الشباب طموح ومعاناة


الحلقة مفرغة

الحمد لله على نعمة الإسلام, وكفى بها نعمة, والحمد لله عند كل نعمة، والحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضاه, والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة طيبة.

أيها الإخوة الأحباب! باسمكم جميعاً نحيي شيخنا وضيفنا وحبيبنا أبا عبد الله الشيخ: عائض بن عبد الله القرني أيها الأحباب: من كل قلب يمتلئ بالحب، وكل عينين تشعان بالصدق, وكل لسان ينطق بالحق, نقول: أهلاً بـأبي عبد الله ترحب به عرانين نجد وبطاحها، يوم جاء من ذرا عسير وقممها, أهلاً بـأبي عبد الله من كل الشباب الذين امتلأت قلوبهم حبّا لك, كما امتلأ قلبك نصحاً لهم وحباً.

يا أبا عبد الله! تحييك نجد والقصيم كلها, من كل الشباب الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً, تحييك نجد كلما هبت صباها, وفاح شذاها, وتقلب صباحها ومساها, أهلا بك يا أبا عبد الله كلما نبست شفة أو رفت عين، أو خفق قلب بحب.

يا أبا عبد الله إن جموع الشباب التي يغص بها هذا المجمع المبارك, جاءت لتعلن بلسان حالها ومقالها، أنها جموع محمد صلى الله عليه وسلم, وإنهم أهل الحق الذي تصدع أنت بكلمته, وإنهم أتباع محمد الذي تشدو أنت بدعوته, وأن الطريق والصراط المستقيم قد اتسع لشباب علت هممهم، وسمت اهتماماتهم, وأصبح الذي يستهويهم صوت الكلمة الصادقة, والدعوة الناصحة, والرأي السديد.

أيها الإخوة.. أدعكم مع سبح شعري، معانيه في قلوبكم جميعاً, ولكن الذي رسم كلماته هو شيخنا الشيخ سلمان بن فهد العودة, رسم هذه الكلمات معبراً عما في قلوبنا كلنا من حب, وشرفني يوم أن أمرني بإلقائها:

احملوني إلى الحبيب وروحوا     واطرحوني ببابه واستريحوا

أنا من هيج الغرام شجاه     وبراه الهيام والتبريح

يا أبا عبد الله كم من محب     ناله في هواك ضر جريح

فسلام عليك من حيث تغدو     وسلام عليك حيث تروح

sh= 9904618>وسلام عليك في كل صمت وسلام عليك حين تبوح

وسلام أنى حللت يباريك     كما الظل في مداه الفسيح

ذلك الحزن في الوجوه بكاء     من مآسٍ تغدو بنا وتروح

فـفلسطين طعنة وأنين وقتيل ونازف وجريح

وقلوب قد أنهكتها الرزايا     فعليها من الرزايا صروح

وبلاد الأفغان أنّات حزن     وثكالى على ثكالى تنوح

ويهز الدنيا نداء صريخ     تحت أقدام قاتليه طريح

وعلى كل بقعة ذكر     اسم الله فيها مصائبٌ وقروح

يا أبا عبد الله ما حشر     الأشباح إلا روح أبيٌّ سبوح

هزه الشوق للمجالس نشوى     بعبير من الجنان يفوح

وبلحن من الكلام ندي     فيه سر من السماء وروح

فلأنت الشباب يهتز عطراً     ومعاناته وأنت الطموح

رافضاً زخرف الحياة جمالاً     باهتاً لم ينده التسبيح

أما الآن فأدعو أسماعكم لتتعطر بهتافات أبي عبد الله وكلماته، فليتفضل مشكوراً مأجوراً…

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم صلّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي, وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي, صاحب الغرة والتحجيل, المؤيد بجبريل, المعلم الجليل، المذكور في التوراة والإنجيل, صلى الله عليه وسلم كلما تضوع مسك وفاح, وكلما ترنم حمام وصاح, وكلما شدا بلبل وناح.

هذا جراحي وهذا كله وصبي     وهذه دمعتي سالت على تعبِ

يكفيك يا قلب أنا في القصيم غدت     قلوبنا تنسج الأفراح في طربِ

يا ماسح الدمع عن عيني ذكرتكم     والهم ينتابني والهول يعصف بي

فيا فمي اليوم قبِّل كل ناصية     شماء واقصد بها الرحمن واحتسب

بريدة الحق ما زالت محجبة     وصانها الله من باغٍ ومغتصبِ

أمطر عنيزة دمع الحب يحمله      روادها من صميم السادة العرب

في الرس ترسو المعالي وهي راسخة      وفي البكيرية الغراء كل أبي

يا بن البدائع أبدع ما أردت على     نهج الرسول ونهج الثلة النجب

يا مذنب الأوفياء الله يحفظكم     من زاركم مذنباً في دينه يتب

هل أخبروك عن الخبرى وما فعلت     أجيالها حاملو الأقلام والقضب؟

قصدي عيون الجوى يا عين فاغتنمي     يا صاحب العين لا تأس على الحجب

شمس الشماسية البيضاء معتقة     بالبر والخير لم تكسف ولم تغب

sh= 9904643>أرض الأشاوس ما دانت لمضطهد جوراً وما صافحت كفاً لمنتهب

ولا استناخت لجبار على رغم     لو كان من يزن نسلاً ومن كرب

أنوف أبطالها مرفوعة أبداً     إذا أنوف     خصوم الحق في الترب

صلى على أرضها روح الفدا وسقا     ترابها معصرات المزن في السحب

وذاد عنها دعاة الخير ما برحت     تُرمى الشياطين عنها الدهر بالشهب

يا أهل القصيم.. إن الذي يأتي ليحدثكم كالذي يروض الأسود, أو كالذي يسحب الحبل على شفرات السيوف.

يا أهل القصيم! يوم أن أتيت إليكم قال لي قلبي: إنك تأتي قوم أهل كتاب وسنة, فليكن أول ما تخبرهم عنه أنك تحبهم في الله, فأشهد الله في هذه الليلة, وأشهد ملائكته وحملة العرش, وأشهد المسلمين, أني أحبكم في الله, ولسان الحال يقول: وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].

كان لي نية قبل فترة أن أتشرف بزيارة هذا المعلم, وهذا المكان لأشارككم فرحة عودة دروس الشيخ الفاضل العالم المسدد سلمان بن فهد العودة, ونعيش هذه الأمنية الغالية، ولكني جئت الليلة معتذراً وشاكراً ومعانقاً ومسلِّماً.

عنوان المحاضرة (الشباب معاناة وطموح) ولها عناصر:

الشباب والفطرة، المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، معاناة الخيرين أبد الدهر، رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإيذاء والإغراء.

من صور المعاناة عند الشباب:

1- مصادرة الحريات في حياة الجيل وفصله عن ماضيه المجيد.

2- تحجيم دوره في الحياة ومكانته في التأثير.

3- حيرته أمام ركام هائل من الغثاء الفكري والعقدي والسلوكي.

4- إدانته باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة.

5- قلة المربين والعلماء الربانيين.

أما من صور الطموحات:

1- فتطلعه أن يكون العالم الرباني، الذي يعيد للعلم مكانته.

2- سعيه إلى أن يكون المجاهد الذي ينصر الله به دينه.

3- حرصه على إعادة الأمة إلى صدارتها وإمامتها.

4- هدايته الناس إلى الله تبارك وتعالى.

5- تطهيره الأرض من الدخيل الكافر, وإعادة الكمال الإنساني إلى أمة الخلافة.

تلكم عناصرها، وفي الحقيقة إنني كتبت المحاضرة لجلالة الموقف, وكنت أرتجل في غالب الأوقات، لكن لما علمت أني سوف أفد إلى مدينة العلم والدعوة، والقضاة والمشيخة, آثرت أن أكتب:

كالبحر يمطره السحاب وما           له فضل عليه لأنه من مائه

شباب محمد صلى الله عليه وسلم أخاطبهم هذه الليلة, شباب المساجد، شباب القداسة, شباب المبادئ، شباب التوحيد.

قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] على ماذا فُطِرَ هذا الإنسان؟ على لا إله إلا الله محمد رسول الله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] فنطقوا، قال الرازي والغزالي شهادة حال, وقال الجمهور: شهادة مقال.

ولد المولود وفي قلبه مكتوب لا إله إلا الله، وفي دمه تجري لا إله إلا الله، وفي عروقه تسبح لا إله إلا الله.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لكل مسلم ميلادان اثنان:

الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.

والميلاد الثاني: يوم اهتدى وتابع الرسول عليه الصلاة والسلام.

ومن لا يلد الميلاد الثاني فلا ينفعه الميلاد الأول، لأن الميلاد الأول من جنس ميلاد الحيوانات والعجماوات والبهائم والطيور والزواحف, وقال كذلك شيخ الإسلام في مختصر الفتاوى: ولكل مسلم أبوان الأب الأول أبوه الجثماني، والأب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم أبوه الروحاني، قال: وفي قراءة أُبي: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فالرسول صلى الله عليه وسلم أبٌ للشبيبة المهتدية السالكة إلى الله.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} سقط رأسه على التوحيد, وانبعث على التوحيد, ولكن التربية والغزو الفكري والأيادي العميلة, ومرتزقة الفكر، أرادوا أن يلحد، أو ينحرف، أو يفسق في دين الله, وجزاء الذين يغيرون فطرة الله أن يُغير الله أفئدتهم وأبصارهم؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] قالوا: أول مرة يوم الميلاد, وقيل: يوم الدعوة, وهذه الآية تتحقق في أسمى كمالها، في انهيار الشيوعية اليوم، تنسحق ويخرج العراة الجائعون من بيوتهم يدوسون بجزماتهم صور لينين واستالين.

لما رأت أختها بالأمس قد خربت     كان الخراب لها أعدى من الجرب

رمى بك الله جنبيها فحطمها     ولو رمى بك غير الله لم يصب

لقد قلَّب الله فطرهم, ولقد قلَّب الله أنظمتهم, ولقد دسَّ الله أنوفهم بالوحل, فرئيسٌ يأتي ليسحب صورة رئيس ويلعنها ويدوسها, كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38].

ولكني لا أفيض، وقد أردت أن أفيض, ولكني سوف أترك هذه الإفاضة لفضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري غداً مع محاضرة: موسكو تحطم أصنامها.

{وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان} {وأن يبيع حاضر لباد} وأن تُلقى السلع قبل أن يهبط بها إلى الأسواق, فأعطي القوس باريها، والكلمة خطيبها، منتظراً منه بحثاً في هذه الجزئية، التي نعيشها بدمائنا وضمائرنا وقلوبنا.

المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة, والله خلق الإنسان في كبد: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الانسان:2] قالوا: بالدعوة, وقيل: بالتكليف, بل هو مبتلى حتى في طعامه وشرابه, والفاسق مبتلى في معصيته, وشارب الخمر مبتلى بكأسه, وضارب العود مبتلى بعوده, والفنان مبتلى بفنه, والزنديق مبتلى بزندقته, والمؤمن مبتلى برسالته ومبادئه التي يحملها للناس: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] فهو في مشقة وفي ورطة, لا يخرجه من هذه الورطة إلا فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] ولا يكون المخرج إلا محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور, ولأنه ربان سفينة النجاح، من ركب فيها نجا, ومن تخلف عنها هلك.

يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] فهو عامل، المغني كادح, ومدير القرار كادح, ومنتج الجرم كادح, ومقترف الفاحشة كادح, ومرسل الكلمة البناءة كادح, ولكنه يعود إلى الله, وكما قال البوشنجي وهو يتكلم عن الدنيا، وهو أحد العلماء المحدثين:

أتينا كارهين لها فلما     عشقناها خرجنا كارهينا

وما بالعيش سلوتنا ولكن     أمرّ العيش فرقة من لقينا

يقول: أتينا نكره الدنيا، غاضبين على الدنيا, لا نريد الدنيا؛ فلما تعلقنا بها أتينا إلى الموت تعلقنا بالدنيا, وهو كما قال الأول:

ولدتك أمك يا بن آدم باكيا      والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا     في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وهذه هي المعاناة الكبرى, وهي العامة لكل البشر؛ لمؤمنهم ولكافرهم، ولمهتديهم وضالهم.

أما معاناة الخيرين فهي معاناة خاصة, وهي أجر ومثوبة, وهو تكليف وواجب, ولقد عانى في الطريق كل صالح وكل خير, طريق شاق ومتعب, وطريق مضنٍ، بل العجيب! أن رواد الحق، ودعاة الباطل، حتى في طريقهم إلى مبادئهم يضحون, هذا يضحي وذاك يضحي، سجن ابن تيمية وسجن لينين, كل من أجل مبدئه، وقتل أبو جهل وقتل حمزة كل من أجل مبدئه, وجلد أحمد وجلد كارل ماركس في بلجيكا, كل من أجل مبدأه: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227] طريق ناح فيه نوح، وذبح فيه الذبيح, واغتيل زكريا, وضُرِّج عمر بدمه في المحراب, وذبح عثمان, وفصل رأس علي, وجلدت ظهور الأئمة؛ ولكن:

جزى الله الطريق إليك خيرا     ولو أنا تعبنا في الطريق

فكم بتنا على الأجهاد يوماً     نراعي النجم من أجل الصديق

إنها طريقة ولكنها أجر ومثوبة, نوح يصارع الطوفان, وإبراهيم -عليه السلام- يحارب بالنار, وموسى يفتن فتونا, ورسولنا عليه الصلاة والسلام يتلقى الكربات.

رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء، وهما حربان يتعرض لها الدعاة دائماً, فأيهما غلبته سقط وهزم وسحق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح نجاحاً باهراً، وانتصر انتصاراً مبيناً في كل الحربين.

اسمع إلى حرب الإغراء، وأول ما يمارس الطغاة والظلمة حرب الإغراء, إنهم يقدمون الدينار، ويقدمون الجائزة ويقدمون الفلة، والسيارة الفخمة, إنهم يشترون الضمائر ليبتاعوا بها المبادئ, تعرض صلى الله عليه وسلم لهذا أول ما تعرض له، الفتاة الجميلة تعرض على محمد صلى الله عليه وسلم يقول له الوليد: إن كنت تريد زوجة زوجناك أجمل فتاة في مكة, وكانت الزوجة الجميلة طموحاً وهدفاً للعرب في الجاهلية, ولذلك يقول قائلهم عن الفتاة:

أخبروها إذا أتيتم حماها أنني     ذبت في الغرام فداها

ويقول جميل:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة     وأي جهاد غيرهن أريد

ومجنون ليلى وهو يدعو الله عند مقام إبراهيم, ينسي دعواته ويلتفت إلى تلك الفتاة الجميلة التي سلبت عقله:

أتوب إليك يا رحمن مما     جنت نفسي فقد كثرت ذنوب

وأما عن هوى ليلى وتركي     زيارتها فإني لا أتوب

هذه عروبة أبي جهل وأبي لهب المنفصلة عن لا إله إلا الله، محمد رسول الله, لكن ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، طموحاته أعظم.

عرض عليه الملك، ليتولى ملكاً على العرب العرباء, وليقود الجزيرة العربية, ولكن الملك مجرداً من الدين منية البسطاء, ومبلغ علم الوضعاء, ولذلك جعلته العروبة قبل الإسلام من أقصى أمانيها يقول امرؤ القيس:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه          وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما          نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

إما ملك أو موت.

وقال -المهلوس الآخر- المتنبي:

ولا تحسبن المجد زقا وقينة     فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وأن ترى     لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك في الدنيا دوياً كأنما     تداول سمع المرء أنمله العشر

هذه هي أمانيهم, وهذه طموحاتهم, وعرضت له الدنيا عليه الصلاة والسلام، وقال الوليد: وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً لتكون أغنى أهل مكة, ولكن ماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ قال فيما يروى عنه: {والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لا أتركه أو أهلك دونه} لله درك، لله در مبادئك وطموحاتك وهمتك وعزيمتك.

البدر والشمس في كفيك لو نـزلت     ما أطفأت فيك ضوء النور والنار

sh= 9904665>أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار

في كفه شعلة تهدي وفي دمه     عقيدة تتحدى كل جبار

يا فاضح الظلم فارت هاهنا وهنا     فضائح أين منها زندك الواري

ومحمد صلى الله عليه وسلم ينتصر، فلما انتصر على الإغراء, عرضوا له الإيذاء، وهي المدرسة الأخرى، وهو الأسلوب الآخر, السب والشتم "ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وكاذب" يصلي عند المقام، عليه الصلاة والسلام فيضعون السلا على رأسه، فيقوم يحتحت السلا، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يذهب إلى الطائف جائعاً ظامئاً متعباً ساهراً, فيُرَد من الطائف بالتكذيب، ويرمى بالحجارة فتسيل أقدامه, ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يتعرض للإيذاء في عرضه، في عائشة الطاهرة, فيصبر ويتحمل, تباع أملاكه في مكة, تصادر كرامته, يؤذى، يشهر به في القبائل, ولسان حاله ومقاله: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.

يأتيه ملك الجبال فيقول: ائذن لي أن أطبق على أهل مكة الأخشبين, قال: {لا إني أرجو الله أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} وبالفعل أخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة, ومن صلب الوليد خالداً , فنشروا الدين في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.

ويتعرض عليه الصلاة والسلام لمحاولة الاغتيال, ولكن يتصل بالله، وينتصر به ويستعز، فينصره الله نصراً مؤكداً يرتجف في الغار, حوله خمسون شاباً تقطر دماؤهم دماً وحقداً وموتاً, يرتعد ويرتجف أبو بكر ويخاف أبو بكر, ويقول: { يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا}, فيتبسم صلى الله عليه وسلم, من الذي يتبسم في وهج العاصفة؟! هو وحده.

وقفت وما في الموت شك لواقف     كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة     ووجهك وضاح وثغرك باسم

قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} لا تحزن إن الله معنا وانتصر وحقق أعظم طموحات التي ما حققها مصلح على تاريخ مسيرة الإنسان، وعبر القرون والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الاستهزاء والسخرية

تمر المعاناة بهذا الجيل الذي يريد أن يرث رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يبلغها للناس، فإذا هو الجيل الذي يمر به الاستهزاء والسخرية في أول درس له، مدرسة الاستهزاء والسخرية, وهذه قديمة تعرَّض لها صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يذهب بهم إلى تبوك, ليرفع لا إله إلا الله، وليطرد الغازي عن شمال الجزيرة, ومعه في الجيش مستهزئون منافقون, قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن أفئدة عند اللقاء, من هو الجبان؟! ومن الذي يتخلف عن الصف؟ أمحمد صلى الله عليه وسلم جبان؟! أمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يخوض المعارك بنفسه, والذي يضرب الكتائب بسيفه, والذي يقول عنه: علي وهو من أشجع الناس: {كنا إذا اشتد الهول، واحمرت الحدق، وحمي الوطيس, اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون أقربنا إلى القوم}.

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة     أبدبت في هول الردى أبطالها

وإذا وعدت صدقت فيما قلته     لا من يكذب قولها أفعالها

هذا محمد صلى الله عليه وسلم! يستدعيهم في الصباح ليحاكمهم، هؤلاء أعداء الرسالة والصحوة والمنهج, ما لكم؟ نخوض ونلعب في أعراض الصالحين, فقال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] وهذه المدرسة تُجرِّب حظها اليوم في مسيرة الصحوة, فتستهزئ باللحية, والثوب القصير والسواك, واتباع الرسالة, وصلاة الجماعة, والأذان, والقرآن.

أحدهم يذكر في جريدة الحياة عن شباب الصحوة أنهم يعتقدون أن من قرأ آية الكرسي على الطائرة فوق خمسة عشرة سقطت, وهذا لا يقوله أحد, والكرامات نقرها, لكن حنانيك!! أبشباب الصحوة تستهزئ, أبا للشباب الذين لو ذهبت أنت إلى بورتلاند تتزلج على الثلج, ذهبوا إلى أفغانستان يتزلجون تحت الدبابات, أبشباب الصحوة تستهزئ، الذين إذا ذهبت إلى الخمارات ذهبوا إلى المساجد لإقامة الصلوات!! أبشباب الصحوة الذين إذا تلوت أنت المجلة الخليعة تتملاها, تلوا كتاب الله وآياته يقرءونها ويفسرونها.

وإذا تكون ملمة أدعى لها          وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] إذا قيل التزموا كما التزم الشباب الخيرون, قالوا: كيف نلتزم كما التزم المتطرفون الأصوليون الفضوليون, قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:13-14] أما في مجالس أهل العلم والفضل فيتظاهرون بالدين ورعاية الملة وحماية الشريعة, وأما في مجالسهم فيهدمون الإسلام بالمعاول اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ * يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:15-16] وهي مدرسة: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] وهي مدرسة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].

ويراني كالشجر في حلقه     عسراً منـزعه ما ينتزع

فاجراً يخطر ما لم يرني      فإذا أسمعته صوتاً قمع

قد كفاني الله ما في نفسه     وإذا يكفيك شيئاً لم يُضع

غاظه أني حنيف مسلم     وهو في اللذات واللهو تبع

أتريدون سقوطي بعدما     لمع الشيب برأسي وسطع

لكن لمع نور محمد عليه الصلاة والسلام, وسطع ضياؤه في قلوب الموحدين, وليسوا بضارين كيداً، والله معنا يوم نعتمد عليه.

مصادرة الحريات

من صور المعاناة: مصادرة حرية الجيل وفصله عن ماضية المجيد, فصوت الداعية مبحوح, ورأي الرشيد مذبوح, ومرتزق الفكر يغدو ويروح.

من صور المصادرة: أن يتهم الناصح في نيته, ويشكك في مقاصد أهل الخير وأهل الفضل, وإلا فمبدأ المؤمن النصح, لا يريد الغش لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين.

أتى أبو سفيان إلى علي في الليل يطرق عليه بابه, قال: يا علي أتريد الخلافة من أبى بكر, لأملأن عليك المدينة فتيانا مرداً وخيلاً جرداً لتأخذ الخلافة من بنى تيم إليك, وهذا منطق الجاهلية، قال علي: [[يا أبا سفيان إن المؤمنين نصحة, وإن المنافقين غششة]] فالناصحون لا يتهمون، وإنما يريدون أن يحفظ الله بنصيحتهم البلاد والعباد, وأن يحجب غير الملتزم والمستقيم عن ميادين الإبداع, وعن مجال التأثير, وأن يعد طارئاً على المألوف, وارداً على السائد المتعارف عليه، حادثاً بأفكاره، وأن يترك الميدان لغيره، والكلمة لسواه.

إذا عيَّر الطائي بالبخل مادرٌ     وعير قساً بالفهاهة باقل

وقال الدجى للشمس أنتِ كسيفة      وقال السهى للبدر وجهك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة     ويا نفس جدي إن دهرك هازل

يريد المشاركة هؤلاء الأخيار، فيجدونها في أضيق نطاق، بينما يجد أهل الهوايات الأبواب المفتوحة، والصدور المشروحة, وأهل الهوايات أصبحوا نجوماً، وباعة المبادئ أعلاماً، وأشباه السائمة رموزاً, فشياطين الإنس يجولون في صدور أولئك, ويحولون بين الشباب هؤلاء وبين ما يريدون من الخير, ويدغدغون الغرائز، أما هؤلاء الثلة الممتازة، التي تريد رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, يسخرون بدينه وبنبيه, ويتلاعبون بمصادر عزته, فأصواتهم ومجلاتهم وإشاراتهم ولافتاتهم وأغانيهم وكتبهم وجرائدهم وأشرطتهم في كل بيت, في المعمل، والعيادة، والدكان، والجامعة، والسوق, ثم يقال له: احذر أن تسيء الأدب, أو أن تجرح المشاعر, أو أن تغضب الآخرين, أو أن تنكر.

تحجيم دور الشباب في الحياة ومكانه في التأثير

وأما تحجيم دوره في الحياة, ومكانه في التأثير, فهو ينظر إلى إسلامه وهو يزوى ويركن عن الحياة, هذا الدين الذي أنـزله الله عز وجل منقذاً للبشرية؛ ورحمة للكون, وينظر الشاب إلى قرآنه فإذا هو معزول عن حياة الناس, في جماعة تحفيظ القرآن, في القراءة على الموتى، في رقية المصروع, في افتتاح الندوات فحسب, لكن أن يصدر القرآن ويورد هذه الأمة وأن يقودها إلى معالم الخير, وأن يرشدها في الحياة فلا, القرآن الذي أنـزله الله وقال فيه: كِتَابٌ أَنـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [إبراهيم:1] إليك يا محمد, إليك يا حامل المبادئ, إليك يا منقذ الإنسان بإذن الله, إليك يا صاحب النور, لماذا؟ ألتقرأه في المسجد, أترقي به الصرعى فحسب, أتفتح به الندوات أم لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1] ويقول الله في كتابه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44] قال مجاهد: [[شرف لك ولقومك]], إي والله إنه الشرف العظيم, أين دستوري ودستورك قبل الرسالة؟ أين تاريخي وتاريخك؟ أين شريعتي وشريعتك؟ إنه القرآن والسنة.

هذا الشاب يمتعظ ويغضب، ويثور ويفور دمه, يوم يرى هذا القرآن يُنَحَّى عن حياة الناس, والله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هذا الشاب في نظرهم لا يصلح أن يكون من أساطين الأدب لأنه ملتحٍ, ولا من رواد الفكر لأنه قصير الثوب, ولا من أهل القرار لأنه يحافظ على صلاة الجماعة.

حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي

ثم يحتار هذا الشاب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي والفكري والسلوكي.

والأصل في توجه المسلم تجريد المنهج الرباني من الدخن، وتصفيته من الشوائب, ذهب عمر إلى مدراس لليهود، فوجد صحيفة هناك من التوارة ملقاة فاستبشر بها, وظن أنه سوف يضيف لثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم ثقافة جديدة, ولشريعته منهجاً آخر, وأتى بالصحيفة يحملها ويبشر بها رسولنا عليه الصلاة والسلام, فَتَمَعَّر وجهه عليه الصلاة والسلام، وغضب, وقال فيما رواه هذا النسائي بسند صحيح: {أمتهوكون فيها يا بن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد أتيت بها بيضاء، والذي نفسه بيده لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي} موسى صاحب تلك الرسالة، وصاحب تلك التوارة, لو كان لكان تلميذاً من تلاميذي، وطالباً من طلابي؛ ومع ذلك تذهب لتأتينا بثقافة جديدة.

شعوبك في شرق البلاد وغربها     كأصحاب كهف في عميق سبات

بأيمانهم نوران ذكر وسنة     فما بالهم في حالك الظلمات

وينـزل الصحابة، ويرون شجرة ذات أنواط, تشبه شجرة المشركين ذات أنواط, يعلقون عليها الأسلحة, بل يطلبون الرسول عليه الصلاة والسلام شجرة ذات أنواط, تشابه تلك, فقال صلى الله عليه وسلم: {الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} فأنكر عليهم صلى الله عليه وسلم حتى المشابهة في هذا الشكل الخارجي, لما يؤدي إليه من المشابهة في المضامين والمقاصد, لا. المسلم يتميز حتى في ثيابه, وفي لباسه, وفي منهجه, وفي فكره, وفي أدبه.

ذكر ابن إسحاق في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان يصالح المشركين يوم الحديبية فلما رأى المشركون عثمان قصير الثياب إلى منتصف الساق، علمه شيخه وأستاذه أن السنة تقصير الثوب, والمشركون كانوا يجرون الإزار ويسحبون الثياب, النابغة يمدحهم:

رقاق النعال طيب حجزاتهم     يحيون بالريحان يوم السباسب

على كل حال قالوا: قد صبأ عثمان, قد صبأ عثمان, قالوا: صبأ لأنهم رأوا ثيابه قصيرة، لأن شيخه أتى بثياب قصيرة, فقلده واتبعه، واستن بسنته رضي الله عنه وأرضاه, وصلى الله على المعلم وسلم.

يدخل عمر المسجد وهذا في التاريخ أيضاً, فيجد قاصاً يقص على الناس, لكن من القرآن؟ لا, من السنة؟ لا وعندنا القصص وعندنا الأدب, وعندنا الإبداع, وعندنا الروعة, وعندنا المنهج المتكامل, قال عمر: من هذا؟ قالوا: قاص, قال: يقص ماذا؟ قالوا: يقص علينا من كتاب " دانيال " -دانيال ضائع من ضيعة التاريخ عاصي جدته لم يعرف منهجه إلى الله عز وجل- وعمر عنده عصا نسيها في البيت, فعاد فأخذها وأتى إلى الرجل فشق الصفوف إليه وضربه على رأسه, وقال: يا عدو الله! يقول الله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] وتقص علينا من كتاب " دانيال ", مثل من يذهب الآن ويترك صحيح البخاري وصحيح مسلم ليخبرنا عن قصة بياعة الخبز, ووردة المهترية, وخلف الكواليس، ومحمود عنقاوي.

إدانة الشباب باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة

هل سمعتم عن أحدٍ يخجل أن يحمل ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته؟ لقد أحوج المنافقون شباب الإلتزام إلى أن يخجل بعضهم من اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام, حتى يقول الأول:

إذا ما محاسني اللائي أدل بها     كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذر

إذا كان اتباعنا لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام, وسجودنا لله عز وجل, وانتهاجنا نهجه, إدانة واتهام فكيف نعتذر للناس؟ ولذلك يقول منطق الجاهلية: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، أبناء الفقراء يسبقوننا إلى المساجد والهداية وإلى الالتزام والسنة, عرفنا الإسلام قبلهم, ونحن أهل الإسلام الأصيل, ولكن هو منطق واحد: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111] أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] لماذا اصطفاهم الله؟ لقد أُحْرِج صراحة كثير من الشباب بسبب اتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ووجدوا من التعليقات المريرة المرة, ما لم يجده العصاة, وهاهم العصاة يتبجحون ويسرحون ويمرحون, لا يعلق على الحالق بحلق لحيته, ولا على المسبل بإسبال ثوبه، ولا على شارب الخمر بشرب خمره, ولا على حامل العود بضرب عوده, ولا على هاوي المجلة الخليعة بمجلته, وإنما يعلق على أولياء الله، لأنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إنها معاناة جعلت بعض ضعيفي الإيمان من شباب الصحوة يتنازل عن الكثير من السنة, بل ويجد الحرج في أن يحمل أحدهم السنة، وربك يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] كيف يجدون طعم الإيمان وهم يخجلون من اتباعك؟! وقد صرح بعضهم في تصريحات رسمية أنه لولا أسرته لربَّى لحيته, ولولا أن أباه يضغط عليه لترك الغناء, ولولا أن أمه تحاربه لحضر دروس العلم والمحاضرات, فسبحان الذي يغير ولا يتغير, ويبدل ولا يتبدل!

قلة المربين والربانيين

قلة المربين والعلماء الربانيين، فقد أصبحوا أندر من الذهب الأحمر, وأعز من الكبريت.

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً     فقد صاروا أقل من القليل

وأصبح الآن يذكر في المدن عالمٌ واحد, ممن يحمل الشريعة، ويؤتمن على الميثاق، وعلى الكلمة الحقة, وأصبح كما قال بعض الفضلاء: لو جمعنا الدعاة في البلاد في منطقة واحدة أو في مدينة, ما غطوا حاجتها, وهذا هو الصحيح, وأصبحت بعض المدن لا يأتيها المحاضر, لا تقام فيها المحاضرة في السنة إلا مرة أو مرتين, وأصبح هناك فقر مدقع في الدروس العلمية, بينما تمطر الأمة بوابل من الغثاء صباح مساء, فالصحف والمجلات والوسائل كلها ترغي وتزبد بما لا ينفع, ولكن مع قله المربين والدعاة، والله يقول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] ولو أنها تصرف الأموال, ولو أنها تهيأ الوسائل, وتدرس البرامج, ولكن لا يهمك فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] ويبقى الحق منتصراً مع قلة وسائلة وقلة ما يلمع أو يعطى أو يوجه.

أصبح كثير من العلماء يشتغل بالنفل الزائد من نوافل المستحبات والزهد والورع, ورع بارد لا ينفعه؛ ورع والأمة تغرق؟! ورع والأمة تصادر كرامتها وحريتها؟! ورع والأمة تفصل من لا إله إلا الله؟! ورع والأمة تحول عن القبلة؟! ورع والأمة توصل بحبال إلى الغازي المستعمر؟! أي ورع هذا؟!

وصنف آخر يتشاغل بفضول العلم، وتوليد المسائل، وتفريع الفرعيات, على حساب الأولويات والمهمات, فلا ينـزل للجيل، ولا يقود المسيرة, ولا يوجه الطاقات, ولا يعظ, ولا يأمر, ولا ينهى, فأي علم وأي فائدة؟!

المكتبات تغرق بوابل من التأليفات في الجزئيات حتى أَلَّفَ في مسألة المسبحة ما يقارب خمسة كتب مجلدات.

ولكن من يسبح بهذه الأمة إلى شاطئ الأمان, إنهم رواد محمد صلى الله عليه وسلم الذين يُعلِّمون الناس: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره, وقيل: هو الذي يكون إماما في الخير ويُعلِّم ويربى بفعله وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] هل قال في بيوتهم أو زوايا مساجدهم؟ لا يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] يقول عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.

إن القلة القليلة التي تتبوأ مكان الصدارة, تحتاج إلى من يرفدها ويعينها من القاعدين الآخرين، الذين رضوا بالجلوس في بيوتهم، وأفتاهم الشيطان ببعض الفتاوى التي لا تصلح في هذا الزمن, بل هو زمن الصراع العالمي والجهاد وأن تبدو ببضاعتك، وأن تنشر بزك, وأن تكون مرفوع الرأس.

تمر المعاناة بهذا الجيل الذي يريد أن يرث رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يبلغها للناس، فإذا هو الجيل الذي يمر به الاستهزاء والسخرية في أول درس له، مدرسة الاستهزاء والسخرية, وهذه قديمة تعرَّض لها صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يذهب بهم إلى تبوك, ليرفع لا إله إلا الله، وليطرد الغازي عن شمال الجزيرة, ومعه في الجيش مستهزئون منافقون, قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن أفئدة عند اللقاء, من هو الجبان؟! ومن الذي يتخلف عن الصف؟ أمحمد صلى الله عليه وسلم جبان؟! أمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يخوض المعارك بنفسه, والذي يضرب الكتائب بسيفه, والذي يقول عنه: علي وهو من أشجع الناس: {كنا إذا اشتد الهول، واحمرت الحدق، وحمي الوطيس, اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون أقربنا إلى القوم}.

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة     أبدبت في هول الردى أبطالها

وإذا وعدت صدقت فيما قلته     لا من يكذب قولها أفعالها

هذا محمد صلى الله عليه وسلم! يستدعيهم في الصباح ليحاكمهم، هؤلاء أعداء الرسالة والصحوة والمنهج, ما لكم؟ نخوض ونلعب في أعراض الصالحين, فقال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] وهذه المدرسة تُجرِّب حظها اليوم في مسيرة الصحوة, فتستهزئ باللحية, والثوب القصير والسواك, واتباع الرسالة, وصلاة الجماعة, والأذان, والقرآن.

أحدهم يذكر في جريدة الحياة عن شباب الصحوة أنهم يعتقدون أن من قرأ آية الكرسي على الطائرة فوق خمسة عشرة سقطت, وهذا لا يقوله أحد, والكرامات نقرها, لكن حنانيك!! أبشباب الصحوة تستهزئ, أبا للشباب الذين لو ذهبت أنت إلى بورتلاند تتزلج على الثلج, ذهبوا إلى أفغانستان يتزلجون تحت الدبابات, أبشباب الصحوة تستهزئ، الذين إذا ذهبت إلى الخمارات ذهبوا إلى المساجد لإقامة الصلوات!! أبشباب الصحوة الذين إذا تلوت أنت المجلة الخليعة تتملاها, تلوا كتاب الله وآياته يقرءونها ويفسرونها.

وإذا تكون ملمة أدعى لها          وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] إذا قيل التزموا كما التزم الشباب الخيرون, قالوا: كيف نلتزم كما التزم المتطرفون الأصوليون الفضوليون, قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:13-14] أما في مجالس أهل العلم والفضل فيتظاهرون بالدين ورعاية الملة وحماية الشريعة, وأما في مجالسهم فيهدمون الإسلام بالمعاول اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ * يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:15-16] وهي مدرسة: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] وهي مدرسة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].

ويراني كالشجر في حلقه     عسراً منـزعه ما ينتزع

فاجراً يخطر ما لم يرني      فإذا أسمعته صوتاً قمع

قد كفاني الله ما في نفسه     وإذا يكفيك شيئاً لم يُضع

غاظه أني حنيف مسلم     وهو في اللذات واللهو تبع

أتريدون سقوطي بعدما     لمع الشيب برأسي وسطع

لكن لمع نور محمد عليه الصلاة والسلام, وسطع ضياؤه في قلوب الموحدين, وليسوا بضارين كيداً، والله معنا يوم نعتمد عليه.

من صور المعاناة: مصادرة حرية الجيل وفصله عن ماضية المجيد, فصوت الداعية مبحوح, ورأي الرشيد مذبوح, ومرتزق الفكر يغدو ويروح.

من صور المصادرة: أن يتهم الناصح في نيته, ويشكك في مقاصد أهل الخير وأهل الفضل, وإلا فمبدأ المؤمن النصح, لا يريد الغش لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين.

أتى أبو سفيان إلى علي في الليل يطرق عليه بابه, قال: يا علي أتريد الخلافة من أبى بكر, لأملأن عليك المدينة فتيانا مرداً وخيلاً جرداً لتأخذ الخلافة من بنى تيم إليك, وهذا منطق الجاهلية، قال علي: [[يا أبا سفيان إن المؤمنين نصحة, وإن المنافقين غششة]] فالناصحون لا يتهمون، وإنما يريدون أن يحفظ الله بنصيحتهم البلاد والعباد, وأن يحجب غير الملتزم والمستقيم عن ميادين الإبداع, وعن مجال التأثير, وأن يعد طارئاً على المألوف, وارداً على السائد المتعارف عليه، حادثاً بأفكاره، وأن يترك الميدان لغيره، والكلمة لسواه.

إذا عيَّر الطائي بالبخل مادرٌ     وعير قساً بالفهاهة باقل

وقال الدجى للشمس أنتِ كسيفة      وقال السهى للبدر وجهك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة     ويا نفس جدي إن دهرك هازل

يريد المشاركة هؤلاء الأخيار، فيجدونها في أضيق نطاق، بينما يجد أهل الهوايات الأبواب المفتوحة، والصدور المشروحة, وأهل الهوايات أصبحوا نجوماً، وباعة المبادئ أعلاماً، وأشباه السائمة رموزاً, فشياطين الإنس يجولون في صدور أولئك, ويحولون بين الشباب هؤلاء وبين ما يريدون من الخير, ويدغدغون الغرائز، أما هؤلاء الثلة الممتازة، التي تريد رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, يسخرون بدينه وبنبيه, ويتلاعبون بمصادر عزته, فأصواتهم ومجلاتهم وإشاراتهم ولافتاتهم وأغانيهم وكتبهم وجرائدهم وأشرطتهم في كل بيت, في المعمل، والعيادة، والدكان، والجامعة، والسوق, ثم يقال له: احذر أن تسيء الأدب, أو أن تجرح المشاعر, أو أن تغضب الآخرين, أو أن تنكر.