل العقيدة, وكذلك ألف الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير الأسدي المكي القرشي شيخ البخاري ، أول من حدث عنه في صحيح, وتلميذه سفيان بن عيينة ألف كتاباً سماه: أصول السنة, وهو ملحق بآخر مسنده مطبوع في آخره, وكذلك ألف اللالكائي كتابه: شرح أصول السنة، ويقصد به جمع عقائد أهل السنة والجماعة.

وكثير من المؤلفين يعقدون كتاباً للاعتصام بالسنة في كتبهم ويقصدون بذلك العقائد، مثل: البخاري في صحيحه عقد كتاباً في آخره للاعتصام بالسنة، والمقصود بذلك التمسك بالاعتقاد.

وأما السبيل: فهو الصراط الذي يسير الناس عليه وينظم علاقاتهم بربهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وهو المحجة البيضاء التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, وهي مثال للصراط الأخروي, الذي هو جسر منصوب على متن جهنم، عليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فناجٍ مسلمٌ ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم.

وكذلك هذا الصراط الدنيوي وهو صراط الله المستقيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, هو أيضاً دقيق كالصراط الأخروي وعليه كلاليب وامتحانات, ولا يمكن أن يسلم الشخص في سلوكه من المحن؛ لأن الله تعالى يقول: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3], فهذا الصراط الدنيوي بقدر استقامة الشخص عليه يكون ثباته على الصراط الأخروي.

فالذي يثبت عليه ولا ينحرف يمنة ولا يسرةً ويستقيم على المنهج الذي لا يرضي الله سواه, ويسلك سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم, يرجى أن يثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27], والذي لا يمسك نفسه فتغلبه يمنةً تارةً ويسرةً تارةً أخرى، ويدخل في بنيات الطريق, فهذا يخشى عليه عدم الثبات على الصراط الأخروي.

ولذلك كان في ختام الوصايا العشر التي أوصانا الله تعالى بها في خواتيم سورة الأنعام، وهي من آخر السور التي نزلت بمكة، التي ليس بها كثير من التشريع وإن كان فيها بعضه، وهي ملخصُ كل ما نزل بمكة من القرآن.

فالمكي من كتاب الله تعالى اثنتان وثمانون سورة, وملخصها كان في سورة الأنعام, ولذلك نزلت دفعة واحدة, وكان من ملخصها هذه الوصايا العشر التي في آخرها من قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151]، إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خطاً، وخط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وخطوطاً عن شماله، ثم وضع أصبعه على الخط الأول فقال: هذا صراط الله مستقيماً, وأشار إلى الخطوط الأخرى فقال: وهذه سبل على كل واحدة منها شيطان يدعو إليه, ثم قرأ هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] ).

إن إرسال الرسل كان لحكمة بالغة؛ لأن الله قد علم أن الصنف البشري لا يمكن أن يصل إلى كل ما يكفل مصالحه الدينية والدنيوية بمجرد عقوله القاصرة.

فأرسل إليه الرسل لإقامة الحجة ولبيان المحجة, فجاءوا مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل, وكان كل نبي يبعث بشريعة آنية، مؤقت بتاريخ معين في علم الله تعالى لا تصلح لما بعده, وذلك حسب التطور البشري إلى أن وصلت البشرية إلى نضجها واستكملت مراحل حياتها ومرت بكل التجارب, فأرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم, على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس, ففتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وجاء بهذا الدين الذي كان كل الأديان إعداداً له.

وظهرت مزايا هذا الدين في عدة أمور:

شمولية الإسلام

منها: أن الرسل السابقين لم تكن رسالتهم عامةً شاملةً لجميع البشر؛ بل كان النبي يبعث إلى قومه خاصةً, ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، وعد منها أنه قال: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبعثت إلى الناس عامةً ), فهو رسول إلى الأحمر والأسود والأبيض، وإلى كل الصنف البشري والجن أيضاً.

تدرج شريعة الإسلام

وكذلك من هذه المظاهر: أن الرسل كانت شرائعهم تدفع إليهم دفعة واحدة، ولا يقع فيه التدريج والتفاوت؛ لأنها في علم الله تعالى لا تصلح إلا لمدة محصورة من الزمن, وهذه الشريعة نزلت في ثلاث وعشرين سنة بالتدريج، ولذلك قال الله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:106-109], ويقول تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:32-33].

وقد سلم الله تعالى التوراة لموسى دفعة واحدة في الألواح مكتوبة، ولهذا قال الله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145].

وكذلك نزل الإنجيل دفعة واحدة، ونزلت الكتب كلها دفعة واحدة ولم يكن فيها نسخ.

نسخ الإسلام لبقية الشرائع

واختصت هذه الشريعة بظاهرة النسخ؛ لأنها الشريعة الخاتمة التي لن يأتي بعدها نبي، ولن يقع فيها تعديل ولا تغيير بعد أن توضع عليها اللمسات الأخيرة, وهذا ما حصل فعلاً، فقد أنزل الله تعالى على رسوله الله صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر يوم الجمعة وهو بعرفة في التاسع من شهر ذي الحجة، في العام العاشر من الهجرة, قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3], فلا يمكن أن يتغير شيءٌ من شريعة هذا الدين ولا من عقيدته ولا أن يتبدل.

المعجزة المعنوية في القرآن

كذلك من هذه المظاهر أن الرسائل السابقة كانت معجزاتها مادية لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو من نقلت إليه تواتراً, كناقة صالح عليه السلام لو لم ترد في القرآن لما آمنا بها؛ لأننا لم نشاهدها ولم تنقل إلينا بالتواتر, وإنما نؤمن بها الآن؛ لأن الله حدثنا بها في القرآن, وإلا فلا علم لنا بها.

وكذلك معجزات عيسى عليه السلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, لو لم يرد هذا في القرآن لما صدقناه؛ لأننا لم نره ولم ينقل إلينا تواتراً, وهكذا كل المعجزات السابقة كانت مادية إنما تقوم به الحجة على عدد محصور من البشر.

أما هذه الشريعة التي يراد لها البقاء والاستمرار، فكانت معجزتها معجزة معنوية تقوم بها الحجة على كل من سيأتي.

ولذلك قال الله تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19], ومن بلغ هو الذي فصله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار ), فسيصل هذا الدين إلى نهاية جميع أهل الدنيا، وستقوم عليهم الحجة به وذلك هو الإظهار الذي تعهد الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33], فأظهره على الدين كله, وبذلك جعله مهيمناً عليه, فنحن الآن نشهد على الأمم السابقة بسبب هذا الكتاب الذي لدينا، وهو المعجزة التي تحدى الله بها الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله.

فأقصر السور في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهذه السورة يتحدى الله تعالى بها جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثلها، في أي غرض شاءوه، وبأي لغة شاءوها، وبأي أسلوب شاءوه، وتبقى الحجة قائمة والتحدي قائماً إلى أن يرفع الله القرآن.

وما زالوا حتى الآن متحدين بهذه، ولن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله,لم يستطيع أحد في غابر الزمان ولن يستطيع في باقيه, قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، فإذاً هذه المعجزة الباقية دليل على بقاء هذه الشريعة واستمرارها.

كذلك من الشرائع السابقة ما كانت تختص رسالة صاحبها رسالة النبي الذي جاء بها بإصلاح بعض الأمراض الاجتماعية الموجودة، ولا تكون ناسخةً للشريعة السابقة عليها، فمثلاً:

شريعة لوط لم تكن ناسخةً لملة إبراهيم، وإنما كانت للتركيز على إصلاح بعض المظاهر الاجتماعية السيئة، مثل عادة اللواط التي جاء لوط على نبينا وعليه السلام ليمحوها من الأرض، وليحذر أهل الأرض منها وينذرهم الله تعالى ويذكرهم به.

وكذلك رسالة شعيب لم تكن أيضاً ناسخةً لرسالة إبراهيم شريعته، وإنما جاء أيضاً لمكافحة ظلم الناس في المال، كخسران الميزان وبخس الناس أشياءهم, ولذلك حارب هذه الظاهرة وبغضها إلى أهل الأرض ما استطاع، وأقام عليهم الحجة لله تعالى في ذلك.

أما هذه الشريعة فجاءت متناولة لكل شيء, وحتى الأمور التي استحدثت في بعض الشرائع ولم تكن في أصلها وقصرتها على بعض الجوانب دون بعض، كما أحدثه الرهبان من الذين يدعون اتباع عيسى حيث غيروا شريعته وبدلوها، واستحدثوا فيها الرهبانية وابتدعوها ما كتبها الله عليهم, فقصروا ديانة عيسى على ما يفعله الرهبان في الأديرة وما يتعبدون الله به في خصائص أنفسهم، وهذا مخالف لأصل الشريعة؛ لأن عيسى جاء رسولاً إلى بني إسرائيل مجدداً للدين، وهؤلاء قصروا الشريعة على بعض جوانبها؛ فلذلك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وهذا ما دعا به داعيهم، فقال: دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وهذا مخالف لما جاء به عيسى؛ لأن الله تعالى هو أغنى الشركاء عن الشرك, ولا يمكن أن يتقاسم خلقه بينه وبين غيره.

ولذلك نعى الله تعالى على هذا عن المشركين في سورة الأنعام في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136], فإذاً حكم الله تعالى على ظاهرة التجزئة التي تجعل بعض الدين لله، وبعضه للمخلوقين بأنها أسوء حكم، ولذلك قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136], ساء صيغة مبالغة في الذنب، فلا يوصف بها إلا ما وصل إلى الدرجة القصوى من الذنب.

انقسام الشريعة إلى عهدين

وكذلك من مظاهر كمال هذه الشريعة: أنها انقسمت إلى عهدين: عهد مكي، وعهد مدني, والقرآن الكريم وسوره مائة وأربع عشرة سورة، نزلت منه اثنتان وثمانون سورة قطعاً بمكة, ونزلت عشرون سورة قطعاً بالمدينة, واختلف في اثنتي عشرة سورة، ترددت بين المكي والمدني، بعضها نزل بعضه بمكة وبعضه بالمدينة، وبعضها تكرر نزوله نزل مرتين, فهذا يقتضي كمالاً فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة.

فعصر مكة كان التركيز فيه على العقيدة؛ لأن الناس إذا لم يبنوا على دافعٍ عقديٍ يقتنعون به، لا يمكن أن يمارسوا شعائرهم، ولا أن يطبقوا شرائعهم بمجرد دافع النفس أو المال أو الشهرة؛ لأن هذا لا ينفع ولا يغني عند الله شيئاً، فالله تعالى لم يكلفنا إلا بالإخلاص؛ ولهذا قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

فلم يأمر الله تعالى بعبادة دون عقيدة, ولم يأمر أيضاً بعقيدة لا تدعو إلى شيء, فالاعتقاد الذي لا يؤدي إلى عمل اعتقاد باطل, ولهذا يسمى فلسفة أو سفسطة، فالسفسطة هي الحكمة الملبسة، معناها القناعات يقتنع به الشخص لا تدعوه إلى أي عمل, فالفيلسوف الذي يفكر كثيراً من التفكير ويتعب نفسه ويجهدها، ثم لا يصل إلى نتيجة عملية عمره ضائع ومحكوم عليه بالإفلاس.

والجاهل الذي يبتدع في دين الله تعالى ويسعى ويجهد نفسه للتعبد بما لا يرضي الله تعالى, هذا أيضاً مغبون في صفقته في الدنيا والآخرة, ولهذا بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام، فرأى الرهبان ينعزلون في الأديرة يبكون ويتقربون لله تعالى, فبكى رحمةً بهم، وتذكر قول الله تعالى في خواتم سورة الكهف: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104], هؤلاء يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ لأنهم يتعبدون ويتقربون إلى الله تعالى, ومع ذلك ضل سعيهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم لم يشاركوا في ملذاتها وشهواتها, وضل سعيهم في الآخرة؛ لأن أعمالهم باطلةً.

ولذلك عندما يردون يوم القيامة, حينئذٍ يحق عليهم قول الله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47], ويحق عليهم قول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23], ويحق عليهم قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36], فلذلك نجدهم الآن المنصرون مثلاً: يتعبون أنفسهم وينفقون أموالهم، ويسافرون الأسفار الشاقة، ويجهدون أبدانهم في سبيل دعوتهم الباطلة، ومع ذلك يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأعمالهم كلها باطلة، ولن تجد استجابةً مثمرة في الدنيا، ولن تجد يوم القيامة إلا أن تكون حسرةً عليهم ووبالاً.

منها: أن الرسل السابقين لم تكن رسالتهم عامةً شاملةً لجميع البشر؛ بل كان النبي يبعث إلى قومه خاصةً, ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، وعد منها أنه قال: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبعثت إلى الناس عامةً ), فهو رسول إلى الأحمر والأسود والأبيض، وإلى كل الصنف البشري والجن أيضاً.

وكذلك من هذه المظاهر: أن الرسل كانت شرائعهم تدفع إليهم دفعة واحدة، ولا يقع فيه التدريج والتفاوت؛ لأنها في علم الله تعالى لا تصلح إلا لمدة محصورة من الزمن, وهذه الشريعة نزلت في ثلاث وعشرين سنة بالتدريج، ولذلك قال الله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:106-109], ويقول تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:32-33].

وقد سلم الله تعالى التوراة لموسى دفعة واحدة في الألواح مكتوبة، ولهذا قال الله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145].

وكذلك نزل الإنجيل دفعة واحدة، ونزلت الكتب كلها دفعة واحدة ولم يكن فيها نسخ.

واختصت هذه الشريعة بظاهرة النسخ؛ لأنها الشريعة الخاتمة التي لن يأتي بعدها نبي، ولن يقع فيها تعديل ولا تغيير بعد أن توضع عليها اللمسات الأخيرة, وهذا ما حصل فعلاً، فقد أنزل الله تعالى على رسوله الله صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر يوم الجمعة وهو بعرفة في التاسع من شهر ذي الحجة، في العام العاشر من الهجرة, قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3], فلا يمكن أن يتغير شيءٌ من شريعة هذا الدين ولا من عقيدته ولا أن يتبدل.

كذلك من هذه المظاهر أن الرسائل السابقة كانت معجزاتها مادية لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو من نقلت إليه تواتراً, كناقة صالح عليه السلام لو لم ترد في القرآن لما آمنا بها؛ لأننا لم نشاهدها ولم تنقل إلينا بالتواتر, وإنما نؤمن بها الآن؛ لأن الله حدثنا بها في القرآن, وإلا فلا علم لنا بها.

وكذلك معجزات عيسى عليه السلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, لو لم يرد هذا في القرآن لما صدقناه؛ لأننا لم نره ولم ينقل إلينا تواتراً, وهكذا كل المعجزات السابقة كانت مادية إنما تقوم به الحجة على عدد محصور من البشر.

أما هذه الشريعة التي يراد لها البقاء والاستمرار، فكانت معجزتها معجزة معنوية تقوم بها الحجة على كل من سيأتي.

ولذلك قال الله تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19], ومن بلغ هو الذي فصله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار ), فسيصل هذا الدين إلى نهاية جميع أهل الدنيا، وستقوم عليهم الحجة به وذلك هو الإظهار الذي تعهد الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33], فأظهره على الدين كله, وبذلك جعله مهيمناً عليه, فنحن الآن نشهد على الأمم السابقة بسبب هذا الكتاب الذي لدينا، وهو المعجزة التي تحدى الله بها الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله.

فأقصر السور في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهذه السورة يتحدى الله تعالى بها جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثلها، في أي غرض شاءوه، وبأي لغة شاءوها، وبأي أسلوب شاءوه، وتبقى الحجة قائمة والتحدي قائماً إلى أن يرفع الله القرآن.

وما زالوا حتى الآن متحدين بهذه، ولن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله,لم يستطيع أحد في غابر الزمان ولن يستطيع في باقيه, قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، فإذاً هذه المعجزة الباقية دليل على بقاء هذه الشريعة واستمرارها.

كذلك من الشرائع السابقة ما كانت تختص رسالة صاحبها رسالة النبي الذي جاء بها بإصلاح بعض الأمراض الاجتماعية الموجودة، ولا تكون ناسخةً للشريعة السابقة عليها، فمثلاً:

شريعة لوط لم تكن ناسخةً لملة إبراهيم، وإنما كانت للتركيز على إصلاح بعض المظاهر الاجتماعية السيئة، مثل عادة اللواط التي جاء لوط على نبينا وعليه السلام ليمحوها من الأرض، وليحذر أهل الأرض منها وينذرهم الله تعالى ويذكرهم به.

وكذلك رسالة شعيب لم تكن أيضاً ناسخةً لرسالة إبراهيم شريعته، وإنما جاء أيضاً لمكافحة ظلم الناس في المال، كخسران الميزان وبخس الناس أشياءهم, ولذلك حارب هذه الظاهرة وبغضها إلى أهل الأرض ما استطاع، وأقام عليهم الحجة لله تعالى في ذلك.

أما هذه الشريعة فجاءت متناولة لكل شيء, وحتى الأمور التي استحدثت في بعض الشرائع ولم تكن في أصلها وقصرتها على بعض الجوانب دون بعض، كما أحدثه الرهبان من الذين يدعون اتباع عيسى حيث غيروا شريعته وبدلوها، واستحدثوا فيها الرهبانية وابتدعوها ما كتبها الله عليهم, فقصروا ديانة عيسى على ما يفعله الرهبان في الأديرة وما يتعبدون الله به في خصائص أنفسهم، وهذا مخالف لأصل الشريعة؛ لأن عيسى جاء رسولاً إلى بني إسرائيل مجدداً للدين، وهؤلاء قصروا الشريعة على بعض جوانبها؛ فلذلك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وهذا ما دعا به داعيهم، فقال: دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وهذا مخالف لما جاء به عيسى؛ لأن الله تعالى هو أغنى الشركاء عن الشرك, ولا يمكن أن يتقاسم خلقه بينه وبين غيره.

ولذلك نعى الله تعالى على هذا عن المشركين في سورة الأنعام في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136], فإذاً حكم الله تعالى على ظاهرة التجزئة التي تجعل بعض الدين لله، وبعضه للمخلوقين بأنها أسوء حكم، ولذلك قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136], ساء صيغة مبالغة في الذنب، فلا يوصف بها إلا ما وصل إلى الدرجة القصوى من الذنب.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع