فقه الموازنات


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وأصلي وأسلم على أفضل الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فإن من مهمات المشتغل بالدعوة في زماننا هذا أن يتعلم فقه الموازنات الذي يحتاج إليه الإنسان في كل الظروف, وبالأخص في مثل هذه الظروف الحالكة التي يعتريها كثير من الأمور وتتشعب فيها المناهج والمشاغل، ولا يجد فيها الإنسان وقتاً للتقويم ولا للمتابعة، فكان لا بد من وضع ضوابط وقواعد ينطلق منها الداعية في حياته الدنيوية.

وأول ما ابتدئ به في بيان خاصية الاعتدال والتوازن في المنهج الرباني الوسطي، فأقول: إن الله سبحانه وتعالى قد اختار لعباده هذا الصراط السوي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكان كل الأديان إعداداً له، فجعله من بين فرثٍ ودمٍ لبن خالصاً سائغاً للشاربين، منهجاً سوياً معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا وكس فيه ولا شطط، يؤدي فيه الإنسان إلى كل ذي حقٍ حقه, ينطلق فيه من مبدأ: ( إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه ), كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص .

نبذ الإسلام للإفراط

ومن هنا فهذا المنهج الرباني المعتدل يدعو إلى نبذ الإفراط مطلقاً، فكل ما فيه عنت ومشقة، وكل ما فيه تجاوز للطاقات البشرية فهو منفي، فقد قال الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ), وقال: ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).

نبذ الإسلام للتفريط

وكذلك فيه نفي للتفريط، فلا مجال للعامل العابد في هذه الحياة القصيرة للتكاسل والتراجع والإهمال, فلا يمكن أن يتنازل عن الحق وهو يعلم، ولا أن يسكت عن الباطل وهو يراه، ولا يمكن كذلك أن يركن إلى هذه الدنيا فليس من أهلها, ( ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة )، ( إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح).

وبين الإفراط والتفريط مسلك واسع هو الصراط المستقيم، الذي ارتضاه الله لعباده, وقد بين الله ذلك في كتابه في عدد من الآيات، منها قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67], فالتوسط بين الإسراف والإقتار هو القوام المطلوب شرعاً، وهو المنهج المعتدل الذي أرشد الله إليه عباده وسار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرب عليه أصحابه طيلة حياته، وهو الذي وصلت به هذه الأمة إلى أعلى المستويات.

وما حصل انحراف إلا بسبب ترك هذا الصراط إما إفراطاً، وإما تفريطاً, فالإفراط فيه قد يأتي من جهة التصور، بأن يتصور الإنسان الشيء أكبر من حجمه، كأن يتصور الغلط أكبر من حجمه، أو الصواب أكبر من حجمه، أو المصلحة أكبر من حجمها، أو المفسدة أكبر من حجمها فيغلو فيها، فهذا الغلو منفي، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171].

وكذلك في المقابل يأتي الغلط من جهة التقصير والتفريط, فيظن الإنسان الأمر أيسر مما هو عليه شرعاً، ويتصوره أقل من ذلك فيهون عليه، وبسبب ذلك يفرط فيه حتى يفوت الأوان.

ومن هنا فهذا المنهج الرباني المعتدل يدعو إلى نبذ الإفراط مطلقاً، فكل ما فيه عنت ومشقة، وكل ما فيه تجاوز للطاقات البشرية فهو منفي، فقد قال الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ), وقال: ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).