سؤالات الله للعبد يوم القيامة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فستكون وقفتنا في هذا الوقت القصير في ظلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه, وعن عمره فيما أفناه, وعن علمه فيما عمل به, وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ ).

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة )، معناه لا تتحركان عن مكانهما, فـ (زال) في اللغة تستعمل لثلاثة أمور: يقال: زالت الشمس عن كبد السماء، أي: تحركت, ومضارع هذا الفعل (يزول), زال فلان عن مكانه يزول, وزالت الشمس عن مكانها تزول.

والاستعمال الثاني: زال بين الشيئين أي: ميز بينهما, زال المؤمنين عن الكافرين يزيلهم عنهم: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25], أي: لو امتازوا.

وأما زال يزال فهي ملازمة للاعتماد، لا بد أن يكون قبلها نفي أو استفهام، وهي التي تستعمل بمثابة كان، فيقال: ما زال فلان قائماً, ولا يزال فلان قائماً، ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ), فهذا هو الفعل الناقص، وهو الذي مضارعه يزال.

والحديث هنا فيه: زال يزول أي: ذهب وتحرك عن مكانه, والمقصود بذلك أن كل إنسان يحشر إلى الله سبحانه وتعالى فيوقف بين يديه للعرض, وهذا الموقف العظيم هو الذي يحاسب فيه الإنسان على نعم الله عليه وعلى أعماله، فالإنسان لم يأتِ إلى هذه الدنيا عن طواعية، ولا جاء عن ملكه واختياره، وإنما أرسله الله تعالى في مهمة ومدتها محددة هي مدة العمر، وجاء لأداء هذه المهمة، وقد أوتي وسائلها فأنعم الله عليه بأنواع النعم، فأولى النعم عليه خلقه, ثم بعد ذلك هدايته, وأسباب الهداية التي منها بعثة الرسل وإنزال الكتب، ومنها: السمع، والبصر، والفؤاد، وغير ذلك من وسائل العلم, ثم بعد هذا ما يتعلق بعمره وهذا يشمل شبابه وما بعده.

ثم بعد ذلك ما يتعلق بالنعم المادية التي أنعم الله بها عليه, فهذه هي النعم التي أعطيها في هذه الحياة الدنيا, وإنما أعطيها ليستعين بها على الوظيفة التي أنزل وأهبط من الجنة إليها وهي الاستخلاف في الأرض وتحقيق عبادة الله فيها, فيحاسب إذاً على الأمرين: على ما أوتي من النعم؛ لأنها أمانة لديه, وعلى ما صرفها فيه مما أرسل من أجله وهو تحقيق العبادة لله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

وهذا العرض على الله سبحانه وتعالى وقته وقت حرج؛ لأن الإنسان فيه تزول عنه المعاذير، ويختم على لسانه، ولا يستطيع أن يكذب على الله, وتبدو سرائره وكل ما كان مخفياً لديه يظهر, كما قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18], وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9-10].

وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9], فقال: منها الجنابات، أي: الطهارة، فهي أمانة لدى الإنسان وتبلى بين يدي الله تعالى: هل قام بها على وجهها الصحيح أو لا؟ ومثل ذلك أعمال الإنسان كلها، فهي من السرائر التي تبلى أي: تمتحن وتختبر عند العرض على الله تعالى, كما تبلى الفضة أي: تذاب حتى يزال عنها ما فيها مما ليس منها.

النفخ في الصور للبعث والحشر

وعرض الإنسان على الله سبحانه وتعالى هو المرحلة الأولى بعد الانطلاق من المحشر، فإن القيامة الكبرى تبدأ بإذن الله للملك في النفخ في الصور، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً ينتظر الأمر، فإذا أذن له ينفخ فيه نفخة الفزع, وإذا نفخ فيه يصعق الناس لها جميعاً، ثم يمكثون أربعين سنة, ثم بعد ذلك ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون, وفي ذلك الوقت تبدل الأرض غير الأرض، فتزلزل ويزول ما فيها من الجبال فتكون كالعهن المنفوش، أي: كالصوف المندوف تهيئه الرياح يميناً وشمال، ويزول ما فيها من الأودية فتستوي جميعاً، وتنفض وترج رجاً حتى يخرج ما فيها من المقبورين وما فيها من الأجداث, ثم بعد ذلك يخرج ما فيها من الكنوز، وما فيها من المعادن تنفض ذلك جميعاً، كنفض الجراب أي: كنفض الوعاء عندما ينفض فيذهب كل ما فيه.

تشقق السماء وإحاطة الملائكة بالخلائق

وفي ذلك الوقت تشقق السماء وتطوى كطي السجل للكتب, والملائكة على أرجائها أي: على أطرافها, وهي يومئذٍ واهية، يسهل كسبها وطيها بأمر الله سبحانه وتعالى, ثم بعد هذا ينادى في الناس: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون, ويجتمعون في الساهرة، وهي أرض كالكرسفة البيضاء لم ينبتها نبات، ولم يمطرها مطر قط، كما خلقت، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر, فيجتمعون فيها جميعاً أولهم وآخرهم من لدن آدم إلى نهايتهم, يقف الواقف فيراهم جميعاً، ويحشرون كما خلقوا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104], فيؤتى بهم حفاة عراةً غرلاً ليس مع أحد منهم إلا عمله,كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنكم ملاقو ربكم حفاة عراةً مشاةً غرلاً ليس مع أحد منكم إلا عمله, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله واسوأتاه! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض, قال: يا عائشة ! الأمر أعظم من ذلك ).

هول جهنم ومجيئها يوم العرض

فالأمر عظيم جداً وهو الهول العظيم جداً, فإذا حشروا جميعاً في الساهرة جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك, وتأتي من كل الجهات يقودها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة، وهم يجرونها جراً والناس يرونها يركب بعضها بعضاً، فيرون ما فيها من الأهوال والألوان والروائح المفظعة المروعة، فإذا أحاطت بهم من كل جانب جيء بالشمس فتدنو فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعا, ثم بعد ذلك يرتفع فوقها، فمنهم من يصل إلى كعبيه, ومنهم من يصل إلى ركبتيه, ومنهم من يصل إلى حقويه, ومنهم من يصل إلى سرته, ومنهم من يصل إلى ثدييه, ومنهم من يصل إلى ترقوتيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاما, ويطول بهم الموقف طولاً غير معهود, وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].

فإذا طال بهم الموقف نسوا كل ما مر عليهم في المواقف السابقة, فذلك الموقف منسٍ لكل ما مر على الإنسان من نعيم أو عذاب أو أذىً أو لذة أو غير ذلك، يزول عنه كل ذلك, وينسى كلما مر به من قبل, فالإنسان في قبره يعرف مصيره هل هو إلى جنة أو إلى نار, يعرض عليه مقعده من الجنة أو من النار, وفي جوابه للملائكة يعلم هل ثبت بالقول الثابت أو قال القول المشئوم نسأل الله السلامة والعافية.

لكن ينسى ذلك كله بمجرد هذا الموقف, ولذلك يذهب على الإنسان ما كان يعلمه من أمور الجنة والنار، ومن الرغبة في ذلك، حتى إنه يقول: يريد الخروج من هذا الموقف إما إلى جنة، وإما إلى نار, يظن أن هذا الموقف ليس شيئاً أعظم منه, حتى أنه يتمنى الخروج منه ولو إلى النار, نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك فعرصات القيامة ما فيها مقام إلا والذي بعده أعظم منه, كل موقفٍ من تلك المواقف ينسي الذي قبله بالكلية, وهم يرون جهنم من بعيد فلا يدركون حقيقتها، وهي تحيط بهم من كل جانب، لكنهم يرون منظراً مفظعاً ومع هذا يتمنون الخروج عن هذا المقام وهذا الموقف؛ لأن انتظار العذاب في تصور الإنسان أشد من وقوعه في بعض الأحيان.

تلمس الناس للمخرج من هول العرصات يوم القيامة وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك

ثم بعد هذا إذا طال بهم الموقف يرجعون إلى العلماء فيقولون: كنا نعود إليكم في مشكلاتنا في الدنيا, فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء, فيدلوهم العلماء على الأنبياء, فيأتون آدم يبدءون به فيقولون: ( يا آدم خلقك الله بيمينه ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض، وأنت أبو البشر فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار, فيقول آدم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله تعالى فأكلت من الشجرة, ولكن أذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح أنت أبو البشر بعد آدم ، وأنت أول الرسل إلى أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول نوح : نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وإني قد سألت الله ما لم يأذن لي به, ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتونه فيقولون: إبراهيم قد اصطفاك الله بخلته من الناس فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول إبراهيم : نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وهل كنت إلا خليلاً من وراء وراء، وقد كذبت ثلاث كذبات, ولكن اذهبوا إلى موسى ، فيأتونه فيقولون: يا موسى قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول موسى : نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله, وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى ، فيأتونه فيقولون: يا عيسى أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول عيسى : نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله, وإني عبدت من دون الله، لا يجد شيئاً يذكره غير ذلك, ولكن اذهبوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيأتونه فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الأنبياء وإمامهم فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لها, فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله تعالى ثناءً لم يثنِ به أحد قط عليه, فيقول: يا محمد! ارفع رأسك واشفع تشفع واسأل تعطى ), فينال المقام المحمود الذي ادخر الله له، فيشفع للناس بالخروج من الموقف فيدخل في شفاعته آدم ومن دونه من الخلائق برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، يدخلون جميعاً في هذه الشفاعة الكبرى, فيؤذن لهم في الخروج من الموقف, وفي ذلك الوقت تجلى جهنم، أي: تبعد عن الساهرة ثم يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24], وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17], فيتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام ويعرض الناس عليه جميعاً, وحينئذٍ يقفون بين يديه سبحانه وتعالى, فكل إنسان تستوي قدماه ولا تزولان حتى يسأل عن هذه المواقف عن نعمة الله عليه وعن تكاليفه التي كلفه بها.

ظهور نجاة المطيع لله وخسارة المفرط في جنب الله يوم العرض

وفي ذلك الوقت يتبين المضيعون الذين استغلوا نعمة الله في غير مرضاته، فأولئك هم الخاسرون قامت عليهم الحجة بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم, ثم لم يستغلوها فيما كلفوا من أجله فكانت أعمارهم سدى، أرسلوا إلى هذه الحياة الدنيا فأوتوا فيها ليالي وأياماً وشهوراً وسنوات، وأوتوا من الطاقات والنعم الشيء الكثير ومع ذلك كانت حجة عليهم لا لهم، كما يخاطب الله تعالى أهل النار فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

فإذا عرضوا عليه سبحانه وتعالى تفاوتت أحوالهم تفاوتاً عظيماً جداً، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة, نتائجهم في ذلك اليوم متباينة تبايناً لا يمكن أن يتصور, فنهاية ذلك الموقف بالعرض على الله سبحانه وتعالى أن يأذن الله للمؤمنين فيبسط عليهم كنفه، فيقول: ( أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه, فيقول: نعم يا ربي! وكنت قد نسيته فيقول: لكنني لم أنسه ).

ثم بعد ذلك يفضح الله تعالى الغواة العاصين، فتظهر أعمالهم تتكلم بها جوارحهم ويختم على ألسنتهم: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36], تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون, وفي ذلك الوقت يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين, فتتكلم جوارحهم جميعاً وتشهد عليهم بما عملوا, ثم بعد ذلك يؤتى بالسائق والشهيد مع كل إنسان من الناس سائق وشهيد، وتكون نفسه عليه بصيرة تشهد عليه وهي خصمه وهي أقرب الناس إليه، فيخاصمها فيقول: ويلك يا نفسي أقرب إلي من هذا، وهي تشهد عليه وتخاصمه.

عرض كتاب العمل لكل إنسان يوم القيامة

ثم بعد ذلك يأتي وقت عرض الكتب، فكل إنسان يعقد له طائره في عنقه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14], فيقرأه بأعلى صوته على رؤوس الأشهاد، يقول: فعلت كذا يوم كذا, وتركت كذا يوم كذا, وفعلت كذا ليلة كذا, وتركت كذا ليلة كذا, وهو يشهد على نفسه بذلك بأعلى صوته وهو يقرأه بين يدي الملك الديان والملائكة جميعاً, جبريل يستمع إليه و إسرافيل و ميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وجميع أنبياء الله، وهم شهود الله تعالى يستمعون إليه، وهو يعلن جميع ما عمل, إذا مر بموقف مشرف وعمل صالح ابيض وجهه وغشيه السرور, وإذا مر بموقف مخزٍ وعملٍ سيئ اسود وجهه وغشيته الكآبة.

ثم بعد ذلك تعطى الكتب للناس إما باليمين، وإما بالشمال، فالذي يأخذون كتبهم بأيمانهم يشرفهم الله تعالى فتبيض وجوههم فيسيرون في النور خمسمائة عام, والذين يأخذون كتبهم بشمائلهم -نسأل الله السلامة والعافية- يسود الله وجوههم فيتخبطون في الظلام الشديد لا يرون إلا ضوء المؤمنين وأنوارهم، وهم يقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، انظرونا، أي: انتظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13], وحينئذٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].

فيفصل بين المؤمنين والمنافقين، فقد كانوا في المحشر وما قبله مجتمعين, فالمنافقين يقبروا في مقابر المؤمنين فهذا اسمه عبد الله وهذه اسمها عائشة أو فاطمة فيقبرون جميعاً في مقابر المؤمنين، ويحشرون معهم، لكن يميز بينهم عند هذا الوقت, فيفصل بينهم هذا الفصل النهائي لا يرونهم بعد ذلك إلا بمجرد التخاصم في النار, ولذلك يقولون: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:14-15].

ثم بعد ذلك تتالى مشاهد القيامة فيأخذ أهل الإيمان والتقوى كتبهم بأيمانهم فيفرحون بها غاية الفرح, إذا نال أحدهم كتابه بيمينه يصيح بأعلى صوته: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24], وفي مقابل ذلك يأخذ الغواة كتبهم بشمائلهم وراء ظهورهم فتدخل, أيديهم الشمائل من بين ثديهم وتخرج من بين أكتافهم -نسأل الله السلامة والعافية- فيعطون بها كتبهم وراء ظهورهم, ثم بعد ذلك يسحبونها من صدورهم وهم يتألمون غاية الألم ويحزنون غاية الحزن، فيصيح أحدهم: فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27], يريد إخراج اليد: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:27], أي: القاتلة وهي لا تقتله لأنه يلتئم جرحه بعد خروج يده مباشرة: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:27-29].

فيقول الله لملائكة الشمال: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:30-37], فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة:35]، أي: ليس له نصير ولا معين, فالحميم هو الصديق, فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة:35], ليس له صديق فلا يمكن أن يشفع له أحد, وليس له طعام كذلك إلا طعام أهل النار, ولا شراب إلا شراب أهل النار، وهو الماء الساخن الذي يذيب الأمعاء ويزيل ما في الجوف، نسأل الله السلامة والعافية.

وطعامهم قد وضع عليه القطران الذي لو قطرت قطرة واحدة منه في الأرض كل ما فيها، فلم يستطيع أحد أن يتنفس في هوائها ولا أن يشرب من مائها، ولا أن يأكل من طعامها.

مصير أهل الطاعة ومصير أهل العصيان

ثم بعد ذلك تزلف الجنة لأهلها، وتقرب النار لأهلها، فتكون في طريق الجنة فينصب عليها الصراط -وهو الجسر- أحد من السيف، وأرق من الشعر، وعليه كلاليب كشوك السعدان, وعليه مراقب والأنبياء على مراقبه، يقولون: اللهم سلم سلم، ودعاء الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم سلم، ويمر الناس عليه يتفاوتون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف, ومنهم من يمر كالريح المرسلة, ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل, ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا, ومنهم من يزحف على مقعدته, فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

ثم بعد ذلك يأتي أهل الجنة إلى بابها فأول من يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما أن أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يكسوه الله تعالى من ديباج الجنة، وهو الحرير الأبيض.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بدخولها

ثم بعد ذلك تأتي الشفاعة الثانية وهي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخولها, وتتوالى بعد ذلك الشفاعات، حتى يكون آخرها شفاعة أرحم الراحمين، عندما يقول الله تعالى لملائكته: انتهت شفاعات الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين, ثم يقول: ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان, ويمكث ما شاء أن يمكث ثم يقول: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله فيخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل ), ثم بعد ذلك يؤمر بهم إلى الجنة.

وهذه المواقف كما سمعتم أولها بعد المحشر هو العرض على الله تعالى، وهذا الموقف يشيب له الولدان، وينسى فيه الإنسان؛ لأنه سيذهل، عندما يعرض عليه جميع أعماله وهي بين يديه فيقول الطاغي الذي كان يتمنى ألا ينال إلا خيراً وتغره الأماني وهو يظن أنه سيكون من الفائزين يوم القيامة يقول: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

ثم إن هذا الموقف بين يدي الملك الديان, نتيجته أن يأمر الله تعالى آدم فيناديه فيقول: ( أخرج بعث النار, فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ), فذلك يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2], ولذلك لا بد أن يعد الإنسان الجواب لهذا السؤال قبل ذلك الموقف فكلنا سائر إليه، ولا يمكن أن ينجو منه أحد بحال من الأحوال، وبالأخص إذا تذكر أنه سيأتي كالمكبل فيوقف بين يدي الله لا تتقدم قدمه على الأخرى، ولا يستطيع أن يتحرك أية حركة حتى يجيب عن هذه الأسئلة الأربعة، والجواب لا بد أن يكون صدقاً، يمكن أن يقبل فيه المعاذير.

وعرض الإنسان على الله سبحانه وتعالى هو المرحلة الأولى بعد الانطلاق من المحشر، فإن القيامة الكبرى تبدأ بإذن الله للملك في النفخ في الصور، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً ينتظر الأمر، فإذا أذن له ينفخ فيه نفخة الفزع, وإذا نفخ فيه يصعق الناس لها جميعاً، ثم يمكثون أربعين سنة, ثم بعد ذلك ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون, وفي ذلك الوقت تبدل الأرض غير الأرض، فتزلزل ويزول ما فيها من الجبال فتكون كالعهن المنفوش، أي: كالصوف المندوف تهيئه الرياح يميناً وشمال، ويزول ما فيها من الأودية فتستوي جميعاً، وتنفض وترج رجاً حتى يخرج ما فيها من المقبورين وما فيها من الأجداث, ثم بعد ذلك يخرج ما فيها من الكنوز، وما فيها من المعادن تنفض ذلك جميعاً، كنفض الجراب أي: كنفض الوعاء عندما ينفض فيذهب كل ما فيه.

وفي ذلك الوقت تشقق السماء وتطوى كطي السجل للكتب, والملائكة على أرجائها أي: على أطرافها, وهي يومئذٍ واهية، يسهل كسبها وطيها بأمر الله سبحانه وتعالى, ثم بعد هذا ينادى في الناس: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون, ويجتمعون في الساهرة، وهي أرض كالكرسفة البيضاء لم ينبتها نبات، ولم يمطرها مطر قط، كما خلقت، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر, فيجتمعون فيها جميعاً أولهم وآخرهم من لدن آدم إلى نهايتهم, يقف الواقف فيراهم جميعاً، ويحشرون كما خلقوا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104], فيؤتى بهم حفاة عراةً غرلاً ليس مع أحد منهم إلا عمله,كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنكم ملاقو ربكم حفاة عراةً مشاةً غرلاً ليس مع أحد منكم إلا عمله, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله واسوأتاه! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض, قال: يا عائشة ! الأمر أعظم من ذلك ).

فالأمر عظيم جداً وهو الهول العظيم جداً, فإذا حشروا جميعاً في الساهرة جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك, وتأتي من كل الجهات يقودها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة، وهم يجرونها جراً والناس يرونها يركب بعضها بعضاً، فيرون ما فيها من الأهوال والألوان والروائح المفظعة المروعة، فإذا أحاطت بهم من كل جانب جيء بالشمس فتدنو فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعا, ثم بعد ذلك يرتفع فوقها، فمنهم من يصل إلى كعبيه, ومنهم من يصل إلى ركبتيه, ومنهم من يصل إلى حقويه, ومنهم من يصل إلى سرته, ومنهم من يصل إلى ثدييه, ومنهم من يصل إلى ترقوتيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاما, ويطول بهم الموقف طولاً غير معهود, وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].

فإذا طال بهم الموقف نسوا كل ما مر عليهم في المواقف السابقة, فذلك الموقف منسٍ لكل ما مر على الإنسان من نعيم أو عذاب أو أذىً أو لذة أو غير ذلك، يزول عنه كل ذلك, وينسى كلما مر به من قبل, فالإنسان في قبره يعرف مصيره هل هو إلى جنة أو إلى نار, يعرض عليه مقعده من الجنة أو من النار, وفي جوابه للملائكة يعلم هل ثبت بالقول الثابت أو قال القول المشئوم نسأل الله السلامة والعافية.

لكن ينسى ذلك كله بمجرد هذا الموقف, ولذلك يذهب على الإنسان ما كان يعلمه من أمور الجنة والنار، ومن الرغبة في ذلك، حتى إنه يقول: يريد الخروج من هذا الموقف إما إلى جنة، وإما إلى نار, يظن أن هذا الموقف ليس شيئاً أعظم منه, حتى أنه يتمنى الخروج منه ولو إلى النار, نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك فعرصات القيامة ما فيها مقام إلا والذي بعده أعظم منه, كل موقفٍ من تلك المواقف ينسي الذي قبله بالكلية, وهم يرون جهنم من بعيد فلا يدركون حقيقتها، وهي تحيط بهم من كل جانب، لكنهم يرون منظراً مفظعاً ومع هذا يتمنون الخروج عن هذا المقام وهذا الموقف؛ لأن انتظار العذاب في تصور الإنسان أشد من وقوعه في بعض الأحيان.

ثم بعد هذا إذا طال بهم الموقف يرجعون إلى العلماء فيقولون: كنا نعود إليكم في مشكلاتنا في الدنيا, فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء, فيدلوهم العلماء على الأنبياء, فيأتون آدم يبدءون به فيقولون: ( يا آدم خلقك الله بيمينه ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض، وأنت أبو البشر فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار, فيقول آدم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله تعالى فأكلت من الشجرة, ولكن أذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح أنت أبو البشر بعد آدم ، وأنت أول الرسل إلى أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول نوح : نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وإني قد سألت الله ما لم يأذن لي به, ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتونه فيقولون: إبراهيم قد اصطفاك الله بخلته من الناس فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول إبراهيم : نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وهل كنت إلا خليلاً من وراء وراء، وقد كذبت ثلاث كذبات, ولكن اذهبوا إلى موسى ، فيأتونه فيقولون: يا موسى قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول موسى : نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله, وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى ، فيأتونه فيقولون: يا عيسى أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول عيسى : نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله, وإني عبدت من دون الله، لا يجد شيئاً يذكره غير ذلك, ولكن اذهبوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيأتونه فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الأنبياء وإمامهم فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لها, فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله تعالى ثناءً لم يثنِ به أحد قط عليه, فيقول: يا محمد! ارفع رأسك واشفع تشفع واسأل تعطى ), فينال المقام المحمود الذي ادخر الله له، فيشفع للناس بالخروج من الموقف فيدخل في شفاعته آدم ومن دونه من الخلائق برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، يدخلون جميعاً في هذه الشفاعة الكبرى, فيؤذن لهم في الخروج من الموقف, وفي ذلك الوقت تجلى جهنم، أي: تبعد عن الساهرة ثم يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24], وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17], فيتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام ويعرض الناس عليه جميعاً, وحينئذٍ يقفون بين يديه سبحانه وتعالى, فكل إنسان تستوي قدماه ولا تزولان حتى يسأل عن هذه المواقف عن نعمة الله عليه وعن تكاليفه التي كلفه بها.

وفي ذلك الوقت يتبين المضيعون الذين استغلوا نعمة الله في غير مرضاته، فأولئك هم الخاسرون قامت عليهم الحجة بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم, ثم لم يستغلوها فيما كلفوا من أجله فكانت أعمارهم سدى، أرسلوا إلى هذه الحياة الدنيا فأوتوا فيها ليالي وأياماً وشهوراً وسنوات، وأوتوا من الطاقات والنعم الشيء الكثير ومع ذلك كانت حجة عليهم لا لهم، كما يخاطب الله تعالى أهل النار فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

فإذا عرضوا عليه سبحانه وتعالى تفاوتت أحوالهم تفاوتاً عظيماً جداً، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة, نتائجهم في ذلك اليوم متباينة تبايناً لا يمكن أن يتصور, فنهاية ذلك الموقف بالعرض على الله سبحانه وتعالى أن يأذن الله للمؤمنين فيبسط عليهم كنفه، فيقول: ( أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه, فيقول: نعم يا ربي! وكنت قد نسيته فيقول: لكنني لم أنسه ).

ثم بعد ذلك يفضح الله تعالى الغواة العاصين، فتظهر أعمالهم تتكلم بها جوارحهم ويختم على ألسنتهم: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36], تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون, وفي ذلك الوقت يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين, فتتكلم جوارحهم جميعاً وتشهد عليهم بما عملوا, ثم بعد ذلك يؤتى بالسائق والشهيد مع كل إنسان من الناس سائق وشهيد، وتكون نفسه عليه بصيرة تشهد عليه وهي خصمه وهي أقرب الناس إليه، فيخاصمها فيقول: ويلك يا نفسي أقرب إلي من هذا، وهي تشهد عليه وتخاصمه.