خطب ومحاضرات
التجارة الرابحة [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، ما هي هذه التجارة؟
لا شك أن هذا الأسلوب مشوق، وأننا بحاجة إلى أن نقبل على هذه التجارة، وأن نسعى من أجل الكسب فيها، والمتاجرة مع الله، وما هي هذه التجارة؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، هذا أول شيء من التجارة رأس المال، ما هو رأس المال؟ رأس مال المؤمن هو الإيمان بالله، ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها )، فهذه تجارة لا بد منها، وكل يوم يخرج الناس للتجارة، فهذه التجارة رأس مالها الإيمان، ولذلك سبق كما ذكرنا الإيمان القدري في بداية الآية في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهنا من نعمة الله تعالى، أن يعطينا رأس المال، ويعطينا الربح، ولا يطلب منا جزاءً ولا شكوراً غير هذا، أعطانا رأس المال، وهو الإيمان ووفقنا له.
واختارنا له من بين خلقه، ثم أعطانا الربح وهو ما بعده.
فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، إذاً هذا أول هذه المذكورات وأول هذه التجارات: الإيمان بالله تعالى، والإيمان هنا إذا عطفت عليه الأعمال، فهي وإن كانت في مسماه، إلا أن المقصود به سيكون بالدرجة الأولى في الاعتقاد، وذلك بالجزم وباليقين بالله تعالى وبتحقيق العبودية له سبحانه وتعالى.
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11]، أيضاً: عطف على الإيمان به الإيمان برسوله؛ لأن الإيمان لا يقبل بعد بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان به، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما: ( والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، فلم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في نار جهنم )، إذاً شرط الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11].
بعد هذا ذكر ربح من هذه الأرباح، أو زيادة في رأس المال فقال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [الصف:11]، (تجاهدون) معناه: تبذلون الجهد وتشاركون، والمجاهدة مفاعلة، والمفاعلة تقتضي الاشتراك، وذلك أن الجهاد ليس من الأعمال الخاصة التي يستطيع شخص واحد أن يقوم بها، بل لا بد منها جماعةً.
أما تؤمنون، فالإيمان يصح من واحد، ولهذا قال: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11]، ولا يقتضي هذا الفعل المشاركة، أما الجهاد فقال فيه: وَتُجَاهِدُونَ [الصف:11]، ولم يقل: وتجهدون، فهذا يقتضي المشاركة، وهذه المشاركة بها تمام العمل؛ لأنه للتنافس، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وهذه المجاهدة تحصل بجميع أنواع الجهاد.
وأنواع الجهاد التي طلب الله تعالى منا أربعة عشر نوعاً، وهذه الأنواع الأربعة عشر تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: مجاهدة النفس، ومجاهدة النفس تنقسم إلى أربعة أقسام، إذاً فيها أربعة من أنواع الجهاد:
الجهاد الأول: مجاهدة النفس على تعلم ما أمر الله به وما نهى عنه، هذا أول رتبة من رتب الجهاد، مجاهدة النفس على التعلم.
الرتبة الثانية: مجاهدة النفس على العمل بما تعلمه الشخص. والرتبة الثالثة: مجاهدة النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الشخص وعمل به. والرتبة الرابعة: مجاهدة النفس على تحمل الأذى في سبيل الدعوة، فهذه أربع مراتب لمجاهدة النفس، وهذه الأربع كلها مأخوذة من وصية لقمان لابنه، في سورة لقمان يقول الله تعالى حكايةً عن لقمان: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وقبل هذا قال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13]، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فهذا مجاهدة النفس على التعلم.
ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا مجاهدة النفس على العمل، ثم في الدعوة قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، ثم بالصبر على الأذى في سبيل الدعوة، قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].
إذاً هذه أربعة مراتب من مراتب الجهاد، هي في جهاد النفس.
القسم الثاني: جهاد الشيطان، والشيطان هو العدو الأول، ولذلك قال الله تعالى فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، هو عدو، سواء اتخذناه عدواً أو لم نتخذه، فلذلك قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6]، لكن من الناس من يفعل ويتخذه عدواً، وهم المؤمنون الموفقون، ومنهم من يكون عدواً له ولكنه لا يتخذه عدواً، بل يتخذه محبوباً، ويصادقه ويواليه فيكون من حزب الشيطان، أجارني الله وإياكم.
إذاً كان الناس بهذا منقسمين إلى حزبين: حزب الله، وحزب الشيطان، فحزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون، وحزب الشطان جعلهم الله إخوةً للشياطين، وهذا نسب مثل النسب الدنيوي ومثل النسب الآن، فأنت إذا أردت أن تشرف شخصاً وترفع نسبه، تقول: هذا فلان بن فلان، أو أخو فلان أو ابن عم فلان، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، لكن هؤلاء -نعوذ بالله- ذمهم الله تعالى بأنهم إخوان الشياطين، هذا هو نسبهم، مثل اليهود والنصارى نسبهم ما هو؟ أنهم إخوان القردة والخنازير، وهؤلاء نسبهم ما هو؟ أنهم إخوان الشياطين، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، (( وَإِخْوَانُهُمْ )) معناه: إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، إذاً هؤلاء نسبهم أنهم إخوان الشياطين، فلم يتخذوا الشيطان عدواً، وإن كان الواقع أنه عدو لهم، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
الجندان اللذان تتمثل فيهما عداوة الشيطان وكيفية جهادهما
وعداوة الشيطان تتمثل في جندين:
الجند الأول: يسمى جند الشهوات، وهو جند يغزو به الشيطان الإنسان، فيسلط عليه الشهوات، فهذا يسلط عليه شهوة حب الرياسة، ويحب أن يشار إليه بالبنان، وأن يكون معروفاً بين الناس مشتهراً بينهم، فيسلط عليه هذه الشهوة، وآخر يسلط عليه شهوة الدنيا وجمعها، وستبقى بعده ويموت عنها، وحينئذٍ تكون حسرةً عليه ويحاسب عليها، وقد انتفع بها غيره.
كذلك منهم من يسلط عليه شهوة المنكرات والفواحش، منهم من يغريه بالخمور، ومنهم من يغريه بالزنا، ومنهم من يغريه بالمخدرات، ومنهم من يغريه بالربا، ومنهم من يغريه بعداوة الله تعالى بمختلف أجناسها، ومنهم من يسلط عليه شهوة اللسان فيكون لسانه عدواً له، يقبل ويعرض دون أن يبالي ودون أن يحاسب نفسه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( إن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم )، كلمة واحدة من سخط الله، لا يلقي لها الشخص بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم.
إذاً هذا بعض تسليط الشهوات على الناس، تجدون كثيراً من الناس لا يبالي بما يقول، ويلقي الكلام على عواهنه ولا يفكر فيما يقول، هؤلاء قد سلط عليهم الشيطان جنداً من جنده وهو شهوة الكلام في غير ما يعنيهم.
ولذلك فإن هذا الوصف منافٍ لحسن الإسلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، ومن هؤلاء من يسلطون على أعراض إخوانهم، ومنهم من يسلطون على أعراض الذين ماتوا ولم يعرفوهم ولم يدركوهم وهكذا، فهؤلاء قد ابتلاهم الله تعالى وسلط عليهم الشيطان جنداً من جنده هو الشهوات.
جند الشيطان الثاني: هو الشبهات، والشبهات: هي الوساوس والفلسفات الخاطئة التي يسلطها الشيطان على من ابتلاه الله تعالى بتسليطه عليه، فهؤلاء يلقي عليهم الشبهات فيشككهم في دينهم وفي كل شيء، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يزال الشيطان بالعبد حتى يقول: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟ )، فهذا وسوسة ووحي من الشيطان يوسوس بها على الإنسان، فيفسد إيمانه، ويشككه في كل شيء، حتى في ربه الذي خلقه وسواه وهذا الجند وهو جند الشبهات من أخطر الجنود؛ لأن صاحبه قد لا يطلع عليه، ولا يؤنبه ضميره على الوقوع فيه، فالمصاب بالوسوسة لا يجد تأنيباً من ضميره على ما وقع فيه.
أما الشهوات فإن صاحبها قد يندم، ويعلم أنه مخطئ ويستحيي مما يصنع، فإذا وقع في ذنبٍ يستحي منه ويستره، وأما الشبهات فالمشكلة أن صاحبها لا يستحي منها، ولذلك أصحاب البدع الذين يشرعون ما لم يأذن به الله، هؤلاء ابتلاهم الله تعالى بأنه لم يوفقهم للتوبة، وأخذ بنواصيهم إلى الابتداع، فلم يريهم أن الذي عملوه سيئاً، بل رأوا السوء الذي يصنعونه حسناً وابتلاهم الله تعالى بذلك.
إذاً هذان جندان من جند الشيطان، أعطانا الله تعالى من منه وفضله جندين نكافحهما به، ما هما هذان الجندان؟
أما الجند الأول: وهو جند الشهوات، فجنده الواقف في وجهه الذي نكافحه به، هو الصبر، فالصبر جند عظيم، ولذلك قال الله فيه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
شعب الصبر التي يجاهد بها الشيطان وجنده
والصبر له ثلاث شعب كبرى:
الشعبة الأولى: الصبر عن معصية الله، وهذه هي التي تحول دون الشهوات.
والثانية: الصبر على طاعة الله.
والثالثة: الصبر على قدر الله.
إذاً هذه ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره، فهذه هي شعب الصبر، من جمعها نجا من الشهوات، ويكون مالكاً لنفسه منتصراً عليها، وبذلك يكتب له النصر العاجل في الدنيا، ويكتب له النصر الآجل في الملأ الأعلى، عندما ينادى به على رءوس الأشهاد يوم القيامة.
ولهذا فإن من لم ينتصر على نفسه بصبره، لا يمكن أن ينتصر على غيره، ولاحظوا القاعدة العظيمة التي قالها أحد الدعاة والأئمة، وهو حسن الهضيبي رحمه الله تعالى، يقول: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح.
الجند الثاني: هو اليقين، واليقين: هو الجند الواقف في وجه الشبهات، فالشبهات التي يلقيها الشيطان، بماذا نعالجها؟ نعالجها باليقين وتقوية الإيمان بالله، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج الوسوسة: ( قل: آمنت بالله )، عندما يشعر الشخص بأي وسواس، أياً كان، يقول: آمنت بالله، فإذا قالها تلاشت أوهام الشيطان وأحلامه ويتطهر الشخص منها، وإذا لم يقلها في البداية نكتت نكتة في قلبه وصارت بمثابة الصدأ، يتراكم عليها أنواع الأوساخ وبذلك يصعب تطهيرها، لكن إذا كان في البداية كلما جاءه وسواس وكلما جاءته شبهة قال: آمنت بالله، وحينئذٍ تهيأ باليقين لمكافحة جند اللعين عليه لعائن الله.
إذاً فهذان نوعان من الجهاد: وهما جهاد الشيطان، جهاده بالصبر، وجهاده باليقين، جهاده فيما يلقيه من الشهوات، وجهاده فيما يلقيه من الشبهات، فقد ذكرنا من أنواع الجهاد ستةً، أربعة من جهاد النفس، واثنان من جهاد الشيطان.
وعداوة الشيطان تتمثل في جندين:
الجند الأول: يسمى جند الشهوات، وهو جند يغزو به الشيطان الإنسان، فيسلط عليه الشهوات، فهذا يسلط عليه شهوة حب الرياسة، ويحب أن يشار إليه بالبنان، وأن يكون معروفاً بين الناس مشتهراً بينهم، فيسلط عليه هذه الشهوة، وآخر يسلط عليه شهوة الدنيا وجمعها، وستبقى بعده ويموت عنها، وحينئذٍ تكون حسرةً عليه ويحاسب عليها، وقد انتفع بها غيره.
كذلك منهم من يسلط عليه شهوة المنكرات والفواحش، منهم من يغريه بالخمور، ومنهم من يغريه بالزنا، ومنهم من يغريه بالمخدرات، ومنهم من يغريه بالربا، ومنهم من يغريه بعداوة الله تعالى بمختلف أجناسها، ومنهم من يسلط عليه شهوة اللسان فيكون لسانه عدواً له، يقبل ويعرض دون أن يبالي ودون أن يحاسب نفسه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( إن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم )، كلمة واحدة من سخط الله، لا يلقي لها الشخص بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم.
إذاً هذا بعض تسليط الشهوات على الناس، تجدون كثيراً من الناس لا يبالي بما يقول، ويلقي الكلام على عواهنه ولا يفكر فيما يقول، هؤلاء قد سلط عليهم الشيطان جنداً من جنده وهو شهوة الكلام في غير ما يعنيهم.
ولذلك فإن هذا الوصف منافٍ لحسن الإسلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، ومن هؤلاء من يسلطون على أعراض إخوانهم، ومنهم من يسلطون على أعراض الذين ماتوا ولم يعرفوهم ولم يدركوهم وهكذا، فهؤلاء قد ابتلاهم الله تعالى وسلط عليهم الشيطان جنداً من جنده هو الشهوات.
جند الشيطان الثاني: هو الشبهات، والشبهات: هي الوساوس والفلسفات الخاطئة التي يسلطها الشيطان على من ابتلاه الله تعالى بتسليطه عليه، فهؤلاء يلقي عليهم الشبهات فيشككهم في دينهم وفي كل شيء، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يزال الشيطان بالعبد حتى يقول: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟ )، فهذا وسوسة ووحي من الشيطان يوسوس بها على الإنسان، فيفسد إيمانه، ويشككه في كل شيء، حتى في ربه الذي خلقه وسواه وهذا الجند وهو جند الشبهات من أخطر الجنود؛ لأن صاحبه قد لا يطلع عليه، ولا يؤنبه ضميره على الوقوع فيه، فالمصاب بالوسوسة لا يجد تأنيباً من ضميره على ما وقع فيه.
أما الشهوات فإن صاحبها قد يندم، ويعلم أنه مخطئ ويستحيي مما يصنع، فإذا وقع في ذنبٍ يستحي منه ويستره، وأما الشبهات فالمشكلة أن صاحبها لا يستحي منها، ولذلك أصحاب البدع الذين يشرعون ما لم يأذن به الله، هؤلاء ابتلاهم الله تعالى بأنه لم يوفقهم للتوبة، وأخذ بنواصيهم إلى الابتداع، فلم يريهم أن الذي عملوه سيئاً، بل رأوا السوء الذي يصنعونه حسناً وابتلاهم الله تعالى بذلك.
إذاً هذان جندان من جند الشيطان، أعطانا الله تعالى من منه وفضله جندين نكافحهما به، ما هما هذان الجندان؟
أما الجند الأول: وهو جند الشهوات، فجنده الواقف في وجهه الذي نكافحه به، هو الصبر، فالصبر جند عظيم، ولذلك قال الله فيه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
والصبر له ثلاث شعب كبرى:
الشعبة الأولى: الصبر عن معصية الله، وهذه هي التي تحول دون الشهوات.
والثانية: الصبر على طاعة الله.
والثالثة: الصبر على قدر الله.
إذاً هذه ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره، فهذه هي شعب الصبر، من جمعها نجا من الشهوات، ويكون مالكاً لنفسه منتصراً عليها، وبذلك يكتب له النصر العاجل في الدنيا، ويكتب له النصر الآجل في الملأ الأعلى، عندما ينادى به على رءوس الأشهاد يوم القيامة.
ولهذا فإن من لم ينتصر على نفسه بصبره، لا يمكن أن ينتصر على غيره، ولاحظوا القاعدة العظيمة التي قالها أحد الدعاة والأئمة، وهو حسن الهضيبي رحمه الله تعالى، يقول: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح.
الجند الثاني: هو اليقين، واليقين: هو الجند الواقف في وجه الشبهات، فالشبهات التي يلقيها الشيطان، بماذا نعالجها؟ نعالجها باليقين وتقوية الإيمان بالله، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج الوسوسة: ( قل: آمنت بالله )، عندما يشعر الشخص بأي وسواس، أياً كان، يقول: آمنت بالله، فإذا قالها تلاشت أوهام الشيطان وأحلامه ويتطهر الشخص منها، وإذا لم يقلها في البداية نكتت نكتة في قلبه وصارت بمثابة الصدأ، يتراكم عليها أنواع الأوساخ وبذلك يصعب تطهيرها، لكن إذا كان في البداية كلما جاءه وسواس وكلما جاءته شبهة قال: آمنت بالله، وحينئذٍ تهيأ باليقين لمكافحة جند اللعين عليه لعائن الله.
إذاً فهذان نوعان من الجهاد: وهما جهاد الشيطان، جهاده بالصبر، وجهاده باليقين، جهاده فيما يلقيه من الشهوات، وجهاده فيما يلقيه من الشبهات، فقد ذكرنا من أنواع الجهاد ستةً، أربعة من جهاد النفس، واثنان من جهاد الشيطان.
الكفار وجهاد الكفار له أربعة وسائل بها تتم أربعة أقسام من أنواع الجهاد:
القسم الأول: مجاهدتهم بالقلب، وهذه أدنى الأمور، أن تبغض الكفار في ذات الله، بأن لا تجد ميلاً إلى الكفار، ولا ركوناً إليهم، وأن تعلم أنهم أعداؤك مهما كانوا، ومهما أحسنوا إليك في هذه الدنيا، ومهما قدموا لك من المساعدات، ومهما كانوا أقرباءً لك، تبغضهم بسبب كفرهم، إذاً فهذا أول جهاد بالنسبة للكفار، وهذا مشروط في القرآن، ولذلك يقول الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، ويقول تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74-75].
فإذاً هؤلاء الكفار الذين نهانا الله تعالى عن موالاتهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، وبقوله: لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، وفي قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]، وفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، وفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57].
إذاً فكل هؤلاء هم من القسم الأول من أقسام جهاد الكفار، وهو بغضهم بالقلب.
القسم الثاني من أقسام جهاد الكفار: هو جهادهم باللسان، وذلك بالتحذير منهم وذمهم، والغلظة عليهم باللسان، وهذا ما أمر الله تعالى به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأمرنا به، فأمره للرسول صلى الله عليه وسلم قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، في آيتين من كتاب الله في سورة التوبة، وفي سورة التحريم، وأمره لنا في سورة التوبة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فهذه الغلظة لسانية وأيضاً فعلية، وقد ثبت في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم، وألسنتكم ).
إذاً جهاد الكفار بالألسنة مهم جداً، وهو ركن من أركان الجهاد ولا بد منه، وكثير من الناس وصل به عفة اللسان إلى أن لا يتنقص الكفار، ولا يتكلم فيهم، وهذا مخالف للجهاد الذي شرط الله عليه وأمره به، وهو مخالف للعفة المطلوبة، وهذا من الحياء المذموم، فكثير من الناس إذا سجل له شريط كلامه منذ كلف ومنذ فهم إلى أن مات، لا يجد نسبة مجاهدة الكفار باللسان فيه إلا قليلاً جداً، واللازم أن يكون المؤمن دائماً يعلم أن على لسانه حقاً في مجاهدة الكفار، لا بد من هذا، ولا بد أن يجد نسبةً من مقولاته، ومما ينطق به في مجاهدة أعداء الله تعالى من الكفرة.
القسم الثالث من أقسام جهاد الكفار: مجاهدتهم بالمال، وهذا الجهاد بالمال بدأ الله تعالى به قبل الجهاد بالنفوس في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى وحض عليه، ولذلك قال هنا: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، بدأ بالجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس؛ وذلك لخطورته؛ لأن العدد القليل من المؤمنين إذا كانوا مسلحين مستعدين وكان لهم من المال ما يكفيهم فإن الله تعالى سينصرهم، لكن إذا كان العدد كثيراً غير مسلحين فحينئذٍ لم يأخذوا بوسائل النصر ولا بأسبابه، فالكثرة بغض النظر عن التكوين وعن المال وعن الإعداد والسلاح لا فائدة فيها، ولهذا قال الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ [التوبة:25-26].
القسم الرابع من أقسام جهاد الكفار: هو جهادهم بالنفس، وقتالهم بحسب الطاقة، وهذا إنما هو قسمان: قسم منه هجومي، وقسم منه دفاعي، أما القسم الهجومي فيجب كفايةً على المسلمين أن يخرجوا فرقةً في الشتاء، وفرقةً في الصيف تجاهد خارج أرض المسلمين، تجاهد الذين كفروا بالله واليوم الآخر؛ حتى تعيدهم إلى دين الله تعالى وتدخلهم فيه، أو يقبلوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وهذا يجب على الأمة الإسلامية أن تفعله، وإن لم تفعل فهي آثمة بعمومها، في الشتاء وفي الصيف، وتسميان الفرقة الشاتية والفرقة الصائفة، هذا الجهاد الهجومي وهذا قد انقطع من زمان، والله المستعان، ويجب على المسلمين إعداد أنفسهم له وإرجاعه.
القسم الثاني: الجهاد الدفاعي، وهذا يجب عيناً ولا يجب كفايةً، القسم الأول كفائي، لكن الجهاد الدفاعي عيني، ويستوي فيه الذكور والإناث والعبيد والأحرار، حتى أن كثيراً من العلماء قد أوجبه على غير البالغين؛ لأن تركه يؤدي إلى استئصال البيضة، وهذا الجهاد هو الذي يقع في أزمنتنا هذه، مثلما يحصل الآن في الشيشان وفي البوسنة وفي السودان، وفي إرتيريا وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي مواقع كثيرة من العالم، وهذا النوع من أنواع الجهاد، أن المسلمين قد انتهكت حرماتهم في ديارهم، فوجب عليهم أن يقاتلوا عن دينهم، ووجب على المسلمين جميعاً أن يساعدوهم، وأن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة إخوانهم، وألا يخذلوهم، فـ ( المسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يحقره، ولا يكذبه )، فلهذا كان هذا النوع من الجهاد، النوع الرابع من أنواع جهاد الكفار.
ثم بعد هذا، تأتي أربعة أقسام أخرى، وهي جهاد المنافقين:
القسم الأول: جهاد المنافقين بالقلب، وهو بغضهم فيه حتى ولو كانوا أقرب الناس إليك نسباً، وألصقهم بك رحماً، أو كانوا من المحسنين إليك يجب عليك بغضهم في ذات الله تعالى، والنفاق هنا يشمل النفاق العقدي، والنفاق العملي، فالنفاق العقدي: مثل الملحدين الذين يعيشون في دورنا الآن وهم كثير، كثير من الذين يعيشون في دور المسلمين من أولاد المسلمين، يتسمون بأسماء الإسلام ومع ذلك ليس لهم اعتقاد في الله تعالى، ولا إيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تصديق باليوم الآخر، وإنما يجارون الناس، وهؤلاء هم المنافقون النفاق العقدي.
القسم الثاني: المنافقون النفاق العملي، وهؤلاء هم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم، فيخدمون أعداء الله تعالى ويقدمون لهم التنازلات في دينهم، ويرضون بالدنيا مقابل الدين، ويتراجعون عن الصفقة مع الله تعالى، ولذلك قال الله في خلافهم: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24]، وهؤلاء المنافقون المقصود بهم المنافقون النفاق العملي لا النفاق العقدي.
ثم بعد هذا، القسم الثاني من أقسام جهاد المنافقين: هو جهادهم باللسان كجهاد الكفار الذي ذكرناه من قبل، بفضيحتهم والتشهير بهم، وهجائهم وذمهم والتحذير منهم.
ثم بعد هذا: جهادهم بالمال، على نحو ما ذكرناه في جهاد الكفار.
ثم جهادهم بالأنفس على نحو ما ذكرناه في جهاد الكفار، وذلك بتغيير المنكر باليد لمن استطاع، ثم إن لم يستطع فباللسان، ثم إن لم يستطع فبالقلب.
فبهذا تكون أقسام الجهاد أربعة عشر، من عجز عن أحدها، لم يعجز عن كثير منها: مجاهدة النفس على العلم، وعلى التعلم، ثم مجاهدتها على العمل بما تعلم الشخص، ثم مجاهدتها على الدعوة، ثم مجاهدتها على الصبر، ثم مجاهدة الشيطان فيما يلقيه من الشهوات، ثم مجاهدته فيما يلقيه من الشبهات، ثم مجاهدة الكفار بالقلب، ثم مجاهدتهم باللسان، ثم مجاهدتهم بالمال، ثم مجاهدتهم بالبدن، ثم مجاهدة المنافقين بالقلب، ثم باللسان، ثم بالمال، ثم بالبدن، هذه أربعة عشر نوعاً من أنواع الجهاد، كلها داخلةً في عموم قول الله تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [الصف:11]، في هذه التجارة العظيمة.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4061 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4001 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |