كيف نودع رمضان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن كل مسرور بقدومه، محزون على فراقه، وإن هذا الشهر الكريم يسر المسلمون بقدومه وينتظرونه، وقد كان السلف يسألون الله تعالى ستة أشهر من السنة أن يبلغهم شهر رمضان، ويسألونه في الأشهر الأخرى أن يتقبل منهم ما فعلوا فيه وما وفقهم له في هذا الشهر، لذلك فإن السرور بقدوم شهر رمضان لا يعدله إلا الحزن لفراقه؛ لأن كثيراً من الناس يوشك ألا يأتي عليه رمضان آخر، وقد أتيحت له فرصة المغفرة والعتق من النار في هذا الشهر.

وأيضاً باعتبار معايير الدنيا فإن كثيراً من الناس يأنس من السعادة ويشتاق إليها، وإنه في هذا الشهر قد نال فرصةً عظيمةً للسعادة، فكثير من الناس إذا قارن حياته بالسنة، وأيامه المعدودة في هذا الشهر ولياليه فسيجد فرقاً شاسعاً بين هذه الأيام التي يعيشها في هذا الشهر، وأيامه في السنة الأخرى، فهذه الأيام يجد أن علاقته بالله سبحانه وتعالى قد تحسنت وتطورت، وأن الوقت الذي يمضيه وهو في بيت من بيوت الله تغشاها رحمة الله تعالى، وتنزل عليه السكينة، وتحفه الملائكة، وهو صائم لربه، أو قائم في الليل بين يديه، أو قارئ لكتاب الله تعالى في بيوت من بيوت الله، أو يخدم إخوانه ويسعى من أجل إيصال النفع إليهم، كل ذلك يجد به سعادةً في نفسه لا يعدلها شيء.

تلحظون هذه السعادة في أنفسكم، وتلاحظون أن كثيراً منكم يشتاق إلى رمضان قبل أن يأتي، ويستعد له ليس إخلاصاً، فكثير منا يعرف من نفسه ما فيها من الأمراض، ولكنه يشتاق إليه لتلك السعادة التي يجدها، أما من كان مخلصاً لله تعالى فسعادته أكبر، وشوقه إلى رمضان أكثر، كل هذا مدعاة لأن يحزن على فراق هذا الشهر؛ ولأن ينتهز ما بقي منه للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ وللتزود بشحنة يمكن أن تكون خاتمةً لهذا العمر الذي لا ندري متى ينقضي.

هذه الأيام الباقية من هذا الشهر فرصة عظيمة، قد جعلت في متناول أيديكم، وبين نواصيكم، وهي فرصة سيتمناها الناس كلهم يوم القيامة، ولذلك تقرءون في كتاب ربكم سبحانه وتعالى في أحوال أهل الآخرة أنهم جميعاً يتمنون العودة إلى هذه الدار الدنيا، أما المحسنون فيتمنون ذلك لزيادة إحسانهم، وأما المسيئون فيكفره ويبدل السيئات بالحسنات، واقرءوا ذلك إن شئتم في أحوال أهل الجنة وفي أحوال أهل النار، يقول تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].

وفي أحوال أهل النار جاء التصريح بذلك في قول الله تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:99-101].

ونظير هذه الآية في القرآن كثير في أحوال الذين يتمنون الرجعة والعودة إلى هذه الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً من نفسه لذلك، فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: ( ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل )، وهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أطلعه الله على ما أعد له في الجنة، ومثلت له الجنة في عرض حائط في قبلة لمسجد حتى رأى ما له فيها، وأدخل الجنة في كثير من نوماته، ومنامات الأنبياء وحي، فرأى ما فيها، ومع ذلك يرغب في الزيادة وتضعيف الأجر، ومضاعفة العمل الذي يقرب من الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا.

وكذلك فإن عمرو بن الجموح رضي الله عنه حين قتل شهيداً يوم أحد تمنى على الله تعالى أن يرده إلى هذه الدنيا ليقاتل فيقتل مرةً أخرى، لينال الشهادة مرةً أخرى، لم يتمن العودة إلى الدنيا ليتزود من ملذاتها وشهواتها، ولا ليقيم الحجة على المنافقين الذين خاطبهم عندما انعزلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنهم قد خسروا الدنيا والآخرة، وأنهم قد خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الموقف الذي تدعو الحاجة فيه إلى نصرته فيه، فتمنى على الله تعالى أن يعيده إلى هذه الدنيا ليقتل مرةً أخرى في سبيل الله؛ حتى يتضاعف له أجر الشهادة لما رأى من ذلك، ولذلك قص الله علينا أحوال هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد، ومنهم عمرو بن الجموح الذي ذكرنا بوصف يشوق من لم ينل شرف هذه المنزلة التي نالها، فضلاً عمن قص علينا أخبارهم ممن قد تجاوزوا القنطرة، وشاهدوا ما يوعدون، فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:169-171]، فهم يستبشرون بنعمة من الله وفضله زيادةً على ما هم فيه، فما هم فيه في هذا البرزخ وإن كان فيه استقبال الباري سبحانه وتعالى لهم، وتشريفهم بأن يريهم مقاعدهم من الجنة، وأن يبين لهم درجاتهم فيها، وإلحاقهم بلائحة الذين رضي الله عنهم وأحل عليهم رضاه الأكبر الذي لا سخط بعده، الماحي لكل ما سبق، وأيضاً بما بشرهم به من التمكين لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن التمكين لإخوانهم الذين عاشوا بعدهم، كل هذا يستبشرون بعده بأمور أخرى مستقبلية.

فهذا البرزخ لا ينالون فيه جزاءهم، وإنما الجزاء الكامل في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

إننا الآن على أعتاب هذا الشهر، وقد وقف بثنية الوداع وهمّ قبلي مزنه بالإقلاع، فهو الآن يودع، ويقول: يا رب! أقوام قد انتهزوا فرصتي فقطعت بهم مراحل، ويا رب أقوام قد زالت هذه الفرصة من بين أيديهم بعد تمكنهم منها سيأسفون ويندمون على ما فاتهم، ويا رب أقوام عميت قلوبهم عن انتهاز الفرصة ثم لم يشعروا بالغبن عند نهاية رمضان.

إن هذا الشهر ستطوى صفحته بعد أيام، ويذهب بما فيه من خير وشر، ولكن بماذا نودعه؟ وماذا سيبقى معنا من ذكرياته؟ هذا موضوعنا الذي ينبغي أن نفكر فيه جميعاً، وليس موضوعاً علمياً يقرأ في صفحات ويتلى ويملى بقدر ما هو موضوع تفكيري يفكر فيه الذين يعيشون في رحاب رمضان، فكل شخص منا يفكر الآن: بماذا يودع رمضان؟ قد أوصله الله تعالى في هذا الشهر بنعمته وفضله إلى كثير من وسائل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى مستوى إيماني يحسه في نفسه، كل شخص منا لو قارن نفسه في هذا اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان بنفسه في اليوم الخامس والعشرين من شهر شعبان مثلاً، أو غيره من الشهور التي انصرمت وانقضت فسيجد أن مستواه الإيماني وما تقرب به وما أعين عليه من الطاعة بعده مفيد، وأنه قد ازداد به درجةً، وارتقى به منزلاً، ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلين ماتا وكان بين وفاتهما أيام، فأثنى الناس على الأول منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكم لعل صلاة الآخر في الأيام التي قضاها بعد موت صاحبه تبلغ به منزلةً ). فهذه الأيام التي عاشها هذا الشخص بعد موته صاحبه كان يصلي فيها الصلوات الخمس، وهي كفارة لما بينها، شهد فيه الجمعة، ويمكن أن يكون وفق فيه لقراءة شيء من القرآن، أو لذكر الله تعالى، أو لتقديم خير أو صدقة، أو غير ذلك من أوجه الخير التي لا حصر لها، فهذه الأيام التي عاشها رغم قلتها يمكن أن تبلغ به منزلةً يحسده صاحبه عليها، فكثير ممن وفق لأن ينتهز وقتاً ولو يسيراً يمضيه في هذه الحياة الدنيا سينال به منزلةً وتقريباً يحسده عليه من لم يصل إلى تلك الدرجة، ولهذا قال أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبيات له:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

الشخص الذي كان في هذه الدنيا مع أشخاص لا يزيدون عليه في خلقهم بأعضاء، ولا يزيدون عليه في عقلهم وتفكيرهم بمساحات، ولا يزيدون عليه في طاقاتهم وأوقاتهم بسعة غير ما يجده، فوجدهم قد زادوا فيها قرباً إلى الله سبحانه وتعالى، سيشعر بحزنه هو وأسفه على ما مضى.

إن ما أحرزناه في هذا الشهر، وما حاولنا به التقرب رغم ضآلته وقلته، هل ينبغي أن نقف عنده، وألا نطور أنفسنا بعد رمضان وننتظر رمضان آخر قد لا نصله؟ أو أن مستويات الإيمان لا بد أن تزداد؟

المحاسب لنفسه المواصل لسيره إلى الله

لا بد للمؤمن إذا مرت عليه فترة أو وحدة زمنية أياً كانت أن يحاسب نفسه، وأن يحاول ألا يأتي فلق الصباح في اليوم الموالي وهو في نفس المستقر الذي كان فيه، فهذا العمر إنما هو مراحل في سفر إلى الله سبحانه وتعالى، كل يوم تطلع فيه الشمس يقرب من الموت، ويقرب من الآخرة، فهو بمثابة الرجل الجاد في السفر وله مسافة معينة، هذه المسافة لتكون مثلاً لو عاش ستين سنة نقدر أنه سيقطع ستين كيلو، أو ستمائة كيلو، إذا عاش مائة سنة على تقدير بعيد فإنه سيقطع مائة كيلو مثلاً، وهو سائر في هذا الاتجاه وفي كل يوم يأتي سيقطع جزءاً من هذه المسافة، لا يمكن أن يعطل سير عمله في المسافة التي سيقطعها، لا بد أن يقطع في أيامه ولياليه جزءاً من هذه المسافة التي يسير إليها، إذا كان الأمر كذلك فإن من خرج يشتد عدوىً من الصباح إلى المساء فأصبح في نفس المكان الذي كان فيه بالأمس، فإنه مبتلىً بالتيه، معناه أن عمله ضائع، خرج يشتد عدوىً، وقطع مسافةً أتعبته، ولكنه عندما طلع الفجر وجد نفسه في نفس المكان الذي خرج منه بالأمس، فهذا لا شك أنه باعتبار التجار قد خسر أربعاً وعشرين ساعة من العمل الدءوب، وخسر أيضاً طاقةً بذلها، وجهداً كبيراً قد قدمه، ومع ذلك لم يزدد شيئاً مما كان ينبغي أن يزداد به، فهذا خاسر في صفقته.

إذا كان الأمر كذلك فمعناه أن كل يوم يمر من هذه الأيام ينبغي أن نحاول على الأقل أن نزيد فيه ولو سنتيمتراً واحداً في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، نحاول تطوير مستوانا وتحسينه، هذا لأهل الهمم، ولجماعة المسجد، ولأهل الخير.

الناكص على عقبه بعد رمضان

ثمة درجة أخرى من الناس يسعدها كثيراً أن تبقى تراوح أقدامها في نفس المكان الذي كانت فيه؛ لأنها معرضة للنكوص على أعقابها، والرجوع إلى الوراء، فكثير من الناس يصل في مستواه الإيماني في رمضان لأن يريق مدامعه من خشية الله، وأن يستطيع سماع كتاب الله، وأن يستطيع في كل يوم تطلع فيه الشمس أن يمد يديه الطاهرتين إلى المصحف فيفتح صفحاته ويقلبها بلباقة أصابع، فيقرأ آيات من كتاب ربه، يستطيع أن يشهد الصلوات الخمس في المسجد، وأن يصوم صوم المسلمين، وأن يصلي قيام الليل ما استطاع، ولكنه بعد رمضان يغفل عن نفسه، ويغفل عن حسه، وعما كان فيه في رمضان، فتأتي الأيام والليالي وهو يزداد رجوعاً إلى الوراء، حتى إذا جاء رمضان إن أتيحت له فرصة أخرى لعهد جديد جدد، وإلا بقي يتقهقر على أعقابه، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: بئس عبد لا يعرف الله إلا في رمضان.

العارفون لله في رمضان دون بقية الشهور

من الناس من لا يعرف الله إلا في رمضان، لا تراه في المسجد، لاحظوا وجوهاً تشهدونها في المساجد في شهر رمضان، نسأل الله ألا تكون من بيننا، لكن نراها في غير شهر رمضان تطرق أبواب المساجد أبداً، لماذا؟ المدح والشكر في قدومه على المسجد في شهر رمضان ليس راجعاً إلى أنفسها، بل هو راجع إلى نعمة الله تعالى بتصفيد شيطانها، شيطان الشخص وقرينه الذي يحول بينه وبين دخول المسجد مصفد الآن، فلذلك استطاع أن يأتي إلى المسجد، لكن ما إن يفك أسر شيطانه، وينزع القيد أو الصفد من يديه حتى يمنعه من دخول المسجد مدةً أخرى إلى أن يأتي شهر رمضان آخر.

المنفقون والمتصدقون في رمضان الجامعون للمال في غيره

كذلك نجد كثيراً من الناس يتصدق وينفق، ويفطر الصائمين، ويحرص على ذلك في شهر رمضان، ولكنه يظن أن هذا الشهر فقط هو شهر الإنفاق، أما ما سواه فشهر الاكتناز والجمع، فهذا ليس إنساناً كامل الإنسانية، بل هو بمثابة النمل، فالنمل يجمع في السنة كلها أرزاقه، ولا يأكلها إلا في الخريف، يجمعها ويدخلها ويحصنها ولكن لا يأكلها إلا في الخريف، كثير من الناس كذلك يجمع في الأشهر الأخرى، فإذا جاء شهر رمضان تصدق، فهذا لا يفكر بعقلية سليمة؛ لأنه لو افتتح الآن الجمع في شوال هل سيصل إلى رمضان؟ من يضمن له ذلك؟ أيضاً فإن التوفيق للعمل لا يكون إلا بتقديم ما يقربه إلى الله تعالى، والله تعالى له ملائكة في اليوم والليلة يتعاقبون في الناس، فينزل ملائكة في المساء يحضرون صلاة العصر مع الناس، ويتعاقب معهم آخرون كانوا في النهار في صفوف الناس وكذلك يجتمعون في صلاة الفجر، فإذا ارتفعوا إلى ربهم فإنهم يقدمون تقريراً عاماً عن الناس وهو تقرير عن أهل الخير سببه الشفاعة لهم، فالملائكة فطرهم الله تعالى على حب الشفاعة لبني آدم، وقد أذن الله لهم في أن يشفعوا لأهل المساجد فيقولون: ( يا رب! أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون )، ولا يتكلمون في مقام الشفاعة عما بين الصلاتين، ( أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون )، ما بين هذين الحالين ما بين الصلاتين قد يكونون المصلون فيه قد اقترفوا كثيراً من الأعمال المخالفة للصلاة، ولكن الملائكة لأنهم شفعاء يريدون الشفاعة لا يذكرون العيوب، الذي يريد أن يشفع لا ينبغي أن يذكر العيب بين يدي شفاعته، بل يذكر الخير والوجه الصحيح؛ ليكون ذلك مدعاةً لقبول شفاعته.

ولكن ثمة ملائكةً آخرين مكلفون بمهمة تختلف عن هذه الشفاعة، ملائكةً يقدمون تقارير إلى الله تعالى في الصباح والمساء، فهؤلاء الملائكة إذا أتوا فقالوا: يا رب! عبدك فلان في شهر رمضان أصبح صائماً، وبات قائماً، وتصدق، وتقرب إليك بالذكر وتلاوة القرآن، ثم في شهر شوال قالوا: عبدك الذي عرفناه في المساجد تكتبه الملائكة التي هي على أبواب المساجد في مقدمة اللائحة، أو على الأقل في لائحة رواد المسجد قد نكص على عقبيه، والآن يكتبه ملائكة أخرى على أبواب أمور أخرى لا ترضي الله تعالى، فهذا الانتكاس والتذبذب وصف نفاقي، وصف من أوصاف المنافقين، والله تعالى يقول في المنافقين: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:143].

المؤمنون المنتفعون من شهر رمضان

أما المؤمنون الذين انتفعوا من مدرسة رمضان فكل شخص منهم في آخر رمضان يعقد العزم الذي لا يتزحزح ولا يتبدل على أنه وصل الآن إلى مرتبة إيمانية معينة، فيعاهد الله تعالى على أنه يحاول جاهداً ألا ينزل عنها، إما أن يزيد ويرقى حتى يكون من الذين يقال لهم يوم القيامة: ( اقرأ وارق )، فقارئ القرآن في الدنيا إنما ينال منزلته عند آخر تلاوته، فيقال له: ( اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر قراءتك )، آخر آية ترتلها هي التي تنال منزلتك عندها.

فكذلك مسيرة المؤمن هنا في حياته، يحاول جاهداً أن يعقد العزم التام على تصرفه في العيد، أول يوم بعد رمضان هو يوم الفطر، بماذا سنستغل هذا اليوم؟ هل سنجعله فقط يوماً للتكالب في الدنيا، والتنافس على المظاهر المخالفة لما نحن فيه الآن في رمضان؟ رمضان شهر تقشف وشهر زهادة، لا يتنافس الناس فيه كثيراً في المآكل والمشارب والملابس والأمور هذه، هل سنتناقض مع أنفسنا في أول يوم يأتي بعد رمضان؟ هل سنلجم أنفسنا عن النظر إلى الملاهي المحرمة، والأمور التي لا ترضي الله تعالى في شهر رمضان وفي أول يوم من شوال نخالف فنقع فيما كنا ألجمنا أنفسنا عنه؟

إذاً لا بد أن نعقد العزم من الآن على أن أول يوم يأتينا بعد رمضان -وهو يوم العيد- يكون يوماً خالصاً لله، أن نكون صادقين فيه مع الله إذا قرأنا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، لا بد أن نكون صادقين إذا قرأنا هذه الآية في حياتنا.

لا بد كذلك أن نعقد العزم على أننا بعد رمضان نجعل أوقاتنا كلها أو على الأقل جزءاً كبيراً منها موافقاً لذكرياتنا في شهر رمضان، فبعد رمضان نصوم ستاً من شوال لتتم لنا أيام السنة، ( من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله )، نصوم ستة أيام من شوال ثقةً بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق؛ ولتتم بذلك السنة كلها؛ لأن ( الحسنة بعشر أمثالها )، ورمضان إن شاء الله تعالى والله أعلم ربما يكون ثلاثين يوماً، فإن كان كذلك فإنه يأتي بثلاثمائة يوم من السنة، وتبقى ست من شوال تقابل ستين يوماً وهي بقية السنة، وبذلك يكون الشخص قد ضرب له اليوم الواحد بعشرة، ( والحسنة بعشر أمثالها )، فيكون كأنما صام الدهر كله، ثم بعد ذلك تشرئب أنفسنا لموسم آخر من مواسم الخير.

لا بد للمؤمن إذا مرت عليه فترة أو وحدة زمنية أياً كانت أن يحاسب نفسه، وأن يحاول ألا يأتي فلق الصباح في اليوم الموالي وهو في نفس المستقر الذي كان فيه، فهذا العمر إنما هو مراحل في سفر إلى الله سبحانه وتعالى، كل يوم تطلع فيه الشمس يقرب من الموت، ويقرب من الآخرة، فهو بمثابة الرجل الجاد في السفر وله مسافة معينة، هذه المسافة لتكون مثلاً لو عاش ستين سنة نقدر أنه سيقطع ستين كيلو، أو ستمائة كيلو، إذا عاش مائة سنة على تقدير بعيد فإنه سيقطع مائة كيلو مثلاً، وهو سائر في هذا الاتجاه وفي كل يوم يأتي سيقطع جزءاً من هذه المسافة، لا يمكن أن يعطل سير عمله في المسافة التي سيقطعها، لا بد أن يقطع في أيامه ولياليه جزءاً من هذه المسافة التي يسير إليها، إذا كان الأمر كذلك فإن من خرج يشتد عدوىً من الصباح إلى المساء فأصبح في نفس المكان الذي كان فيه بالأمس، فإنه مبتلىً بالتيه، معناه أن عمله ضائع، خرج يشتد عدوىً، وقطع مسافةً أتعبته، ولكنه عندما طلع الفجر وجد نفسه في نفس المكان الذي خرج منه بالأمس، فهذا لا شك أنه باعتبار التجار قد خسر أربعاً وعشرين ساعة من العمل الدءوب، وخسر أيضاً طاقةً بذلها، وجهداً كبيراً قد قدمه، ومع ذلك لم يزدد شيئاً مما كان ينبغي أن يزداد به، فهذا خاسر في صفقته.

إذا كان الأمر كذلك فمعناه أن كل يوم يمر من هذه الأيام ينبغي أن نحاول على الأقل أن نزيد فيه ولو سنتيمتراً واحداً في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، نحاول تطوير مستوانا وتحسينه، هذا لأهل الهمم، ولجماعة المسجد، ولأهل الخير.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع