أرشيف المقالات

التكرار في القرآن الكريم - عزيز محمد أبو خلف

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .

التكرار لغةً هو إعادة الشيء مرةً بعد أخرى، وقد عدّه القدماء عيباً يجب التخلُّص منه ما أمكن، حتى إنهم نفوا وجود التكرار في القرآن، إذ أن تعريف المكرَّر عندهم هو ما لا ينطوي على مزيد فائدة.

  نظر علماء اللغة إلى التكرار على أنه أسلوب بلاغي ومظهر جمالي، وعدَّه بعضهم ظاهرة لغوية. لقد تفطَّن علماء الإسلام لقيمة التكرار في القرآن الكريم ، الذي نزل بلسان العرب وعلى مذاهبهم، ومن مذاهبهم التكرار إرادةَ التوكيد والإفهام، من خلال التدرج والتنبيه والتجديد.
وفي التكرار أيضاً تقرير للنعمة، وطرد للغفلة، وتأكيد للحجة.

التكرار في العلم الحديث:

يرى العلم الحديث أن التكرار هو استدعاء النموذج العقلي الممثل للشيء أو الفكرة والعمل عليه أكثر من مرة.
هذا النشاط المتكرِّر يعمل على تقوية النموذج العقلي وتثبيته، كما يحصل للممرّ الذي يتحول إلى طريق معتاد نظراً لكثرة السير فيه.
كما أن التكرار يؤدي إلى صقل الشبكة التي يعمل من خلالها العقل وتهذيبها وزيادة كفاءتها.

يحصل التكرار للشيء نفسه أو لجوانب مرتبطة به من حيث الصفات أو الشكل أو الهدف أو الأجزاء.
وقد يكون التكرار في إبراز جانب دون غيره أو تفصيلات معينة.
  فمثلاً عندما نواجه مشكلةٍ ما نقوم بعرضها، ونكرِّر ذلك؛ وبهذا نهيء الفرصة للعقل لكي يُشكِّل النموذج الخاص بهذه المسالة ويألفها، مما يسهل أمر تعديل النموذج أو ضمِّه إلى غيره أو توسيعه.
بعد ذلك يمكن أن نجري تغييرات متنوعة على هذا النموذج، مثل إعادة صياغة المسألة أو تقديمها في حلة جديدة أو تغيير الفرضيات التي تقوم عليها، وغير ذلك.

يمكن عن طريق هذه التغييرات، أن نحقق عدة أهداف، كأن نوجه التركيز إلى طريقة الحل أو خطواته أو مراحله، وربط الخطوات أو المراحل ببعضها، والانتباه إلى التسلسل الحاصل وأهميته، والتفكير في البدائل، وربط الموضوع بغيره، وتوسيع طريقة الحل إلى مسائل أخرى والعوامل المؤثرة في ذلك، وما يمكن أن نكون قد استفدناه من هذه المسالة.

التكرار في سورة المرسلات:

تكرر ذكر الآية: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات عشر مرات، وهذا مُلفِت للنظر، ويستحق أن نُمُعِن النظر فيه بالتفكير الإبداعي الجانبي.
  لقد تربَّى الكفار على الكفر وإنكار الحق منذ نعومة أظفارهم، ونما ذلك عندهم بالتكرار، ومن ثم فقد ترسَّخت النماذج العقلية التي تُمثِّل هذا الكفر عندهم، وأصبحت مثل الصخر.
كيف السبيل إلى حلحلة هذه النماذج الراسخة؟ لا بد من التكرار المقابل لذلك التكرار الذي رسّخوا به هذه النماذج النمطية.
هذا التكرار فيه إشعار مبطن لهم بأن نماذجهم العقلية الباطلة قد ترسَّخت لديهم على مرِّ الزمان، وطال عليهم الأمد، ولا بد من علاجهم على طريقة: "داوها بالتي كانت هي الداء".

تضمنت سورة المرسلات أساليب جانبية رائعة تنشط الشبكة العقلية بشكل متواصل، لمن يتمعّن بها، وتجعله يعيش الواقع كأنه رأي العين، كما تجعله يَعتبر بالنتيجة قبل حصولها وتدبُّر مقدِّماتها من خلال التفكر الذاتي، ومن خلال الاعتبار بما حصل للآخرين.

● أكدت السورة في البداية على وصول الذكر إلى المكذبين، فلا عذر لهم، ثم لفتت انتباههم إلى النتيجة التي تنتظرهم لو استمروا على عنادهم، لعلهم ينطلقون من هذه النتيجة إلى المقدمات التي أوصلتهم إليها، فيتجنبون الوقوع في هذا المأزق.
إن وعد الله واقع لا محالة، وسوف يتحقق يوم الفصل، وفي هذا ترهيب شديد، ويعمل على خلخلة الشبكة العقلية المتصلبة على الكفر، ويساعد في ذلك الاستفهام والتشويق الذي يلفت الانتباه أيضاً.

● ثم ذكّرهم الله بخلقهم وأنه ابتدأه من ماء مهين، أي كأنه لا شيء مما يخفيه من الكائنات الدقيقة، ثم مرُّوا في نموهم بمراحل، ثم تحقق النمو المكتمل، وهذا ترغيب بالتفكير في قدرة الله، ولفت للنظر إلى مراحل النمو المختلفة ليُعملوا فيها النظر والبحث.

● وجّهت السورة، بعد ذلك؛ أنظار الكفار إلى نقطة البداية ونقطة النهاية، التي تتمثَّل في الأرض الكِفات التي تضم الأحياء والأموات.
ثم نقلت تفكيرهم إلى الجبال الراسخة، ثم إلى السحب التي تعلو هذه الجبال والتي ينزل منها المطر، الذي يشربون منه.
وفي هذا دعوة إلى التفكير في اتجاهات مختلفة: باطن الأرض، ظاهر الأرض، الجبال، السحب، ثم العودة إلى الأرض.

● انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مصير الكفار، ولم تقف عند ذلك بل عقدت مقارنة مع الحال التي سيكون عليها المؤمنون، وبيان الفرق الشاسع، من خلال المقارنة بين المتعة المؤقتة والمتعة الدائمة، ثم الدعوة إلى اتخاذ القرار الصائب، وأنه لا سبيل غير سبيل الله وآياته.

● اشتملت سورة المرسلات على أساليب بلاغية متعددة تعمل على حلحلة وخلخلة النماذج العقلية المتحجِّرة منها:

o التأكيد بذكر المصدر للفت النظر إلى النموذج الجديد.
o الاستفهام التقريري، الذي يلفت الانتباه ثم يُقرِّر أمراً جديداً.
o الطباق، وهو تقارب بين النماذج في محاولة لربطها معاً بسهولة: عُذراً، نُذراً؛ أحياءً، أمواتاً.
o ربط الجزء بالكل، من خلال ذكر الجزء وإرادة الكل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، حيث ذكر الركوع وأراد الصلاة.    

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢