وحدة المسلمين


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرف هذه الأمة بأن جعلها أمةً واحدة، لا يستقيم أمرها إلا بذلك، لم يرض الله سبحانه وتعالى لها التفرقة، بل جعل التفرقة قسماً من أقسام العذاب في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

فبين أن العذاب ثلاثة أقسام:

قسم منزل من أعلى.

وقسم خارج من أسفل.

وقسم في الوسط وهو الخلافات بين الناس.

وبين سبحانه وتعالى أن الخلاف سبب للفشل، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46].

وبين كذلك أنه بريء من الذين يختلفون في أمر الدين، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

وبين أن الخلاف مظهر من مظاهر الشرك بالله سبحانه وتعالى في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].

وبين كذلك أن الخلاف مناف لرحمة الله سبحانه وتعالى الواسعة، فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119].

وارتضى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الاعتصام بالدين، واجتماع الكلمة، والاعتصام بحبل الله جميعاً، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105].

وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقة والخلاف، فقال في وصيته للناس التي أخرجها البخاري في الصحيح في مرض موته عليه الصلاة والسلام، قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وسمى ذلك كفراً، كما سمى سباب المسلم للمسلم فسوقاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، وكذلك في نهيه صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى الخلاف، فقال: ( هي الحالقة لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين )، وقطع كذلك أسباب الخلاف بين هذه الأمة في حياته، فلم يترك سبباً من أسباب الفتنة إلا قضى عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يعالج الفتنة أول ما تنجم بين الناس، عندما يبدأ أمرها يعالجها الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلاج النافع الناجع، فيقضي عليها كما حصل في غزوة المريسيع عندما خرجت والدة المهاجرين ووالدة الأنصار فازدحموا على الماء فاقتتلوا، فقال الأنصاري: (يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها؛ فإنها منتنة).

وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في وقت الظهيرة في وقت لم يكن يرتحل فيه، فواصل السير بهم بقية يومه وليلته وصبح غد حتى نزل بالظهيرة؛ ليشغل الناس بالتعب عن دائرة الفتنة.

وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك من الذين يثيرون الفتن بين الناس، فقد ( كان يقسم الغنائم فجاء رجل فوقف عليه ثائر الرأس، ثائر الشعر، مقصر الثوب، قد بدت وجنتاه من وجهه، فقال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ابتسم: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، فولى الرجل مدبراً، فقال: يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدكم إلى سنانه فلا يرى شيئاً، فينظر في قذذه فلا يرى شيئاً، ثم يتمارى في الفوق ).

السهم: سنانه الحديدة التي في رأسه، لا يبقى فيها أي أثر، وقذذه: الريش الذي يشد على وسطه ليسرع في انطلاقته لا يبقى فيه أثر، ويتمارى الإنسان في الفوق وهو آخر السهم الذي يثبت في وتر القوس، هل بقي فيه أثر أم لا؟ من شدة انطلاقه حتى يخرج من الرمية، فهؤلاء لا يبقى معهم من الدين إلا كما يبقى فيما يتمارى فيه الإنسان في وجوده وعدمه في فوق السهم.

لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب مخصوصة من أسباب الفتن بين الله سبحانه وتعالى أكثرها في كتابه، فقد ذكر في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب الفتن، أو ردها الله سبحانه وتعالى، وحذر منها تحذيراً لا يمكن أن يرجع المؤمنون المتذكرون لتحذير الله بعده إلى هذه الأسباب، هذه الأسباب منها:

تعدي الصلاحيات

تعدي الصلاحيات، بأن يتجاسر الناس على الكلام على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لم يأذن به الله، وهذا سبب للفوضى في الإفتاء، وللفوضى في العلم، فيكثر المفتون بغير علم فيضلون ويضلون الناس، وهذا الذي حذر الله منه في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم

عدم التثبت في نقل الأخبار

البغي والظلم والاعتداء على الناس

ظن السوء

ثم بين الله سبحانه وتعالى سبباً آخر من أسباب الخلاف وهو: ظن السوء، فإن كثيراً من الناس يمتلئ صدره بالحقد والشنآن على الناس بمجرد الظنون والأوهام الكاذبة التي هي من وحي الشيطان وإلقائه، وقد حذر الله من هذا النوع فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

التجسس والنميمة

ثم بين سبباً آخر من أسباب الخلاف وهو التجسس على الناس ونقل الأخبار على وجه الإفساد، فقال: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12].

الغيبة

ازدراء الناس والترفع عليهم

ثم بين سبباً آخر من أسباب الخلاف بين الناس وهو: ازدراء بعض الناس لبعض وإعجابه بنفسه، فهذا السبب يتكبر به الإنسان على إخوانه الذين يرجعون معه إلى أصل واحد، ( فالناس جميعاً لـآدم و آدم من تراب )، ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى )، فلذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات:11]، فالخيرية عند الله لا يمكن أن تكشف إلا عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59].

ومن كان لا يدري هل هو خير أم الذي يزدريه ويسخر منه؟ فعليه أن لا يسخر منه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، ولاحظوا بلاغة القرآن، فإن هذه الصفة تكثر في النساء أكثر منها في الرجال؛ فلذلك بدأ بالقوم ثم ثنى بالنساء، مع أن القوم في أغلب استعمالها في اللغة تتناول الرجال والنساء كقول الله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام:66]، وإن كانت قد تطلق على الرجال دون النساء كقول زهير بن أبي سلمى :

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟

فقدم هنا القوم المتناول للرجال والنساء، ثم ثنى بذكر النساء بالخصوص دلالةً على أن هذه الصفة تكثر في النساء، وهي فيهن أكثر منها في الرجال.

التنابز بالألقاب

ثم حذر من سبب آخر من أسباب الخلاف، وهو: التنابز بالألقاب، وهو ناشئ كذلك عن الكبر والإعجاب، فقال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11]، واللمز هو الهمز يقع بالعين، وبطرف الشفة، وبالإصبع، والمقصود به التنبيه على ما في الإنسان من العيوب التي سترها الله سبحانه وتعالى، والتي كثير منها ليس من صنع الإنسان وإنما هو من صنع الديان سبحانه وتعالى، الذي يقول في كتابه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، ويقول: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8].

فلذلك لا يمكن أن يعاب الإنسان بشيء خلقه الله عليه لم يشهد خلقه، ولم يشاور: هل يخلق على هذه الصورة؟ هل يخلق أبيض أو أسود؟ هل يخلق طويلاً أو قصيراً؟ هل يخلق حسناً أو دميماً؟ لم يشاور الإنسان في ذلك، بل هذا من تصرف مالك الملك سبحانه وتعالى للحكمة البالغة، وقد جعله امتحاناً للناس في هذه الدنيا، ولذلك فإن الألوان ستختلف، فيوم القيامة يحشر أهل الجنة جميعاً على قدر آدم ستين ذراعاً في السماء، وسبعة أذرع في الأرض، وأعمارهم في الثالثة والثلاثين، وهم جميعاً قد ابيضت وجوههم، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، ويحشر أهل النار -نسأل الله السلامة والعافية- في أضخم الصور، فمجلس أحدهم من النار كما بين مكة والمدينة، وأقدامهم في الأغلال كالجبال السود المتراكمة، وضرس أحدهم كجبل أحد، نسأل الله السلامة والعافية؛ وذلك ليذوقوا العذاب، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].

وتسود وجوههم جميعاً من كان منهم أبيض الوجه ومن كان أسود، فلذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن التنابز بالألقاب، وعن اللمز والهمز.

تعدي الصلاحيات، بأن يتجاسر الناس على الكلام على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لم يأذن به الله، وهذا سبب للفوضى في الإفتاء، وللفوضى في العلم، فيكثر المفتون بغير علم فيضلون ويضلون الناس، وهذا الذي حذر الله منه في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

ثم بين الله سبحانه وتعالى سبباً آخر من أسباب الخلاف وهو: ظن السوء، فإن كثيراً من الناس يمتلئ صدره بالحقد والشنآن على الناس بمجرد الظنون والأوهام الكاذبة التي هي من وحي الشيطان وإلقائه، وقد حذر الله من هذا النوع فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

ثم بين سبباً آخر من أسباب الخلاف وهو التجسس على الناس ونقل الأخبار على وجه الإفساد، فقال: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4839 استماع
بشائر النصر 4291 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4062 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3948 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3932 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع